تفسير الطبري تفسير الصفحة 308 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 308
309
307
 الآية : 39
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر يا مـحمد هؤلاء الـمشركين بـالله يوم حسرتهم وندمهم, علـى ما فرّطوا فـي جنب الله, وأورثت مساكنهم من الـجنة أهل الإيـمان بـالله والطاعة له, وأدخـلوهم مساكن أهل الإيـمان بـالله من النار, وأيقن الفريقان بـالـخـلود الدائم, والـحياة التـي لا موت بعدها, فـيا لها حسرةً وندامة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17892ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ, قال: حدثنا سفـيان, عن سَلَـمة بن كُهَيـل, قال: حدثنا أبو الزعراء, عن عبد الله فـي قصة ذكرها, قال: ما من نفس إلا وهي تنظر إلـى بـيت فـي الـجنة, وبـيت فـي النار, وهو يوم الـحسرة, فـيرى أهل النار البـيت الذي كان قد أعدّه الله لهم لو آمنوا, فـيقال لهم: لو آمنتـم وعملتـم صالـحا كان لكم هذا الذي ترونه فـي الـجنة, فتأخذهم الـحسرة, ويرى أهل الـجنة البـيت الذي فـي النار, فـيقال: لولا أن مَنّ الله علـيكم.
17893ـ حدثنا أبو السائب, قال: حدثنا معاوية, عن الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي سعيد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُجاءُ بـالـمَوْتِ يَوْمَ القِـيامَةِ فَـيُوقَـفُ بـينَ الـجَنّةِ والنّارِ كأنّه كَبْشٌ أمْلَـحُ» قال: «فَـيُقالُ: يا أهْلَ الـجَنّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَـيَشْرِئِبّونَ وَيَنْظُرُونَ, فَـيَقُولُونَ: نَعَمْ, هَذَا الـمَوْتُ, فَـيُقالُ: يا أهْلَ النّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَـيَشْرَئبّونَ وَيَنْظُرُونَ, فَـيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الـمَوْتُ, ثُمّ يُؤْمَرُ بِهِ فَـيُذْبَحُ» قال: «فَـيَقُولُ: يا أهْلَ الـجَنّةِ خُـلُودٌ فَلا مَوْت, وَيا أهْلَ النّارِ خُـلُودٌ فَلا مَوْت» قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنْذِرْهِمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِـي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وأشار بـيده فـي الدنـيا.
17894ـ حدثنـي عبـيد بن أسبـاط بن مـحمد, قال: حدثنا أبـي, عن الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي هذه الاَية وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ قال: «يُنادَى: يا أهْلَ الـجَنّةِ, فَـيَشْرَئِبّونَ, فَـيَنْظُرونَ, ثُمّ يُنادَى: يا أهْلَ النّارِ فَـيَشْرَئِبّونَ فَـيَنْظُرونَ, فَـيُقالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ الـمَوْتَ؟ قال: فَـيَقُولُونَ: لا, قال: فَـيُجاءُ بـالـمَوْتِ فـي صُورَةِ كَبْشٍ أمْلَـحَ, فـيُقال: هَذَا الـمَوْتُ, ثُمّ يُؤْخَذُ فَـيُذْبَحُ, قالَ: ثُمّ يُنادِي يا أهْلَ النّار خُـلُودٌ فَلا مَوْتَ, وَيا أهْلَ الـجَنّةِ خُـلُودٌ فَلا مَوْت», قال: ثم قرأ وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ.
17895ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عبـاس, فـي قوله: وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ قال: يصوّر الله الـموت فـي صورة كبش أملـح, فـيذبح, قال: فـيـيأس أهل النار من الـموت, فلا يرجونه, فتأخذهم الـحسرة من أجل الـخـلود فـي النار, وفـيها أيضا الفزع الأكبر, ويأمن أهل الـجنة الـموت, فلا يخشونه, وأمنوا الـموت, وهو الفزع الأكبر, لأنهم يخـلدون فـي الـجنة, قال ابن جريج: يحشر أهل النار حين يذبح الـموت والفريقان ينظرون, فذلك قوله: إذْ قُضِيَ الأمْرُ قال: ذبح الـموت وَهُمْ فِـي غَفْلَةٍ.
