سورة مريم | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 305 من المصحف
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 305
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67
{كۤهيعۤصۤ * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ * إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّى وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}
قوله تعالى: {كۤهيعۤصۤ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّى وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّ}. قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. كقوله هنا: {كۤهيعۤصۤ} في سورة «هود» فأغنى عن إعادته هنا. وقوله {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} خبر مبتدأ محذوف. أي هذا ذكر رحمة ربك. وقيل: مبتدأ خبره محذوف، وتقديره: فيما يتلى عليكم ذكر رحمة ربك، والأول أظهر. والقول بأنه خبر عن قوله «كۤهيعۤصۤ» ظاهر السقوط لعدم ربط بينهما. وقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} لفظة «ذكر» مصدر مضاف إلى مفعوله. ولفظة «رحمة» مصدر مضاف إلى فَاعله وهو «ربك». وقوله {عَبْدِهِ} مفعول به للمصدر الذي هو «رحمة» المضاف إلى فاعله، على حد قوله في الخلاصة: وبعد جره الذي أضيف له كمل بنصب أو برفع عمله
وقوله «زكريا» بدل من قوله «عبده» أو عطف بيان عليه.
وقد بين جل وعلا في هذه الآية: أن هذا الذي يتلى في أول هذه السورة الكريمة هو ذكر الله رحمته التي رحم بها عبده زكريا حين ناداه نداء خفياً أي دعاء في سر وخفية. وثناؤه جل وعلا عليه يكون دعائه خفياً يدل على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره وإعلانه. وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية جاء مصرحاً به في قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، وقوله تعالى: {ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} . وإنما كان الإخفاء أفضل من الإظهار لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء. فقول من قال: إن سبب إخفائه دعاءه أنه خوفه من قومه أن يلوموه على طلب الولد، في حالة لا يمكن فيها الولد عادة لكبر سنه وسن امرأته، وكونها عاقراً. وقول من قال: إنه أخفاه لأنه طلب أمر دنيوي، فإن أجاب الله دعاءه فيه نال ما كان يريد. وإن لم يجبه لم يعلم ذلك أحد، إلى غير ذلك من الأقوال، كل ذلك ليس بالأظهر. والأظهر أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء. ودعاء زكريا هذا لم يبين الله في هذا الموضع مكانه ولا وقته، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة «آل عمران» في قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} . فقوله «هنالك» أي في ذلك المكان الذي وجد فيه ذلك الرزق عند مريم.
وقال بعضهم: «هنالك» أي في ذلك الوقت، بناء على أن هنا ربما أشير بها إلى الزمان. وقوله في دعائه هذا: {رَبِّ إِنِّى وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّى} أي ضعف. والوهن: الضعف. وإنما ذكر ضعف العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه، وهو أصل بنائه فإذا وهن دل على ضعف جميع البدن، لأنه أشد ما فيه وأصلبه، فوهنه يستلزم وهن غيره من البدن.
وقوله: {وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْب} الألف واللام في «الرأس» قاما مقام المضاف إليه. إذ المراد: واشتعل رأسي شيبا. والمراد باشتعال الرأس شيباً: إنتشار بياض الشيب فيه. قال الزمخشري في كشافه: شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرج الشيب مميزاً، ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم الخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة ـ انتهى منه. والظاهر عندنا كما بينا مراراً: أن مثل هذا من التعبير عن انتشار بياض الشيب في الرأس، باشتعال الرأس شيبا أسلوب من أساليب اللغة العربية الفصحى جاء القرآن به، ومنه قول الشاعر:
ضيعت حزمي في إبعادي الأملا وما أرعويت وشيباً رأسي اشتعلا
ومن هذا القبيل قول ابن دريد في مقصورته. واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جزل الغضا
وقوله «شيباً» تمييز محول عن الفاعل في أظهر الأعاريب. خلافاً لمن زعم أنه ما ناب عن المطلق من قوله «واشتعل» لأنه اشتعل بمعنى شاب، فيكون «شيباً» مصدراً منه في المعنى ـ ومن زعم أيضاً أنه مصدر منكر في موضع الحال.
وهذا الذي ذكره الله هنا عن زكريا في دعائه من إظهار الضعف والكبر جاء في مواضع أخر. كقوله هنا: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّ} ، وقوله في «آل عمران»: {وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ} . وهذا الذي ذكره هنا من إظهار الضعف يدل على أنه ينبغي للداعي اظهار الضعف والخشية والخشوع في دعائه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّ} أي لم أكن بدعائي إياك شقيا، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك، يعني أنك عودتني الإجابة فيما مضى. والعرب تقول: شقى بذلك إذا تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وربما أطلقت الشقاء. على التعب، كقوله تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ} وأكثر ما يستعمل في ضد السعادة. ولا شك أن إجابة الدعاء من السعادة، فيكون عدم إجابته من الشقاء.
قوله تعالى عن زكريا: {وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}.
معنى قوله: {خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ} أي خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي: أن يضيعوا الدين بعدي، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام، فأرزقني ولداً يقوم بعدي بالدين حق القيام. وبهذا التفسير تعلم أن معنى قومه «يرثني» أنه إرث وعلم ونبوة، ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال. ويدل لذلك أمران:
أحدهما ـ قوله {وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين.
والأمر الثاني ـ ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال، وإنما يورث عنهم العلم والدين. فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نورث، ما تركنا صدقه». ومن ذلك أيضاً ما رواه الشيخان أيضاً عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير وسعد، وعلي، والعباس، رضي الله عنهم: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة»، قالوا: نعم. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن. فقالت عائشة: أليس قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ما تركنا صدقة». ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتسم ورثني ديناراً، ما تركتُ بعد نَفَقَة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقةٌ» وفي لفظ عند أحمد: «لا تقتسم ورثني ديناراً ولا درهماً». ومن ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه. عن أبي هريرة: أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي. قالت: فما لنا لا نرث النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن النَّبي لا يورث» ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق.
فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورث عنهم المال بل العلم والدين. فإن قيل: هذا مختص به صلى الله عليه وسلم. لأن قوله «لا نورث» يعني به نفسه. كما قال عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشار إليه عنه آنفاً: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه. فقال الرهط: قد قال ذلك الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح أن عمر قال: إن مراد النَّبي صلى الله عليه وسلم بقوله «لا نورث» نفسه، وصدقه الجماعة المذكورون في ذلك، وهذا دليل على الخصوص فلا مانع إذن من كون الموروث عن زكريا في الآية التي نحن بصددها هو المال؟ فالجواب من أوجه:
الأول ـ أن ظاهر صيغة الجمع شمول جميع الأنبياء، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة. وقول عمر لا يصح تخصيص نص نص من السنة به. لأن النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق كما هو مقرر في الأصول.
الوجه الثاني ـ أن قول عمر «يريد صلى الله عليه وسلم نفسه» لا ينافي شمول الحكم لغيره من الأنبياء، لاحتمال أن يكون قصده يريد أنه هو صلى الله عليه وسلم يعني نفسه فإنه لا يورث، ولم يقل عمر إن اللفظ لم يشمل غيره، وكونه يعني نفسه لا ينافي أن غيره من الأنبياء لا يورث أيضاً.
الوجه الثالث ـ ما جاء من الأحاديث صريحاً في عموم عدم الإرث المال في جميع الأنبياء. وسنذكر طرفاً من ذلك هنا إن شاء الله تعالى.
قال ابن حجر في فتح الباري ما نصه: وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ «نحن» لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ «إنا معاشر الأنبياء لا نورث.
.» الحديث وأخرجه عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور. وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور. وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانىء عن فاطمة رضي الله عنها، عن أبي بكر الصديق بلفظ «إن الأنبياء لا يورثون» انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر. وقد رأيت فيه هذه الطرق التي فيها التصريح بعموم الأنبياء. وقد قال ابن حجر: إن إنكار الحديث المذكور غير مسلم إلا بالنسبة لخصوص لفظ «نحن» هذه الروايات التي أشار لها يشد بعضها. وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحاً في ترجمة هذا الكتاب المبارك، وعليه ـ فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من قوله في الحديث المتفق عليه «لا نورث» أنه يعني نفسه. كما قال عمر وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة. والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك. قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان: تصيير مشكل من الجلى وهو واجب على النَّبي
إذا أريد فهمه وهو بما من الدليل مطلقا يجلو العما
وبهذا الذي قررنا تعلم: أن قوله هنا {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} يعني وراثة العلم والدين لا المال. وكذلك قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَـٰنُ دَاوُودَ} . فتلك الوراثة أيضاً وراثة علم ودين. والوراثة قد تطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَ} ، وقوله: {وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} ، وقوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة الواردة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العلماء ورثة الأنبياء» وهو في المسند والسنن قال صاحب (تمييز الطيب من الخبيث، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث): رواه أحمد أبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعاً بزيادة «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم» وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما ـ انتهى منه بلفظه. وقال صاحب (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): «العلماء ورثة الأنبياء» رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعاً بزيادة «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم..» الحديث، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده لكن له شواهد. ولذا قال الحافظ: له طرق يعرف بها أن الحديث أصلاً، ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة ا هـ محل الغرض منه. والظاهر صلاحية هذا الحديث للاحتجاج لاعتضاد بعض طرقه ببعض. فإذا علمت ما ذكرنا من دلالة هذه الأدلة على أن الوراثة المذكورة في الآية وراثة علم ودين لا وراثة مال فاعلم أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: الأول ـ هو ما ذكرنا. والثاني ـ أنها وراثة مال، والثالث: أنها وبالنسبة لآل يعقوب في قوله «ويرث من آل يعقوب» وراثة علم ودين.
وهذا اختيار ابن جرير الطبري. وقد ذكر من قال: إن وراثته لزكريا وراثة مال حديثاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال: «رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته» أي ما يضره إرث ورثته لماله. ومعلوم أن هذا لم يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. والأرجح فيما يظهر لنا هو ما ذكرنا من أنها وراثة علم ودين؛ للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما يدل على ذلك. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره هنا ما يؤيد ذلك من أوجه. قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى} وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده؛ ليسوسهم بنبوته بما يوحى إليه فأجيب في ذلك؛ لا أنه خشي من وراثتهم له ماله؛ فإن النبي أعظم منزلة، وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم ـ وهذا وجه.
الثاني ـ أنه لم يذكر أنه كان ذا مال؛ بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه. ومثل هذا لا يجمع مالاً، ولا سيما الأنبياء، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
الثالث ـ أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح «نحن معشر الأنبياء لا نورث» وعلى هذا فتعين حمل قوله {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى} على ميراث النبوة. ولهذا قال {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} كقوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَـٰنُ دَاوُودَ} أي في النبوة، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة. إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل: أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها. وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركنا فهو صدقة»ا هـ محل الغرض من كلام ابن كثير، ثم ساق بعد هذا طرق الحديث الذي أشرنا له «يرحم الله زكريا وما كان عليه من ورثة ماله» الحديث. ثم قال في أسانيده: وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح. واعلم أن لفظ «نحن معاشر الأنبياء» ولفظ «إنا معاشر الأنبياء» مؤداهما واحد. إلا أن «إن» دخلت على «نحن» فأبدلت لفظة «نحن» التي هي المبتدأ بلفظة «نا» الصالحة للنصب، والجملة هي هي إلا أنها في أحد اللفظين أكدت. «إن» كما لا يخفى. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّ} يعني بهذا الولي الولد خاصة دون غيره من الأولياء. بدليل قوله تعالى في القصة نفسها {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ، وأشار إلى أنه الولد أيضاً بقوله {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَٰرِثِينَ} فقوله «لا تذرني فرداً» أي واحداً بلا ولد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن زكريا: {وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى} أي من بعدي إذا مت أن يغيروا في الدين. وقد قدمنا أن الموالي الأقارب والعصبات، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ ٱلْوَٰلِدَٰنِ وَٱلاٌّقْرَبُونَ} . والمولى في لغة العرب: يطلق على كل من انعقد بينك وبينه سبب بواليك وتواليه به. وكثيراً ما يطلق في اللغة على ابن العم.
