تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 323 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 323


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـٰلِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ * فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لاَ تَرْكُضُواْ وَٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَـٰكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُواْ يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ * فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَـٰهُمْ حَصِيداً خَـٰمِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلاٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَـٰهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَـٰعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَـٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ * أَمِ ٱتَّخَذُوۤاْ آلِهَةً مِّنَ ٱلاٌّرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ * أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِىۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ * وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّىۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلظَّـٰلِمِينَ}
قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَـٰلِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ}. «كم» هنا للإخبار بعدد كثير، وهي في محل نصب لأنها مفعول «قصمنا» أي قصمنا كثير من القرى التي كانت ظالمة، وأنشأنا بعدها قوماً آخرين. وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبيناً في مواضع كثيرة من كتاب الله. كقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرً} ، وقوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَ} ، وقوله: {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَـٰهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَـٰهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَـٰقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْر} إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَكَمْ قَصَمْنَ} أصل القصم: أفظع الكسر لأنه الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم بالفاء فهو كسر لا يبين تلاؤم الأجزاء بالكلية. والمراد بالقصم في الآية: الإهلاك الشديد. قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلاٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة «الحجر» فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وكذلك قوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَـٰطِلِ} الآية. قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة «بني إسرائيل»، وكذلك الآيات التي بعد هذا قدْ قدمنا في مواضع متعددة ما يبينها من كتاب الله. قوله تعالى: {وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار لعنهم الله قالوا عليه أنه اتخذ ولداً. وقد بينا ذلك فيما مضى بياناً شافياً في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وبين هنا بُطلان ما ادعوه على ربهم من اتخاذ الأولاد وهم في زعمهم الملائكة ـ بحرف الإضراب الإبطالي الذي هو «بل» مبيناً: أنهم عباده المكرمون، والعبد لا يمكن أن يكون ولداً لسيِّده. ثم أثنى على ملائكته بأنهم عباد مكرمون، لا يسبقون ربهم بالقول أي لا يقولون إلا ما أمرهم أن يقولوه لشدة طاعتهم له {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}. وما أشار إليه في هذه الآية الكريمة من أن الملائكة عبيده وملكه، والعبد لا يمكن أن يكون ولداً لسيده ـ أشار له في غير هذا الموضع. كقوله في «البقرة»:{وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدًا سُبْحَـٰنَهُ بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَـٰنِتُونَ} ، وقوله في «النساء»: {إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَٰحِدٌ سُبْحَـٰنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما فِى ٱلسَّمَـٰوَٰت وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيل} أي والمالك بكل شيء لا يمكن أن يكون له ولد. لأن الملك ينافي الولدية، ولا يمكن أن يوجد شيء سواه إلا وهو ملك له جل وعلا.
وما ذكره في هذه الآية الكريمة: من الثناء الحسن على ملائكته عليهم صلوات الله وسلامه ـ بينه في غير هذا الموضع. كقوله تعالى. {عَلَيْهَا مَلَـٰئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، وقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـٰفِظِينَ كِرَاماً كَـٰتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، وقوله تعالى: {وَلَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
مسألة
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن: أن الأب إذا ملك ابنة عتق عليه بالملك. ووجه ذلك واضح. لأن الكفار زعموا أن الملائكة بنات الله. فنفى الله تلك الدعوى بأنهم عباده وملكه. فدل ذلك على منافاة الملك الولدية، وأنهما لا يصح اجتماعهما. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّىۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى ٱلظَّـٰلِمِينَ}. الضمير في قوله {مِنْهُمْ} عائد إلى الملائكة المذكورين في قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} والمعنى: أنهم مع كرامتهم على الله لو ادعى أحد منهم أن له الحق في صرف شيء من حقوق الله الخاصة به إليه فكان مشركاً، وكان جزاؤه جهنم. ومعلوم أن التعليق يصح فيما لا يمكن ولا يقع فقوله:
{قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ} ، وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَ} والمراد بذلك تعظيم أمر الشرك. وهذا الفرض والتقدير الذي ذكره جل وعلا هنا في شأن الملائكة، ذكره أيضاً في شأن الرسل على الجميع صلوات الله وسلامه قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ} ولما ذكر جل وعلا من ذكر من الأنبياء في سورة «الأنعام» في قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} إلى آخر من ذكر منهم قال بعد ذلك ـ {ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّىۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} الآية ـ دليل قاطع على أن حقوق الله الخالصة له من جميع أنواع العبادة لا يجوز أن يصرف شيء منها لأحد ولو ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً. ومما يوضح ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّى مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَـٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِٱلْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} ، وقوله تعالى مخاطباً لسيِّد الحق صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِك بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .