تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 355 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 355

355- تفسير الصفحة رقم355 من المصحف
لما قال تعالى: "رجال" وخصهم بالذكر دل على أن النساء لا حظ لهن في المساجد؛ إذ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وأن صلاتهن في بيوتهن أفضل. روى أبو داود عن عبدالله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها).
قوله تعالى: "لا تلهيهم" أي لا تشغلهم. "تجارة ولا بيع عن ذكر الله" خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلاة. فإن قيل: فلم كرر ذكر البيع والتجارة تشمله. قيل له: أراد بالتجارة الشراء لقول: "ولا بيع". نظيره قوله تعالى: "وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها" [الجمعة: 11] قال الواقدي. وقال الكلبي: التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون. "عن ذكر الله" اختلف في تأويله؛ فقال عطاء: يعني حضور الصلاة؛ وقال ابن عباس، وقال: المكتوبة. وقيل عن الأذان؛ ذكره يحيى بن سلام. وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى؛ أي يوحدونه ويمجدونه. والآية نزلت في أهل الأسواق؛ قال ابن عمر. قال سالم: جاز عبدالله بن عمر بالسوق وقد أغلقوا حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة فقال: فيهم نزلت: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع" الآية. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله. وقيل: إن رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما بياعا فإذا سمع النداء بالصلاة فإن كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وضعا، وإن كان بالأرض لم يرفعه. وكان الآخر قينا يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الأذان؛ فأنزل الله تعالى هذا ثناء عليهما وعلى كل من اقتدى بهما.
قوله تعالى: "وإقام الصلاة" هذا يدل على أن المراد بقوله "عن ذكر الله" غير الصلاة؛ لأنه يكون تكرارا. يقال: أقام الصلاة إقامة، والأصل إقواما فقلبت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وبعدها ألف ساكنة فحذفت إحداهما، وأثبتت الهاء لئلا تحذفها فتجحف، فلما أضيفت قام المضاف مقام الهاء فجاز حذفها، وإن لم تضف لم يجز حذفها؛ ألا ترى أنك تقول: وعد عدة، ووزن زنة، فلا يجوز حذف الهاء، لأنك قد حذفت واوا؛ لأن الأصل وعد وعدة، ووزن وزنة، فإن أضفت حذفت الهاء، وأنشد الفراء:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
يريد عدة، فحذف الهاء لما أضاف. وروي من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك وأزمتها من الزبرجد الأخضر وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون أو أنبياء مرسلون فينادى ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم). وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، يعمرون مساجدهم وهي من ذكر الله خراب، شر أهل ذلك الزمن علماؤهم، منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود) يعني أنهم يعلمون ولا يعملون بواجبات ما علموا.
قوله تعالى: "وإيتاء الزكاة" قيل: الزكاة المفروضة؛ قاله الحسن. وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة الله تعالى والإخلاص؛ إذ ليس لكل مؤمن مال. "يخافون يوما" يعني يوم القيامة. "تتقلب فيه القلوب والأبصار" يعني من هوله وحذر الهلاك. والتقلب التحول، والمراد قلوب الكفار وأبصارهم. فتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر، فلا هي ترجع إلى أماكنها ولا هي تخرج. وأما تقلب الأبصار فالزرق بعد الكحل والعمى بعد البصر. وقيل: تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم، وإلى أي ناحية يؤخذ بهم. وقيل: إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك، وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين؛ وذلك مثل قوله تعالى: "فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" [ق:22] فما كان يراه في الدنيا غيا يراه رشدا؛ إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة. وقيل: تقلب على جمر جهنم كقوله تعالى: "يوم تقلب وجوههم في النار" [الأحزاب: 66]، "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم" [الأنعام: 110]. في قول من جعل المعنى تقلبها على لهب النار. وقيل: تقلب بأن تلفحها النار مرة وتنضجها مرة. وقيل إن تقلب القلوب وجيبها، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال. "ليجزيهم الله أحسن ما عملوا" فذكر الجزاء على الحسنات، ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازي عليها لأمرين: أحدهما: أنه ترغيب، فاقتصر على ذكر الرغبة. الثاني: أنه في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر؛ فكانت صغائرهم مغفورة. "ويزيدهم من فضله" يحتمل وجهين: أحدهما: ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها. الثاني: ما يتفضل به من غير جزاء. "والله يرزق من يشاء بغير حساب" أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه؛ إذ لا نهاية لعطائه. وروي أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد قباء، فحضر عبدالله بن رواحة فقال: يا رسول الله، قد أفلح من بنى المساجد؟ قال: (نعم يا ابن رواحة) قال: وصلى فيها قائما وقاعدا؟ قال: (نعم يا ابن رواحة) قال: ولم يبت لله إلا ساجدا؟ قال: (نعم يا ابن رواحة كف عن السجع فما أعطي عبد شرا من طلاقة في لسانه)؛ ذكره الماوردي.
الآية: 39 {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب}
قوله تعالى: "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة" لما ضرب مثل المؤمن ضرب مثل الكافر. قال مقاتل: نزلت في شيبة بن ربيعة بن عبدشمس، كان يترهب متلمسا للدين، فلما خرج صلى الله عليه وسلم كفر. أبو سهل: في أهل الكتاب. الضحاك: في أعمال الخير للكافر؛ كصلة الرحم ونفع الجيران. والسراب: ما يرى نصف النهار في اشتداد الحر، كالماء في المفاوز يلتصق بالأرض. والآل الذي يكون ضحا كالماء إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء. وسمي السراب سرابا لأنه يسرب أي يجري كالماء. ويقال: سرب الفحل أي مضى وسار في الأرض. ويسمي الآل أيضا، ولا يكون إلا في البرية والحر فيغتر به العطشان. قال الشاعر:
فكنت كمهريق الذي في سقائه لرقراق آل فوق رابية صلد
وقال آخر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودهم لمع سراب بالفلا متألق
وقال امرؤ القيس:
ألم أنض المطي بكل خرق أمق الطول لماع السراب
والقيعة جمع القاع؛ مثل جيرة وجار؛ قاله الهروي وقال أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد؛ حكاه النحاس. والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب. وأصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء، وجمعه قيعان. قال الجوهري: والقاع المستوي من الأرض؛ والجمع أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها؛ والقيعة مثل القاع، وهو أيضا من الواو. وبعضهم يقول: هو جمع. "يحسبه الظمآن" أي العطشان. "ماء" أي يحسب السراب ماء. "حتى إذا جاءه لم يجده شيئا" مما قدره ووجد أرضا لا ماء فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار، يعولون على ثواب أعمالهم فإذا قدموا على الله تعالى وجدوا ثواب أعمالهم محبطة بالكفر؛ أي لم يجدوا شيئا كما لم يجد صاحب السراب إلا أرضا لا ماء فيها؛ فهو يهلك أو بموت. "ووجد الله عنده" أي وجد الله بالمرصاد. "فوفاه حسابه" أي جزاء عمله. قال امرؤ القيس:
فولى مدبرا يهوي حثيثا وأيقن أنه لاقى الحسابا
وقيل: وجد وعد الله بالجزاء على عمله. وقيل: وجد أمر الله عند حشره؛ والمعنى متقارب. وقرئ "بقيعات". المهدوي: ويجوز أن تكون الألف مشبعة من فتحه العين. ويجوز أن تكون مثل رجل عزه وعزهاة، للذي لا يقرب النساء. ويجوز أن يكون جمع قيعة، ويكون على هذا بالتاء في الوصل والوقف. وروي عن نافع وأبي جعفر وشيبة "الظمآن" بغير همز، والمشهور عنهما الهمز؛ يقال: ظمئ يظمأ ظمأ فهو ظمآن، وإن خففت الهمزة قلت الظمان. وقوله: "والذين كفروا" ابتداء "أعمالهم" ابتداء ثان. والكاف من "كسراب" الخبر، والجملة خبر عن "الذين". ويجوز أن تكون "أعمالهم" بدلا من "الذين كفروا"؛ أي وأعمال الذين كفروا كسراب، فحذف المضاف.