لأن ابن العم يوالي ابن عمه بالقرابة العصبية. ومنه قول طرفة بن العبد: واعلم علماً ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
يعني إذا ذلت بنو عمه فهو ذليل. وقول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب: مهلا ابن عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِرً} ظاهر في أنها كانت عاقراً في زمن شبابها. والعاقر: هي العقيم التي لا تلد وهو يطلق على الذكر والأنثى. فمن إطلاقه على الأنثى هذه الآية، وقوله تعالى عن زكريا أيضاً {وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِى عَاقِرٌ} . ومن إطلاقه على الذكر أول عامر بن الطفيل: لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جباناً فما عذري لدي كل محضر
وقد أشار تعالى إلى أنه أزال عنها العقم. وأصلحها. فجعلها ولوداً بعد أن كانت عاقراً في قوله عز وجل: {فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} فهذا الإصلاح هو كونها صارت تلد بعد أن كانت عقيماً. وقول من قال: إن إصلاحها المذكور هو جعلها حسنة الخلق بعد أن كانت سيئة الخلق لا ينافي ما ذكر لجواز أن يجمع له بين الأمرين فيها، مع أن كون الإصلاح هو جعلها ولوداً بعد العقم هو ظاهر السياق، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير، ومجاهد وغيرهم. والقول الثاني يروي عن عطاء.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن زكريا {وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} أي مرضياً عندك وعند خلقك في أخلاقه وأقواله وأفعاله ودينه، وهو فعيل بمعنى مفعول.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ} أي من عندك. وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} قرأه أبو عمرو والكسائي بإسكان الثاء المثلثة من الفعلين، أعني {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} وهما على هذه القراءة مجزومان لأجل جواب الطلب الذي هو «هب لي» والمقرر عند علماء العربية. أن المضارع المجزوم في جواب الطلب مجزوم بشرط مقدر يدل عليه فعل الطلب، وتقديره في هذه الآية التي نحن بصددها، إن تهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب. وقرأ الباقون {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} يرفع الفعلين على أن الجملة نعت لقوله «ولياً» أي وليا وارثاً لي، ووارثاً من آل يعقوب، كما قال في الخلاصة: ونعتوا بجملة منكرا فأعطيت ما أعطيته خبرا
وقراءة الجمهور برفع الفعلين أوضح معنى. وقرأ ابن كثير بفتح الياء من قوله {مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى} والباقون بإسكانها. وقرأ زكريا بلا همزة بعد الألف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. والباقون قرؤوا «زكريا» بهمزة بعد الألف، وبه تعلم أن المد في قوله {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ} منفصل على قراءة حمزة والكسائي وحفص، ومتصل على قراءة الباقين. والهمزة الثانية على قراءة الجمهور التي هي همزة «إذا» مسهلة في قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، ومحققة في قراءة ابن عامر وشعبة عن عاصم. وقراءة {خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ} بفتح الخاء والفاء المشددة بصيغة الفعل الماضي بمعنى أن مواليه خفوا أي قلوا شاذة لا تجوز القراءة بها وإن رويت عن عثمان بن عفان، ومحمد بن علي بن الحسين، وغيرهم رضي الله عنهم. وامرأة زكريا المذكورة قال القرطبي: هي إيشاع بنت فاقوذ بن قبيل، وهي أخت حنة بنت فاقوذا. قاله الطبري. وحنة: هي أم مريم. وقال القتبي: امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران. فعلى هذا القول يكون يحيى بن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة. وعلى القول الأول يكون ابن خالة أمه. وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام: «فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى» شاهدا القول الأول ا هـ. منه. والظاهر شهادة الحديث للقول الثاني لا للأول، خلافاً لما ذكره رحمه الله تعالى، والعلم عند الله تعالى.
{يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً * قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً * قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَ لَيَالٍ سَوِيّاً * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً * يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَـٰبَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَٰلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً * وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً}
قوله تعالى: {يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّ}. في هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه، وتقديره: فأجاب الله دعاءه فنودي {عَبْدَهُ زَكَرِيَّ} الآية. وقد أوضح جل وعلا في موضع آخر هذا الذي أجمله هنا، فبين أن الذي ناداه بعض الملائكة. وأن النداء المذكور وقع وهو قائم يصلي في المحراب. وذلك قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} ، وقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ} قال بعض العلماء: أطلق الملائكة وأراد جبريل. ومثل به بعض علماء الأصول العالم المراد به الخصوص قائلاً: إنه أراد بعموم الملائكة خصوص جبريل، وإسناد الفعل للمجموع مراداً بعضه قد بينا فيما مضى مراراً.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ} يدل على أن الله هو الذي سماه، ولم يكل تسميته إلى أبيه. وفي هذا منقبة عظيمة ليحيى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّ} اعلم أولاً أن السمى يطلق في اللغة العربية إطلاقين: الأول قولهم: فلان سمى فلان أي مسمى باسمه. فمن كان اسمهما واحداً فكلاهما سمى الآخر أي مسمى باسمه.
والثاني ـ إطلاق السمي يعني المسامي أي المماثل في السمو والرفعة والشرف، وهو فعيل بمعنى مفاعل من السمو بمعنى العلو والرفعة، ويكثر في اللغة إتيان الفعيل بمعنى المفاعل. كالقعيد والجليس بمعنى المقاعد والمجالس. والأكيل والشريب بمعنى المؤاكل والمشارب، وكذلك السمى بمعنى المسامي أي المماثل في السمو. فإذا علمت ذلك ـ فاعلم أن قوله هنا {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّ} أي لم نجعل من قبله أحداً يتسمى باسمه. فهو أول من كان اسمه يحيى. وقول من قال: إن معناه لم نجعل له سمياً أي نظيراً في السمو والرفعة غير صواب لأنه ليس بأفضل من إبراهيم وموسى ونوح، فالقول الأول هو الصواب. وممن قال به ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم وغيرهم. ويروى القول الثاني عن مجاهد وابن عباس أيضاً. وإذا علمت أن الصواب أن معنى قوله {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّ} أي لم نسم أحداً باسمه قبله ـ فاعلم أن قوله {رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّ} معناه:
أنه تعالى ليس له نظير ولا مماثل يساميه في العلو والعظمة والكمال على التحقيق. وقال بعض العلماء: وهو مروي عن ابن عباس {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّ} هل تعلم أحداً يسمى باسمه الرحمن جل وعلا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن زكريا لما بشر بيحيى قال {رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّا} وهذا الذي ذكر أنه قاله هنا ذكره أيضاً في «آل عمران» في قوله {قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَـٰمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِى عَاقِرٌ} . وقوله في هذه الآية الكريمة {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّا} قرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «عتياً» بكسر العين اتباعاً للكسرة التي بعدها، ومجانسة للياء وقرأه الباقون «عتياً» أنه بلغ غاية الكبر في السن. حتى نحل عظمه ويبس. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: يقول وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها. يقال منه للعود اليابس: عودعات وعاس. وقد عتا يعتو عتواً وعتياً. وعسا يعسو عسياً وعسوا. وكل متناه إلى غاية في كبر أو فساد أو كفر فهو عات وعاس.
تنبيه
فإن قيل: ما وجه استفهام زكريا في قوله {أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ} مع علمه بقدرة الله تعالى على كل شيء.
فالجواب من ثلاثة أوجه قد ذكرناها في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عند آيات الكتاب) في سورة «آل عمران» وواحد منها فيه بعد وإن روى عن عكرمة والسدي وغيرهما.
الأول ـ أن استفهام زكريا استفهام استخبار واستعلام. لأنه لا يعلم هل الله يأتيه بالولد من زوجة العجوز على كبر سنهما على سبيل خرق العادة. أو يأمره بأن يتزوج شابة، أو يردهما شابين؟ فاستفهم عن الحقيقة ليعلمها. ولا إشكال في هذا، وهو أظهرها.
الثاني ـ أن استفهامه استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى.
الثالث ـ وهو الذي ذكرنا أن فيه بعداً هو ما ذكره ابن جرير عن عكرمة والسدي: من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى، قال له الشيطان: ليس هذا نداء الملائكة، وإنما هو نداء الشيطان، فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان، فقال عند الله الشك الناشيء عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله: {أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ} ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله: {رَبِّ ٱجْعَل لِى ءَايَةً} . وإنما قلنا: إن هذا القول فيه بعد لأنه لا يلتبس على زكريا نداء الملائكة بنداء الشيطان.
وقوله في هذه الآية الكريمة «عتياً» أصله عتوا، فأبدلت الواو ياء. ومن إطلاق العتى الكبر المتناهي قول الشاعر: إنما يعذر الوليد ولا يعـ ذر من كان في الزمان عتيا
وقراءة «عسياً» بالسين شاذة لا تجوز القراءة بها. وقال القرطبي: وبها قرأ ابن عباس، وهي كذلك في مصحف أبي. قوله تعالى: {قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئا}. هذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ـ ذكره أيضاً في «آل عمران» في قوله: {قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} .
وقوله في هذه الآية الكريمة «كذلك» للعلماء في إعرابه أوجه:
الأول ـ أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره، الأمر كذلك، ولا محالة أن تلد الغلام المذكور. وقيل، الأمر كذلك أنت كبير في السن، وامرأتك عاقر. وعلى هذا فقوله {قَالَ رَبُّكِ} ابتداء كلام:
الوجه الثاني ـ أن «كذلك» في محل نصب بـ«قال» وعليه فالإشارة بقوله «ذلك» إلى مبهم يفسره قوله: {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} ونظيره على هذا القول قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلاٌّمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـٰؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} . وغير هذين من أوجه إعرابه تركناه لعدم وضوحه عندنا. وقوله {هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} أي يسير سهل.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئا} أي ومن خلقك ولم تك شيئاً فهو قادر على أن يرزقك الولد المذكور كما لا يخفى. وهذا الذي قاله هنا لزكريا: من أنه خلقه ولم يك شيئاً ـ أشار إليه بالنسبة إلى الإنسان في مواضع أخر. كقوله: {أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئا} ، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَـٰنِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُور} .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَلَمْ تَكُ شَيْئ} دليل على أن المعدوم ليس بشيء. ونظيره قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} ، وهذا هو الصواب. خلافاً للمعتزلة القائلين: إن المعدوم الممكن وجوده شيء، مستدلين لذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} قالوا: قد سماه الله شيئاً قبل أن يقول له كن فيكون، وهو يدل على أنه شيء قبل وجوده. ولأجل هذا قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: لأن المعدوم ليس بشيء. أو ليس شيئاً يعتد به. كقولهم: عجبت من لا شيء. وقول الشاعر: وضاقت الأرض حتى كان هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
لأن مراده بقوله: غير شيء، أي إذا رأى شيئاً تافهاً لا يعتد به كأنه لا شيء لحقارته ظنه رجلاً، لأن غير شيء بالكلية لا يصح وقوع الرؤية عليه. والتحقيق هو ما دلت عليه هذه الآية وأمثالها في القرآن: من أن المعدوم ليس بشيء؟ والجواب عن استدلالهم بالآية: أن ذلك المعدوم لما تعلقت الإرادة بإيجاده، صار تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل، كقوله {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} ، وقوله: {وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ} ، وقوله: {وَأَشْرَقَتِ ٱلاٌّرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ وَجِـىءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ} ، وقوله {وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤ} ، وقوله {وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ} ، وأمثال ذلك. كل هذه الأفعال الماضية الدالة على الوقوع بالفعل فيما مضى ـ أطلقت مراداً بها المستقبل، لأن تحقق وقوع ما ذكر صيره كالواقع بالفعل. وكذلك وكذلك تسميته شيئاً قبل وجوده لتحقق وجوده بإرادة الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ} قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة والكسائي «خلقتك» بتاء الفاعل المضمومة التي هي تاء المتكلم. وقرأه حمزة والكسائي «وقد خلقناك» بنون بعدها ألف، وصيغة الجمع فيها للتعظيم.
قوله تعاله: {قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَ لَيَالٍ سَوِيّ}. المراد بالآية هنا ـ العلامة، أي اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به من الولد. قال بعض أهل العلم: طلب الآية على ذلك لتتم طمأنينته بوقوع ما بشر به. ونظيره على هذا القول قوله تعالى عن إبراهيم: {قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} . وقيل: أراد بالعلامة أن يعرف ابتداء حمل امرأته، لأن الحمل في أول زمنه يخفى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَ لَيَالٍ سَوِيّ} أي علامتك على وقوع ذلك ألا تكلم الناس، أي أن تمنع الكلام فلا تطيقه ثلاث ليال بأيامهن في حال كونك سوياً، أي سوى الخلق، سليم الجوارح، ما بك خرس ولا بكم ولكنك ممنوع من الكلام على سبيل خرق العادة، كما قدمنا في «آل عمران». أما ذكر الله فليس ممنوعاً منه بدليل قوله في «آل عمران»: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلإِبْكَـٰرِ} . وقول من قال: إن معنى قوله تعالى. {ثَلَـٰثَ لَيَالٍ سَوِيّ} أي ثلاث ليال متتابعات ـ غير صواب، بل معناه هو ما قدمنا من كون اعتقال لسانه عن كلام قومه ليس لعلة ولا مرض حدث به. ولكن بقدرة الله تعالى وقد قال تعالى هنا «ثلاث ليال» ولم يذكر معها أيامها، ولكنه ذكر الأيام في «آل عمران»، في قوله {قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ} . فدلت الآيتان على أنها ثلاث ليالي بأيامهن.
