تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 355 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 355


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 ِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـوٰةِ يَخَـٰفُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلاٌّبْصَـٰرُ * لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}

تقدم شرح هذه الأيات مع الأيات التي في الصفحة السابقة

{وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يَغْشَـٰهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَـٰتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَٱلطَّيْرُ صَآفَّـٰتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلاٌّبْصَـٰرِ * يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِى ٱلاٌّبْصَـٰرِ * وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * لَّقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَـٰتٍ مُّبَيِّنَـٰتٍ وَٱللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُون * وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ * وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ * وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلَوٰةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا}.ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن أعمال الكفار باطلة، وأنَّها لا شىء؛ لأنه قال في السراب الذي مثّلها به: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا}، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من بطلان أعمال الكفار، جاء موضحًا في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {مَثَلُ * ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَىْء}، وقوله تعالىٰ: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورا}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا أن عمل الكافر إذا كان على الوجه الصحيح أنه يجزى به في الدنيا؛ كما أوضحناه في سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.
وقد دلَّت آيات من كتاب اللَّه على انتفاع الكافر بعمله في الدنيا، دون الآخرة؛ كقوله تعالىٰ: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلاْخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى}، وقوله تعالىٰ: {مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ٱلاْخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وهذا الذي دلّت عليه هذه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا، دون الآخرة ثبت في صحيح مسلم وغيبره من حديث أنس رضي اللَّه عنه؛ كما أوضحناه في الكلام على آية «النحل» المذكورة، وهو أحد التفسيرين في قوله تعالىٰ: {وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ}، أي: وفّاه حسابه في الدنيا على هذا القول، وقد بيَّن اللَّه جلَّ وعلا في سورة «بني إسرٰئيل» أن ما دلّت عليه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا، أنه مقيّد بمشيئة اللَّه تعالىٰ، وذلك في قوله تعالىٰ: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَـٰهَا مَذْمُومًا مَّدْحُوراً}.
تنبيــه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ذكرناه وذكرنا الجواب عنه في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب»، وذلك في قولنا فيه: لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن الضمير في قوله: {جَاءهُ}، يدلّ على شىء موجود واقع عليه المجيء؛ لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين، فلا تدرك إلا بإدراكهما، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل، إلا بإدراك فاعل واقع منه المجيء، ومفعول به واقع عليه المجيء. وقوله تعالىٰ: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} يدلّ على عدم وجود شىء يقع عليه المجيء في قوله تعالىٰ: {جَاءهُ}.
والجواب عن هذا من وجهين، ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة.
قال: فإن قال قائل كيف قيل: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا}، فإن لم يكن السراب شيئًا فعلام دخلت الهاء في قوله: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءهُ}؟ قيل: إنه شىء يرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفًا من بعيد، فإذا قرب منه رقّ وصار كالهواء، وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئًا، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه، انتهى منه.
والوجه الأول أظهر عندي، وعنده، بدليل قوله: وقد يحتمل أن يكون معناه، إلخ. انتهى كلامنا في «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب»، وقد رأيت فيه جواب ابن جرير الطبري عن السؤال المذكور، وقوله تعالىٰ في هذه الآية: {بِقِيعَةٍ}، قيل: جمع قاع، كجار وجيرة. وقيل: القيعة والقاع بمعنى، وهو المنبسط المستوي المتّسع من الأرض، وعلى هذا فالقاع واحد القيعان، كجار وجيران. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَٱلطَّيْرُ صَآفَّـٰتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }. اعلم أن الضمير المحذوف الذي هو فاعل {عِلْمٍ}، قال بعض أهل العلم: إنه راجع إلى اللَّه في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ}، وعلى هذا فالمعنى كل من المسبحين والمصلين، قد علم اللَّه صلاته وتسبيحه. وقال بعض أهل العلم: إن الضمير المذكور راجع إلى قوله: {كُلٌّ}، أي: كل من المصلين والمسبحين، قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه، وقد قدّمنا في سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، كلام الأصوليين في أن اللفظ إن احتمل التوكيد والتأسيس حمل على التأسيس، وبيّنا أمثلة متعدّدة لذلك من القرءان العظيم.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن الأظهر على مقتضى ما ذكرنا عن الأصوليين، أن يكون ضمير الفاعل المحذوف في قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}، راجعًا إلى قوله: {كُلٌّ}، أي: كل من المصلّين قد علم صلاة نفسه، وكل من المسبحين قد علم تسبيح نفسه، وعلى هذا القول فقوله تعالىٰ: {وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}، تأسيس لا تأكيد، أمّا على القول بأن الضمير راجع إلى {ٱللَّهِ}، أي: قد علم اللَّه صلاته يكون قوله: {وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} كالتكرار مع ذلك، فيكون من قبيل التوكيد اللفظي.
وقد علمت أن المقرّر في الأصول أن الحمل على التأسيس أرجح من الحمل على التوكيد؛ كما تقدّم إيضاحه. والظاهر أن الطير تسبّح وتصلّي صلاة وتسبيحًا يعلمهما اللَّه، ونحن لا نعلمهما؛ كما قال تعالىٰ: {وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
ومن الآيات الدالَّة على أن غير العقلاء من المخلوقات لها إدراك يعلمه اللَّه ونحن لا نعلمه، قوله تعالىٰ في الحجارة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ}، فأثبت خشيته للحجارة، والخشية تكون بإدراك. وقوله تعالىٰ: {لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـٰشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ}، وقوله تعالىٰ: {إِنَّا عَرَضْنَا ٱلاْمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهاَ}، والإباء والإشفاق إنما يكونان بإدراك، والآيات والأحاديث واردة بذلك، وهو الحقّ. وظاهر الآية أن للطير صلاة وتسبيحًا، ولا مانع من الحمل على الظاهر، ونقل القرطبي عن سفيٰن: أن للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، اهــ.
ومعلوم أن الصلاة في اللغة الدعاء، ومنه قول الأعشى: تقول بنتي وقد غربت مرتحلا يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الَّذي صلّيت فاغتبطي نومًا فإن لجنب المرء مضجعا

