سورة مريم | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 308 من المصحف
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 308
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ٱلاٌّمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
تقدم شرحها في الصفحة التي قبلها
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلاٌّرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ * وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ إِبْرَٰهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً * يٰأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِىۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً * يٰأَبَتِ إِنِّىۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـٰنِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى يٰإِبْرَٰهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِى مَلِيّاً * قَالَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّى عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا * فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً * وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّا}
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلاٌّرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}. معنى قوله جل وعلا في هذه الآية: أنه يرث الأرض ومن عليها: أنه يميت جميع الخلائق الساكنين بالأرض، ويبقى هو جل وعلا لأنه الحي الذي لا يموت، ثم يرجعون إليه يوم القيامة. وقد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلْـٰلِ وَٱلإِكْرَامِ} وقوله تعالى: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ ٱلْوَٰرِثُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ إِبْرَٰهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً يٰأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِىۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاًيٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً يٰأَبَتِ إِنِّىۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـٰنِ وَلِيّ}. أمر الله جل وعلا نبيه «محمداً» صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يذكر في الكتاب الذي هو القرآن العظيم المنزل إليه من الله «إبراهيم» عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويتلو على الناس في القرآن نبأه مع قومه ودعوته لهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر. وكرر هذا المعنى المذكور في هذه الآيات في آيات أخر من كتابه جل وعلا. فهذا الذي أمر به نبيه هنا من ذكره في الكتاب إبراهيم {إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} ـ أوضحه في سورة «الشعراء» في قوله: {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَٰهِيمَ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} .
فقوله هنا {وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ} هو معنى قوله: {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَٰهِيمَ} وزاد في «الشعراء» أن هذا الذي قاله لأبيه من النهي عن عبادة الأوثان قاله أيضاً لسائر قومه. وكرر تعالى الإخبار عنه بهذا النهي لأبيه وقومه عن عبادة الأوثان في مواضع أخر. كقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لاًّبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّىۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ} ، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُون َقَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَـٰكِفِين َقَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون َقَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون َقَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُون َأَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ ٱلاٌّقْدَمُون َفَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِىۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَٰهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَـٰلِمِينَ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَـٰثِيلُ ٱلَّتِىۤ أَنتُمْ لَهَا عَـٰكِفُون َقَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَـٰبِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِين ٍقَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللَّـٰعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ ٱلَّذِى فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} ، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُون َإِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ، وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَٰهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَءِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُون َفَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} وقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىۤ إِبْرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَٰهِيمَ لاًّبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية: {إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ} الظرف الذي هو «إذ» يدل اشتمال من «إبراهيم» في قوله: {وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ إِبْرَٰهِيمَ} كما تقدم نظيره في قوله: {وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ} . وقد قدمنا هناك إنكار بعضهم لهذا الإعراب. وجملة {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّ} معترضة بين البدل والمبدل منه على الإعراب المذكور. والصديق صيغة مبالغة من الصدق. لشدة صدق إبراهيم في معاملته مع ربه وصدق لهجته، كما شهد الله له بصدق معاملته في قوله:
{وَإِبْرَٰهِيمَ ٱلَّذِى وَفَّىٰ} ، وقوله: {وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَـٰعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامً} .
ومن صدقه في معاملته ربه: رضاه بأن يذبح ولده، وشروعه بالفعل في ذلك طاعة لربه. مع أن الولد فلذة من الكبد. لكنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين ِوَنَـٰدَيْنَـٰهُ أَن يٰإِبْرَٰهِيم ُقَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا} . ومن صدقه في معاملته مع ربه: صبره على الإلقاء في النار. كما قال تعالى: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَـٰعِلِينَ} ، وقال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ} .