وقوله تعالى في هذه الآية: {أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ} يعني إلا بالإشارة أو الكتابة، كما دل عليه قوله هنا: {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} ، وقوله في «آل عمران»: {قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ}. لأن الرمز: الإشارة والإيماء بالشفتين والحاجب. والإيحاء في قوله: {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا}، قال بعض العلماء: هو الإشارة وهو الأظهر بدليل قوله «إلا رمزاً» كما تقدم آنفاً. وممن قال بأن الوحي في الآية الإشارة: قتادة، والكلبي، وابن منبه، والعتبي، كما نقله عنهم القرطبي وغيره. وعن مجاهد، والسدي «فأوحى إليهم» أي كتب لهم في الأرض. وعن عكرمة: كتب لهم في كتاب. والوحي في لغة العرب يطلق على كل إلقاء في سرعة وخفاء. ولذلك أطلق على الإلهام، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ} . وعلى الإشارة كما هو الظاهر في قوله تعالى: {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا}. ويطلق على الكتابة كما هو القول الآخر في هذه الآية الكريمة. وإطلاق الوحي على الكتابة مشهور في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
فمدافع الريان عرى رسمها خلقا كما ضمن الوحي سلامها
فقوله «الوحي» بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء، جمع وحي بمعنى الكتابة. وقول عنترة: كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطمي
وقول ذي الرمة: سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية بطرحى في ون الصحائف
وقول جرير:
كأن أخا الكتاب يخط وحيا بكاف في منازلها ولام
قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن زكريا خرج على قومه من المحراب فأشار إليهم، أو كتب لهم: أن سبحوا الله أول النهار وآخره. فالبكرة أول النهار، والعشي آخره. وقد بين تعالى في «آل عمران» أن هذا الذي أمر به زكريا قومه بالإشارة أو الكتابة من التسبيح بكرة وعشياً ـ أن الله أمر زكرياء به أيضاً، وذلك في قوله: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلإِبْكَـٰرِ} . والظاهر أن هذا المحراب الذي خرج منه على قومه هو المحراب الذي بشر بالولد وهو قائم يصلي فيه المذكور في قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ} . قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: والمحراب: أرفع المواضع، وأشرف المجالس. وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ا هـ. وقال الجوهري في صحاحه: قال الفراء المحاريب: صدور المجالس، ومنه سمي محراب المسجد، والمحراب: الغرفة. قال وضاح اليمن: ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما
ومن هذا المعنى قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ} .
تنبيه
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة: مشروعية ارتفاع الإمام على المأمومين في الصلاة. لأن المحراب موضع صلاة زكريا، كما دل عليه قومه «وهو قائم يصلي في المحراب». والمحراب أرفع من غيره، فدل ذلك على ما ذكر. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره: هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعاً عندهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره، متمسكاً بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير. وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام.
قلت: وهذا فيه نظر، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان. فأخذ أبو مسعود بقميصه فحبذه. فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا، أو ينهى عن ذلك؟ قال بلى، ذكرت ذلك حين مددتني. وروي أيضاً عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن. فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة. فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أم للرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم» أو نحو ذلك؟ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.
قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر. فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه: أن فيه عملاً زائداً في الصلاة وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من الكبر. لأن كثيراً من الأئمة يوجدون لا كبر عندهم. ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيراً، والله أعلم. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: سنتكلم هنا إن شاء الله تعالى على الأحاديث المذكورة، ونبين أقوال العلماء في هذه المسألة، وأدلتهم وما يظهر رجحناه بالدليل.
أما الحديثان اللذان ذكرهما القرطبي عن أبي داود فقد ساقهما أبو داود في سننه حدثنا أحمد بن سنان وأحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي المعنى قال: ثنا يعلى ثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، إلى آخر الحديث. ثم قال أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني أبو خالد عن عدي بن ثابت الأنصاري، حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن. إلى آخر الحديث. ولا يخفى أن هذا الحديث الأخير ضعيف، لأن الراوي فيه عن عمار رجل لا يُدرى من هو كما ترى. وأما الأثر الأول فقد صححه غير واحد، وروى مرفوعاً صريحاً. قال ابن حجر في (التلخيص) في الكلام على الأثر والحديث المذكورين: ويعارضه ما رواه أبو داود من طريق همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال بلى. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. ورواه أبو داود من وجه آخر، وفيه أن الإمام كان عمار بن ياسر، والذي جبذه حذيفة، وهو مرفوع لكن فيه مجهول. والأول أقوى، ويقويه ما رواه الدارقطني من وجه آخر عن همام عن أبي مسعود: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه أسفل منه. ا هـ من التلخيص. وقال النووي في (شرح المهذب) في الكلام على حديث صلاة حذيفة على الدكان وجبذ أبي مسعود له المذكور: رواه الشافعي وأبو داود والبيهفي. ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم، وإسناده صحيح. ويقال جذب وجبذ، لغتان مشهورتان ا هـ منه. وأما قصة المنبر التي أشار لها القرطبي، وقال: إنها حجة من يجيز ارتفاع الإمام على المأموم ـ فهي حديث سهل بن سعد: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر في أول يوم وضع، فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف قال: «أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه. أما أقوال الأئمة في هذه المسألة: فمذهب الشافعي فيها هو كراهة علو الإمام على المأموم. وكذلك عكسه إلا إذا كان ذلك لغرض صحيح محتاج إليه، كارتفاع الإمام ليعلم الجاهلين الصلاة كما فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على المنبر، وبين أنه فعل ذلك لقصد التعليم، وكارتفاع المأموم ليبلغ غير من المأمومين تكبيرات الإمام فإن كان ارتفاع أحدهما لنحو هذا الغرض استحب له الارتفاع لتحصيل الغرض المذكور.
قال النووي في (شرح المهذب): هذا مذهبنا، وهو رواية عن أبي حنيفة، وعنه رواية. أنه يكره الارتفاع مطلقاً، وبه قال مالك والأوزاعي. وحكي الشيخ أبو حامد عن الأوزاعي: أنه قال تبطل به الصلاة. وأما مذهب مالك في المسألة ففيه تفصيل بين علو الإمام على المأموم وعكسه. فعلو المأموم جائز عنده. وقد رجع إلى كراهته. وبقي بعض أصحابه على قوله بجوازه. وعلو الإمام لا يعجبه. وفي المدونة قال مالك: لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد والإمام في داخل المسجد. ثم كرهه. وأخذ ابن القاسم بقوله الأول. انتهى بواسطة نقل الموق في الكلام على قول خليل بن إسحاق في مختصره عاطفاً على ما يجوز. وعلو مأموم ولو بسطح. وفي المدونة أيضاً قال مالك: إذا صلى الإمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك فلا يعجبني. انتهى بواسطة نقل المواق أيضاً. وقوله «يعجبني» ظاهر في الكراهة. وحمله بعضهم على المنع. وفي وجوب إعادة الصلاة قولان.
ومحل الخلاف ما لم يقصد المرتفع بارتفاعه التَّكَبُّر على الناس، فإن قصد ذلك بطلت صلاته عندهم إماماً كان أو مأموماً. وهذه المسألة ذكرها خليل بن إسحاق في مختصره في قوله: وعلو مأموم ولو بسطح لا عكسه، وبطلب بقصد إمام ومأموم به الكبر إلا بكثير ا هـ. وقوله «إلا بكشبر» يعني إلا أن يكون الارتفاع بكشبر، ونحو المنبر عظم الذراع عندهم. ومحل جواز الارتفاع اليسير المذكور ما لم يقصد به الكبر. فقوله «إلا بكشبر» مستثنى من قوله «لا عكسه» لا من مسألة قصده الكبر فالصلاة فيها باطلة عندهم مطلقاً: قال المواق في شرحه لكلام خليل المذكور من المدونة: كره مالك وغيره أن يصلي الإمام على شيء أرفع مما يصلي عليه من خلفه، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه. قال ابن القاسم: فإن فعل أعادوا أبداً، لأنهم يعبشون إلا أن يكون ذلك دكاناً يسير الارتفاع مثل ما كان عندنا بمصر فتجزئهم الصلاة. قال أبو محمد: مثل الشبر وعظم الذراع ـ إلى أن قال: وانظر إذا صلى المقتدي كذلك أعني على موضع مرتفع قصداً إلى التكبر عن مساواة الإمام. قال ابن بشير: صلاته أيضاً باطلة. ا هـ محل الغرض منه. وقول ابن القاسم «لأنهم يعبثون» يعني برفع ذلك البنيان الذي يصلي عليه الإمام، كما قال تعالى عن نبيه هود مخاطباً لقومه عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَوَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} وإذا ارتفعت مع الإمام طائفة من المصلين سائر الناس، أعني ليست من أشراف الناس وأعيانهم، ففي نفي الكراهة بذلك خلاف عندهم وإليه أشار خليل في مختصره بقوله: وهل يجوز إن كان مع الإمام طائفة كغيرهم تردد. هذا هو حاصل مذهب مالك في هذه المسألة.
وأما مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة: فهو أن ارتفاع كل من الإمام والمأموم على الآخر مكروه. وقال الطحاوي: لا يكره علو المأموم على الإمام. ومحل الكراهة عند الحنفية في الارتفاع غير اليسير، ولا كراهة عندهم في اليسير: وقدر الارتفاع الموجب للكراهة عندهم قدر قامة، ولا بأس بما دونها، ذكره الطحاوي، وهو مروي عن أبي يوسف: وقيل هو مقدر بقدر ما يقع عليه الامتياز. وقيل: مقدر بقدر ذراع اعتباراً بالسترة. قال صاحب (تبيين الحقائق). وعليه الاعتماد. وإن كان مع الإمام جماعة في مكانه المرتفع، وبقية المأمومين أسفل منهم فلا يكره ذلك على الصحيح عندهم ـ انتهى بمعناه (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق).
وأما مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة ـ فهو التفصيل بين علو الإمام على المأموم، فيكره على المشهور من مذهب أحمد. وبين علو المأموم الإمام فيجوز. قال ابن قدامة في المغني: المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين، سواء أراد تعليمهم الصلاة، أو لم يرد. وهو قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي. وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكره ـ ا هـ. محل الغرض منه. وقال في المغني أيضاً: فإن صلى الإمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد: لا تصح صلاتهم. وهو قول الأوزاعي، لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه. وقال القاضي: لا تبطل، وهو قول أصحاب الرأي ـ ا هـ محل الغرض منه.
فإذا عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة ـ فاعلم أن حجة من كره علو الإمام على المأموم أو منعه ـ هي ما قدمنا في قصة جبذ أبي مسعود لحذيفة لما أم الناس، وقام يصلي على دكان. الحديث المتقدم. وقد بينا أقوال أهل العلم في الحديث المذكور. وحجة من أجاز ذلك للتعليم حديث سهل بن سعد المتفق عليه في قصة صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وجواب المخالفين عن صلاته على المنبر. بأنه ارتفاع يسير، وذلك لا بأس به، أو بأنه منسوخ كما تقدم في كلام القرطبي: وحجة من أجاز على المأموم على الإمام ما روي عن أبي هريرة: أنه صلى بصلاة الإمام وهو على سطح المسجد.
قال ابن حجر «في التلخيص»: رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد قال حدثني صالح مولى التوأمة أنه رأى أبا هريرة يصلي فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد. ورواه البيهقي من حديث القعنبي عن ابن أبي ذئب عن صالح، ورواه سعد بن منصور، وذكره البخاري تعليقاً ـ انتهى محل الغرض من كلامه. فقد رأيت مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم.
قال مقيده عفا الله عنه: والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ وجوب الجمع بين الأدلة المذكورة، وأن علو الإمام مكروه لما تقدم. ويجمع بينه وبين قصة الصلاة على المنبر بجوازه للتعليم دون غيره. ويدل لهذا إخباره صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتفع رأوه وإذا نزل لم يره إلا من يليه، وجمع بعضهم بأن ارتفاعه على المنبر ارتفاع يسير وهو مغتفر. أما علو المأموم فقد تعارض فيه القياس مع فعل أبي هريرة. لأن القياس يقتضي كراهة ارتفاع المأموم قياساً على ارتفاع الإمام وهو قياس جلي، وإذا تعارض القياس مع قول الصحابي فمن الأصوليين من يقول بتقديم القياس، وهو مذهب مالك وجماعة، ومنهم من يقول بتقديم قول الصحابي. ولا شك أن الأحوط تجنب علو كل واحد من الإمام والمأموم على الآخر. والعلم عند الله تعالى. و«أن» في قوله {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُو} هي المفسرة.
والمعنى أن ما بعدها يفسر الإيحاء المذكور قبلها. فهذا الذي أشار لهم به هو الأمر بالتسبيح بكرة وعشياً، وهذا هو الصواب. ويحتمل أن تكون مصدرية بناء على أن «أن» المصدرية تأتي مع الأفعال الطلبية. وعليه فالمعنى: أوحى إليهم أي أشار إليهم بأن سبحوا، أي بالتسبيح أو كتب لهم ذلك بناء على القول بأن المراد به الكتابة، وكونها مفسرة هو الصواب. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَـٰبَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَٰلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَي} . اعلم أولاً ـ أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر شيء مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر، فإنا نبينها. وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا ـ فإذا علمت ذلك ـ فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة بعض صفات يحيى، وقد ذكر شيئاً من صفاته أيضاً في غير هذا الموضع. وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا، والمذكور في غير هذا الموضع.
اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له {يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَـٰبَ بِقُوَّةٍ} ووصفه بقوله {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ} إلى قوله {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَي}. فقوله {يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَـٰبَ} مقول قول محذوف. أي وقلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة. والكتاب: التوارة. أي خذ التوراة بقوة. أي بجد واجتهاد، وذلك بتفهم المعنى أولاً حتى يفهمه على الوجه الصحيح، ثم يعمل به من جميع الجهات، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويتأدب بآدابه، ويتعظ بمواعظه، إلى غير ذلك من جهات العمل به. وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا: التوارة. وحكى غير واحد عليه الإجماع.