17896ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن أبـيه أنه أخبره أنه سمع عبـيد بن عمير فـي قصصه يقول: يؤتَـى بـالـموت كأنه دابة, فـيذبح والناس ينظرون.
17897ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ قال: يوم القـيامة, وقرأ أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا عَلـى ما فَرّطْتُ فِـي جَنْبِ اللّهِ.
17898ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الـحَسْرَةِ من أسماء يوم القـيامة, عظّمه الله, وحذّره عبـادَه.
وقوله: إذْ قُضِيَ الأمْرُ يقول: إذ فُرِغ من الـحكم لأهل النار بـالـخـلود فـيها, ولأهل الـجنة بـمقام الأبد فـيها, بذبح الـموت. وقوله: وَهُمْ فِـي غَفْلَةٍ يقول: وهؤلاء الـمشركون فـي غفلة عما الله فـاعل بهم يوم يأتونه خارجين إلـيه من قبورهم, من تـخـلـيده إياهم فـي جهنـم, وتوريثه مساكنهم من الـجنة غيرهم وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يقول تعالـى ذكره: وهم لا يصدّقون بـالقـيامة والبعث, ومـجازاة الله إياهم علـى سيىء أعمالهم, بـما أخبر أنه مـجازيهم به.
الآية : 40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { إِنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزنك تكذيب هؤلاء الـمشركين يا مـحمد فـيـما أتـيتهم به من الـحقّ, فإن إلـينا مرجعهم ومصيرهم ومصير جميع الـخـلق غيرهم, ونـحن وارثو الأرض ومن علـيها من الناس, بفنائهم منها, وبقائها لا مالك لها غيرنا, ثم علـينا جزاء كلّ عامل منهم بعمله, عند مرجعه إلـينا, الـمـحسن منهم بإحسانه, والـمسيء بإساءته.
الآية : 41 و 42
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقاً نّبِيّاً * إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ يَأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه: وَاذْكُرْ يا مـحمد فـي كتاب الله إِبْرَاهِيـمَ خـلـيـل الرحمن, فـاقصص علـى هؤلاء الـمشركين قصصه وقصص أبـيه, إِنّه كَانَ صِدّيقا يقول: كان من أهل الصدق فـي حديثه وأخبـاره ومواعيده لا يكذب, والصدّيق هو الفعيـل من الصدق. وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى, بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. نَبِـيّا يقول: كان الله قد نبأه وأوحى إلـيه.
وقوله: إذْ قالَ لأبِـيهِ يقول: اذكره حين قال لأبـيه يا أبَتِ لِـمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ يقول: ما تصنع بعبـادة الوَثَن الذي لا يسمع وَلا يُبْصرُ شيئا وَلا يُغْنِـي عَنْكَ شَيْئا يقول: ولا يدفع عنك ضرّ شيء, إنـما هو صورة مصوّرة لا تضرّ ولا تنفع. يقول ما تصنع بعبـادة ما هذه صفته؟ اعبد الذي إذا دعوته سمع دعاءك, وإذا أحيط بك أبصرك فنصرك, وإذا نزل بك ضرّ دفع عنك.