وذكر علماء التفسير في قصته أنهم لما رموه إلى النار لقيه جبريل فسأله: هل لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلاٰ وأما إلى الله فنعم. فقال له: لم لا تسأله؟ فقال: علمه بحالي كاف عن سؤالي؟؟
ومن صدقه في معاملته ربه: صبره على مفارقة الأهل والوطن فراراً لدينه. كما قال تعالى: {فَأامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّىۤ} وقد هاجر من سواد العرق إلى دمشق: وقد بين جل وعلا في مواضع أخر أنه لم يكتف بنهيهم عن عبادة الأوثان وبيان أنها لا تنفع ولا تضر، بل زاد على ذلك أنه كسرها وجعلها جذاذاً وترك الكبير من الأصنام، ولما سألوه هل هو الذي كسرها قال لهم: إن الذي فعل ذلك كبير الأصنام، وأمرهم بسؤال الأصنام إن كانت تنطق. كما قال تعالى عنه: {وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَـٰمَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُون َقَالُواْ مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِأالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَٰهِيم ُقَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُون َقَالُوۤاْ ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـٰذَا بِأالِهَتِنَا يٰإِبْرَٰهِيم ُقَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُون َفَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوۤاْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُون َقَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُم ْأُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ، وقال تعالى: {فَرَاغَ إِلَىٰ ءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَفَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ فَأَقْبَلُوۤاْ إِلَيْهِ يَزِفُّون َقَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} . فقوله {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ} أي مال إلى الأصنام يضربها ضرباً بيمنه حتى جعلها جذاذاً، أي قطاعاً متكسرة من قولهم: جذه إذا قطعه وكسره.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيق} أي كثير الصدق يعرف منه أن الكذبات الثلاث المذكورة في الحديث عن إبراهيم كلها في الله تعالى، وأنها في الحقيقة من الصدق لا من الكذب بمعناه الحقيقي، وسيأتي إن شاء الله زيادة إيضاح لهذا في سورة «الأنبياء»:
وقوله تعالى عن إبراهيم {يٰأَبَتِ} التاء فيه عوض عن ياء المتكلم، فالأصل يا أبي كما أشار له في الخلاصة بقوله: وفي النداء أبت أمت عرض واكسر أو افتح ومن اليا التا عوض
وقوله تعالى في هذه الآية {لِمَ تَعْبُدُ} أصله «ما» الاستفهامية، فدخل عليها حرف الجر الذي هو «اللام» فحذف ألفها على حد قوله في الخلاصة: وما في الاستفهام إن جرت حذف ألفها وأولها الها إن تقف
ومعلوم أن القراءة سنة متبعة لا تجوز بالقياس. ولذا يوقف على «لم» بسكون الميم لإبهاء السكت كما في البيت. ومعنى عبادته للشيطان في قوله {لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ} طاعته للشيطان في الكفر والمعاصي. فذلك الشرك شرك طاعة، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِىۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين ٌوَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ} كما تقدم هذا المبحث مستوفي في سورة «الإسراء» وغيرها.
والآية تدل على أن الكفار المعذبين يوم القيامة أولياء الشيطان. لقوله هنا {إِنِّىۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـٰنِ وَلِيّ} والآيات الدالة على أن الكفار أولياء الشيطان كثيرة، وقد قدمنا كثيراً من ذلك في سورة الكهف وغيرها، كقوله تعالى: {فَقَـٰتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَـٰنِ} ، وقوله: {إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ، أي يخوفكم أولياءه. وقوله: {إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَـٰطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ} إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم. وكل من كان الشيطان يزين له الكفر والمعاصي فيتبعه في ذلك في الدنيا فلا ولي له في الآخرة إلا الشيطان. كما قال تعالى: {تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ومن كان لا ولي له يوم القيامة إلا الشيطان تحقق أنه لا ولي له ينفعه يوم القيامة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} يعني ما علمه الله من الوحي وما ألهمه وهو صغير، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَٰهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَـٰلِمِينَ} ومحاجة إبراهيم لقومه كما ذكرنا بعض الآيات الدالة عليها أثنى الله بها على إبراهيم، وبين أنها حجة الله آتاها نبيه إبراهيم. كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍ مَّن نَّشَآءُ} ، وقال تعالى: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّوۤنِّى فِى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى} ، وكون الآيات المذكورة واردة في محاجته لهم المذكورة في سورة «الأنعام» لا ينافي ما ذكرنا. لأن أصل المحاجة في شيء واحد وهو توحيد الله جل وعلا، وإقامه الحجة القاطعة على أنه لا معبود إلا هو وحده جل وعلا في سورة «الأنعام» وفي غيرها. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى يٰإِبْرَٰهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِى مَلِيّاًقَالَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّ}. بين الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين: أن إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرفق واللين، وإيضاح الحق والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر. ومن عذاب الله تعالى وولاية الشيطان ـ خاطبة هذا الخطاب العنيف، وسماه باسمه ولم يقل له يا بني في مقابلة قوله له يا أبت. وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان أي معرض عنها لا يريدها. لأنه لا يعيد إلا الله وحده جل وعلا. وهدده جل وعلا. وهدده بأنه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه (قيل بالحجارة وقيل باللسان شتماً) والأول أظهر. ثم أمره بهجره ملياً أي زماناً طويلاً، ثم بين أن إبراهيم قابل أيضاً جوابه العنيف بغاية الرفق واللين في قوله: {قَالَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ}. وخطاب إبراهيم لأبيه الجاهل بقوله {سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ} قد بين جل وعلا أنه خطاب عباده
