تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 322 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 322


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَـٰبُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ فِى ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوۤاْ أَضْغَـٰثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِأايَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلاٌّوَّلُونَ * مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىۤ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوۤاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَـٰهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَـٰلِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَـٰهُمُ ٱلْوَعْدَ فَأَنجَيْنَـٰهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ * لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَـٰباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى: {ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَـٰبُهُمْ} . قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في أول سورة «النحل» فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار أخفوا النجوى فيما بينهم، قائلين: إن النَّبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر مثلهم، فيكف يكون رسولاً إليهم؟ والنجوى: الإسرار بالكلام وإخفاؤه عن الناس. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من دعواهم: أن بشراً مثلهم لا يمكن أن يكون رسولاً، وتكذيب الله لهم في ذلك ـ جاء في آيات كثيرة، وقد قدمنا كثيراً من ذلك، كقوله: {وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرًا رَّسُول} ، وقوله: {فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ} ، وقوله: {أَبَشَراً مِّنَّا وَٰحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِى ضَلَـٰلٍ وَسُعُرٍ} وقوله: {مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـٰسِرُونَ} ، وقوله تعالى: {مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلاٌّسْوَاقِ} ، وقوله تعالى: {قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَ} . والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، كما تقدم إيضاح ذلك.
وقد رد الله عليهم هذه الدعْوَى الكاذبة التي هي منع إرسال البشر، كقوله هنا في هذه السورة الكريمة: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىۤ إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم ل} ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} ، وقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى ٱلاٌّسْوَاقِ} ، وقوله هنا: {وَمَا جَعَلْنَـٰهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَـٰلِدِينَ} ، إلى غير ذلك من الآيات. وجملة {هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}. قيل بدل من «النجوى». أي أسروا النجوى التي هي هذا الحديث الخفي الذي هو قولهم: هل هذا إلا بشر مثلكم. وصدر به الزمخشري، وقيل: مفعول به للنجوى. لأنها بمعنى القول الخفي. أي قالوا في خفية: {هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}. وقيل: معمول قول محذوف. أي قالوا هل هذا إلا بشر مثلكم. وهو أظهرها. لأطراد حذف القول مع بقاء مقوله. وفي قوله: {ٱلَّذِينَ ظَلَمُو} أوجه كثيرة من الإعراب معروفة، وأظهرها عندي: أنها بدل من الواو في أوله: {وَأَسَرُّو} بدل بعض من كل، وقد تقرر في الأصول: أن بدل البعض من الكل من المخصصات المتصلة، كقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} . فقوله {مِنْ} بدل من «الناس»: بدل بعض من كل، وهي مخصصه لوجوب الحج بأنه لا يجب إلاَّ على من استطاع إليه سبيلاً. كما قدمنا هذا في سورة «المائدة». قوله تعالى: {أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}. إعراب هذه الجملة جار مجرى اعراب الجملة التي قبلها، التي هي {هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} ، والمعنى: أنهم زعموا أن ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم سحر، وبناء على ذلك الزعم الباطل أنكروا على أنفسهم إتيان السحر وهم يبصرون. يعنون بذلك تصديق النَّبي صلى الله عليه وسلم، أي لا يمكن أن نصدقك ونتبعك، ونحن نبصر أن ما جئت به سحر. وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع أنهم ادعوا أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم سحر، كقوله عن بعضهم: {إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} ، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَـٰحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . وقد رد الله عليهم دعواهم أن القرآن سحر بقوله هنا: {قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ فِى ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ} يعني أن الذي يعلم القول في السماء والأرض الذي هو السميع العليم، المحيط علمه بكل شيء، هو الذي أنزل هذا القرآن العظيم، وكون من أنزله هو العالم بكل شيء يدل على كمال صدقه في الأخبار وعدله في الأحكام، وسلامته من جميع العيوب والنقائص، وأنه ليس بسحر. وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع: كقوله تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاٌّرْضِ} ، وقوله تعالى: {لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيد} إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ} بألف بعد القاف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي، وقرأه الباقون {قُلْ} بضم القاف وإسكان اللام بصيغة الأمر. قوله تعالى: {بَلْ قَالُوۤاْ أَضْغَـٰثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}. الظاهر أن الإضراب في قوله هنا {بَلْ قَالُوۤاْ أَضْغَـٰثُ أَحْلاَمٍ} إلخ، إضراب انتقالي لا إبطالي، لأنهم قالوا ذلك كله، وقال بعض العلماء:
كل هذه الأقوال المختلفة التي حكاها الله عنهم صدرت من طائفة متفقة لا يثبتون على قول، بل تارة يقولون هو ساحر، وتارة شاعر، وهكذا، لأن المبطل لا يثبت على قول واحد. وقال بعض أهل العلم: كل واحد من تلك الأقوال قالته طائفه: كما قدمنا الإشارة إلى هذا في سورة «الحجر» في الكلام على قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْءَانَ عِضِينَ} وقد رد الله عليهم هذه الدعاوى الباطلة في آيات من كتابه: كرده دعواهم أنه شاعر أو كاهن في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تِنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلاٌّقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَـٰجِزِينَ} ، وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَـٰهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ} ، وقوله في رد دعواهم إنه افتراه: {وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ} ، وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ} ، وقوله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إلى غير ذلك من الآيات، وكقوله في رد دعواهم إنه كاهن أو مجنون: {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، وقوله تعالى: {وَمَا صَـٰحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} ، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَٰحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَـٰحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} ، وقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَـٰرِهُونَ} إلى غير ذلك من الآيات المبينة إبطال كل ما ادعوه في النَّبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقوله {أَضْغَـٰثُ أَحْلاَمٍ} أي أخلاط كالأحلام المختلفة التي يراها النائم ولا حقيقة لها كما قال الشاعر: أحاديث طسم أو سراب بفدفد ترقرق للساري وأضغاث حالم

وعن اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل. قوله تعالى: {فَلْيَأْتِنَا بِأايَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلاٌّوَّلُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار اقترحوا على نبينا أن يأتيهم بآية كآيات الرسل قبله.
نحو ناقة صالح، وعصى موسى، وريح سليمان، وإحياء عيسى للأموات وإبرائه الأكمه والأبرص، ونحو ذلك. وإيضاح وجه التشبيه في قوله {كَمَآ أُرْسِلَ ٱلاٌّوَّلُونَ} هو أنه في معنى: كما أتى الأولون بالآيات. لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات. فقولك أرسل محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزة. وقد بين تعالى أن الآيات التي اقترحوها لو جاءتهم ما آمنوا وأنها لو جاءتهم وتمادوا على كفرهم أهلكهم الله بعذاب مستأصل. كما أهلك قوم صالح لما عقروا الناقة. كقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلاٌّيَـٰتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلاٌّوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَ} ، وكقوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا ٱلاٌّيَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} . وأشار إلى ذلك هنا في قوله: {مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} يعني أن الأمم الذين اقترحوا الآيات من قبلهم وجاءتهم رسلهم بما اقترحوا، لم يؤمنوا بل تمادوا فأهلكهم الله وأنتم أشد منهم عُتُواً وعِناداً. فلو جاءكم ما اقترحتم، ما آمنتم، فهلكتم كما هلكوا. وقال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ} إلى غير ذلك من الآيات.
وبين أنهم جاءتهم آية هي أعظم الآيات، فيستحق من لم يكتف بها التقريع والتوبيخ، وذلك في قوله: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَـٰتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا ٱلاٌّيَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ} . وقد ذكرنا أن هذا المعنى يشير إليه قوله: {وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِأايَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى ٱلصُّحُفِ ٱلاٍّولَىٰ} ، وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَال} ـ إلى قوله ـ {وَمَا كَانُواْ خَـٰلِدِينَ} قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَـٰهُمُ ٱلْوَعْدَ فَأَنجَيْنَـٰهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ}. بين جل وعلا في هذه الآيات: أنه أرسل الرسل إلى الأمم فكذبوهم، وأنه وعد الرسل بأن لهم النصر والعاقبة الحسنة، وأنه صدق رسله ذلك الوعد فأنجاهم. وأنجى معهم ما شاء أن ينجيه.. والمراد به من آمن بهم من أممهم، وأهلك المسرفين وهم الكفار المكذبون الرسل، وقد أوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالى {حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ} ، وقوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ} ، وقوله تعالى: {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلاٌّرْضَ مِن بَعْدِهِمْ} ، وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِين َإِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ} ، وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّ} ، وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَـٰلِحاً وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّ} ، وقوله: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّ} ، إلى غير ذلك من الآيات. والظاهر أن «صدق» تتعدى بنفسها وبالحرف، تقول: صدقته الوعد، وصدقته في الوعد. كقوله هنا: {ثُمَّ صَدَقْنَـٰهُمُ ٱلْوَعْدَ}، وقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ} . فقول الزمخشري «صدقناهم الوعد» كقوله: «واختار موسى قومه سبعين رجلاً» لا حاجة إليه، والله أعلم. والإسراف: مجاوزة الحد في المعاصي كالكفر، ولذلك يكثر في القرآن إطلاق المسرفين على الكفار.