واختلف أهل العربـية فـي وجه دخول الهاء فـي قوله يا أبَتِ فكان بعض نـحوّيـي أهل البصرة يقول: إذا وقـفت علـيها قلت: يا أبه, وهي هاء زيدت نـحو قولك: يا أمه, ثم يقال: يا أم إذا وصل, ولكنه لـما كان الأب علـى حرفـين, كان كأنه قد أُخـلّ به, فصارت الهاء لازمة, وصارت الـياء كأنها بعدها, فلذلك قالوا: يا أبة أقبل, وجعل التاء للتأنـيث, ويجوز الترخيـم من يا أب أقبل, لأنه يجوز أن تدعو ما تضيفه إلـى نفسك فـي الـمعنى مضموما, نـحو قول العرب: يا ربّ اغفر لـي, وتقـف فـي القرآن: يا أبه فـي الكتاب. وقد يقـف بعض العرب علـى الهاء بـالتاء. وقال بعض نـحوّيـي الكوفة: الهاء مع أبة وأمة هاء وقـف, كثرت فـي كلامهم حتـى صارت كهاء التأنـيث, وأدخـلوا علـيها الإضافة, فمن طلب الإضافة, فهي بـالتاء لا غير, لأنك تطلب بعدها الـياء, ولا تكون الهاء حينئذٍ إلا تاء, كقولك: يا أبت لا غير, ومن قال: يا أبه, فهو الذي يقـف بـالهاء, لأنه لا يطلب بعدها ياء ومن قال: يا أبتا, فإنه يقـف علـيها بـالتاء, ويجوز بـالهاء فأما بـالتاء, فلطلب ألف الندبة, فصارت الهاء تاء لذلك, والوقـف بـالهاء بعيد, إلا فـيـمن قال: «يا أميـمةَ ناصِبِ» فجعل هذه الفتـحة من فتـحة الترخيـم, وكأن هذا طرف الاسم, قال: وهذا يعيد.

الآية : 43
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { يَأَبَتِ إِنّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتّبِعْنِيَ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: قال إبراهيـم لأبـيه: يا أبت إنـي قد آتانـي الله من العلـم ما لـم يؤتك فـاتبعنـي: يقول: فـاقبل منـي نصيحتـي أهْدِكَ صِرَاطا سَوِيّا يقول: أبصرك هدى الطريق الـمستوى الذي لا تضلّ فـيه إن لزمته, وهو دين الله الذي لا اعوجاج فـيه.
الآية : 44
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { يَأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلرّحْمَـَنِ عَصِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان لله عاصيا. والعصيّ هو ذو العصيان, كما العلـيـم ذو العلـم. وقد قال قوم من أهل العربـية: العصيّ: هو العاصي, والعلـيـم هو العالـم, والعريف هو العارف, واستشهدوا لقولهم ذلك, بقول طريف بن تـميـم العنبريّ.
أوَ كُلّـما وَرَدَتْ عُكاظَ قَبِـيـلَةٌ بَعَثُوا إلـيّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسّمُ
وقالوا: قال عريفهم وهو يريد: عارفهم, والله أعلـم.
الآية : 45
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { يَأَبَتِ إِنّيَ أَخَافُ أَن يَمَسّكَ عَذَابٌ مّنَ الرّحْمَـَنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطَانِ وَلِيّاً }.
يقول: يا أبت إنـي أعلـم أنك إن متّ علـى عبـادة الشيطان أنه يـمسك عذاب من عذاب الله فَتَكُونَ لِلشيّطْانِ وَلِـيّا يقول: تكون له ولـيا دون الله ويتبرأ الله منك, فتهلك, والـخوف فـي هذا الـموضع بـمعنى العلـم, كما الـخشية بـمعنى العلـم, فـي قوله: فَخَشِينا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانا وَكُفْرا.
الآية : 46
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَإِبْرَاهِيمُ لَئِن لّمْ تَنتَهِ لأرْجُمَنّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: قال أبو إبراهيـم لإبراهيـم, حين دعاه إبراهيـم إلـى عبـادة الله وترك عبـادة الشيطان, والبراءة من الأوثان والأصنام: أرَاغِبٌ أنْتَ يا إبراهيـم عن عبـادة آلهتـي؟ لَئِن أنت لَـمْ تَنْتَهِ عن ذكرها بسوء لأَرْجُمَنّكَ يقول: لأرجمنك بـالكلام, وذلك السبّ, والقول القبـيح. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17899ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ قال أرَاغِبٌ أنْتَ عَنْ آلِهَتِـي يا إبْرَاهِيـمُ لَئِنْ لَـمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ بـالشتـيـمة والقول.