الآية: 40 {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}
قوله تعالى: "أو كظلمات في بحر لجي" ضرب تعالى مثلا آخر للكفار أي أعمالهم كسراب بقيعة أو كظلمات. قال الزجاج: إن شئت مثل بالسراب وإن شئت مثل بالظلمات فـ "أو" للإباحة حسبما تقدم من القول في "أو كصيب" [البقرة: 19]. وقال الجرجاني: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضا من أعمالهم وقد قال تعالى: "يخرجهم من الظلمات إلى النور" [البقرة: 257] أي من الكفر إلى الإيمان وقال أبو علي: "أو كظلمات" أو كذي ظلمات ودل على هذا المضاف قوله تعالى: "إذا أخرج يده" فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. قال القشيري: فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجرجاني لكفر الكافر، وعند أبي علي للكافر. وقال ابن عباس في رواية: هذا مثل قلب الكافر. "في بحر لجي" قيل: هو منسوب اللجة، وهو الذي لا يدرك قعره. واللجة معظم الماء، والجمع لجج. والتج البحر إذا تلاطمت أمواجه؛ ومنه ما روي عن النبي أنه قال: (من ركب البحر إذا التج فقد برئت منه الذمة). والتج الأمر إذا عظم واختلط. وقوله تعالى: "حسبته لجة" [النمل: 44] أي ما له عمق. ولججت السفينة أي خاضت اللجة (بضم اللام). فأما اللجة (بفتح اللام) فأصوات الناس يقول: سمعت لجة الناس أي أصواتهم وصخبهم. قال أبو النجم:
في لجة أمسك فلانا عن فل
والتجت الأصوات أي اختلطت وعظمت. "يغشاه موج" أي يعلو ذلك البحر اللجي موج. "من فوقه موج" أي من فوق الموج موج، ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب؛ فيجتمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب. وقيل: المعنى يغشاه موج من بعده موج؛ فيكون المعنى: الموج يتبع بعضه بعضا حتى كأن بعضه فوق بعض، وهو أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب ومن فوق هذا الموج سحاب. وهو أعظم للخوف من وجهين: أحدهما: أنه قد غطى النجوم التي يهتدي بها. الثاني: الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه. "ظلمات بعضها فوق بعض" قرأ ابن محيصن والبزي عن ابن كثير "سحاب ظلمات" بالإضافة والخفض. قنبل "سحاب" منونا "ظلمات" بالجر والتنوين. الباقون بالرفع والتنوين. قال المهدوي: من قرأ "من فوقه سحاب ظلمات" بالإضافة فلأن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات فأضيف إليها؛ كما يقال: سحاب رحمة إذا ارتفع في وقت المطر. ومن قرأ "سحاب ظلمات" جر "ظلمات" على التأكيد لـ"ظلمات" الأولى أو البدل منها. و"سحاب" ابتداء و"من فوقه" الخبر. ومن قرأ "سحاب ظلمات" فظلمات خبر ابتداء محذوف التقدير: هي ظلمات أو هذه ظلمات. قال ابن الأنباري: "من فوقه موج" غير تام؛ لأن قول "من فوقه سحاب" صلة للموج، والوقف على قول "من فوقه سحاب" حسن ثم تبتدئ "ظلمات بعضها فوق بعض" على معنى هي ظلمات بعضها فوق بعض. وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا "ظلمات" على معنى أو كظلمات ظلمات بعضها فوق بعض فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على السحاب. ثم قيل: المراد بهذه الظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة الليل وظلمة البحر؛ فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا ولا كوكبا. وقيل: المراد بالظلمات الشدائد؛ أي شدائد بعضها فوق بعض. وقيل: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجي قلبه، وبالموج فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرين والختم والطبع على قلبه. روي معناه عن ابن عباس وغيره؛ أي لا يبصر بقلبه نور الإيمان، كما أن صاحب الظلمات في البحر إذا أخرج يده لم يكد يراها. وقال أبيّ ابن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات في النار وبئس المصير.