وقيل: هو كتاب أنزل على يحيى، وقيل: هو اسم جنس يشمل الكتب المقدمة. وقيل: هو صحف إبراهيم. والأظهر قول الجمهور: إنه التوراة كما قدمنا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ} أي أعطيناه الحكم، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة، مرجعها إلى شيء واحد، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب. أي إدراك ما فيه والعمل به في حال كونه صبياً. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّ} أي الفهم والعلم والجد والعزم، والاقبال على الخير والإكباب عليه، والاجتهاد فيه ـ وهو صغير حدث. قال عبد الله بن المبارك قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقناٰ فلهذا أنزل الله {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّ}. وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّ} يقول تعالى ذكره: وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان للرجال. وقد حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرني معمر ولم يذكره عن أحد في هذه الآية «وآتيناه الحكم صبياً» قال بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب. فقال: ما للعب خلقنا، فأنزل الله {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّ} وقال الزمخشري في الكشاف {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ} أي الحكمة، ومنه قول نابغة ذبيان: واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد
وقال أبو حيان في البحر في تفسير هذه الآية: والحكم النبوة، أو حكم الكتاب، أو الحكمة، أو
العلم بالأحكام. أو اللب وهو العقل، أو آداب الخدمة، أو الفراسة الصادقة. أقوال:
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي ـ هو أن الحكم يعلم النافع والعمل به، وذلك بفهم الكتاب السماوي فهماً صحيحاً، والعمل به حقاً، فإن هذا يشمل جميع أقوال العلماء في الآية الكريمة. وأصل معنى «الحكم» المنع، والعلم النافع. والعمل به يمنع الأقوال والأفعال من الخلل والفساد والنقصان.
وقوله تعالى: {صَبِيّ} أي لم يبلغ، وهو الظاهر. وقيل: صبياً أي شاباً لم يبلغ سن الكهولة ـ ذكره أبو حيان وغيره، والظاهر الأول. قيل ابن ثلاث سنين، وقيل ابن سبع، وقيل ابن سنتين. والله أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة {وَحَنَانً} معطوف على {ٱلْحُكْمُ} أي وآتيناه حناناً من لدنا. والحنان: هو ما جبل عليه من الرحمة، والعطف والشفقة. وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب، ومنه قولهم: حنانك وحنانيك يا رب، بمعنى رحمتك. ومن هذا المعنى قول امرىء القيس: أبنت الحارث الملك بن عمرو له ملك العراق إلى عمان
ويمنحها بنو شمجي بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان
يعني رحمتك يا رحمن. وقول طرفة بن العبد: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقول منذر بن درهم الكلبي: وأحدث عهد من أمينة نظرة على جانب العلياء إذ أنا واقف
فقالت حنان ما أتى بك ها هنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف
فقوله «حنان» أي أمري حنان.
أي رحمة لك، وعطف وشفقة عليك وقول الحطيئة أو غيره: تحنن على هداك المليك فإن لكل مقام مقالا
وقوله تعالى: {مّن لَّدُنَّ} أي من عندنا، وأصح التفسيرات في قوله «وزكاةً» أنه معطوف على ما قبله أي أو أعطيناه زكاة، أي طهارة من أدران الذنوب والمعاصي بالطاعة، والتقرب إلى الله بما يرضيه: وقد قدمنا في سورة «الكهف» الآيات الدالة على إطلاق الزكاة في القرآن بمعنى الطهارة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية «وزكاةً» الزكاة: التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير. أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم. وقيل المعنى: زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود إنساناً. وقيل «زكاةً» صدقة على أبويه. قاله ابن قتيبة ـ إنتهى كلام القرطبي. وهو خلاف التحقيق في معنى الآية. والتحقيق فيه إن شاء الله هو ما ذكرنا، من أن المعنى: وأعطيناه زكاة أي طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى. وقول من قال من العلماء: بأن المراد بالزكاة في الآية العمل الصالح، راجع إلى ما ذكرنا لأن العمل الصالح هو الذي به الطهارة من الذنوب والمعاصي.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَكَانَ تَقِيّ} أي ممتثلاً لأوامر ربه مجتنباً كل ما نهى عنه. ولذا لم يعمل خطيئة قط، ولم يلم بها، قاله القرطبي وغيره عن قتادة وغيره. وفي نحو ذلك أحاديث مرفوعة، والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعاً، إما بإنقطاع، وإما بعنعنة مدلس: وإما بضعف واو، كما أشار له ابن كثير وغيره. وقد قدمنا معنى «التقوى» مراراً وأصل مادتها في اللغة العربية.
وقوله تعالى: {وَبَرّا بِوٰلِدَيْهِ} البر بالفتح هو فاعل البر ـ بالكسر ـ كثيراً أي وجعلناه كثير البر بوالديه، أي محسناً إليهما، لطيفاً بهما، لين الجانب لهما. وقوله «وبراً» معطوف على قوله «تقياً»، وقوله «ولم يكن جباراً عصياً» أي لم يكن مستكبراً عن طاعة ربه وطاعة والديه، ولكنه كان مطيعاً لله، متواضعاً لوالديه، قاله ابن جرير. والجبار: هو كثير الجبر، أي القهر للناس، والظلم لهم. وكل متكبر على الناس يظلمهم: فهو جبار. وقد أطلق في القرآن على شديد البطش في قوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} وعلى من يتكرر منه القتل في قوله: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلاٌّمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى ٱلاٌّرْضِ} . والظاهر أن قوله: «عصياً» فعول قبلت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء على القاعدة التصريفية المشهورة: التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله: إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا
فياء الواو اقلبن مدغما وشذ معطى غير ما قد رسما
فأصل «عصياً» على هذا «عصوياً» كصبور، أي كثير العصيان. ويحتمل أن يكون أصله فعيلاً وهي من صيغ المبالغة أيضاً، قاله أبو حيان في البحر.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَي} قال ابن جرير: وسلام عليه أي أمان له. وقال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف من الأمان، لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة،
وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول ـ انتهى كلام ابن عطية بواسطة نقل القرطبي في تفسير هذه الآية، ومرجع القولين إلى شيء واحد، لأن معنى سلام، التحية، الأمان، والسلامة مما يكره. وقول من قال: هو الأمان. يعني أن ذلك الأمان من الله. والتحية من الله معناها الأمان والسلامة مما يكره. والظاهر المتبادر أن قوله {وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} تحية من الله ليحيى ومعناها الأمان والسلامة. وقوله: {وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ} مبتدأ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه في معنى الدعاء، وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته، ووقت موته، ووقت بعثه، في قوله {يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ}، لأنها أوحش من غيرها. قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم. ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فيها. رواه عنه ابن جرير وغيره. وذكر ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية بإسناده عن الحسن رحمه الله قال: إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني. فقال الآخر: استغفر لي، أنت خير مني. فقال عيسى: أنت خير مني، سلمت على نفسي وسلم الله عليك. وقد نقل القرطبي هذا الكلام الذي رواه ابن جرير عن الحسن البصري رحمه الله تعالى. ثم قال: انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم ـ فضل عيسى بأن قال إدلاله في التسليم على نفسه ومكانته
من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكي في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه، قال ابن عطية: ولكل وجه. انتهى كلام القرطبي. والظاهر أن سلام الله على يحيى في قوله {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤ} أعظم من سلام عيسى على نفسه في قوله: {وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّ} كما هو ظاهر.
تنبيه
الفتحة في قوله: {بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ} يحتمل أن تكون في الظروف الثلاثة فتحة إعراب نصباً على الظرفية. ويحتمل أن تكون فتحة بناء لجواز البناء في نحو ذلك، والأجود أن تكون فتحة «يوم ولد» فتحة بناء، وفتحة {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ} فتحة نصب، لأن بناء ما قبل الفعل الماضي أجود من إعرابه وإعراب ما قبل المضارع، والجملة الاسمية أجود عن بنائه، كما عقده في الخلاصة بقوله: وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا واختر بنا متلو فعل بنيا
وقبل فعل معرب أو مبتدأ أعرب ومن بنى فلن يفندا
والأحوال في مثل هذا أربعة: الأول أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصلياً وهو الماضي، كقول نابغة ذبيان: على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع
فبناء الظرف في مثل ذلك أجود، وإعرابه جائز.
الثاني ـ أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء عاوضاً، كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة. كقول الآخر:
لأجتذبن منهن قلبي تحلما على حين يستصبين كل حليم
وحكم هذا كما قبله.
الثالث ـ أن يضاف إلى جملة فعلية فعلها معرب. كقول أبي صخر الهذلي: إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
فإعراب مثل هذا أجود، وبناؤه جائز.
الرابع ـ أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة اسمية. كقول الشاعر: ألم تعلمي يا عمرك الله أنني كريم على حين الكرام قليل
وقول الآخر: تذكر ما تذكر من سليمى على حين التواصل غير دان
وحكم هذا كما قبله. واعلم أن هذه الأوجه إنما هي في الظرف المبهم الماضي. وأما إن كان الظرف المبهم مستقبل المعنى، كقوله: {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ} فإنه لا يضاف إلا إلى الجمل الفعلية دون الاسمية. فتكون فيه الأوجه الثلاثة المذكورة دون الرابع. وأجاز ابن مالك إضافته إلى الجملة الاسمية بقلة، كقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ} وقول سواد بن قارب: وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب
لأن الظرف في الآية والبيت المذكورين مستقبل لا ماض، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيا} قال أبو حيان: فيه تنبيه على كونه من الشهداء، لقوله تعالى فيهم: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} .
قال مقيده عفا الله عنه: وجه هذا الاستنباط أن الحال قيد لعاملها، وصف لصاحبها. وعليه فبعثه مقيد بكونه حياً، وتلك حياة الشهداء، وليس بظاهر كل الظهور. والله تعالى أعلم.
هذا هو حاصل ما ذكره الله تعالى في هذه السورة الكريمة من صفات يحيى، وذكر بعض صفاته في غير هذا الموضع، كقوله في «آل عمران»: {فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} ومعنى كونه {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ} أنه مصدق بعيسى، وإنما قيل لعيسى كلمة لأن الله أوجده بكلمة هي قوله «كن» فكان، كما قال تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَـٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ} . وقال: {إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} . وهذا هو قول جمهور المفسرين في معنى قوله تعالى: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ} وقيل: المراد بكلمة الكتاب، أي مصدقاً بكتاب الله. والكلمة في القرآن تطلق على الكلام المفيد، كقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ} ، وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْل} ، وقوله: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَ} إلى غير ذلك من الآيات، وباقي الأقوال: تركناه لظهور ضعفه. والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا. وقوله «وسيداً» وزن السيد بالميزان الصرفي فيعل وأصل مادته (س و د) سكنت ياء الفعيل الزائدة قبل الواو التي هي في موضع العين، فأبدلت الواو ياء عن القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة:
* إن يسكن السابق من واو ويا *
البيتين المتقدمين آنفاً. وأصله من السواد وهو الخلق الكثير. فالسيد من يطعيه، ويتبعه سواد كثير من الناس. والدليل على أن عين المادة واو أنك تقول فيه: ساد يسود بالواو، وتقول سودوه إذا جعلوه سيداً. والتضعيف يرد العين إلى أصلها، ومنه قول عامر بن الطفيل العامري: وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
وقال الآخر: وإن بقوم سودوك لحاجة إلى سيد لو يظفرون بسيد
وشهرة مثل ذلك تكفي عن بيانه. والآية فيها دليل على إطلاق السيد على من ساد من الناس، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن بن علي رضي الله عنهما «إن ابني هذا سيد» الحديث. وأنه صلى الله عليه وسلم: لما جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه للحكم في بني قريظة قال صلى الله عليه وسلم:«قوموا لسيدكم» والتحقيق في معنى قوله «حصوراً» أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن تبتلاً منه، وانقطاعاً لعبادة الله. وكان ذلك جائزاً في شرعه. وأما سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم فهي التزويج وعدم التبتل. أما قول من قال: إن الحصور فعول بمعنى مفعول، وأنه محصور عن النساء لأنه عنين لا يقدر على إتيانهن ـ فليس بصحيح، لأن العنة عيب ونقص في الرجال، وليست من فعله حتى يثنى عليه بها. فالصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا، واختاره غير واحد من العلماء. وقول من قال: إن الحصور هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر كما قال الأخطل: وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار
قول ليس بالصواب في معنى الآية. بل معناها هو ما ذكرنا وإن كان إطلاق الحصور على ذلك صحيحاً لغة. وقوله «ونبياً» على قراءة نافع بالهمزة معناه واضح، وهو فعيل بمعنى مفعول، من النبأ وهو الخبر الذي له شأن، لأن الوحي خبر لهشأن يخبره الله به. وعلى قراءة بالياء المشددة فقال بعض العلماء: معناه كمعنى قراءة نافع، إلا أن الهمزة أبدلت ياء وأدغمت فيها للياء التي قبلها. وعلى هذا فهو كالقراءتين السبعيتين في قوله {إِنَّمَا ٱلنَّسِىۤءُ زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ} بالهمزة وتشديد الياء. وقال بعض العلماء: هو على قراءة الجمهور من النبوة بمعنى الارتفاع لرفعة النَّبي وشرفه. والصالحون: هم الذين صلحت عقائدهم، وأعمالهم. وأقوالهم، ونياتهم، والصلاح ضد الفساد. وقد وصف الله تعالى يحيى بالصلاح مع من وصف بذلك من الأنبياء في سورة «الأنعام» في قوله: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} .