17900ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جريج, فـي قوله: لَئِنَ لَـمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ قال: بـالقول لأشتـمنك.
17901ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ, يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: لأَرْجُمَنّكَ يعنـي: رجْم القول.
وأما قوله: وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله, فقال بعضهم: معنى ذلك: واهجرنـي حينا طويلاً ودهرا. ووجّهوا معنى الـملـيّ إلـى الـمُلاوة من الزمان, وهو الطويـل منه. ذكر من قال ذلك:
17902ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا مـحمد بن أبـي الوضاح, عن عبد الكريـم, عن مـجاهد, فـي قوله: وَاهجُرْنِـي مَلِـيّا قال: دهرا.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله مَلِـيّا قال حينا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, مثله.
17903ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الـحسن وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال: طويلاً.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن, فـي قوله وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال: زمانا طويلاً.
17904ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سَلَـمة, عن ابن إسحاق وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا يقزل: دهرا, والدهر: الـملـيّ.
17905ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي حصين, عن سعيد بن جبـير وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال دهرا.
17906ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, حدثنا أسبـاط, عن السديّ وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال: أبدا. وقال آخرون: بل معنى ذلك: واهجرنـي سَويّا سالـما من عقوبتـي إياك, ووجّهوا معنى الـملـيّ إلـى قول الناس: فلان ملـيّ بهذا الأمر: إذا كان مضطلعا به غنـيا فـيه. وكأن معنى الكلام كان عندهم: واهجرنـي وعرضُك وافر من عقوبتـي, وجسمك معافـى من أذاي. ذكر من قال ذلك:
17907ـ حدثنـي علـيّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: ثنـي معاوية بن صالـح, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا يقول: اجتنبنـي سَوِيّا.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله:وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال: اجتنبنـي سالـما قبل أن يصيبك منـي عقوبة.
17908ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَاهْجُرْنِـي مَلـيّا قال: سالـما.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
17909ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى بن كثـير بن درهم أبو غسان, قال: حدثنا قرة بن خالد, عن عطية الـجدلـي وَاهْجُرْنِـي مَلِـيّا قال: سالـما.
17910ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله وَاهْجُرْنِـي مَلـيّا: اجتنبنـي سالـما لا يصيبك منـي معرّة.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين بتأويـل الاَية عندي قول من قال: معنى ذلك: واهجرنـي سويا, سِلـما من عقوبتـي, لأنه عقـيب قوله: لَئِنْ لَـمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ وذلك وعيد منه له إن لـم ينته عن ذكر آلهته بـالسوء أن يرجمه بـالقول السيىء, والذي هو أولـى بأن يتبع ذلك التقدّم إلـيه بـالانتهاء عنه قبل أن تناله العقوبة, فأما الأمر بطول هجره فلا وجه له.
الآية : 47 و 48
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّيَ إِنّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَأَدْعُو رَبّي عَسَىَ أَلاّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبّي شَقِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: قال إبراهيـم لأبـيه حين توعّده علـى نصيحته إياه ودعائه إلـى الله بـالقول السيىء والعقوبة: سلام علـيك يا أبت, يقول: أمنة منـي لك أن أعاودك فـيـما كرهت, ولدعائك إلـيّ ما توعدتنـي علـيه بـالعقوبة, ولكنـي سأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّـي يقول: ولكنـي سأسأل ربـي أن يستر علـيك ذنوبك بعفوه إياك عن عقوبتك علـيها إنّهُ كانَ بِـي حَفِـيّا يقول: إن ربـي عهدته بـي لطيفـا يجيب دعائي إذا دعوته يقال منه: تـحفـى بـي فلان. وقد بـيّنت ذلك بشواهده فـيـما مضى, بـما أغنى عن إعادته هاهنا. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
17911ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: إنّهُ كانَ بِـي حَفـيّا يقول: لطيفـا.