فقوله: مثل الذي صلّيت، أي: دعوت، يعني قولها: يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا.
وقوله: {صَافَّـٰتٍ}، أي: صافّات أجنحتها في الهواء. وقد بيَّن تعالىٰ في غير هذا الموضع أن إمساكه الطير صافّات أجنحتها في الهواء وقابضات لها من آيات قدرته، واستحقاقه العبادة وحده، وذلك في قوله تعالىٰ: {أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ صَــٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ}، وقوله تعالىٰ: {أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرٰتٍ فِى جَوّ ٱلسَّمَآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. قوله تعالىٰ: {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذه الأُمّة: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلاْرْضِ}، أي: ليجعلنهم خلفاء الأرض، الذين لهم السيطرة فيها، ونفوذ الكلمة، والآيات تدلّ على أن طاعة اللَّه بالإيمان به، والعلم الصالح سبب للقوّة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة؛ كقوله تعالىٰ: {وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ٱلاْرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ}، وقوله تعالىٰ: {وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلاْرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَاتَوُاْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلاْمُورِ}، وقوله تعالىٰ: {إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}، أي: كبني إسْرٰئيل.
ومن الآيات الموضحة لذلك، قوله تعالىٰ: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ٱلاْرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ}، وقوله تعالىٰ عن موسى عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام: {عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلاْرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلاْرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَ}، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالىٰ: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} اللام موطئة لقسم محذوف، أي: وعدهم اللَّه، وأقسم في وعده ليستخلفنهم. {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ}. هذا الدّين الذي ارتضاه لهم هو دين الإسلام بدليل قوله تعالىٰ: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِين}، وقوله تعالىٰ: {إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ}، وقوله تعالىٰ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلاْخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ}، وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ}، قال الزمخشري: تمكينه هو تثبيته وتوطيده. {وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلَوٰةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }. هذه الآية الكريمة تدلّ على أن إقامة الصّلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لرحمة اللَّه تعالىٰ، سواء قلنا إن لعلّ في قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، حرف تعليل أو ترج؛ لأنها إن قلنا: إنها حرف تعليل فإقامة الصلاة وما عطف عليه سبب لرحمة اللَّه؛ لأن العلل أسباب شرعية، وإن قلنا: إن لعلّ للترجي، أي: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة على رجائكم أن اللَّه يرحمكم بذلك، لأن اللَّه ما أطمعهم بتلك الرحمة عند علمهم بموجبها إلا ليرحمهم لما هو معلوم من فضله وكرمه، وكون لعل هنا للترجي، إنما هو بحسب علم المخلوقين؛ كما أوضحناه في غير هذا الموضع. وهذا الذي دلّت عليه هذه الآية من أنهم إن أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطاعوا الرسول رحمهم اللَّه بذلك جاء موضحًا في آية أخرى، وهي قوله تعالىٰ: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ}، وقوله تعالىٰ في هذه الآية: {وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ}، بعد قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَ} من عطف العام على الخاص؛ لأن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، داخلان في عموم قوله: {وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ}، وقد قدّمنا مرارًا أن عطف العام على الخاص وعكسه كلاهما من الإطناب المقبول إذا كان في الخاص مزية ليست في غيره من أفراد العام.