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 305
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67
{كۤهيعۤصۤ * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ * إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّى وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}
قوله تعالى: {كۤهيعۤصۤ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّى وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّ}. قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. كقوله هنا: {كۤهيعۤصۤ} في سورة «هود» فأغنى عن إعادته هنا. وقوله {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} خبر مبتدأ محذوف. أي هذا ذكر رحمة ربك. وقيل: مبتدأ خبره محذوف، وتقديره: فيما يتلى عليكم ذكر رحمة ربك، والأول أظهر. والقول بأنه خبر عن قوله «كۤهيعۤصۤ» ظاهر السقوط لعدم ربط بينهما. وقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} لفظة «ذكر» مصدر مضاف إلى مفعوله. ولفظة «رحمة» مصدر مضاف إلى فَاعله وهو «ربك». وقوله {عَبْدِهِ} مفعول به للمصدر الذي هو «رحمة» المضاف إلى فاعله، على حد قوله في الخلاصة: وبعد جره الذي أضيف له كمل بنصب أو برفع عمله
وقوله «زكريا» بدل من قوله «عبده» أو عطف بيان عليه.
وقد بين جل وعلا في هذه الآية: أن هذا الذي يتلى في أول هذه السورة الكريمة هو ذكر الله رحمته التي رحم بها عبده زكريا حين ناداه نداء خفياً أي دعاء في سر وخفية. وثناؤه جل وعلا عليه يكون دعائه خفياً يدل على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره وإعلانه. وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية جاء مصرحاً به في قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، وقوله تعالى: {ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} . وإنما كان الإخفاء أفضل من الإظهار لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء. فقول من قال: إن سبب إخفائه دعاءه أنه خوفه من قومه أن يلوموه على طلب الولد، في حالة لا يمكن فيها الولد عادة لكبر سنه وسن امرأته، وكونها عاقراً. وقول من قال: إنه أخفاه لأنه طلب أمر دنيوي، فإن أجاب الله دعاءه فيه نال ما كان يريد. وإن لم يجبه لم يعلم ذلك أحد، إلى غير ذلك من الأقوال، كل ذلك ليس بالأظهر. والأظهر أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء. ودعاء زكريا هذا لم يبين الله في هذا الموضع مكانه ولا وقته، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة «آل عمران» في قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} . فقوله «هنالك» أي في ذلك المكان الذي وجد فيه ذلك الرزق عند مريم.
وقال بعضهم: «هنالك» أي في ذلك الوقت، بناء على أن هنا ربما أشير بها إلى الزمان. وقوله في دعائه هذا: {رَبِّ إِنِّى وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّى} أي ضعف. والوهن: الضعف. وإنما ذكر ضعف العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه، وهو أصل بنائه فإذا وهن دل على ضعف جميع البدن، لأنه أشد ما فيه وأصلبه، فوهنه يستلزم وهن غيره من البدن.
وقوله: {وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْب} الألف واللام في «الرأس» قاما مقام المضاف إليه. إذ المراد: واشتعل رأسي شيبا. والمراد باشتعال الرأس شيباً: إنتشار بياض الشيب فيه. قال الزمخشري في كشافه: شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرج الشيب مميزاً، ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم الخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة ـ انتهى منه. والظاهر عندنا كما بينا مراراً: أن مثل هذا من التعبير عن انتشار بياض الشيب في الرأس، باشتعال الرأس شيبا أسلوب من أساليب اللغة العربية الفصحى جاء القرآن به، ومنه قول الشاعر:
ضيعت حزمي في إبعادي الأملا وما أرعويت وشيباً رأسي اشتعلا
ومن هذا القبيل قول ابن دريد في مقصورته. واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جزل الغضا
وقوله «شيباً» تمييز محول عن الفاعل في أظهر الأعاريب. خلافاً لمن زعم أنه ما ناب عن المطلق من قوله «واشتعل» لأنه اشتعل بمعنى شاب، فيكون «شيباً» مصدراً منه في المعنى ـ ومن زعم أيضاً أنه مصدر منكر في موضع الحال.
وهذا الذي ذكره الله هنا عن زكريا في دعائه من إظهار الضعف والكبر جاء في مواضع أخر. كقوله هنا: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّ} ، وقوله في «آل عمران»: {وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ} . وهذا الذي ذكره هنا من إظهار الضعف يدل على أنه ينبغي للداعي اظهار الضعف والخشية والخشوع في دعائه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّ} أي لم أكن بدعائي إياك شقيا، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك، يعني أنك عودتني الإجابة فيما مضى. والعرب تقول: شقى بذلك إذا تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وربما أطلقت الشقاء. على التعب، كقوله تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ} وأكثر ما يستعمل في ضد السعادة. ولا شك أن إجابة الدعاء من السعادة، فيكون عدم إجابته من الشقاء.
قوله تعالى عن زكريا: {وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}.
معنى قوله: {خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ} أي خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي: أن يضيعوا الدين بعدي، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام، فأرزقني ولداً يقوم بعدي بالدين حق القيام. وبهذا التفسير تعلم أن معنى قومه «يرثني» أنه إرث وعلم ونبوة، ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال. ويدل لذلك أمران:
أحدهما ـ قوله {وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين.
والأمر الثاني ـ ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال، وإنما يورث عنهم العلم والدين. فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نورث، ما تركنا صدقه». ومن ذلك أيضاً ما رواه الشيخان أيضاً عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير وسعد، وعلي، والعباس، رضي الله عنهم: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة»، قالوا: نعم. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن. فقالت عائشة: أليس قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ما تركنا صدقة». ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتسم ورثني ديناراً، ما تركتُ بعد نَفَقَة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقةٌ» وفي لفظ عند أحمد: «لا تقتسم ورثني ديناراً ولا درهماً». ومن ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه. عن أبي هريرة: أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه: من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي. قالت: فما لنا لا نرث النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن النَّبي لا يورث» ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق.
فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورث عنهم المال بل العلم والدين. فإن قيل: هذا مختص به صلى الله عليه وسلم. لأن قوله «لا نورث» يعني به نفسه. كما قال عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشار إليه عنه آنفاً: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه. فقال الرهط: قد قال ذلك الحديث. ففي هذا الحديث الصحيح أن عمر قال: إن مراد النَّبي صلى الله عليه وسلم بقوله «لا نورث» نفسه، وصدقه الجماعة المذكورون في ذلك، وهذا دليل على الخصوص فلا مانع إذن من كون الموروث عن زكريا في الآية التي نحن بصددها هو المال؟ فالجواب من أوجه:
الأول ـ أن ظاهر صيغة الجمع شمول جميع الأنبياء، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة. وقول عمر لا يصح تخصيص نص نص من السنة به. لأن النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق كما هو مقرر في الأصول.
الوجه الثاني ـ أن قول عمر «يريد صلى الله عليه وسلم نفسه» لا ينافي شمول الحكم لغيره من الأنبياء، لاحتمال أن يكون قصده يريد أنه هو صلى الله عليه وسلم يعني نفسه فإنه لا يورث، ولم يقل عمر إن اللفظ لم يشمل غيره، وكونه يعني نفسه لا ينافي أن غيره من الأنبياء لا يورث أيضاً.
الوجه الثالث ـ ما جاء من الأحاديث صريحاً في عموم عدم الإرث المال في جميع الأنبياء. وسنذكر طرفاً من ذلك هنا إن شاء الله تعالى.
قال ابن حجر في فتح الباري ما نصه: وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» فقد أنكره جماعة من الأئمة، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ «نحن» لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ «إنا معاشر الأنبياء لا نورث.
.» الحديث وأخرجه عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة عنه، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه. وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور. وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور. وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانىء عن فاطمة رضي الله عنها، عن أبي بكر الصديق بلفظ «إن الأنبياء لا يورثون» انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر. وقد رأيت فيه هذه الطرق التي فيها التصريح بعموم الأنبياء. وقد قال ابن حجر: إن إنكار الحديث المذكور غير مسلم إلا بالنسبة لخصوص لفظ «نحن» هذه الروايات التي أشار لها يشد بعضها. وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحاً في ترجمة هذا الكتاب المبارك، وعليه ـ فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من قوله في الحديث المتفق عليه «لا نورث» أنه يعني نفسه. كما قال عمر وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة. والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك. قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان: تصيير مشكل من الجلى وهو واجب على النَّبي
إذا أريد فهمه وهو بما من الدليل مطلقا يجلو العما
وبهذا الذي قررنا تعلم: أن قوله هنا {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} يعني وراثة العلم والدين لا المال. وكذلك قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَـٰنُ دَاوُودَ} . فتلك الوراثة أيضاً وراثة علم ودين. والوراثة قد تطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَ} ، وقوله: {وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} ، وقوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة الواردة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العلماء ورثة الأنبياء» وهو في المسند والسنن قال صاحب (تمييز الطيب من الخبيث، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث): رواه أحمد أبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعاً بزيادة «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم» وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما ـ انتهى منه بلفظه. وقال صاحب (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): «العلماء ورثة الأنبياء» رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعاً بزيادة «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم..» الحديث، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده لكن له شواهد. ولذا قال الحافظ: له طرق يعرف بها أن الحديث أصلاً، ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة ا هـ محل الغرض منه. والظاهر صلاحية هذا الحديث للاحتجاج لاعتضاد بعض طرقه ببعض. فإذا علمت ما ذكرنا من دلالة هذه الأدلة على أن الوراثة المذكورة في الآية وراثة علم ودين لا وراثة مال فاعلم أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: الأول ـ هو ما ذكرنا. والثاني ـ أنها وراثة مال، والثالث: أنها وبالنسبة لآل يعقوب في قوله «ويرث من آل يعقوب» وراثة علم ودين.
وهذا اختيار ابن جرير الطبري. وقد ذكر من قال: إن وراثته لزكريا وراثة مال حديثاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال: «رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته» أي ما يضره إرث ورثته لماله. ومعلوم أن هذا لم يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. والأرجح فيما يظهر لنا هو ما ذكرنا من أنها وراثة علم ودين؛ للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما يدل على ذلك. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره هنا ما يؤيد ذلك من أوجه. قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى} وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده؛ ليسوسهم بنبوته بما يوحى إليه فأجيب في ذلك؛ لا أنه خشي من وراثتهم له ماله؛ فإن النبي أعظم منزلة، وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم ـ وهذا وجه.
الثاني ـ أنه لم يذكر أنه كان ذا مال؛ بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه. ومثل هذا لا يجمع مالاً، ولا سيما الأنبياء، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
الثالث ـ أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح «نحن معشر الأنبياء لا نورث» وعلى هذا فتعين حمل قوله {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى} على ميراث النبوة. ولهذا قال {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} كقوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَـٰنُ دَاوُودَ} أي في النبوة، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة. إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل: أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها. وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركنا فهو صدقة»ا هـ محل الغرض من كلام ابن كثير، ثم ساق بعد هذا طرق الحديث الذي أشرنا له «يرحم الله زكريا وما كان عليه من ورثة ماله» الحديث. ثم قال في أسانيده: وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح. واعلم أن لفظ «نحن معاشر الأنبياء» ولفظ «إنا معاشر الأنبياء» مؤداهما واحد. إلا أن «إن» دخلت على «نحن» فأبدلت لفظة «نحن» التي هي المبتدأ بلفظة «نا» الصالحة للنصب، والجملة هي هي إلا أنها في أحد اللفظين أكدت. «إن» كما لا يخفى. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّ} يعني بهذا الولي الولد خاصة دون غيره من الأولياء. بدليل قوله تعالى في القصة نفسها {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ، وأشار إلى أنه الولد أيضاً بقوله {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَٰرِثِينَ} فقوله «لا تذرني فرداً» أي واحداً بلا ولد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن زكريا: {وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى} أي من بعدي إذا مت أن يغيروا في الدين. وقد قدمنا أن الموالي الأقارب والعصبات، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ ٱلْوَٰلِدَٰنِ وَٱلاٌّقْرَبُونَ} . والمولى في لغة العرب: يطلق على كل من انعقد بينك وبينه سبب بواليك وتواليه به. وكثيراً ما يطلق في اللغة على ابن العم.
لأن ابن العم يوالي ابن عمه بالقرابة العصبية. ومنه قول طرفة بن العبد: واعلم علماً ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
يعني إذا ذلت بنو عمه فهو ذليل. وقول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب: مهلا ابن عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِرً} ظاهر في أنها كانت عاقراً في زمن شبابها. والعاقر: هي العقيم التي لا تلد وهو يطلق على الذكر والأنثى. فمن إطلاقه على الأنثى هذه الآية، وقوله تعالى عن زكريا أيضاً {وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِى عَاقِرٌ} . ومن إطلاقه على الذكر أول عامر بن الطفيل: لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جباناً فما عذري لدي كل محضر
وقد أشار تعالى إلى أنه أزال عنها العقم. وأصلحها. فجعلها ولوداً بعد أن كانت عاقراً في قوله عز وجل: {فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} فهذا الإصلاح هو كونها صارت تلد بعد أن كانت عقيماً. وقول من قال: إن إصلاحها المذكور هو جعلها حسنة الخلق بعد أن كانت سيئة الخلق لا ينافي ما ذكر لجواز أن يجمع له بين الأمرين فيها، مع أن كون الإصلاح هو جعلها ولوداً بعد العقم هو ظاهر السياق، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير، ومجاهد وغيرهم. والقول الثاني يروي عن عطاء.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن زكريا {وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} أي مرضياً عندك وعند خلقك في أخلاقه وأقواله وأفعاله ودينه، وهو فعيل بمعنى مفعول.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ} أي من عندك. وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} قرأه أبو عمرو والكسائي بإسكان الثاء المثلثة من الفعلين، أعني {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} وهما على هذه القراءة مجزومان لأجل جواب الطلب الذي هو «هب لي» والمقرر عند علماء العربية. أن المضارع المجزوم في جواب الطلب مجزوم بشرط مقدر يدل عليه فعل الطلب، وتقديره في هذه الآية التي نحن بصددها، إن تهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب. وقرأ الباقون {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} يرفع الفعلين على أن الجملة نعت لقوله «ولياً» أي وليا وارثاً لي، ووارثاً من آل يعقوب، كما قال في الخلاصة: ونعتوا بجملة منكرا فأعطيت ما أعطيته خبرا
وقراءة الجمهور برفع الفعلين أوضح معنى. وقرأ ابن كثير بفتح الياء من قوله {مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى} والباقون بإسكانها. وقرأ زكريا بلا همزة بعد الألف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم. والباقون قرؤوا «زكريا» بهمزة بعد الألف، وبه تعلم أن المد في قوله {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ} منفصل على قراءة حمزة والكسائي وحفص، ومتصل على قراءة الباقين. والهمزة الثانية على قراءة الجمهور التي هي همزة «إذا» مسهلة في قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، ومحققة في قراءة ابن عامر وشعبة عن عاصم. وقراءة {خِفْتُ ٱلْمَوَالِىَ} بفتح الخاء والفاء المشددة بصيغة الفعل الماضي بمعنى أن مواليه خفوا أي قلوا شاذة لا تجوز القراءة بها وإن رويت عن عثمان بن عفان، ومحمد بن علي بن الحسين، وغيرهم رضي الله عنهم. وامرأة زكريا المذكورة قال القرطبي: هي إيشاع بنت فاقوذ بن قبيل، وهي أخت حنة بنت فاقوذا. قاله الطبري. وحنة: هي أم مريم. وقال القتبي: امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران. فعلى هذا القول يكون يحيى بن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة. وعلى القول الأول يكون ابن خالة أمه. وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام: «فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى» شاهدا القول الأول ا هـ. منه. والظاهر شهادة الحديث للقول الثاني لا للأول، خلافاً لما ذكره رحمه الله تعالى، والعلم عند الله تعالى.
{يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً * قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً * قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَ لَيَالٍ سَوِيّاً * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً * يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَـٰبَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَٰلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً * وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً}
قوله تعالى: {يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّ}. في هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه، وتقديره: فأجاب الله دعاءه فنودي {عَبْدَهُ زَكَرِيَّ} الآية. وقد أوضح جل وعلا في موضع آخر هذا الذي أجمله هنا، فبين أن الذي ناداه بعض الملائكة. وأن النداء المذكور وقع وهو قائم يصلي في المحراب. وذلك قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} ، وقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ} قال بعض العلماء: أطلق الملائكة وأراد جبريل. ومثل به بعض علماء الأصول العالم المراد به الخصوص قائلاً: إنه أراد بعموم الملائكة خصوص جبريل، وإسناد الفعل للمجموع مراداً بعضه قد بينا فيما مضى مراراً.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ} يدل على أن الله هو الذي سماه، ولم يكل تسميته إلى أبيه. وفي هذا منقبة عظيمة ليحيى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّ} اعلم أولاً أن السمى يطلق في اللغة العربية إطلاقين: الأول قولهم: فلان سمى فلان أي مسمى باسمه. فمن كان اسمهما واحداً فكلاهما سمى الآخر أي مسمى باسمه.
والثاني ـ إطلاق السمي يعني المسامي أي المماثل في السمو والرفعة والشرف، وهو فعيل بمعنى مفاعل من السمو بمعنى العلو والرفعة، ويكثر في اللغة إتيان الفعيل بمعنى المفاعل. كالقعيد والجليس بمعنى المقاعد والمجالس. والأكيل والشريب بمعنى المؤاكل والمشارب، وكذلك السمى بمعنى المسامي أي المماثل في السمو. فإذا علمت ذلك ـ فاعلم أن قوله هنا {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّ} أي لم نجعل من قبله أحداً يتسمى باسمه. فهو أول من كان اسمه يحيى. وقول من قال: إن معناه لم نجعل له سمياً أي نظيراً في السمو والرفعة غير صواب لأنه ليس بأفضل من إبراهيم وموسى ونوح، فالقول الأول هو الصواب. وممن قال به ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم وغيرهم. ويروى القول الثاني عن مجاهد وابن عباس أيضاً. وإذا علمت أن الصواب أن معنى قوله {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّ} أي لم نسم أحداً باسمه قبله ـ فاعلم أن قوله {رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّ} معناه:
أنه تعالى ليس له نظير ولا مماثل يساميه في العلو والعظمة والكمال على التحقيق. وقال بعض العلماء: وهو مروي عن ابن عباس {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّ} هل تعلم أحداً يسمى باسمه الرحمن جل وعلا. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن زكريا لما بشر بيحيى قال {رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّا} وهذا الذي ذكر أنه قاله هنا ذكره أيضاً في «آل عمران» في قوله {قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَـٰمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِى عَاقِرٌ} . وقوله في هذه الآية الكريمة {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّا} قرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «عتياً» بكسر العين اتباعاً للكسرة التي بعدها، ومجانسة للياء وقرأه الباقون «عتياً» أنه بلغ غاية الكبر في السن. حتى نحل عظمه ويبس. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: يقول وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها. يقال منه للعود اليابس: عودعات وعاس. وقد عتا يعتو عتواً وعتياً. وعسا يعسو عسياً وعسوا. وكل متناه إلى غاية في كبر أو فساد أو كفر فهو عات وعاس.
تنبيه
فإن قيل: ما وجه استفهام زكريا في قوله {أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ} مع علمه بقدرة الله تعالى على كل شيء.
فالجواب من ثلاثة أوجه قد ذكرناها في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عند آيات الكتاب) في سورة «آل عمران» وواحد منها فيه بعد وإن روى عن عكرمة والسدي وغيرهما.
الأول ـ أن استفهام زكريا استفهام استخبار واستعلام. لأنه لا يعلم هل الله يأتيه بالولد من زوجة العجوز على كبر سنهما على سبيل خرق العادة. أو يأمره بأن يتزوج شابة، أو يردهما شابين؟ فاستفهم عن الحقيقة ليعلمها. ولا إشكال في هذا، وهو أظهرها.
الثاني ـ أن استفهامه استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى.
الثالث ـ وهو الذي ذكرنا أن فيه بعداً هو ما ذكره ابن جرير عن عكرمة والسدي: من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى، قال له الشيطان: ليس هذا نداء الملائكة، وإنما هو نداء الشيطان، فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان، فقال عند الله الشك الناشيء عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله: {أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَـٰمٌ} ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله: {رَبِّ ٱجْعَل لِى ءَايَةً} . وإنما قلنا: إن هذا القول فيه بعد لأنه لا يلتبس على زكريا نداء الملائكة بنداء الشيطان.
وقوله في هذه الآية الكريمة «عتياً» أصله عتوا، فأبدلت الواو ياء. ومن إطلاق العتى الكبر المتناهي قول الشاعر: إنما يعذر الوليد ولا يعـ ذر من كان في الزمان عتيا
وقراءة «عسياً» بالسين شاذة لا تجوز القراءة بها. وقال القرطبي: وبها قرأ ابن عباس، وهي كذلك في مصحف أبي. قوله تعالى: {قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئا}. هذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ـ ذكره أيضاً في «آل عمران» في قوله: {قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} .
وقوله في هذه الآية الكريمة «كذلك» للعلماء في إعرابه أوجه:
الأول ـ أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره، الأمر كذلك، ولا محالة أن تلد الغلام المذكور. وقيل، الأمر كذلك أنت كبير في السن، وامرأتك عاقر. وعلى هذا فقوله {قَالَ رَبُّكِ} ابتداء كلام:
الوجه الثاني ـ أن «كذلك» في محل نصب بـ«قال» وعليه فالإشارة بقوله «ذلك» إلى مبهم يفسره قوله: {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} ونظيره على هذا القول قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلاٌّمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـٰؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} . وغير هذين من أوجه إعرابه تركناه لعدم وضوحه عندنا. وقوله {هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} أي يسير سهل.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئا} أي ومن خلقك ولم تك شيئاً فهو قادر على أن يرزقك الولد المذكور كما لا يخفى. وهذا الذي قاله هنا لزكريا: من أنه خلقه ولم يك شيئاً ـ أشار إليه بالنسبة إلى الإنسان في مواضع أخر. كقوله: {أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئا} ، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَـٰنِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُور} .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَلَمْ تَكُ شَيْئ} دليل على أن المعدوم ليس بشيء. ونظيره قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} ، وهذا هو الصواب. خلافاً للمعتزلة القائلين: إن المعدوم الممكن وجوده شيء، مستدلين لذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} قالوا: قد سماه الله شيئاً قبل أن يقول له كن فيكون، وهو يدل على أنه شيء قبل وجوده. ولأجل هذا قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: لأن المعدوم ليس بشيء. أو ليس شيئاً يعتد به. كقولهم: عجبت من لا شيء. وقول الشاعر: وضاقت الأرض حتى كان هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
لأن مراده بقوله: غير شيء، أي إذا رأى شيئاً تافهاً لا يعتد به كأنه لا شيء لحقارته ظنه رجلاً، لأن غير شيء بالكلية لا يصح وقوع الرؤية عليه. والتحقيق هو ما دلت عليه هذه الآية وأمثالها في القرآن: من أن المعدوم ليس بشيء؟ والجواب عن استدلالهم بالآية: أن ذلك المعدوم لما تعلقت الإرادة بإيجاده، صار تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل، كقوله {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} ، وقوله: {وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ} ، وقوله: {وَأَشْرَقَتِ ٱلاٌّرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ وَجِـىءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ} ، وقوله {وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤ} ، وقوله {وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ} ، وأمثال ذلك. كل هذه الأفعال الماضية الدالة على الوقوع بالفعل فيما مضى ـ أطلقت مراداً بها المستقبل، لأن تحقق وقوع ما ذكر صيره كالواقع بالفعل. وكذلك وكذلك تسميته شيئاً قبل وجوده لتحقق وجوده بإرادة الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ} قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة والكسائي «خلقتك» بتاء الفاعل المضمومة التي هي تاء المتكلم. وقرأه حمزة والكسائي «وقد خلقناك» بنون بعدها ألف، وصيغة الجمع فيها للتعظيم.
قوله تعاله: {قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَ لَيَالٍ سَوِيّ}. المراد بالآية هنا ـ العلامة، أي اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به من الولد. قال بعض أهل العلم: طلب الآية على ذلك لتتم طمأنينته بوقوع ما بشر به. ونظيره على هذا القول قوله تعالى عن إبراهيم: {قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} . وقيل: أراد بالعلامة أن يعرف ابتداء حمل امرأته، لأن الحمل في أول زمنه يخفى.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَ لَيَالٍ سَوِيّ} أي علامتك على وقوع ذلك ألا تكلم الناس، أي أن تمنع الكلام فلا تطيقه ثلاث ليال بأيامهن في حال كونك سوياً، أي سوى الخلق، سليم الجوارح، ما بك خرس ولا بكم ولكنك ممنوع من الكلام على سبيل خرق العادة، كما قدمنا في «آل عمران». أما ذكر الله فليس ممنوعاً منه بدليل قوله في «آل عمران»: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلإِبْكَـٰرِ} . وقول من قال: إن معنى قوله تعالى. {ثَلَـٰثَ لَيَالٍ سَوِيّ} أي ثلاث ليال متتابعات ـ غير صواب، بل معناه هو ما قدمنا من كون اعتقال لسانه عن كلام قومه ليس لعلة ولا مرض حدث به. ولكن بقدرة الله تعالى وقد قال تعالى هنا «ثلاث ليال» ولم يذكر معها أيامها، ولكنه ذكر الأيام في «آل عمران»، في قوله {قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ} . فدلت الآيتان على أنها ثلاث ليالي بأيامهن.
وقوله تعالى في هذه الآية: {أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ} يعني إلا بالإشارة أو الكتابة، كما دل عليه قوله هنا: {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} ، وقوله في «آل عمران»: {قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ}. لأن الرمز: الإشارة والإيماء بالشفتين والحاجب. والإيحاء في قوله: {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا}، قال بعض العلماء: هو الإشارة وهو الأظهر بدليل قوله «إلا رمزاً» كما تقدم آنفاً. وممن قال بأن الوحي في الآية الإشارة: قتادة، والكلبي، وابن منبه، والعتبي، كما نقله عنهم القرطبي وغيره. وعن مجاهد، والسدي «فأوحى إليهم» أي كتب لهم في الأرض. وعن عكرمة: كتب لهم في كتاب. والوحي في لغة العرب يطلق على كل إلقاء في سرعة وخفاء. ولذلك أطلق على الإلهام، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ} . وعلى الإشارة كما هو الظاهر في قوله تعالى: {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا}. ويطلق على الكتابة كما هو القول الآخر في هذه الآية الكريمة. وإطلاق الوحي على الكتابة مشهور في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
فمدافع الريان عرى رسمها خلقا كما ضمن الوحي سلامها
فقوله «الوحي» بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء، جمع وحي بمعنى الكتابة. وقول عنترة: كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطمي
وقول ذي الرمة: سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية بطرحى في ون الصحائف
وقول جرير:
كأن أخا الكتاب يخط وحيا بكاف في منازلها ولام
قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن زكريا خرج على قومه من المحراب فأشار إليهم، أو كتب لهم: أن سبحوا الله أول النهار وآخره. فالبكرة أول النهار، والعشي آخره. وقد بين تعالى في «آل عمران» أن هذا الذي أمر به زكريا قومه بالإشارة أو الكتابة من التسبيح بكرة وعشياً ـ أن الله أمر زكرياء به أيضاً، وذلك في قوله: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلإِبْكَـٰرِ} . والظاهر أن هذا المحراب الذي خرج منه على قومه هو المحراب الذي بشر بالولد وهو قائم يصلي فيه المذكور في قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ} . قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: والمحراب: أرفع المواضع، وأشرف المجالس. وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ا هـ. وقال الجوهري في صحاحه: قال الفراء المحاريب: صدور المجالس، ومنه سمي محراب المسجد، والمحراب: الغرفة. قال وضاح اليمن: ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما
ومن هذا المعنى قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ} .
تنبيه
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة: مشروعية ارتفاع الإمام على المأمومين في الصلاة. لأن المحراب موضع صلاة زكريا، كما دل عليه قومه «وهو قائم يصلي في المحراب». والمحراب أرفع من غيره، فدل ذلك على ما ذكر. قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره: هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعاً عندهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره، متمسكاً بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير. وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام.
قلت: وهذا فيه نظر، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان. فأخذ أبو مسعود بقميصه فحبذه. فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا، أو ينهى عن ذلك؟ قال بلى، ذكرت ذلك حين مددتني. وروي أيضاً عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن. فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة. فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أم للرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم» أو نحو ذلك؟ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.
قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر. فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه: أن فيه عملاً زائداً في الصلاة وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من الكبر. لأن كثيراً من الأئمة يوجدون لا كبر عندهم. ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيراً، والله أعلم. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه: سنتكلم هنا إن شاء الله تعالى على الأحاديث المذكورة، ونبين أقوال العلماء في هذه المسألة، وأدلتهم وما يظهر رجحناه بالدليل.
أما الحديثان اللذان ذكرهما القرطبي عن أبي داود فقد ساقهما أبو داود في سننه حدثنا أحمد بن سنان وأحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي المعنى قال: ثنا يعلى ثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، إلى آخر الحديث. ثم قال أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني أبو خالد عن عدي بن ثابت الأنصاري، حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن. إلى آخر الحديث. ولا يخفى أن هذا الحديث الأخير ضعيف، لأن الراوي فيه عن عمار رجل لا يُدرى من هو كما ترى. وأما الأثر الأول فقد صححه غير واحد، وروى مرفوعاً صريحاً. قال ابن حجر في (التلخيص) في الكلام على الأثر والحديث المذكورين: ويعارضه ما رواه أبو داود من طريق همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال بلى. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. ورواه أبو داود من وجه آخر، وفيه أن الإمام كان عمار بن ياسر، والذي جبذه حذيفة، وهو مرفوع لكن فيه مجهول. والأول أقوى، ويقويه ما رواه الدارقطني من وجه آخر عن همام عن أبي مسعود: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه أسفل منه. ا هـ من التلخيص. وقال النووي في (شرح المهذب) في الكلام على حديث صلاة حذيفة على الدكان وجبذ أبي مسعود له المذكور: رواه الشافعي وأبو داود والبيهفي. ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم، وإسناده صحيح. ويقال جذب وجبذ، لغتان مشهورتان ا هـ منه. وأما قصة المنبر التي أشار لها القرطبي، وقال: إنها حجة من يجيز ارتفاع الإمام على المأموم ـ فهي حديث سهل بن سعد: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر في أول يوم وضع، فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف قال: «أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه. أما أقوال الأئمة في هذه المسألة: فمذهب الشافعي فيها هو كراهة علو الإمام على المأموم. وكذلك عكسه إلا إذا كان ذلك لغرض صحيح محتاج إليه، كارتفاع الإمام ليعلم الجاهلين الصلاة كما فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على المنبر، وبين أنه فعل ذلك لقصد التعليم، وكارتفاع المأموم ليبلغ غير من المأمومين تكبيرات الإمام فإن كان ارتفاع أحدهما لنحو هذا الغرض استحب له الارتفاع لتحصيل الغرض المذكور.
قال النووي في (شرح المهذب): هذا مذهبنا، وهو رواية عن أبي حنيفة، وعنه رواية. أنه يكره الارتفاع مطلقاً، وبه قال مالك والأوزاعي. وحكي الشيخ أبو حامد عن الأوزاعي: أنه قال تبطل به الصلاة. وأما مذهب مالك في المسألة ففيه تفصيل بين علو الإمام على المأموم وعكسه. فعلو المأموم جائز عنده. وقد رجع إلى كراهته. وبقي بعض أصحابه على قوله بجوازه. وعلو الإمام لا يعجبه. وفي المدونة قال مالك: لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد والإمام في داخل المسجد. ثم كرهه. وأخذ ابن القاسم بقوله الأول. انتهى بواسطة نقل الموق في الكلام على قول خليل بن إسحاق في مختصره عاطفاً على ما يجوز. وعلو مأموم ولو بسطح. وفي المدونة أيضاً قال مالك: إذا صلى الإمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك فلا يعجبني. انتهى بواسطة نقل المواق أيضاً. وقوله «يعجبني» ظاهر في الكراهة. وحمله بعضهم على المنع. وفي وجوب إعادة الصلاة قولان.
ومحل الخلاف ما لم يقصد المرتفع بارتفاعه التَّكَبُّر على الناس، فإن قصد ذلك بطلت صلاته عندهم إماماً كان أو مأموماً. وهذه المسألة ذكرها خليل بن إسحاق في مختصره في قوله: وعلو مأموم ولو بسطح لا عكسه، وبطلب بقصد إمام ومأموم به الكبر إلا بكثير ا هـ. وقوله «إلا بكشبر» يعني إلا أن يكون الارتفاع بكشبر، ونحو المنبر عظم الذراع عندهم. ومحل جواز الارتفاع اليسير المذكور ما لم يقصد به الكبر. فقوله «إلا بكشبر» مستثنى من قوله «لا عكسه» لا من مسألة قصده الكبر فالصلاة فيها باطلة عندهم مطلقاً: قال المواق في شرحه لكلام خليل المذكور من المدونة: كره مالك وغيره أن يصلي الإمام على شيء أرفع مما يصلي عليه من خلفه، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه. قال ابن القاسم: فإن فعل أعادوا أبداً، لأنهم يعبشون إلا أن يكون ذلك دكاناً يسير الارتفاع مثل ما كان عندنا بمصر فتجزئهم الصلاة. قال أبو محمد: مثل الشبر وعظم الذراع ـ إلى أن قال: وانظر إذا صلى المقتدي كذلك أعني على موضع مرتفع قصداً إلى التكبر عن مساواة الإمام. قال ابن بشير: صلاته أيضاً باطلة. ا هـ محل الغرض منه. وقول ابن القاسم «لأنهم يعبثون» يعني برفع ذلك البنيان الذي يصلي عليه الإمام، كما قال تعالى عن نبيه هود مخاطباً لقومه عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَوَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} وإذا ارتفعت مع الإمام طائفة من المصلين سائر الناس، أعني ليست من أشراف الناس وأعيانهم، ففي نفي الكراهة بذلك خلاف عندهم وإليه أشار خليل في مختصره بقوله: وهل يجوز إن كان مع الإمام طائفة كغيرهم تردد. هذا هو حاصل مذهب مالك في هذه المسألة.
وأما مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة: فهو أن ارتفاع كل من الإمام والمأموم على الآخر مكروه. وقال الطحاوي: لا يكره علو المأموم على الإمام. ومحل الكراهة عند الحنفية في الارتفاع غير اليسير، ولا كراهة عندهم في اليسير: وقدر الارتفاع الموجب للكراهة عندهم قدر قامة، ولا بأس بما دونها، ذكره الطحاوي، وهو مروي عن أبي يوسف: وقيل هو مقدر بقدر ما يقع عليه الامتياز. وقيل: مقدر بقدر ذراع اعتباراً بالسترة. قال صاحب (تبيين الحقائق). وعليه الاعتماد. وإن كان مع الإمام جماعة في مكانه المرتفع، وبقية المأمومين أسفل منهم فلا يكره ذلك على الصحيح عندهم ـ انتهى بمعناه (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق).
وأما مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة ـ فهو التفصيل بين علو الإمام على المأموم، فيكره على المشهور من مذهب أحمد. وبين علو المأموم الإمام فيجوز. قال ابن قدامة في المغني: المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين، سواء أراد تعليمهم الصلاة، أو لم يرد. وهو قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي. وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكره ـ ا هـ. محل الغرض منه. وقال في المغني أيضاً: فإن صلى الإمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد: لا تصح صلاتهم. وهو قول الأوزاعي، لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه. وقال القاضي: لا تبطل، وهو قول أصحاب الرأي ـ ا هـ محل الغرض منه.
فإذا عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة ـ فاعلم أن حجة من كره علو الإمام على المأموم أو منعه ـ هي ما قدمنا في قصة جبذ أبي مسعود لحذيفة لما أم الناس، وقام يصلي على دكان. الحديث المتقدم. وقد بينا أقوال أهل العلم في الحديث المذكور. وحجة من أجاز ذلك للتعليم حديث سهل بن سعد المتفق عليه في قصة صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وجواب المخالفين عن صلاته على المنبر. بأنه ارتفاع يسير، وذلك لا بأس به، أو بأنه منسوخ كما تقدم في كلام القرطبي: وحجة من أجاز على المأموم على الإمام ما روي عن أبي هريرة: أنه صلى بصلاة الإمام وهو على سطح المسجد.
قال ابن حجر «في التلخيص»: رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد قال حدثني صالح مولى التوأمة أنه رأى أبا هريرة يصلي فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد. ورواه البيهقي من حديث القعنبي عن ابن أبي ذئب عن صالح، ورواه سعد بن منصور، وذكره البخاري تعليقاً ـ انتهى محل الغرض من كلامه. فقد رأيت مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم.
قال مقيده عفا الله عنه: والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ وجوب الجمع بين الأدلة المذكورة، وأن علو الإمام مكروه لما تقدم. ويجمع بينه وبين قصة الصلاة على المنبر بجوازه للتعليم دون غيره. ويدل لهذا إخباره صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتفع رأوه وإذا نزل لم يره إلا من يليه، وجمع بعضهم بأن ارتفاعه على المنبر ارتفاع يسير وهو مغتفر. أما علو المأموم فقد تعارض فيه القياس مع فعل أبي هريرة. لأن القياس يقتضي كراهة ارتفاع المأموم قياساً على ارتفاع الإمام وهو قياس جلي، وإذا تعارض القياس مع قول الصحابي فمن الأصوليين من يقول بتقديم القياس، وهو مذهب مالك وجماعة، ومنهم من يقول بتقديم قول الصحابي. ولا شك أن الأحوط تجنب علو كل واحد من الإمام والمأموم على الآخر. والعلم عند الله تعالى. و«أن» في قوله {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُو} هي المفسرة.
والمعنى أن ما بعدها يفسر الإيحاء المذكور قبلها. فهذا الذي أشار لهم به هو الأمر بالتسبيح بكرة وعشياً، وهذا هو الصواب. ويحتمل أن تكون مصدرية بناء على أن «أن» المصدرية تأتي مع الأفعال الطلبية. وعليه فالمعنى: أوحى إليهم أي أشار إليهم بأن سبحوا، أي بالتسبيح أو كتب لهم ذلك بناء على القول بأن المراد به الكتابة، وكونها مفسرة هو الصواب. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَـٰبَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَٰلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَي} . اعلم أولاً ـ أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر شيء مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر، فإنا نبينها. وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا ـ فإذا علمت ذلك ـ فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة بعض صفات يحيى، وقد ذكر شيئاً من صفاته أيضاً في غير هذا الموضع. وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا، والمذكور في غير هذا الموضع.
اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له {يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَـٰبَ بِقُوَّةٍ} ووصفه بقوله {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ} إلى قوله {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَي}. فقوله {يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَـٰبَ} مقول قول محذوف. أي وقلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة. والكتاب: التوارة. أي خذ التوراة بقوة. أي بجد واجتهاد، وذلك بتفهم المعنى أولاً حتى يفهمه على الوجه الصحيح، ثم يعمل به من جميع الجهات، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويتأدب بآدابه، ويتعظ بمواعظه، إلى غير ذلك من جهات العمل به. وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا: التوارة. وحكى غير واحد عليه الإجماع.
