سورة طه | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 321 من المصحف
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 321
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67
{فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ ٱجْتَبَـٰهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ * قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِىۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَـٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ * وَكَذٰلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِأايَـٰتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ * أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَـٰكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَـٰتٍ لاٌّوْلِى ٱلنُّهَىٰ * وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى * فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَآءِ ٱلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ * وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}
قوله تعالى: {وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ} . المعصية خلاف الطاعة. فقوله {وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ} أي لم يطعه في اجتناب ما نهاه عنه مِن قُربان تلك الشجرة.
وقوله: {فَغَوَىٰ} الغي: الضلال، وهو الذهاب عن طريق الصواب. فمعنى الآية: لم يُطِع آدمُ ربَّه فأخطأ طريق الصواب بسبب عدم الطاعة، وهذا العصيان والغي بيَّن الله جل وعلا في غير موضع مِن كتابه أن المراد به: أن الله أباح له أن يأكل هو وامرأته مِن الجنة رَغَداً حيثُ شاءَا، ونهاهما أن يَقَرَبا شجرة مُعينة من شجرها. فلم يزل الشيطان يُوسوس لهما ويَحْلِف لهما بالله إنه لهما النَاصِح، وإنَّهما إنْ أكلا منهما نالا الخُلود والملْك الذي لا يَبْلى. فخدعهما بذلك كما نصر الله على ذلك في قوله: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ} {فَدَلَّـٰهُمَا بِغُرُورٍ} فأكلا منها. وكان بعض أهل العلم يقول: من خادَعَنا بالله خَدَعنا. وهو مَروي عن عُمر. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي والحاكم: «المؤمن غِرُّ كريم، والفاجر خِبٌّ لئيم». وأنشد لذلك نفطويه: إن الكريم إذا تَشاء خَدَعْتَه وترى اللئيم مجرباً لا يُخْدع
فآدم عليه الصلاة والسلام ما صدَرَتْ منه الزلة إلا بسبب غرور إبليس له. وقد قدمنا قول بعض أهل العلم: إن آدم مِن شدة تعظيمه لله اعتقد أنه لا يمكن أن يَحْلِف به أحد وهو كاذب فأنساه حلف إبليس بِالله العَهْد بالنهي عن الشجرة. وقول بعض أهل العلم: إن معنى قوله {فَغَوَىٰ} أي فسد عليه عيشه بِنُزوله إلى الدنيا.
قالوا: والغي. الفساد، خلاف الظاهر وإن حكاه النقاش واختاره القشيري واستحسنه القرطبي.
وكذلك قول من قال {فَغَوَىٰ} أي بشم من كثرة الأكل. والبشم: التخمة، فهو قول باطل. وقال فيه الزمخشري في الكشاف: وهذا وإن صحَّ على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفاً فيقول في فَنِي وبَقِيَ، فنا وبقا، وهم بَنُو طَيْىء ـ تفسير خبيث، ا هـ منه. وما أشار إليه الزمخشري من لغة طَيْىء معروف. فهم يقولون للجارية: جاراة، وللناصية ناصاة، ويقولون في بَقِيَ بقى كَرَمَى. ومِن هذا اللغة قول الشاعر: لعمرك لا أخشىَ التصعلك ما بقي على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
وهذه اللغة التي ذكرها الزمخشري لا حاجة لها في التفسير الباطل المذكور، لأن العرب تقول: غوى الفصيل كرضى وكرمى: إذا بشم من اللبن.
وقوله تعالى في هذه الآية: {وَعَصَىٰ * ءادَمَ} يدل على أن معنى «غَوَى» ضلَّ عن طريق الصواب كما ذكرنا. وقد قدمنا أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن هي حجة من قال بأن الأنبياء غير معصومين مِن الصغائر. وعِصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مبحث أصولي لعلماء الأصول فيه كلام كثير واختلاف معروف، وسنذكر هنا طرفاً من كلام أهل الأصول في ذلك. قال ابن الحاجب في مختصره في الأصول: مسألة
الأكثر على أنه لا يمتنع عقلاً على الأنبياء مَعْصية. وخالف الروافض، وخالف المعتزلة إلا في الصغائر. ومعتمدهم التقبيح العقلي. والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام. لدلالة المعجزة على الصدق. وجوَّزه القاضي غلطاً وقال: دلت على الصدق اعتقاداً. وأما غيره مِن المعاصي فالإجماع على عصمتهم من الكبائر والصغائر الخسيسة. والأكثر على جواز غيرهما ـ ا هـ منه بلفظه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكبائر، ومن صغائر الخِسّة دون غيرها من الصغائر. وقال العّلامة العلوي الشنقيطي في (نشر البنود شرح مراقي السعود) في الكلام على قوله: والأنبياء عُصِموا مما نهوا عنه ولم يكن لهم تفكّه
بجائز بل ذاك لِلتشريع أو نية الزلفى من الرفيع
ما نصّه: فقد أجمع أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمتهم من تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه. كدعوى الرسالة، وما يبلغونه عن الله تعالى الخلائق. وصدور الكذب عنهم فيما ذكر سهواً أو نسياناً منعه الأكثرون وما سوى الكذب في التبليغ. فإن كان كُفراً فقد أجمعت الأُمَّة على عِصْمَتِهم منه قبل النبُوَّة وبعدها، وإن كان غيره فالجمهور على عِصْمَتهم مِن الكبائر عَمداً. ومخالف الجمهور الحشوية.
واختلف أهل الحق: هل المانع لِوقوع الكبائر مِنْهم عَمْداً العقل أو السمع؟ وأما المعتزلة فالعقل، وإن كان سهواً فالمختار العِصْمة منها. وأما الصغائر عمداً أو سهواً فقد جَوزها الجمهور عقلاً. لكنها لا تقع مِنْهم غير صغائر الخِسَّة فلا لا يجوز وقوعها منهم لا عمداً ولا سهواً ـ انتهى منه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكذب فيما يُبلِّغونه عن الله ومن الكُفر والكبائر وصغائر الخسّة. وأن الجمهور على جواز وُقوع الصغائر الأخرى منهم عقلاً. غير أن ذلك لم يقع فعلاً. وقال أبو حيَّان في البحر في سورة «البقرة» وفي المنتخب للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخّصه: مَنعت الأمَّة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا الفضيلية من الخوارج قالوا: وقد وقع منهم ذنوب والذنب عندهم كُفر. وأجاز الإمامية إظهار الكُفر منهم على سبيل التقية. واجتمعت الأمة على عِصْمتهم مِن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ، فلا يَجوز عمداً ولا سهواً. ومِن الناس من جوز ذلك سهواً. وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمداً. واختلفوا في السهو. وأما أفعالهم فقالت الحشوية: يجوز وقوع الكبائر منهم على جِهة العمد. وقال أكثر المعتزلة: بجواز الصغائر عمداً إلا في القول كالكذب. وقال الجبائي: يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل. وقيل: يمتنعان عليهم إلا على جهة السهو والخطأ، وهُم مأخُوذون بذلك وإن كان موضوعاً عن أمتهم. وقالت الرافضة يمتنع ذلك على كل جهة.
واختلف في وقت العِصْمة. فقالت الرافضة: مِن وَقْت مَوْلدهم. وقال كثير من المعتزلة: من وَقْت النبوة. والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتَّة لا الكبيرة ولا الصغيرة. لأنهم لو صَدَر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة لعظيم شرفهم وذلك محال، ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة، ولئلا يجب زَجْرهم وإيذاؤهم، ولئلا يُقْتَدَى بهم في ذلك. ولئلا يكونوا مُسْتَحِقِّين لِلعقاب، ولئِلا يفعلوا ضِد ما أُمِروا به لأنهم مُصْطفون، ولأن إبليس استثناهم في الإغواء ـ انتهى ما لخَّصناه من (المنتخب)، والقول في الدلائل لهذه المذاهب. وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين. انتهى كلام أبي حَيان.
وحاصل كلام الأصوليِّين في هذه المسألة: عِصْمَتهم مِن الكُفر وفي كل ما يتعلق بالتبليغ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة وتطفيف حبة، وأن أكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر غير الصغائر الخسة منهم. ولكن جماعة كثيرة مِن متأخِّري الأصوليِّين اختاروا أن ذلك وإن جاز عقلاً لم يَقع فعلاً، وقالوا: إنما جاء في الكتاب والسنَّة مِن ذلك أن ما فعلوه بتأويل أو نسياناً أو سهواً، أو نحو ذلك.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة ـ أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يَقع منهم ما يزري بمراتبهم العَلِّية، ومناصبهم السامِيَة. ولا يستوجب خطأ منهم ولا نقصاً فيهم صَلوات الله وسلامه عليهم، ولو فَرَضْنا أنه وقع منهم بعض الذنوب لأِنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة، والإخلاص، وصِدق الإنابة إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلى درجاتهم فتكون بذلك درجاتهم أعلى من درجة من لم يرتكب شيئاً من ذلك. ومِما يوضح هذا قوله تعالى: {وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰثُمَّ ٱجْتَبَـٰهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ} . فانظر أي أثر يبقى لِلعِصْيان والغي بعد توبة الله عليه، واجتبائه أي اصطفائه إياه، وهِدايته له، ولا شكّ أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب ذلك الزلة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {ثُمَّ ٱجْتَبَـٰهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ} . الاجتباء: الاصْطِفاء والاختيار. أي ثم بعد ما صدر مِن آدم بمهلة اصطفاه ربه واختاره فتاب عليه وهداه إلى ما يُرضيه. ولم يبيِّن هنا السبب لذلك، ولكنه بين في غير هذا الموضع أنه تَلَقى مِن ربِّه كلمات فكانت سبب توبة ربه عليه، وذلك في قوله: {فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} أي بسبب
تلك الكلمات كما تدل عليه الفاء. وقد قدمنا في سورة «البقرة»: أن الكلمات المذكورة هي المذكورة في سورة «الأعراف» في قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ} وخير ما يفسر به القرآن القرآن. قوله تعالى: {قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} .
الظاهر أن ألف الاثنين في قوله {ٱهْبِطَ} راجعة إلى آدَم وحَوَّاء المذكورين في قوله {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَ} ، خلافاً لمن زعم أنها راجعة إلى إبليس وآدم، وأمْرَه إياهما بالهبوط مِن الجنة المذكور في آية «طه» هذه جاء مُبيناً في غير هذا الموضع. كقوله في سورة «البقرة»: {وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ} ، وقوله فيها أيضاً: {قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وقوله في «الأعراف»: {قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ} . وفي هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن يُقال: كيف جيء بصيغة الجمع في قوله {ٱهْبِطُو} في «البقرة» و «الأعراف» وبصيغة التثنية في «طه» في قوله: {ٱهْبِطَ} مع أنه أَتْبع صيغة التثنية في «طه» بصيغة الجمع في قوله {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى} وأظهر الأجوبة عندي عن ذلك: أن التثنية باعتبار آدم وحَوَّاء فقط، والجمع باعتبارهما مع ذريتهما. خلافاً لمن زعم أن التثنية باعتبار آدم وإبليس، والجمع باعتبار معهم ذريتهما معهما، وخلافاً لمن زعم أن الجمع في قوله: {ٱهْبِطُو} مراد به آدم وحواء وإبليس والحَية. والدليل على أن الحية ليست مرادة في ذلك هو أنها لا تدخل في قوله {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى} لأنها غير مكلفة.
واعلم أن المفسِّرين يذكرون قِصّة الحية، وأنها كانت ذات قوائم أربع كالبختية من أحسن خلقها الله، وأن إبليس دخل في فمها فأدخلته الجنة، فوسوس لآِدَم وحوَّاء بعد أن عرض نفسه على كثير من الدواب فلم يدخله إلا الحية. فأهبط هو إلى الأرض ولُعِنَتْ هي وردت قوائمها في جوفها، وجُعِلَت العداوة بَينها وبين بني آدم، ولذلك أمروا بقتلها. وبهذه المناسبة ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره في سورة «البقرة» جملاً من أحكام قتل الحيات. فذكر عن ساكنة بنت الجعد أنها روت عن سري بنت نبهان الغنوية أنها سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل الحيات صغيرها وكبيرها، وأسودها وأبيضها، ويرغِّب في ذلك. ثم ذكر عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود حديثاً فيه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بقتل حية فسبقتهم إلى جحرها. فأمرهم أن يضرموا عليها ناراً. وذكر عن علماء المالِكية أنهم خصّصوا بذلك النهي عن الاحراق بالنار، وعن أن يُعذب أحد بعذاب الله. ثم ذكر عن إبراهيم النخعي: أنه كره أن تحرق العقرب بالنار، وقال: هو مثله. وأجاب عن ذلك بأنه يحتمل أنه لم يبلغه الخبر المذكور. ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود الثابت في الصحيحين قال: كنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في غار، وقد أنزلت عليه {وَٱلْمُرْسَلَـٰتِ عُرْف} فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجَتْ علينا حية فقال «ٱقْتُلُوهَا»،فابتدرناها لِنَقْتُلَهَا، فسبقَتْنَا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وقاها الله شرَّكم كما وقاكُم شرَّها» فلم يضرم ناراً، ولا احتمال في قتلها، وأجاب هو عن ذلك، بأنه يحتمل أنه لم يجد ناراً في ذلك الوقت، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك، مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحية. ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات من الإرشاد إلى دفع المضرة المخرفة من الحيات ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات عام في جميع أنواعها إن كانت غير حيات البيوت، ثم ذكر فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود: «اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس مني» ثم ذكر أن حيات البيوت لا تقتل حتى تؤذن ثلاثة أيام. لحديث: «إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام» ثم ذكر أن بعض العلماء خص ذلك بالمدينة دون غيرها. لحديث: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا». قالوا: ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحداً ولا. قاله ابن نافع. ثم ذكر عن مالك النهي عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد. ثم قال: وهو الصحيح. لأن الله عزّ وجل قال: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءَانَ} . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن ـ وفيه ـ سألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة» وسيأتي بكماله في سورة «الجن» إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يخرج عليه وينذر، على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
(ثم قال): روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة: أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكاً في عراجين ناحية البيت، فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلَي أن أجلس فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت نعم. قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُذْ عليك سلاحَك، فإنَّني أخْشَى عليك قُريظة» فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة. فقالت له: اكفُف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة مُنطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدري أيُّهما كان أسرع موتاً الحية أم الفتى. قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، وقلنا: أدع الله يحيه لنا: فقال: «استغفروا لأخيكم ـ ثم قال ـ إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئاً فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فأقتلوه فإنما هو شيطان». وفي طريق أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئاً منهم فحرِّجوا عليها ثلاثاً، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ـ وقال لهم: ـ اذهبوا فادفنوا صاحبكم». ثم قال: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله الفتى كان مسلماً، وأن الجن قتلته به قصاصاً. لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سُوغ قتل نوعه شرعاً، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال: إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدْواً وانتقاماً. وقد قَتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه، وذلك أنه وجد ميتاً في مغتسله وقد أخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلاً يقول ولا يرون أحداً: قد قتلنا سيد الخز رج سعد بن عُباده
ورميناه بسهمين فلم تُخْطِ فُؤاده
وإنما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:
«إن بالمدينة جناً قد أسلموا» ليبين طريقاً يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم، ويتسلط به على قتل الكافر منهم. وروي من وجوه: أن عائشة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم قَتَلَت جاناً. فأُريت في المنام أن قائلاً يقول لها: لقد قتلتِ مُسلماً. فقالت: لو كان مُسلماً لم يدخل على أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم. قال: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجُعلت في سبيل الله. وفي رواية: ما دخل عليك إلا وأنت مستترة. فتصدقت وأعتقت رقاباً. وقال الربيع بن بدر: الجان من الحيات التي نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها ـ هي التي تمشي ولا تلتوي. وعن علقمة نحوه. ثم ذكر صفة إنذار حيات البيوت فقال: قال مالك: أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام. وقاله عيسى بن دينار: وإن ظهر في اليوم مراراً، ولا يتقصر على إنذاره ثلاث مرات في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام. وقيل: يكفي ثلاث مرار. لقوله صلى الله عليه وسلم: «فليؤذنه ثلاثاً»، وقوله «حرجوا عليه ثلاثاً» ولأن ثلاثاً للعدد المؤنث، فظهر أن المراد ثلاث مرات. وقول مالك أولى لقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة أيام» وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات، ويحمل ثلاثاً على إرادة ليالي الأيام الثلاث، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ، فإنها تغلب فيها التأنيث. قال مالك: ويكفي في الإنذار أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدو لنا ولا تؤذونا. وذكر ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال: إذا رأيتم منها شيئاً في مساكنكم فقولوا: أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام، فإذا رأيتم منهن شيئاً بعد فاقتلوه. ثم قال: وقد حكى ابن حبيب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه يقال: «أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان عليه السلام ألا تؤذونا ولا تظهرن علينا» انتهى كلام القرطبي ملخصاً قريباً من لفظه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق في هذه المسألة ـ أن ما لم يكن من الحيات في البيوت فإنه يُقتل كالحيات التي توجد في الفيافي، وأن حيات البيوت لا تُقتل إلا بعد الإنذار. وأظهر القولين عندي عموم الإنذار في المدينة وغيرها، وأنه لا بد من الإنذار ثلاثة أيام، ولا تكفي ثلاث مرات في يوم أو يومين، كما تقدمت أدلة ذلك في كلام القرطبي. وأن الأبتر وذا الطفيتين يقتلان في البيوت بلا إنذار. لما ثبت في بعض روايات مسلم بلفظ: فقال أبو لبابة: إنه قد نُهي عنهنَّ (يريد عوامر البيوت) وأُمر بقتل الأبترو ذي الطُّفْيَتَيْن. وفي رواية في صحيح البخاري عن أبي لبابة: «لا تقتلوا الجنَّان إلا كلُّ أبتر ذي طُفيتين، فإنه يُسقط الولد، ويُذهب البَصَر فاقتلوه».
والدليل على قتل الحيات وإنذار حيات البيوت ثابت في الصحيحين وغيرهما.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام بن يوسف حدثنا معمر عن الزهري، عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع النَّبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: «اقتلوا الحيَّات واقتلوا ذا الطُّفيتين والأبتر. فإنها يَطْمِسان البصر، ويَسْتَسْقطان الحَبَلى» قال عبد الله: فبينا أنا أطارد حيَّة لأقتلها فناداني أبو لُبابة: لا يقتلها. فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الحيات؟ فقال: إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت، وهي العوامر. وقال عبد الرزاق عن معمر: فرآني أبو لُبابة أو زَيد بن الخطاب، وتابعه يونُس وابن عُيَيْنه وإسحاق الكَلْبي والزُّبَيْدي، وقال صالح وابن أبي حَفْصَة وابن مُجمَعَّ عن الزهري عن سالم عن ابن عمر:
فرآني أبو لبابة وزيد بن الخطاب ـ ا هـ من صحيح البخاري رحمه الله تعالى. وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثني عمرو بن محمد الناقد، حدثنا سفيان بن أبي عُيَيْنة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «اقتلوا الحيَّات وذا الطُّفيتين والأبتر، فإنهما يَسْتَسْقِطانْ الحَبَل ويلتمسان البصر» قال: فكان ابن عمر ـ يقتل كل حية وجدها. فأبصره أبو لُبابة بن عبد المنذر، أو زيد بن الخطاب وهو يطارد حيَّة فقال: إنه قد نهى عن ذوات البيوت. ثم ذكره من طرق متعددة. وفي كلها التصريح بالنهي عن قتل جنان البيوت ـ يعني إلا بعد الإنذار ثلاثاً. وعن مالك رحمه الله: يقتل ما وجد منها بالمساجد. وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث «وذا الطُّفْيَتين» هو بضم الطاء المهملة وإسكان الفاء بعدها ياء. وأصل الطُّفيْة خوصة المقل وهو شجر الدوم. وقيل: المقل ثمر شجر الدوم. وجمعها طُفَى بضم ففتح على القياس. والمراد بالطُّفْيتين في الحديث: خَطَّان أبيضان. وقيل: أسودان على ظهر الحية المذكورة، يشبهان في صورتها خوص المقل المذكور. والأبتر: قصير الذنب من الحيات: وقال النضير بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها. وقال الداودي: هو الأفعى التي تكون قدر شبر أو أكثر قليلاً وقوله في هذا الحديث: «يَسْتِسْقِطَان الحَبَل» معناها أن المرأة الحامل إذا نظرت إليهما وخافت أسقطت جنينها غالباً. وقد ذكر مسلم عن الزهري ما يدل على أن إسقاط الحبل المذكور خاصية فيهما من سمهما. والأظهر في معنى «يلتمسان البصر» أن الله جعل فيهما من شدة سمهما خاصية يخطفان بها البصر، ويطمسانه بها بمجرد نظرهما إليه. والقول: بأن معناه أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش ضعيف. والعلم عند الله تعالى.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «اقتلوا الحيات» يدل على وجوب قتلها. لما قدمنا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تدل على الوجوب.
والجمهور على أن الأمر بذلك القتل المذكور للندب والاستحباب، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} على ما ذكرنا أنه الأظهر. فالمعنى: أن بعض بني آدم عدو لبعضهم. كما قال تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} ونحوها من الآيات. وعلى أن المراد بقوله {ٱهْبِطَ} آدم وإبليس، فالمعنى أن إبليس وذرِّيته أعداء لآدم وذريته. كما قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} ونحوها من الآيات.
والظاهر أن ما ذكره القرطبي: من إحراق الحية بالنار لم يثبت، وأنه لا ينبغي أن يعذب بعذاب الله، فلا ينبغي أن تقتل بالنار، والله أعلم.
فإن قيل: الحديث المذكور يدل على أن ذا الطُّفْيتين غير الأبتر لعطفه عليه في الحديث، ورواية البخاري التي قدمنا عن أبي لُبابة: «لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين» يقتضي أنهما واحد؟ فالجواب: أن ابن حجر في الفتح أجاب عن هذا. بأن الرواية المذكورة ظاهرها اتحادهما، ولكنها لا تنفي المغايرة ا هـ. والظاهر أن مراده بأنها لا تنفي المغايرة: أن الأبتر وإن كان ذا طُفْيتين فلا ينافي وجود ذي طفيتين فلا ينافي وجود ذي طفيتين غير الأبتر. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ} . الظاهر أن الخطاب لبني آدم. أي فإن يأتكم مني هُدَى أي رسول أرسله إليكم، وكتاب يأتي به رسول، فمن اتبع منكم هداي أي من آمن برسلي وصدق بكتبي، وامتثل ما أمرت به، واجتنب ما نهيت عنه على ألسنة رسلي. فإنه لا يضل في الدنيا، أي لا يزيغ عن طريق الحق لاستمساكه العُروة الوثقى، ولا يشقى في الآخرة لأنه كان في الدنيا عاملاً بما يستوجب السعادة من طاعة الله تعالى وطاعة رسله. وهذا المعنى المذكور هنا ذُكر في غير هذا الموضع. كقوله في «البقرة»: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ونحو ذلك من الآيات. وفي هذه الآيات دليل على أن الله بعد أن أخرج أبوينا من الجنة لا يرد إليهما أحداً منا إلا بعده الابتلاء والامتحان بالتكاليف من الأوامر والنواهي، ثم يطيع الله فيما ابتلاه به. كما تقدمت الإشارة إليه في سورة «البقرة». قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنك} . قد قدمنا في سورة «الكهف» في الكلام على قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِأايِـٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَ} ـ الآيات الموضحة نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى الوخيمة. فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقد قدمنا هناك أن منها المعيشة الضنك. واعلم أن الضنك في اللغة: الضيق. ومنه قول عنترة: إنْ يُلْحقوا أَكْررْ وإنْ يُستلحَمُوا أَشْدُد وإن يُلْفَوْا بضَنْكٍ أنزل
وقوله أيضاً: إن المنيةَ لو تُمَّثل مُثِّلَت مثلى إذا نَزلُوا بضَنْك المنزلِ
وأصل الضنك مصدر وصف به، فيستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع. وبه تعلم أن معنى قوله {مَعِيشَةً ضَنك} أي عيشاً ضيقاً والعياذ بالله تعالى.
واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة، لا يكذب بعضها بعضاً. وقد قدمنا مراراً: أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة. ومن الأقوال في ذلك: أن معنى ذلك أن الله عزّ وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة، والتوكل على الله، والرضا بقسمته فصاحبه ينفق مما رزقه الله بسماح وسهولة، فيعيش عيشاً هينئاً. ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً} ، وقوله تعالى: {وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، كما تقدم إيضاح ذلك كله.
وأما المعرض عن الدين فإنه يستولي عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشة ضنك، وحاله مظلمة. ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة بسبب كفره، كما قال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ} . وذلك من العيش الضنك بسبب الإعراض عن ذكر الله. وبين في مواضع أخر أنهم لو تركوا الإعراض عن ذكر الله فأطاعوه تعالى ـ أن عيشهم يصيروا واسعاً وغداً لا ضنكاً، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لاّكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} ، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ} ، وكقوله تعالى عن نوح: {فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَٰلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَار} ، وقوله تعالى عن هود: {وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ} ، وقوله تعالى: {وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لاّسْقَيْنَـٰهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وعن الحسن أن المعيشة الضنك: هي طعام الضريع والزَّقُّوم يوم القيامة وذلك مذكور في آيات من كتاب الله تعالى، كقوله: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} ، وقوله: {إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ * طَعَامُ ٱلاْثِيمِ} الآية ونحو ذلك من الآيات. وعن عكرمة والضحاك ومالك بن دينار: المعيشة الضنك: الكسب الحرام، والعمل السيِّىء. وعن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة: المعيشة الضنك: عذاب القبر وضغطته. وقد أشار تعالى إلى فتنة القبر وعذابه في قوله {يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلاٌّخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ} .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: أن المعيشة الضنك في الآية: عذاب القبر. وبعض طرقه بإسناد جيد كما قاله ابن كثير في تفسير هذه الآية. ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا. وطعام الضريع والزَّقُّوم. فتكون معيشته ضنكاً في الدنيا والبرزخ والآخرة، والعياذ بالله تعالى. قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أعرض عن ذكره يحشره يوم القيامة في حال كونه أعمى. قال مجاهد وأبو صالح والسدي: أعمى أي لا حجَّة له. وقال عكرمة: عمى عليه كل شيء إلا جهنم. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البنان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول. وقد ذكرنا أمثلة متعددة لذلك. فإذا علمت ذلك ـ فاعلم أن في هذه الآية الكريمة قرينة دالة على خلاف قول مجاهد وأبي صالح والسدي وعكرمة. وأن المراد بقوله {أَعْمَىٰ} أي أعمى البصر لا يرى شيئاً. والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِىۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِير} فصرح بأن عماه هو العمى المقابل للبصر وهو بصر العين، لأن الكافر كان في الدنيا أعمى القلب كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله، وقد زاد جل وعلا في سورة «بني إسرائيل» أنه مع ذلك العمى يحشر أصم أبكم أيضاً، وذلك في قوله تعالى: {وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرً} .
تنبيه
في آية «طه» هذه وآية «الإسراء» المذكورتين إشكال معروف. وهو أن يُقال: إنهما قد دَلتا على أن الكافر يُحَشر يوم القيامة أعمى، وزادت آية «الإسراء» أنه يحشر أبكم أصم أيضاً، مع أنه دلت آيات من كتاب الله على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويسمعون ويتكلمون. كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَ} ، وقوله تعالى: {وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَ} ، وقوله تعالى: {رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِح} ، إلى غير ذلك من الآيات. وقد ذكرنا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب. عن آيات الكتاب) الجواب عن هذا الإشكال من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول ـ واستظهره أبو حيان أن المراد بما ذكر من العمى والصمم والبكم حقيقته. ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع. الوجه الثاني ـ أنهم لا يرون شيئاً يسرهم، ولا يسمعون كذلك، ولا ينطقون بحجة، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه. وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضاً عن الحسن كما ذكره الألوسي وغيره. وعلى هذا القول فقد نزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به. كما أوضحنا في غير هذا الموضع. ومن المعلوم أن العرب تطلق لا شيء على ما لا نفع فيه. ألا ترى أن الله يقول في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} ، مع أنه يقول فيهم: {فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ،
ويقول فيهم: {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم. ويقول فيهم: {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ} وما ذلك إلا لأن الكلام ونحوه الذي لا فائدة فيه كلا شيء: فيصدق على صاحبه أنه أعمى وأصم وأبكم، ومن ذلك قول قعنب بن أم صاحب: صُمٌّ إذا سمعوا خيراً ذُكِرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أَذنوا
وقول الآخر: أصمٌّ عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد
وقول الآخر: قل ما بدا لك من زور ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء
ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب من إطلاق الصمم على السماع الذي لا فائدة فيه. وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه، والرؤية التي لا فائدة فيها.
الوجه الثالث ـ أن الله إذا قال لهم: {ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} وقع بهم ذلك العمى والصمم والبكم من شدة الكرب واليأس من الفرج ـ قال تعالى: {وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} وعلى هذا القول تكون الأحوال الخمسة مقدرة: أعني قوله في «طه»: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ} ، وقوله فيها: {لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ}، وقوله في «الإسراء: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّ}، وأظهرها عندي الأول: والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:
{فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ} من النسيان بمعنى الترك عمداً كما قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله: {فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْم} . قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يجازي المسرفين ذلك الجزاء المذكور. وقد دل مسلك الإيماء والتنبيه على أن ذلك الجزاء لعلة إسرافهم على أنفسهم في الطغيان والمعاصي، وبين في غير هذا الموضع أن جزاء الإسراف النار، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ} وبين في موضع آخر: أن محل ذلك إذا لم يُنيبوا إلى الله ويتوبوا إليه، وذلك في قوله: {قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ} إلى قوله: {وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ} . قوله تعالى: {وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن عذاب الآخرة أشد وأبقى. أي أشد ألماً وأدوم من عذاب الدنيا، ومن المعيشة الضنك التي هي عذاب القبر. وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: {وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ} ، وقوله تعالى {وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} ، وقوله تعالى: {وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ}.
تقدم بعض الآيات الموضحة له في سورة «مريم» وسيأتي له بعد هذا إن شاء الله زيادة إيضاح.
{وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِأايَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى ٱلصُّحُفِ ٱلاٍّولَىٰ * وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـٰهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَـٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ * قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَـٰبُ ٱلصِّرَاطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهْتَدَىٰ}
قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِأايَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى ٱلصُّحُفِ ٱلاٍّولَىٰ} . أظهر الأقوال عندي في معنى هذه الآية الكريمة: أن الكفار اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة كالعصا واليد من آيات موسى، وكناقة صالح، واقتراحهم لذلك بحرف التحضيض الدال على شدة الحضّ في طلب ذلك في قوله: {لَوْلاَ يَأْتِينَ} أي هلا يأتينا محمد بآية: كناقة صالح، وعصا موسى، أي نطلب ذلك منه بحضّ وحثّ. فأجابهم الله بقوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى ٱلصُّحُفِ ٱلاٍّولَىٰ} وهي هذا القرآن العظيم، لأنه آية هي أعظم الآيات وأدلها على الإعجاز. وإنما عبر عن هذا القرآن العظيم بأنه بينة ما في الصحف الأولى. لأن القرآن برهان قاطع على صحة جميع الكتب المنزلة من الله تعالى، فهو بَيِّنة واضحة على صِدقها وصحتها: كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} ، وقال تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، وقال تعالى: {ٱلتَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ} إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية على هذا التفسير الذي هو الأظهر ـ أوضحه جل وعلا في سورة «العنكبوت» في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَـٰتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا ٱلاٌّيَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌأَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . فقوله في «العنكبوت»: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ} هو معنى قوله في «طه»: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى ٱلصُّحُفِ ٱلاٍّولَىٰ} كما أوضحنا. والعلم عند الله تعالى. ويزيد ذلك إيضاحاً الحديث المتفق عليه: «ما من نبي مِنَ الأنبياءِ إلا أُوتي ما آمَنَ البشر على مِثْلِه، وإنما كان الذي أُوتيتُه وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابِعاً يومَ القيامةِ» وفي الآية أقوال أخر غير ما ذكرنا. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـٰهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَـٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ} . قد قدمنا في سورة «النساء» أن آية «طه» هذه تشير إلى معناها آية «القصص» التي هي قوله تعالى: {وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَـٰتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} وأن تلك الحجة التي يحتجون بها لو لم يأتهم نذير هي المذكورة في قوله تعالى:
لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ} . فقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول للكفار الذين يقترحون عليه الآيات عناداً وتعنُّتاً: كل منا ومنكم متربِّص، أي منتظر ما يحل بالآخر من الدوائر كالموت والغلبة. وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون كله خير، بعكس ما ينتظره ويتربص الكفار. كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} ، وقوله: {وَمِنَ ٱلاٌّعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ} ، إلى غير ذلك من الآيات. والتربص: الانتظار. قوله تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَـٰبُ ٱلصِّرَاطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهْتَدَىٰ} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار سيعلمون في ثاني حال مَن أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى. أي وفق لطريق الصواب والديمومة على ذلك. وأمر نبيه أن يقول ذلك للكفار. والمعنى: سيتضِح لكم أنا مُهتدون، وأنا على صراط مستقيم، وأنكم على ضلال وباطل. وهذا يظهر لهم يوم القيامة إذا عاينوا الحقيقة، ويظهر لهم في الدنيا لِما يرونه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه في غير هذا الموضع. كقوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيل} ، وقوله: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلاٌّشِرُ} ، وقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} إلى غير ذلك من الآيات والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح. والسوي: المستقيم، وهو الذي لا اعوجاج فيه. ومنه قول جرير: أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
و«مَن» في قوله {مَنْ أَصْحَـٰبُ} قال بعض العلماء: هي موصولة مفعول به لـ«تعلمون». وقال بعضهم: هي استفهامية معلقة لفعل العلم، كما قدمنا إيضاحه في «مريم» والعلم عند الله تعالى.
تم بحمد الله تفسير سورة طه
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 321
تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67
{فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ ٱجْتَبَـٰهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ * قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِىۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَـٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ * وَكَذٰلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِأايَـٰتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ * أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَـٰكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَـٰتٍ لاٌّوْلِى ٱلنُّهَىٰ * وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى * فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَآءِ ٱلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ * وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}
قوله تعالى: {وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ} . المعصية خلاف الطاعة. فقوله {وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ} أي لم يطعه في اجتناب ما نهاه عنه مِن قُربان تلك الشجرة.
وقوله: {فَغَوَىٰ} الغي: الضلال، وهو الذهاب عن طريق الصواب. فمعنى الآية: لم يُطِع آدمُ ربَّه فأخطأ طريق الصواب بسبب عدم الطاعة، وهذا العصيان والغي بيَّن الله جل وعلا في غير موضع مِن كتابه أن المراد به: أن الله أباح له أن يأكل هو وامرأته مِن الجنة رَغَداً حيثُ شاءَا، ونهاهما أن يَقَرَبا شجرة مُعينة من شجرها. فلم يزل الشيطان يُوسوس لهما ويَحْلِف لهما بالله إنه لهما النَاصِح، وإنَّهما إنْ أكلا منهما نالا الخُلود والملْك الذي لا يَبْلى. فخدعهما بذلك كما نصر الله على ذلك في قوله: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ} {فَدَلَّـٰهُمَا بِغُرُورٍ} فأكلا منها. وكان بعض أهل العلم يقول: من خادَعَنا بالله خَدَعنا. وهو مَروي عن عُمر. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي والحاكم: «المؤمن غِرُّ كريم، والفاجر خِبٌّ لئيم». وأنشد لذلك نفطويه: إن الكريم إذا تَشاء خَدَعْتَه وترى اللئيم مجرباً لا يُخْدع
فآدم عليه الصلاة والسلام ما صدَرَتْ منه الزلة إلا بسبب غرور إبليس له. وقد قدمنا قول بعض أهل العلم: إن آدم مِن شدة تعظيمه لله اعتقد أنه لا يمكن أن يَحْلِف به أحد وهو كاذب فأنساه حلف إبليس بِالله العَهْد بالنهي عن الشجرة. وقول بعض أهل العلم: إن معنى قوله {فَغَوَىٰ} أي فسد عليه عيشه بِنُزوله إلى الدنيا.
قالوا: والغي. الفساد، خلاف الظاهر وإن حكاه النقاش واختاره القشيري واستحسنه القرطبي.
وكذلك قول من قال {فَغَوَىٰ} أي بشم من كثرة الأكل. والبشم: التخمة، فهو قول باطل. وقال فيه الزمخشري في الكشاف: وهذا وإن صحَّ على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفاً فيقول في فَنِي وبَقِيَ، فنا وبقا، وهم بَنُو طَيْىء ـ تفسير خبيث، ا هـ منه. وما أشار إليه الزمخشري من لغة طَيْىء معروف. فهم يقولون للجارية: جاراة، وللناصية ناصاة، ويقولون في بَقِيَ بقى كَرَمَى. ومِن هذا اللغة قول الشاعر: لعمرك لا أخشىَ التصعلك ما بقي على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
وهذه اللغة التي ذكرها الزمخشري لا حاجة لها في التفسير الباطل المذكور، لأن العرب تقول: غوى الفصيل كرضى وكرمى: إذا بشم من اللبن.
وقوله تعالى في هذه الآية: {وَعَصَىٰ * ءادَمَ} يدل على أن معنى «غَوَى» ضلَّ عن طريق الصواب كما ذكرنا. وقد قدمنا أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن هي حجة من قال بأن الأنبياء غير معصومين مِن الصغائر. وعِصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مبحث أصولي لعلماء الأصول فيه كلام كثير واختلاف معروف، وسنذكر هنا طرفاً من كلام أهل الأصول في ذلك. قال ابن الحاجب في مختصره في الأصول: مسألة
الأكثر على أنه لا يمتنع عقلاً على الأنبياء مَعْصية. وخالف الروافض، وخالف المعتزلة إلا في الصغائر. ومعتمدهم التقبيح العقلي. والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام. لدلالة المعجزة على الصدق. وجوَّزه القاضي غلطاً وقال: دلت على الصدق اعتقاداً. وأما غيره مِن المعاصي فالإجماع على عصمتهم من الكبائر والصغائر الخسيسة. والأكثر على جواز غيرهما ـ ا هـ منه بلفظه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكبائر، ومن صغائر الخِسّة دون غيرها من الصغائر. وقال العّلامة العلوي الشنقيطي في (نشر البنود شرح مراقي السعود) في الكلام على قوله: والأنبياء عُصِموا مما نهوا عنه ولم يكن لهم تفكّه
بجائز بل ذاك لِلتشريع أو نية الزلفى من الرفيع
ما نصّه: فقد أجمع أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمتهم من تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه. كدعوى الرسالة، وما يبلغونه عن الله تعالى الخلائق. وصدور الكذب عنهم فيما ذكر سهواً أو نسياناً منعه الأكثرون وما سوى الكذب في التبليغ. فإن كان كُفراً فقد أجمعت الأُمَّة على عِصْمَتِهم منه قبل النبُوَّة وبعدها، وإن كان غيره فالجمهور على عِصْمَتهم مِن الكبائر عَمداً. ومخالف الجمهور الحشوية.
واختلف أهل الحق: هل المانع لِوقوع الكبائر مِنْهم عَمْداً العقل أو السمع؟ وأما المعتزلة فالعقل، وإن كان سهواً فالمختار العِصْمة منها. وأما الصغائر عمداً أو سهواً فقد جَوزها الجمهور عقلاً. لكنها لا تقع مِنْهم غير صغائر الخِسَّة فلا لا يجوز وقوعها منهم لا عمداً ولا سهواً ـ انتهى منه.
وحاصل كلامه: عصمتهم من الكذب فيما يُبلِّغونه عن الله ومن الكُفر والكبائر وصغائر الخسّة. وأن الجمهور على جواز وُقوع الصغائر الأخرى منهم عقلاً. غير أن ذلك لم يقع فعلاً. وقال أبو حيَّان في البحر في سورة «البقرة» وفي المنتخب للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخّصه: مَنعت الأمَّة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا الفضيلية من الخوارج قالوا: وقد وقع منهم ذنوب والذنب عندهم كُفر. وأجاز الإمامية إظهار الكُفر منهم على سبيل التقية. واجتمعت الأمة على عِصْمتهم مِن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ، فلا يَجوز عمداً ولا سهواً. ومِن الناس من جوز ذلك سهواً. وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمداً. واختلفوا في السهو. وأما أفعالهم فقالت الحشوية: يجوز وقوع الكبائر منهم على جِهة العمد. وقال أكثر المعتزلة: بجواز الصغائر عمداً إلا في القول كالكذب. وقال الجبائي: يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل. وقيل: يمتنعان عليهم إلا على جهة السهو والخطأ، وهُم مأخُوذون بذلك وإن كان موضوعاً عن أمتهم. وقالت الرافضة يمتنع ذلك على كل جهة.
واختلف في وقت العِصْمة. فقالت الرافضة: مِن وَقْت مَوْلدهم. وقال كثير من المعتزلة: من وَقْت النبوة. والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتَّة لا الكبيرة ولا الصغيرة. لأنهم لو صَدَر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة لعظيم شرفهم وذلك محال، ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة، ولئلا يجب زَجْرهم وإيذاؤهم، ولئلا يُقْتَدَى بهم في ذلك. ولئلا يكونوا مُسْتَحِقِّين لِلعقاب، ولئِلا يفعلوا ضِد ما أُمِروا به لأنهم مُصْطفون، ولأن إبليس استثناهم في الإغواء ـ انتهى ما لخَّصناه من (المنتخب)، والقول في الدلائل لهذه المذاهب. وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين. انتهى كلام أبي حَيان.
وحاصل كلام الأصوليِّين في هذه المسألة: عِصْمَتهم مِن الكُفر وفي كل ما يتعلق بالتبليغ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة وتطفيف حبة، وأن أكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر غير الصغائر الخسة منهم. ولكن جماعة كثيرة مِن متأخِّري الأصوليِّين اختاروا أن ذلك وإن جاز عقلاً لم يَقع فعلاً، وقالوا: إنما جاء في الكتاب والسنَّة مِن ذلك أن ما فعلوه بتأويل أو نسياناً أو سهواً، أو نحو ذلك.
قال مقيده عفا الله وغفر له: الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة ـ أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يَقع منهم ما يزري بمراتبهم العَلِّية، ومناصبهم السامِيَة. ولا يستوجب خطأ منهم ولا نقصاً فيهم صَلوات الله وسلامه عليهم، ولو فَرَضْنا أنه وقع منهم بعض الذنوب لأِنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة، والإخلاص، وصِدق الإنابة إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلى درجاتهم فتكون بذلك درجاتهم أعلى من درجة من لم يرتكب شيئاً من ذلك. ومِما يوضح هذا قوله تعالى: {وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰثُمَّ ٱجْتَبَـٰهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ} . فانظر أي أثر يبقى لِلعِصْيان والغي بعد توبة الله عليه، واجتبائه أي اصطفائه إياه، وهِدايته له، ولا شكّ أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب ذلك الزلة. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {ثُمَّ ٱجْتَبَـٰهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ} . الاجتباء: الاصْطِفاء والاختيار. أي ثم بعد ما صدر مِن آدم بمهلة اصطفاه ربه واختاره فتاب عليه وهداه إلى ما يُرضيه. ولم يبيِّن هنا السبب لذلك، ولكنه بين في غير هذا الموضع أنه تَلَقى مِن ربِّه كلمات فكانت سبب توبة ربه عليه، وذلك في قوله: {فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} أي بسبب
تلك الكلمات كما تدل عليه الفاء. وقد قدمنا في سورة «البقرة»: أن الكلمات المذكورة هي المذكورة في سورة «الأعراف» في قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ} وخير ما يفسر به القرآن القرآن. قوله تعالى: {قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} .
الظاهر أن ألف الاثنين في قوله {ٱهْبِطَ} راجعة إلى آدَم وحَوَّاء المذكورين في قوله {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَ} ، خلافاً لمن زعم أنها راجعة إلى إبليس وآدم، وأمْرَه إياهما بالهبوط مِن الجنة المذكور في آية «طه» هذه جاء مُبيناً في غير هذا الموضع. كقوله في سورة «البقرة»: {وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ} ، وقوله فيها أيضاً: {قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وقوله في «الأعراف»: {قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ} . وفي هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن يُقال: كيف جيء بصيغة الجمع في قوله {ٱهْبِطُو} في «البقرة» و «الأعراف» وبصيغة التثنية في «طه» في قوله: {ٱهْبِطَ} مع أنه أَتْبع صيغة التثنية في «طه» بصيغة الجمع في قوله {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى} وأظهر الأجوبة عندي عن ذلك: أن التثنية باعتبار آدم وحَوَّاء فقط، والجمع باعتبارهما مع ذريتهما. خلافاً لمن زعم أن التثنية باعتبار آدم وإبليس، والجمع باعتبار معهم ذريتهما معهما، وخلافاً لمن زعم أن الجمع في قوله: {ٱهْبِطُو} مراد به آدم وحواء وإبليس والحَية. والدليل على أن الحية ليست مرادة في ذلك هو أنها لا تدخل في قوله {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى} لأنها غير مكلفة.
واعلم أن المفسِّرين يذكرون قِصّة الحية، وأنها كانت ذات قوائم أربع كالبختية من أحسن خلقها الله، وأن إبليس دخل في فمها فأدخلته الجنة، فوسوس لآِدَم وحوَّاء بعد أن عرض نفسه على كثير من الدواب فلم يدخله إلا الحية. فأهبط هو إلى الأرض ولُعِنَتْ هي وردت قوائمها في جوفها، وجُعِلَت العداوة بَينها وبين بني آدم، ولذلك أمروا بقتلها. وبهذه المناسبة ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره في سورة «البقرة» جملاً من أحكام قتل الحيات. فذكر عن ساكنة بنت الجعد أنها روت عن سري بنت نبهان الغنوية أنها سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل الحيات صغيرها وكبيرها، وأسودها وأبيضها، ويرغِّب في ذلك. ثم ذكر عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود حديثاً فيه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بقتل حية فسبقتهم إلى جحرها. فأمرهم أن يضرموا عليها ناراً. وذكر عن علماء المالِكية أنهم خصّصوا بذلك النهي عن الاحراق بالنار، وعن أن يُعذب أحد بعذاب الله. ثم ذكر عن إبراهيم النخعي: أنه كره أن تحرق العقرب بالنار، وقال: هو مثله. وأجاب عن ذلك بأنه يحتمل أنه لم يبلغه الخبر المذكور. ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود الثابت في الصحيحين قال: كنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في غار، وقد أنزلت عليه {وَٱلْمُرْسَلَـٰتِ عُرْف} فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجَتْ علينا حية فقال «ٱقْتُلُوهَا»،فابتدرناها لِنَقْتُلَهَا، فسبقَتْنَا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وقاها الله شرَّكم كما وقاكُم شرَّها» فلم يضرم ناراً، ولا احتمال في قتلها، وأجاب هو عن ذلك، بأنه يحتمل أنه لم يجد ناراً في ذلك الوقت، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك، مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحية. ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات من الإرشاد إلى دفع المضرة المخرفة من الحيات ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات عام في جميع أنواعها إن كانت غير حيات البيوت، ثم ذكر فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود: «اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس مني» ثم ذكر أن حيات البيوت لا تقتل حتى تؤذن ثلاثة أيام. لحديث: «إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام» ثم ذكر أن بعض العلماء خص ذلك بالمدينة دون غيرها. لحديث: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا». قالوا: ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحداً ولا. قاله ابن نافع. ثم ذكر عن مالك النهي عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد. ثم قال: وهو الصحيح. لأن الله عزّ وجل قال: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءَانَ} . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن ـ وفيه ـ سألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة» وسيأتي بكماله في سورة «الجن» إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يخرج عليه وينذر، على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
(ثم قال): روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة: أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكاً في عراجين ناحية البيت، فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلَي أن أجلس فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت نعم. قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُذْ عليك سلاحَك، فإنَّني أخْشَى عليك قُريظة» فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة. فقالت له: اكفُف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة مُنطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدري أيُّهما كان أسرع موتاً الحية أم الفتى. قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، وقلنا: أدع الله يحيه لنا: فقال: «استغفروا لأخيكم ـ ثم قال ـ إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئاً فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فأقتلوه فإنما هو شيطان». وفي طريق أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئاً منهم فحرِّجوا عليها ثلاثاً، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ـ وقال لهم: ـ اذهبوا فادفنوا صاحبكم». ثم قال: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله الفتى كان مسلماً، وأن الجن قتلته به قصاصاً. لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سُوغ قتل نوعه شرعاً، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال: إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدْواً وانتقاماً. وقد قَتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه، وذلك أنه وجد ميتاً في مغتسله وقد أخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلاً يقول ولا يرون أحداً: قد قتلنا سيد الخز رج سعد بن عُباده
ورميناه بسهمين فلم تُخْطِ فُؤاده
وإنما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:
«إن بالمدينة جناً قد أسلموا» ليبين طريقاً يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم، ويتسلط به على قتل الكافر منهم. وروي من وجوه: أن عائشة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم قَتَلَت جاناً. فأُريت في المنام أن قائلاً يقول لها: لقد قتلتِ مُسلماً. فقالت: لو كان مُسلماً لم يدخل على أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم. قال: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجُعلت في سبيل الله. وفي رواية: ما دخل عليك إلا وأنت مستترة. فتصدقت وأعتقت رقاباً. وقال الربيع بن بدر: الجان من الحيات التي نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها ـ هي التي تمشي ولا تلتوي. وعن علقمة نحوه. ثم ذكر صفة إنذار حيات البيوت فقال: قال مالك: أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام. وقاله عيسى بن دينار: وإن ظهر في اليوم مراراً، ولا يتقصر على إنذاره ثلاث مرات في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام. وقيل: يكفي ثلاث مرار. لقوله صلى الله عليه وسلم: «فليؤذنه ثلاثاً»، وقوله «حرجوا عليه ثلاثاً» ولأن ثلاثاً للعدد المؤنث، فظهر أن المراد ثلاث مرات. وقول مالك أولى لقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة أيام» وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات، ويحمل ثلاثاً على إرادة ليالي الأيام الثلاث، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ، فإنها تغلب فيها التأنيث. قال مالك: ويكفي في الإنذار أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدو لنا ولا تؤذونا. وذكر ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال: إذا رأيتم منها شيئاً في مساكنكم فقولوا: أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام، فإذا رأيتم منهن شيئاً بعد فاقتلوه. ثم قال: وقد حكى ابن حبيب عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه يقال: «أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان عليه السلام ألا تؤذونا ولا تظهرن علينا» انتهى كلام القرطبي ملخصاً قريباً من لفظه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق في هذه المسألة ـ أن ما لم يكن من الحيات في البيوت فإنه يُقتل كالحيات التي توجد في الفيافي، وأن حيات البيوت لا تُقتل إلا بعد الإنذار. وأظهر القولين عندي عموم الإنذار في المدينة وغيرها، وأنه لا بد من الإنذار ثلاثة أيام، ولا تكفي ثلاث مرات في يوم أو يومين، كما تقدمت أدلة ذلك في كلام القرطبي. وأن الأبتر وذا الطفيتين يقتلان في البيوت بلا إنذار. لما ثبت في بعض روايات مسلم بلفظ: فقال أبو لبابة: إنه قد نُهي عنهنَّ (يريد عوامر البيوت) وأُمر بقتل الأبترو ذي الطُّفْيَتَيْن. وفي رواية في صحيح البخاري عن أبي لبابة: «لا تقتلوا الجنَّان إلا كلُّ أبتر ذي طُفيتين، فإنه يُسقط الولد، ويُذهب البَصَر فاقتلوه».
والدليل على قتل الحيات وإنذار حيات البيوت ثابت في الصحيحين وغيرهما.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام بن يوسف حدثنا معمر عن الزهري، عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع النَّبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: «اقتلوا الحيَّات واقتلوا ذا الطُّفيتين والأبتر. فإنها يَطْمِسان البصر، ويَسْتَسْقطان الحَبَلى» قال عبد الله: فبينا أنا أطارد حيَّة لأقتلها فناداني أبو لُبابة: لا يقتلها. فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الحيات؟ فقال: إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت، وهي العوامر. وقال عبد الرزاق عن معمر: فرآني أبو لُبابة أو زَيد بن الخطاب، وتابعه يونُس وابن عُيَيْنه وإسحاق الكَلْبي والزُّبَيْدي، وقال صالح وابن أبي حَفْصَة وابن مُجمَعَّ عن الزهري عن سالم عن ابن عمر:
فرآني أبو لبابة وزيد بن الخطاب ـ ا هـ من صحيح البخاري رحمه الله تعالى. وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثني عمرو بن محمد الناقد، حدثنا سفيان بن أبي عُيَيْنة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «اقتلوا الحيَّات وذا الطُّفيتين والأبتر، فإنهما يَسْتَسْقِطانْ الحَبَل ويلتمسان البصر» قال: فكان ابن عمر ـ يقتل كل حية وجدها. فأبصره أبو لُبابة بن عبد المنذر، أو زيد بن الخطاب وهو يطارد حيَّة فقال: إنه قد نهى عن ذوات البيوت. ثم ذكره من طرق متعددة. وفي كلها التصريح بالنهي عن قتل جنان البيوت ـ يعني إلا بعد الإنذار ثلاثاً. وعن مالك رحمه الله: يقتل ما وجد منها بالمساجد. وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث «وذا الطُّفْيَتين» هو بضم الطاء المهملة وإسكان الفاء بعدها ياء. وأصل الطُّفيْة خوصة المقل وهو شجر الدوم. وقيل: المقل ثمر شجر الدوم. وجمعها طُفَى بضم ففتح على القياس. والمراد بالطُّفْيتين في الحديث: خَطَّان أبيضان. وقيل: أسودان على ظهر الحية المذكورة، يشبهان في صورتها خوص المقل المذكور. والأبتر: قصير الذنب من الحيات: وقال النضير بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها. وقال الداودي: هو الأفعى التي تكون قدر شبر أو أكثر قليلاً وقوله في هذا الحديث: «يَسْتِسْقِطَان الحَبَل» معناها أن المرأة الحامل إذا نظرت إليهما وخافت أسقطت جنينها غالباً. وقد ذكر مسلم عن الزهري ما يدل على أن إسقاط الحبل المذكور خاصية فيهما من سمهما. والأظهر في معنى «يلتمسان البصر» أن الله جعل فيهما من شدة سمهما خاصية يخطفان بها البصر، ويطمسانه بها بمجرد نظرهما إليه. والقول: بأن معناه أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش ضعيف. والعلم عند الله تعالى.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «اقتلوا الحيات» يدل على وجوب قتلها. لما قدمنا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تدل على الوجوب.
والجمهور على أن الأمر بذلك القتل المذكور للندب والاستحباب، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} على ما ذكرنا أنه الأظهر. فالمعنى: أن بعض بني آدم عدو لبعضهم. كما قال تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} ونحوها من الآيات. وعلى أن المراد بقوله {ٱهْبِطَ} آدم وإبليس، فالمعنى أن إبليس وذرِّيته أعداء لآدم وذريته. كما قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} ونحوها من الآيات.
والظاهر أن ما ذكره القرطبي: من إحراق الحية بالنار لم يثبت، وأنه لا ينبغي أن يعذب بعذاب الله، فلا ينبغي أن تقتل بالنار، والله أعلم.
فإن قيل: الحديث المذكور يدل على أن ذا الطُّفْيتين غير الأبتر لعطفه عليه في الحديث، ورواية البخاري التي قدمنا عن أبي لُبابة: «لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين» يقتضي أنهما واحد؟ فالجواب: أن ابن حجر في الفتح أجاب عن هذا. بأن الرواية المذكورة ظاهرها اتحادهما، ولكنها لا تنفي المغايرة ا هـ. والظاهر أن مراده بأنها لا تنفي المغايرة: أن الأبتر وإن كان ذا طُفْيتين فلا ينافي وجود ذي طفيتين فلا ينافي وجود ذي طفيتين غير الأبتر. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ} . الظاهر أن الخطاب لبني آدم. أي فإن يأتكم مني هُدَى أي رسول أرسله إليكم، وكتاب يأتي به رسول، فمن اتبع منكم هداي أي من آمن برسلي وصدق بكتبي، وامتثل ما أمرت به، واجتنب ما نهيت عنه على ألسنة رسلي. فإنه لا يضل في الدنيا، أي لا يزيغ عن طريق الحق لاستمساكه العُروة الوثقى، ولا يشقى في الآخرة لأنه كان في الدنيا عاملاً بما يستوجب السعادة من طاعة الله تعالى وطاعة رسله. وهذا المعنى المذكور هنا ذُكر في غير هذا الموضع. كقوله في «البقرة»: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ونحو ذلك من الآيات. وفي هذه الآيات دليل على أن الله بعد أن أخرج أبوينا من الجنة لا يرد إليهما أحداً منا إلا بعده الابتلاء والامتحان بالتكاليف من الأوامر والنواهي، ثم يطيع الله فيما ابتلاه به. كما تقدمت الإشارة إليه في سورة «البقرة». قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنك} . قد قدمنا في سورة «الكهف» في الكلام على قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِأايِـٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَ} ـ الآيات الموضحة نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى الوخيمة. فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقد قدمنا هناك أن منها المعيشة الضنك. واعلم أن الضنك في اللغة: الضيق. ومنه قول عنترة: إنْ يُلْحقوا أَكْررْ وإنْ يُستلحَمُوا أَشْدُد وإن يُلْفَوْا بضَنْكٍ أنزل
وقوله أيضاً: إن المنيةَ لو تُمَّثل مُثِّلَت مثلى إذا نَزلُوا بضَنْك المنزلِ
وأصل الضنك مصدر وصف به، فيستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع. وبه تعلم أن معنى قوله {مَعِيشَةً ضَنك} أي عيشاً ضيقاً والعياذ بالله تعالى.
واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة، لا يكذب بعضها بعضاً. وقد قدمنا مراراً: أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة. ومن الأقوال في ذلك: أن معنى ذلك أن الله عزّ وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة، والتوكل على الله، والرضا بقسمته فصاحبه ينفق مما رزقه الله بسماح وسهولة، فيعيش عيشاً هينئاً. ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً} ، وقوله تعالى: {وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، كما تقدم إيضاح ذلك كله.
وأما المعرض عن الدين فإنه يستولي عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشة ضنك، وحاله مظلمة. ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة بسبب كفره، كما قال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ} . وذلك من العيش الضنك بسبب الإعراض عن ذكر الله. وبين في مواضع أخر أنهم لو تركوا الإعراض عن ذكر الله فأطاعوه تعالى ـ أن عيشهم يصيروا واسعاً وغداً لا ضنكاً، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لاّكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} ، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ} ، وكقوله تعالى عن نوح: {فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَٰلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَار} ، وقوله تعالى عن هود: {وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ} ، وقوله تعالى: {وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لاّسْقَيْنَـٰهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وعن الحسن أن المعيشة الضنك: هي طعام الضريع والزَّقُّوم يوم القيامة وذلك مذكور في آيات من كتاب الله تعالى، كقوله: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} ، وقوله: {إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ * طَعَامُ ٱلاْثِيمِ} الآية ونحو ذلك من الآيات. وعن عكرمة والضحاك ومالك بن دينار: المعيشة الضنك: الكسب الحرام، والعمل السيِّىء. وعن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة: المعيشة الضنك: عذاب القبر وضغطته. وقد أشار تعالى إلى فتنة القبر وعذابه في قوله {يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلاٌّخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ} .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: أن المعيشة الضنك في الآية: عذاب القبر. وبعض طرقه بإسناد جيد كما قاله ابن كثير في تفسير هذه الآية. ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا. وطعام الضريع والزَّقُّوم. فتكون معيشته ضنكاً في الدنيا والبرزخ والآخرة، والعياذ بالله تعالى. قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أعرض عن ذكره يحشره يوم القيامة في حال كونه أعمى. قال مجاهد وأبو صالح والسدي: أعمى أي لا حجَّة له. وقال عكرمة: عمى عليه كل شيء إلا جهنم. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البنان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول. وقد ذكرنا أمثلة متعددة لذلك. فإذا علمت ذلك ـ فاعلم أن في هذه الآية الكريمة قرينة دالة على خلاف قول مجاهد وأبي صالح والسدي وعكرمة. وأن المراد بقوله {أَعْمَىٰ} أي أعمى البصر لا يرى شيئاً. والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِىۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِير} فصرح بأن عماه هو العمى المقابل للبصر وهو بصر العين، لأن الكافر كان في الدنيا أعمى القلب كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله، وقد زاد جل وعلا في سورة «بني إسرائيل» أنه مع ذلك العمى يحشر أصم أبكم أيضاً، وذلك في قوله تعالى: {وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرً} .
تنبيه
في آية «طه» هذه وآية «الإسراء» المذكورتين إشكال معروف. وهو أن يُقال: إنهما قد دَلتا على أن الكافر يُحَشر يوم القيامة أعمى، وزادت آية «الإسراء» أنه يحشر أبكم أصم أيضاً، مع أنه دلت آيات من كتاب الله على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويسمعون ويتكلمون. كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَ} ، وقوله تعالى: {وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَ} ، وقوله تعالى: {رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِح} ، إلى غير ذلك من الآيات. وقد ذكرنا في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب. عن آيات الكتاب) الجواب عن هذا الإشكال من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول ـ واستظهره أبو حيان أن المراد بما ذكر من العمى والصمم والبكم حقيقته. ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع. الوجه الثاني ـ أنهم لا يرون شيئاً يسرهم، ولا يسمعون كذلك، ولا ينطقون بحجة، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه. وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضاً عن الحسن كما ذكره الألوسي وغيره. وعلى هذا القول فقد نزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به. كما أوضحنا في غير هذا الموضع. ومن المعلوم أن العرب تطلق لا شيء على ما لا نفع فيه. ألا ترى أن الله يقول في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} ، مع أنه يقول فيهم: {فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ،
ويقول فيهم: {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم. ويقول فيهم: {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ} وما ذلك إلا لأن الكلام ونحوه الذي لا فائدة فيه كلا شيء: فيصدق على صاحبه أنه أعمى وأصم وأبكم، ومن ذلك قول قعنب بن أم صاحب: صُمٌّ إذا سمعوا خيراً ذُكِرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أَذنوا
وقول الآخر: أصمٌّ عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد
وقول الآخر: قل ما بدا لك من زور ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء
ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب من إطلاق الصمم على السماع الذي لا فائدة فيه. وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه، والرؤية التي لا فائدة فيها.
الوجه الثالث ـ أن الله إذا قال لهم: {ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} وقع بهم ذلك العمى والصمم والبكم من شدة الكرب واليأس من الفرج ـ قال تعالى: {وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} وعلى هذا القول تكون الأحوال الخمسة مقدرة: أعني قوله في «طه»: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ} ، وقوله فيها: {لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ}، وقوله في «الإسراء: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّ}، وأظهرها عندي الأول: والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:
{فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ} من النسيان بمعنى الترك عمداً كما قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله: {فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْم} . قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يجازي المسرفين ذلك الجزاء المذكور. وقد دل مسلك الإيماء والتنبيه على أن ذلك الجزاء لعلة إسرافهم على أنفسهم في الطغيان والمعاصي، وبين في غير هذا الموضع أن جزاء الإسراف النار، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ} وبين في موضع آخر: أن محل ذلك إذا لم يُنيبوا إلى الله ويتوبوا إليه، وذلك في قوله: {قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ} إلى قوله: {وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ} . قوله تعالى: {وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن عذاب الآخرة أشد وأبقى. أي أشد ألماً وأدوم من عذاب الدنيا، ومن المعيشة الضنك التي هي عذاب القبر. وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله تعالى: {وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ} ، وقوله تعالى {وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} ، وقوله تعالى: {وَلَعَذَابُ ٱلاٌّخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ}.
تقدم بعض الآيات الموضحة له في سورة «مريم» وسيأتي له بعد هذا إن شاء الله زيادة إيضاح.
{وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِأايَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى ٱلصُّحُفِ ٱلاٍّولَىٰ * وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـٰهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَـٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ * قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَـٰبُ ٱلصِّرَاطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهْتَدَىٰ}
قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِأايَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى ٱلصُّحُفِ ٱلاٍّولَىٰ} . أظهر الأقوال عندي في معنى هذه الآية الكريمة: أن الكفار اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة كالعصا واليد من آيات موسى، وكناقة صالح، واقتراحهم لذلك بحرف التحضيض الدال على شدة الحضّ في طلب ذلك في قوله: {لَوْلاَ يَأْتِينَ} أي هلا يأتينا محمد بآية: كناقة صالح، وعصا موسى، أي نطلب ذلك منه بحضّ وحثّ. فأجابهم الله بقوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى ٱلصُّحُفِ ٱلاٍّولَىٰ} وهي هذا القرآن العظيم، لأنه آية هي أعظم الآيات وأدلها على الإعجاز. وإنما عبر عن هذا القرآن العظيم بأنه بينة ما في الصحف الأولى. لأن القرآن برهان قاطع على صحة جميع الكتب المنزلة من الله تعالى، فهو بَيِّنة واضحة على صِدقها وصحتها: كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} ، وقال تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، وقال تعالى: {ٱلتَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ} إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية على هذا التفسير الذي هو الأظهر ـ أوضحه جل وعلا في سورة «العنكبوت» في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَـٰتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا ٱلاٌّيَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌأَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . فقوله في «العنكبوت»: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ} هو معنى قوله في «طه»: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى ٱلصُّحُفِ ٱلاٍّولَىٰ} كما أوضحنا. والعلم عند الله تعالى. ويزيد ذلك إيضاحاً الحديث المتفق عليه: «ما من نبي مِنَ الأنبياءِ إلا أُوتي ما آمَنَ البشر على مِثْلِه، وإنما كان الذي أُوتيتُه وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابِعاً يومَ القيامةِ» وفي الآية أقوال أخر غير ما ذكرنا. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـٰهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَـٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ} . قد قدمنا في سورة «النساء» أن آية «طه» هذه تشير إلى معناها آية «القصص» التي هي قوله تعالى: {وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَـٰتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} وأن تلك الحجة التي يحتجون بها لو لم يأتهم نذير هي المذكورة في قوله تعالى:
لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ} . فقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول للكفار الذين يقترحون عليه الآيات عناداً وتعنُّتاً: كل منا ومنكم متربِّص، أي منتظر ما يحل بالآخر من الدوائر كالموت والغلبة. وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون كله خير، بعكس ما ينتظره ويتربص الكفار. كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} ، وقوله: {وَمِنَ ٱلاٌّعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ} ، إلى غير ذلك من الآيات. والتربص: الانتظار. قوله تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَـٰبُ ٱلصِّرَاطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهْتَدَىٰ} . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار سيعلمون في ثاني حال مَن أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى. أي وفق لطريق الصواب والديمومة على ذلك. وأمر نبيه أن يقول ذلك للكفار. والمعنى: سيتضِح لكم أنا مُهتدون، وأنا على صراط مستقيم، وأنكم على ضلال وباطل. وهذا يظهر لهم يوم القيامة إذا عاينوا الحقيقة، ويظهر لهم في الدنيا لِما يرونه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه في غير هذا الموضع. كقوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيل} ، وقوله: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلاٌّشِرُ} ، وقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} إلى غير ذلك من الآيات والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح. والسوي: المستقيم، وهو الذي لا اعوجاج فيه. ومنه قول جرير: أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
و«مَن» في قوله {مَنْ أَصْحَـٰبُ} قال بعض العلماء: هي موصولة مفعول به لـ«تعلمون». وقال بعضهم: هي استفهامية معلقة لفعل العلم، كما قدمنا إيضاحه في «مريم» والعلم عند الله تعالى.
تم بحمد الله تفسير سورة طه
الصفحة رقم 321 من المصحف تحميل و استماع mp3