قوله تعالى: "إذا أخرج يده" يعني الناظر. "لم يكد يراها" أي من شدة الظلمات. قال الزجاج وأبو عبيدة: المعنى لم يرها ولم يكد؛ وهو معنى قول الحسن. ومعنى "لم يكد" لم يطمع أن يراها. وقال الفراء: كاد صلة، أي لم يرها؛ كما تقول: ما كدت أعرفه. وقال المبرد: يعني لم يرها إلا من بعد الجهد؛ كما تقول: ما كدت أراك من الظلمة، وقد رآه بعد يأس وشدة. وقيل: معناه قرب من الرؤية ولم ير كما يقال: كاد العروس يكون أميرا وكاد النعام يطير وكاد المنتعل يكون راكبا. النحاس: وأصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها، فإذا لم يقارب رؤيتها فلم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة. "ومن لم يجعل الله له نورا" يهتدي به حين أظلمت عليه الأمور. وقال ابن عباس: أي من لم يجعل الله له دينا فما له من دين، ومن لم يجعل الله له نورا يمشي به يوم القيامة لم يهتد إلى الجنة؛ كقوله تعالى: "ويجعل لكم نورا تمشون به" [الحديد: 28]. وقال الزجاج: ذلك في الدنيا والمعنى: من لم يهده الله لم يهتد. وقال مقاتل بن سليمان: نزلت في عتبة بن ربيعة، كان يلتمس الدين في الجاهلية، ولبس المسوح، ثم كفر في الإسلام. الماوردي: في شيبة بن ربيعة، وكان يترهب في الجاهلية ويلبس الصوف ويطلب الدين، فكفر في الإسلام.
قلت: وكلاهما مات كافرا، فلا يبعد أن يكونا هما المراد بالآية وغيرهما. وقد قيل: نزلت في عبدالله بن جحش، وكان أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة ثم تنصر بعد إسلامه. وذكر الثعلبي: وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلقني من نور وخلق أبا بكر من نوري وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر وخلق المؤمنين من أمتي من نور عمر وخلق المؤمنات من أمتي من نور عائشة فمن لم يحبني ويحب أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور). فنزلت "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور".
الآيتان: 41 - 42 {ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون، ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير}
قوله تعالى: "ألم تر أن الله" لما ذكر وضوح الآيات زاد في الحجة والبينات، وبين أن مصنوعاته تدل بتغييرها على أن لها صانعا قادرا على الكمال؛ فله بعثة الرسل، وقد بعثهم وأيدهم بالمعجزات، وأخبروا بالجنة والنار. والخطاب في "ألم تر" للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: ألم تعلم؛ والمراد الكل. "أن الله يسبح له من في السماوات" من الملائكة. "والأرض" من الجن والإنس. "والطير صافات" قال مجاهد وغيره: الصلاة للإنسان والتسبيح لما سواه من الخلق. وقال سفيان: للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود. وقيل: إن ضربها بأجنحتها صلاة، وإن أصواتها تسبيح؛ حكاه النقاش. وقيل: التسبيح ها هنا ما يرى في المخلوق من أثر الصنعة. ومعنى "صافات" مصطفات الأجنحة في الهواء. وقرأ الجماعة "والطير" بالرفع عطفا على "من". وقال الزجاج: ويجوز "والطير" بمعنى مع الطير. قال النحاس: وسمعته يخبر - قمتُ وزيدا - بمعنى مع زيد. قال: وهو أجود من الرفع. قال: فإن قلت قمت أنا وزيد، كان الأجود الرفع، ويجوز النصب. "كل قد علم صلاته وتسبيحه" يجوز أن يكون المعنى: كل قد علم الله صلاته وتسبيحه؛ أي علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح. ولهذا قال: "والله عليم بما يفعلون" أي لا يخفي عليه طاعتهم ولا تسبيحهم. ومن هذه الجهة يجوز نصب "كل" عند البصريين والكوفيين بإضمار فعل يفسره ما بعده. وقد قيل: المعنى قد علم كل مصل ومسبح صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلفه. وقرأ بعض الناس "كل قد علم صلاته وتسبيحه" غير مسمى الفاعل. وذكر بعض النحويين أن بعضهم قرأ "كل قد عُلم صلاته وتسبيحه"؛ فيجوز أن يكون تقديره: كل قد علمه الله صلاته وتسبيحه. ويجوز أن يكون المعنى: كل قد علم غيره صلاته وتسبيحه أي صلاة نفسه؛ فيكون التعليم الذي هو الإفهام والمراد الخصوص؛ لأن من الناس من لم يعلم. ويجوز أن يكون المعنى كل قد استدل منه المستدل، فعبر عن الاستدلال بالتعليم قاله المهدوي. والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر تأكيدا؛ كقول "يعلم السر والنجوى". والصلاة قد تسمى تسبيحا؛ قاله القشيري.