17912ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إنّهُ كانَ بِـي حَفِـيّا قال: إنه كان بـي لطيفـا, فإن الـحفـيّ: اللطيف.
وقوله: وأعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ يقول: وأجتنبكم وما تدعون من دون الله من الأوثان والأصنام وأدْعُو رَبّـي يقول: وأدعو ربـي, بإخلاص العبـادة له, وإفراده بـالربوبـية عَسَى أنْ لا أكُونَ بِدُعاءِ رَبّـي شَقِـيّا يقول: عسى أن لا أشقـى بدعاء ربـي, ولكن يجيب دعائي, ويعطينـي ما أسأله.

الآية : 49 و 50
القول فـي تأويـل قوله تعاله: { فَلَمّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره: فلـما اعتزل إبراهيـم قومه وعبـادة ما كانوا يعبدون من دون الله من الأوثان آنسنا وحشته من فراقهم, وأبدلناه منهم بـمن هو خير منهم وأكرم علـى الله منهم, فوهبنا له ابنه إسحاق, وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكُلاّ جَعَلْنا نَبِـيّا يقول: وجعلناهم كلهم, يعنـي بـالكلّ إبراهيـم وإسحاق ويعقوب أنبـياء وقال تعالـى ذكره: وكُلاّ جَعَلْنا نَبِـيّا فوحد, ولـم يقل أنبـياء, لتوحيد لفظ كلّ وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحَمتِنا يقول جلّ ثناؤه: ورزقنا جميعهم, يعنـي إبراهيـم وإسحاق ويعقوب من رحمتنا, وكان الذي وهب لهم من رحمته, ما بسط لهم فـي عاجل الدنـيا من سعة رزقه, وأغناهم بفضله.
وقوله وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِـيّا يقول تعالـى ذكره: ورزقناهم الثناء الـحسن, والذكر الـجميـل من الناس, كما:
17913ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقِ عَلِـيّا يقول: الثناء الـحسن.
وإنـما وصف جلّ ثناؤه اللسان الذي جعل لهم بـالعلوّ, لأن جميع أهل الـملل تـحسن الثناء علـيهم, والعرب تقول: قد جاءنـي لسان فلان, تعنـي ثناءه أو ذمه ومنه قول عامر بن الـحارث:
إنّـي أتَتْنِـي لِسانٌ لا أُسَرّ بِهَا مِنْ عَلْوَ لا عَجَبٌ مِنْها وَلا سَخَرُ
ويُروى: لا كذب فـيها ولا سَخَر.
جاءَتْ مُرجَمّةً قد كُنْتُ أحْذَرُها لَوْ كانَ يَنْفَعُنِـي الإشْفـاقُ والـحَذَرُ
مرجمّة: يظنّ بها.
الآية : 51
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىَ إِنّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: واذكر يا مـحمد فـي كتابنا الذي أنزلناه إلـيك موسى بن عمران, واقصص علـى قومك أنه كان مخـلصا.
واختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: «إنّهُ كانَ مُخْـلِصا» بكسر اللام من الـمُخْـلِص, بـمعنى: إنه كان يخـلص لله العبـادة, ويفرده بـالألوهة, من غير أن يجعل له فـيها شريكا. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة خلا عاصم: إنّهُ كانَ مُخْـلَصا بفتـح اللام من مُخْـلَص, بـمعنى: إن موسى كان الله قد أخـلصه واصطفـاه لرسالته, وجعله نبـيا مرسلاً.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندي: أنه كان صلى الله عليه وسلم مُخْـلِصا عبـادة الله, مُخْـلَصا للرسالة والنبوّة, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب.
وكانَ رَسُولاً يقول: وكان لله رسولاً إلـى قومه بنـي إسرائيـل, ومن أرسله إلـيه نبـيا