المؤمنين للجهال إذا خاطبوهم، كما قال تعالى: {وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلاٌّرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَم} ، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَـٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى ٱلْجَـٰهِلِينَ} وما ذكره تعالى هنا من أن إبراهيم لما أقنع أباه بالحجة القاطعة، قابله أبوه بالعنف والشدة ـ بين في مواضع أخر أنه هو عادة الكفار المتعصبين لأصنامهم، كلما أفحموا بالحجة القاطعة لجؤوا إلى استعمال القوة، كقوله تعالى عن إبراهيم لما قال له الكفار عن أصنامهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ} قال {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فلما أفحمهم بهذه الحجة لجؤوا إلى القوة، كما قال تعالى عنهم: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَـٰعِلِينَ} . ونظيره قوله تعالى عن قوم إبراهيم: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ} ، وقوله عن قوم لوط لما أفحمهم بالحجة: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوۤاْ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: {سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ} يعني لا ينالك مني أذى ولا مكروه، بل ستسلم مني فلا أوذيك. وقوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ} وعد من إبراهيم لأبيه باستغفاره له، وقد وفى بذلك الوعد، كما قال تعالى عنه: {وَٱغْفِرْ لاًّبِىۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ} ، وكما قال تعالى عنه: {رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ}
ولكن الله بين له أنه عدو لله تبرأ منه، ولم يستغفر له بعد ذلك، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لاًّبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} والموعدة المذكورة هي قوله هنا {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ} الآية. ولما اقتدى المؤمنون بإبراهيم فاستغفروا لموتاهم المشركين، واستغفر النَّبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب ـ أنزل الله فيهم {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِى قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ} . ثم قال: {وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لاًّبِيهِ}. وبين في سورة «الممتحنة» أن الاستغفار للمشركين مستثنى من الإسوة بإبراهيم، والإسوة الإقتداء، وذلك في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىۤ إِبْرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَ} ـ إلى قوله ـ {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَٰهِيمَ لاًّبِيهِ لاّسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} ، أي فلا أسوة لكم في إبراهيم في ذلك. ولما ندم المسلمون على استغفارهم للمشركين حين قال فيهم: {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} ـ بيَّن الله تعالى أنهم معذورون في ذلك. لأنه لم يبين لهم منع ذلك قبل فعله، وذلك في قوله: {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} .
وقوله في هذه الآية: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى} يجوز فيه أن يكون «راغب» خبراً مقدماً، و«أنت» مبتدأ مؤخراً، وأن يكون «أراغب» مبتدأ و«أنت» فاعل سد مسد الخبر. ويترجح هذا الإعراب الأخير على الأول من وجهين: الأول ـ أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير. والأصل في الخبر التأخير كما هو معلوم. الوجه الثاني ـ هو ألا يكون فصل بين العامل الذي هو «أراغب» وبين معمولة الذي هو «عن آلهتي» بما ليس بمعمول للعامل. لأن الخبر ليس هو عاملاً في المبتدأ، بخلاف كون «أنت» فاعلاً. فإنه معمول «أراغب» فلم يفصل بين «أراغب» وبين «عن آلهتي» بأجنبي، وإنما فصل بينهما بمعمول المبتدأ الذي هو فاعله الساد مسد خبره. والرغبة عن الشيء: تركه عمداً المزهد فيه، وعدم الحاجة إليه، وقد قدمنا في سورة «النساء» الفرق بين قولهم: رغب عنه، وقولهم: رغب فيه في الكلام على قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} . والتحقيق في قوله «ملياً» أن المراد به الزمن الطويل ومنه قول مهلهل: فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا
وأصله واوي اللام. لأنه من الملاوة وهي مدة العيش. ومن ذلك قيل الليل والنهار. الملوان: ومنه قول ابن مقبل: ألا يا ديار الحي بالسبعان أمل عليها بالبلي الملوان
وقول الآخر: نهار وليل دائم ملواهما على كل حال المرء يختلفان
وقيل الملوان في بيت ابن مقبل:
طرفا النهار. وقوله {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّ} أي لطيفاً بي. كثير الإحسان إلي. وجملة {وَٱهْجُرْنِى} عطف على جملة {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} وذلك دليل على جواز عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول امرىء القيس: وإن شفائي عبرة إن سفحتها وهل عند رسم دارس من معول
فجملة «وإن شفائي» خبرية، وجملة «وهل عند رسم» الخ إنشائية معطوفة عليها. وقول الآخر أيضاً: تناغى غزالا عند باب ابن عامر وكحل مآقيك الحسان بإثمد
وهذا هو الظاهر كما قاله أبو حيان عن سيبويه. وقال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: علام عطف {وَٱهْجُرْنِى} قلت على معطوف عليه محذوف يدل عليه «لأرجمنك» أي فاحذرني واهجرني. لأن {لأَرْجُمَنَّكَ} تهديد وتقريع طا هـ. قوله تعالى: {وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّا}. اعلم أن في قوله «مخلصاً» قراءتين سبعيتين: قرأه عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام بصيغة اسم المفعول، والمعنى على هذه القراءة أن الله استخلصه واصطفاه: ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي وَبِكَلَـٰمِي} . ومما يماثل هذه القراءة في القرآن قوله تعالى: {إِنَّآ أَخْلَصْنَٰهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ} فالذين أخلصهم الله هم المخلصون بفتح اللام، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «مخلصاً» بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل. كقوله تعالى: {وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ} ، وقوله تعالى: {قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى} .
الصفحة رقم 308 من المصحف تحميل و استماع mp3