تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 308 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 308

307

39- "وأنذرهم يوم الحسرة" أي يوم يتحسرون جميعاً، فالمسيء يتحسر على إساءته، والمحسن على عدم استكثاره من الخير "إذ قضي الأمر" أي فرغ من الحساب وطويت الصحف، وصار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وجملة "وهم في غفلة" في محل نصب على الحال: أي غافلين عما يعمل بهم، وكذلك جملة "وهم لا يؤمنون" في محل نصب على الحال.
40- "إنا نحن نرث الأرض ومن عليها" أي نميت سكانها فلا يبقى بها أحد يرث الأموات، فكأنه سبحانه ورث الأرض ومن عليها حيث أماتهم جميعاً "وإلينا يرجعون" أي يردون إلينا يوم القيامة فنجازي كلاً بعمله، وقد تقدم مثل هذا في سورة الحجر. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "قول الحق" قال: الله الحق عز وجل. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عنه في قوله: "الذي فيه يمترون" قال: اجتمع بنو إسرائيل وأخرجوا منهم أربعة نفر من كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية، فقالت الثلاثة: كذبت، ثم قال إثنان منهم للثالث: قل فيه، فقال: هو ابن الله، وهم النسطورية، فقال إثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله، وعيسى إله، وأمه إله، وهم الاسرائيلية، وهم ملوك النصارى، فقال الرابع: كذبت، هو عبد الله ورسوله وروحه من كلمته، وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال فاقتتلوا، فظهروا على المسلمين، فذلك قول الله سبحانه: "ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس". قال قتادة: وهم الذين قال الله "فاختلف الأحزاب من بينهم" قال: اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً، فاختصم القوم، فقال المرء المسلم: أنشدكم بالله هل تعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام وأن اللاه لا يطعم؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فهل تعلمون أن عيسى كان ينام وأن الله لا ينام؟ قالوا: اللهم نعم، فخصمهم المسلمون فاقتتل القوم، فذكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذ وأصيب المسلمون، فأنزل الله "فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أسمع بهم وأبصر" يقول الكفار يومئذ: أسمع شيء وأبصره، وهم اليوم لا يسمعون ولا يبصرون. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "يوم يأتوننا" قال: ذلك يوم القيامة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأنذرهم يوم الحسرة" الآية، وأشار بيده قال: أهل الدنيا في غفلة". وأخرج النسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: يوم الحسرة: هو من أسماء يوم القيامة، وقرأ " أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله "، وعلي هذا ضعيف، والآية التي استدل بها ابن عباس لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام.
قوله: 41- "واذكر" معطوف على وأنذر، والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله: "واتل عليهم نبأ إبراهيم"، وجملة "إنه كان صديقاً نبياً" تعليل لما تقدم من الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يذكره، وهي معترضة ما بين البدل والمبدل منه، والصديق كثير الصدق، وانتصاب نبياً على أنه خبر آخر لكان: أي اذكر إبراهيم الجامع لهذين الوصفين.
و 42- "إذ قال لأبيه" بدل اشتمال من إبراهيم، وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة، وأبو إبراهيم هو آزر على ما تقدم تقريره، والتاء في يا أبت عوض عن الياء، ولهذا لا يجتمعان، والاستفهام في "لم تعبد" للإنكار والتوبيخ "ما لا يسمع" ما تقوله من الثناء عليه والدعاء له "ولا يبصر" ما تفعله من عبادته ومن الأفعال التي تفعلها مريداً بها الثواب، ويجوز أن يحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعم من ذلك: أي لا يسمع شيئاً من المسموعات، ولا يبصر شيئاً من المبصرات " ولا يغني عنك شيئا " من الأشياء، فلا يجلب لك نفعاً ولا يدفع عنك ضرراً، وهي الأصنام التي كان يعبدها آزر، أورد إبراهيم عليه السلام على أبيه الدلائل والنصائح، وصدر كلاً منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلبه، وامتثالاً لأمر ربه.
ثم كرر دعوته إلى الحق فقال: 43- "يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك" فأخبر أنه قد وصل إليه من العلم نصيب لم يصل إلى أبيه، وأنه قد تجدد له حصول ما يتوصل به منه إلى الحق، ويقتدر به على إرشاد الضال، ولهذا أمره باتباعه فقال: "فاتبعني أهدك صراطاً سوياً" مستوياً موصلاً إلى المطلوب منجياً من المكروه.
ثم أكد ذلك بنصيحة أخرى زاجرة له عما هو فيه فقال: 44- "يا أبت لا تعبد الشيطان" أي لا تطعه، فإن عبادة الأصنام هي من طاعة الشيطان، ثم علل ذلك بقوله: "إن الشيطان كان للرحمن عصياً" حين ترك ما أمره به من السجود لآدم، ومن أطاع من هو عاص لله سبحانه فهو عاص لله، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم وتحل به النقم. قال الكسائي: العصي والعاصي بمعنى واحد.
ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال: 45- "يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن" قال الفراء: معنى أخاف هنا أعلم. وقال الأكثرون: إن الخوف هنا محمول على ظاهره، لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر، إذ لو كان جازماً بذلك لم يشتغل بنصحه، ومعنى الخوف على الغير: هو أن يظن وصول الضرر إلى ذلك الغير "فتكون للشيطان ولياً" أي إنك إذا أطعت الشيطان كنت معه في النار واللعنة، فتكون بهذا السبب موالياً، أو تكون بسبب موالاته في العذاب معه، وليس هناك ولاية حقيقية لقوله سبحانه: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو" وقيل الولي بمعنى التالي، وقيل الولي بمعنى القريب: أي تكون للشيطان قريباً منه في النار.
فلما مرت هذه النصائح النافعة والمواعظ المقبولة بسمع آزر قابلها بالغلظة والفظاظة والقسوة، فـ 46- "قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم" والاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب، والمعنى: أمعرض أنت عن ذلك ومنصرف إلى غيره؟ ثم توعده فقال: "لئن لم تنته لأرجمنك" أي بالحجارة، وقيل اللسان، فيكون معناه لأشتمنك، وقيل معناه لأضربنك، وقيل لأظهرن أمرك "واهجرني ملياً" أي زماناً طويلاً. قال الكسائي: يقال هجرته ملياً وملوة وملاوة، بمعنى الملاوة من الزمان، وهو الطويل، ومنه قول مهلهل: فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا وقيل معناه: اعتزلي سالم العرض لا تصيبك مني معرة، واختار هذا ابن جرير، فملياً على هذا منتصب على الحال من إبراهيم وعلى القول الأول منتصب على الظرفية، فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد.k
47- "قال سلام عليك" أي تحية توديع ومتاركة كقوله: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" وقيل معناه: أمنة مني لك، قاله ابن جرير، وإنما أمنه مع كفره لأنه لم يؤمر بقتاله، والأول أولى، وبه قال الجمهور، وقيل معناه: الدعاء له بالسلامة، استمالة له ورفقاً به ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه تألفاً له وطمعاً في لينه وذهاب قسوته: والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه وكان منه هذا الوعد قبل أن يعلم أنه يموت على الكفر، وتحق عليه الكلمة، ولهذا قال الله سبحانه في موضع آخر "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه" بعد قوله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه" وجملة "إنه كان بي حفياً" تعليل لما قبلها، والمعنى سأطلب لك المغفرة من الله، فإنه كان بي كثير البر واللطف، يقال حفي به وتحفى إذا بره. قال الكسائي: يقال حفي بي حفاوة وحفوة. وقال الفراء: إنه كان بي حفياً: أي عالماً لطيفاً يجيبني إذا دعوته.
ثم صرح الخليل بما تضمنه سلامه من التوديع والمتاركة فقال: 48- "وأعتزلكم وما تدعون من دون الله" أي أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم حيث لم تقبلوا نصحي ولا نجعت فيكم دعوتي " وأدعو ربي " وحده " عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " أي خائباً، وقيل عاصياً. قيل أراد بهذا الدعاء: هو أن يهب الله له ولداً وأهلاً يستأنس بهم في اعتزاله ويطمأن إليهم عند وحشته، وقيل أراد دعاءه لأبيه بالهداية، وعسى للشك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا.
والأول أولى لقوله: 49- "فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب" أي جعلنا هؤلاء الموهوبين له أهلاً وولداً بدل الأهل الذين فارقهم "وكلاً جعلنا نبياً" أي كل واحد منهما، وانتصاب كلاً على أنه المفعول الأول لجعلنا قدم عليه للتخصيص، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم لا بالنسبة إلى من عداهم: أي كل واحد منهم جعلنا نبياً، لا بعضهم دون بعض.
50- "ووهبنا لهم من رحمتنا" بأن جعلناهم أنبياء، وذكر هذا بعد التصريح بجعلهم أنبياء لبيان أن النبوة هي من باب الرحمة. وقيل المراد بالرحمة هنا المال، وقيل الأولاد، وقيل الكتاب، ولا يبعد أن يندرج تحتها جميع هذه الأمور "وجعلنا لهم لسان صدق علياً" لسان الصدق الثناء الحسن، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به كما عبر باليد عن العطية، وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لأرجمنك" قال: لأشتمنك "واهجرني ملياً" قال: حيناً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "واهجرني ملياً" قال: اجتنبني سوياً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: اجتنبني سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير وعكرمة "ملياً" دهراً. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: سالماً. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "إنه كان بي حفياً" قال: لطيفاً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب" قال: يقول وهبنا له إسحاق ويعقوب ابن ابنه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وجعلنا لهم لسان صدق علياً" قال: الثناء الحسن.
قفى سبحانه قصة إبراهيم بقصة موسى لأنه تلوه في الشرف، وقدمع على إسماعيل لئلا يفصل بينه وبين ذكر يعقوب: أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى 51- "إنه كان مخلصاً" قرأ أهل الكوفة بفتح اللام: أي جعلناه مختاراً وأخلصناه، وقرأ الباقون بكسرها: أي أخلص العبادة والتوحيد لله غير مراء للعباد " وكان رسولا نبيا " أي أرسله الله إلى عباده فأنبأهم عن الله بشرائعه التي شرعها لهم، فهذا وجه ذكر النبي بعد الرسول مع استلزام الرسالة للنبوة، فكأنه أراد بالرسول معناه اللغوي لا الشرعي، والله أعلم. وقال النيسابوري: الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء، والنبي الذي نيبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص، إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه "رب هارون وموسى" انتهى.