وقيل: هو كتاب أنزل على يحيى، وقيل: هو اسم جنس يشمل الكتب المقدمة. وقيل: هو صحف إبراهيم. والأظهر قول الجمهور: إنه التوراة كما قدمنا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ} أي أعطيناه الحكم، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة، مرجعها إلى شيء واحد، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب. أي إدراك ما فيه والعمل به في حال كونه صبياً. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّ} أي الفهم والعلم والجد والعزم، والاقبال على الخير والإكباب عليه، والاجتهاد فيه ـ وهو صغير حدث. قال عبد الله بن المبارك قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقناٰ فلهذا أنزل الله {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّ}. وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّ} يقول تعالى ذكره: وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان للرجال. وقد حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرني معمر ولم يذكره عن أحد في هذه الآية «وآتيناه الحكم صبياً» قال بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب. فقال: ما للعب خلقنا، فأنزل الله {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّ} وقال الزمخشري في الكشاف {وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ} أي الحكمة، ومنه قول نابغة ذبيان: واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد
وقال أبو حيان في البحر في تفسير هذه الآية: والحكم النبوة، أو حكم الكتاب، أو الحكمة، أو
العلم بالأحكام. أو اللب وهو العقل، أو آداب الخدمة، أو الفراسة الصادقة. أقوال:
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي ـ هو أن الحكم يعلم النافع والعمل به، وذلك بفهم الكتاب السماوي فهماً صحيحاً، والعمل به حقاً، فإن هذا يشمل جميع أقوال العلماء في الآية الكريمة. وأصل معنى «الحكم» المنع، والعلم النافع. والعمل به يمنع الأقوال والأفعال من الخلل والفساد والنقصان.
وقوله تعالى: {صَبِيّ} أي لم يبلغ، وهو الظاهر. وقيل: صبياً أي شاباً لم يبلغ سن الكهولة ـ ذكره أبو حيان وغيره، والظاهر الأول. قيل ابن ثلاث سنين، وقيل ابن سبع، وقيل ابن سنتين. والله أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة {وَحَنَانً} معطوف على {ٱلْحُكْمُ} أي وآتيناه حناناً من لدنا. والحنان: هو ما جبل عليه من الرحمة، والعطف والشفقة. وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب، ومنه قولهم: حنانك وحنانيك يا رب، بمعنى رحمتك. ومن هذا المعنى قول امرىء القيس: أبنت الحارث الملك بن عمرو له ملك العراق إلى عمان
ويمنحها بنو شمجي بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان
يعني رحمتك يا رحمن. وقول طرفة بن العبد: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقول منذر بن درهم الكلبي: وأحدث عهد من أمينة نظرة على جانب العلياء إذ أنا واقف
فقالت حنان ما أتى بك ها هنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف
فقوله «حنان» أي أمري حنان.
أي رحمة لك، وعطف وشفقة عليك وقول الحطيئة أو غيره: تحنن على هداك المليك فإن لكل مقام مقالا
وقوله تعالى: {مّن لَّدُنَّ} أي من عندنا، وأصح التفسيرات في قوله «وزكاةً» أنه معطوف على ما قبله أي أو أعطيناه زكاة، أي طهارة من أدران الذنوب والمعاصي بالطاعة، والتقرب إلى الله بما يرضيه: وقد قدمنا في سورة «الكهف» الآيات الدالة على إطلاق الزكاة في القرآن بمعنى الطهارة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية «وزكاةً» الزكاة: التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير. أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم. وقيل المعنى: زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود إنساناً. وقيل «زكاةً» صدقة على أبويه. قاله ابن قتيبة ـ إنتهى كلام القرطبي. وهو خلاف التحقيق في معنى الآية. والتحقيق فيه إن شاء الله هو ما ذكرنا، من أن المعنى: وأعطيناه زكاة أي طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى. وقول من قال من العلماء: بأن المراد بالزكاة في الآية العمل الصالح، راجع إلى ما ذكرنا لأن العمل الصالح هو الذي به الطهارة من الذنوب والمعاصي.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَكَانَ تَقِيّ} أي ممتثلاً لأوامر ربه مجتنباً كل ما نهى عنه. ولذا لم يعمل خطيئة قط، ولم يلم بها، قاله القرطبي وغيره عن قتادة وغيره. وفي نحو ذلك أحاديث مرفوعة، والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعاً، إما بإنقطاع، وإما بعنعنة مدلس: وإما بضعف واو، كما أشار له ابن كثير وغيره. وقد قدمنا معنى «التقوى» مراراً وأصل مادتها في اللغة العربية.
وقوله تعالى: {وَبَرّا بِوٰلِدَيْهِ} البر بالفتح هو فاعل البر ـ بالكسر ـ كثيراً أي وجعلناه كثير البر بوالديه، أي محسناً إليهما، لطيفاً بهما، لين الجانب لهما. وقوله «وبراً» معطوف على قوله «تقياً»، وقوله «ولم يكن جباراً عصياً» أي لم يكن مستكبراً عن طاعة ربه وطاعة والديه، ولكنه كان مطيعاً لله، متواضعاً لوالديه، قاله ابن جرير. والجبار: هو كثير الجبر، أي القهر للناس، والظلم لهم. وكل متكبر على الناس يظلمهم: فهو جبار. وقد أطلق في القرآن على شديد البطش في قوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} وعلى من يتكرر منه القتل في قوله: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلاٌّمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى ٱلاٌّرْضِ} . والظاهر أن قوله: «عصياً» فعول قبلت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء على القاعدة التصريفية المشهورة: التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله: إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا
فياء الواو اقلبن مدغما وشذ معطى غير ما قد رسما
فأصل «عصياً» على هذا «عصوياً» كصبور، أي كثير العصيان. ويحتمل أن يكون أصله فعيلاً وهي من صيغ المبالغة أيضاً، قاله أبو حيان في البحر.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَي} قال ابن جرير: وسلام عليه أي أمان له. وقال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف من الأمان، لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة،
وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول ـ انتهى كلام ابن عطية بواسطة نقل القرطبي في تفسير هذه الآية، ومرجع القولين إلى شيء واحد، لأن معنى سلام، التحية، الأمان، والسلامة مما يكره. وقول من قال: هو الأمان. يعني أن ذلك الأمان من الله. والتحية من الله معناها الأمان والسلامة مما يكره. والظاهر المتبادر أن قوله {وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} تحية من الله ليحيى ومعناها الأمان والسلامة. وقوله: {وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ} مبتدأ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه في معنى الدعاء، وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته، ووقت موته، ووقت بعثه، في قوله {يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ}، لأنها أوحش من غيرها. قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم. ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فيها. رواه عنه ابن جرير وغيره. وذكر ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية بإسناده عن الحسن رحمه الله قال: إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني. فقال الآخر: استغفر لي، أنت خير مني. فقال عيسى: أنت خير مني، سلمت على نفسي وسلم الله عليك. وقد نقل القرطبي هذا الكلام الذي رواه ابن جرير عن الحسن البصري رحمه الله تعالى. ثم قال: انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم ـ فضل عيسى بأن قال إدلاله في التسليم على نفسه ومكانته
من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكي في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه، قال ابن عطية: ولكل وجه. انتهى كلام القرطبي. والظاهر أن سلام الله على يحيى في قوله {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤ} أعظم من سلام عيسى على نفسه في قوله: {وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّ} كما هو ظاهر.
تنبيه
الفتحة في قوله: {بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ} يحتمل أن تكون في الظروف الثلاثة فتحة إعراب نصباً على الظرفية. ويحتمل أن تكون فتحة بناء لجواز البناء في نحو ذلك، والأجود أن تكون فتحة «يوم ولد» فتحة بناء، وفتحة {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ} فتحة نصب، لأن بناء ما قبل الفعل الماضي أجود من إعرابه وإعراب ما قبل المضارع، والجملة الاسمية أجود عن بنائه، كما عقده في الخلاصة بقوله: وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا واختر بنا متلو فعل بنيا
وقبل فعل معرب أو مبتدأ أعرب ومن بنى فلن يفندا
والأحوال في مثل هذا أربعة: الأول أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصلياً وهو الماضي، كقول نابغة ذبيان: على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع
فبناء الظرف في مثل ذلك أجود، وإعرابه جائز.
الثاني ـ أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء عاوضاً، كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة. كقول الآخر:
لأجتذبن منهن قلبي تحلما على حين يستصبين كل حليم
وحكم هذا كما قبله.
الثالث ـ أن يضاف إلى جملة فعلية فعلها معرب. كقول أبي صخر الهذلي: إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
فإعراب مثل هذا أجود، وبناؤه جائز.
الرابع ـ أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة اسمية. كقول الشاعر: ألم تعلمي يا عمرك الله أنني كريم على حين الكرام قليل
وقول الآخر: تذكر ما تذكر من سليمى على حين التواصل غير دان
وحكم هذا كما قبله. واعلم أن هذه الأوجه إنما هي في الظرف المبهم الماضي. وأما إن كان الظرف المبهم مستقبل المعنى، كقوله: {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ} فإنه لا يضاف إلا إلى الجمل الفعلية دون الاسمية. فتكون فيه الأوجه الثلاثة المذكورة دون الرابع. وأجاز ابن مالك إضافته إلى الجملة الاسمية بقلة، كقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ} وقول سواد بن قارب: وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب
لأن الظرف في الآية والبيت المذكورين مستقبل لا ماض، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيا} قال أبو حيان: فيه تنبيه على كونه من الشهداء، لقوله تعالى فيهم: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} .
قال مقيده عفا الله عنه: وجه هذا الاستنباط أن الحال قيد لعاملها، وصف لصاحبها. وعليه فبعثه مقيد بكونه حياً، وتلك حياة الشهداء، وليس بظاهر كل الظهور. والله تعالى أعلم.
هذا هو حاصل ما ذكره الله تعالى في هذه السورة الكريمة من صفات يحيى، وذكر بعض صفاته في غير هذا الموضع، كقوله في «آل عمران»: {فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} ومعنى كونه {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ} أنه مصدق بعيسى، وإنما قيل لعيسى كلمة لأن الله أوجده بكلمة هي قوله «كن» فكان، كما قال تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَـٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ} . وقال: {إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} . وهذا هو قول جمهور المفسرين في معنى قوله تعالى: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ} وقيل: المراد بكلمة الكتاب، أي مصدقاً بكتاب الله. والكلمة في القرآن تطلق على الكلام المفيد، كقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ} ، وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْل} ، وقوله: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَ} إلى غير ذلك من الآيات، وباقي الأقوال: تركناه لظهور ضعفه. والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا. وقوله «وسيداً» وزن السيد بالميزان الصرفي فيعل وأصل مادته (س و د) سكنت ياء الفعيل الزائدة قبل الواو التي هي في موضع العين، فأبدلت الواو ياء عن القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة:
* إن يسكن السابق من واو ويا *
البيتين المتقدمين آنفاً. وأصله من السواد وهو الخلق الكثير. فالسيد من يطعيه، ويتبعه سواد كثير من الناس. والدليل على أن عين المادة واو أنك تقول فيه: ساد يسود بالواو، وتقول سودوه إذا جعلوه سيداً. والتضعيف يرد العين إلى أصلها، ومنه قول عامر بن الطفيل العامري: وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
وقال الآخر: وإن بقوم سودوك لحاجة إلى سيد لو يظفرون بسيد
وشهرة مثل ذلك تكفي عن بيانه. والآية فيها دليل على إطلاق السيد على من ساد من الناس، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن بن علي رضي الله عنهما «إن ابني هذا سيد» الحديث. وأنه صلى الله عليه وسلم: لما جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه للحكم في بني قريظة قال صلى الله عليه وسلم:«قوموا لسيدكم» والتحقيق في معنى قوله «حصوراً» أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن تبتلاً منه، وانقطاعاً لعبادة الله. وكان ذلك جائزاً في شرعه. وأما سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم فهي التزويج وعدم التبتل. أما قول من قال: إن الحصور فعول بمعنى مفعول، وأنه محصور عن النساء لأنه عنين لا يقدر على إتيانهن ـ فليس بصحيح، لأن العنة عيب ونقص في الرجال، وليست من فعله حتى يثنى عليه بها. فالصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا، واختاره غير واحد من العلماء. وقول من قال: إن الحصور هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر كما قال الأخطل: وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار
قول ليس بالصواب في معنى الآية. بل معناها هو ما ذكرنا وإن كان إطلاق الحصور على ذلك صحيحاً لغة. وقوله «ونبياً» على قراءة نافع بالهمزة معناه واضح، وهو فعيل بمعنى مفعول، من النبأ وهو الخبر الذي له شأن، لأن الوحي خبر لهشأن يخبره الله به. وعلى قراءة بالياء المشددة فقال بعض العلماء: معناه كمعنى قراءة نافع، إلا أن الهمزة أبدلت ياء وأدغمت فيها للياء التي قبلها. وعلى هذا فهو كالقراءتين السبعيتين في قوله {إِنَّمَا ٱلنَّسِىۤءُ زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ} بالهمزة وتشديد الياء. وقال بعض العلماء: هو على قراءة الجمهور من النبوة بمعنى الارتفاع لرفعة النَّبي وشرفه. والصالحون: هم الذين صلحت عقائدهم، وأعمالهم. وأقوالهم، ونياتهم، والصلاح ضد الفساد. وقد وصف الله تعالى يحيى بالصلاح مع من وصف بذلك من الأنبياء في سورة «الأنعام» في قوله: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} .
الصفحة رقم 305 من المصحف تحميل و استماع mp3