الآيتان: 43 - 44 {ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}
قوله تعالى: "ألم تر أن الله يزجي سحابا" ذكر من حججه شيئا آخر؛ أي ألم تر بعيني قلبك. "يزجي سحابا" أي يسوق إلى حيث يشاء. والريح تزجي السحاب، والبقرة تزجي ولدها أي تسوقه. ومنه زجا الخراج يزجو زجاء - ممدودا - إذا تيسرت جبايته. وقال النابغة:
إني أتيتك من أهلي ومن وطني أزجي حشاشة نفس ما بها رمق
وقال أيضا:
أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد
"ثم يؤلف بينه" أي يجمعه عند انتشائه؛ ليقوى ويتصل ويكثف. والأصل في التأليف الهمز، تقول: تألف. وقرئ "يؤلف" بالواو تخفيفا. والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع؛ ولهذا قال: "وينشئ السحاب" [الرعد: 12]. و"بين" لا يقع إلا لاثنين فصاعدا، فكيف جاز بينه؟ فالجواب أن "بينه" هنا لجماعة السحاب؛ كما تقول: الشجر قد جلست بينه لأنه جمع، وذكر الكناية على اللفظ؛ قال معناه الفراء. وجواب آخر: وهو أن يكون السحاب واحدا فجاز أن يقال بينه لأنه مشتمل على قطع كثيرة، كما قال:
... بين الدخول فحومل
فأوقع "بين" على الدخول، وهو واحد لاشتماله على مواضع. وكما تقول: ما زلت أدور بين الكوفة لأن الكوفة أماكن كثيرة؛ قال الزجاج وغيره. وزعم الأصمعي أن هذا لا يجوز وكان يروى:
... بين الدخول وحومل
"ثم يجعله ركاما" أي مجتمعا، يركب بعضه بعضا؛ كقوله تعالى: "وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم" [الطور: 44]. والركم جمع الشيء؛ يقال منه: ركم الشيء يركمه ركما إذا جمعه وألقى بعضه على بعض. وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع. والركمة الطين المجموع. والركام: الرمل المتراكم. وكذلك السحاب وما أشبهه. ومرتكم الطريق - بفتح الكاف - جادته. "فترى الودق يخرج من خلاله" في "الودق" قولان: أحدهما: أنه البرق؛ قاله أبو الأشهب العقيلي. ومنه قول الشاعر:
أثرنا عجاجة وخرجن منها خروج الودق من خلل السحاب
الثاني: أنه المطر؛ قاله الجمهور. ومنه قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
وقال امرؤ القيس:
فدمعهما ودق وسح وديمة وسكب وتوكاف وتنهملان
يقال: ودقت السحابة فهي وادقة. وودق المطر يدق ودقا؛ أي قطر. وودقت إليه دنوت منه. وفي المثل: ودق العير إلى الماء؛ أي دنا منه. يضرب لمن خضع للشيء لحرصه عليه. والموضع مودق. وودقت به ودقا استأنست به. ويقال لذات الحافر إذا أرادت الفحل: ودقت تدق ودقا، وأودقت واستودقت. وأتان ودوق وفرس ودوق، ووديق أيضا، وبها وداق. والوديقة: شدة الحر. وخلال جمع خلل؛ مثل الجبل والجبال، وهي فرجه ومخارج القطر منه. وقد تقدم في "البقرة" أن كعبا قال: إن السحاب غربال المطر؛ لو لا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو العالية "من خلله" على التوحيد. وتقول: كنت في خلال القوم؛أي وسطهم. "وينزل من السماء من جبال فيها من برد" قيل: خلق الله في السماء جبالا من برد، فهو ينزل منها بردا؛ وفيه إضمار، أي ينزل من جبال البرد بردا، فالمفعول محذوف. ونحو هذا قول الفراء؛ لأن التقدير عنده: من جبال برد؛ فالجبال عنده هي البرد. و"برد" في موضع خفض؛ ويجب أن يكون على قوله المعنى: من جبال برد فيها، بتنوين جبال. وقيل: إن الله تعالى خلق في السماء جبالا فيها برد؛ فيكون التقدير: وينزل من السماء من جبال فيها برد. و"من" صلة. وقيل: المعنى وينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من برد إلى الأرض؛ "فمن" الأولى للغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض لأن البرد بعض الجبال، والثالثة لتبيين الجنس لأن جنس تلك الجبال من البرد. وقال الأخفش: إن "من" في "الجبال" و"برد" زائدة في الموضعين، والجبال والبرد في موضع نصب؛ أي ينزل من السماء بردا يكون كالجبال. والله أعلم. "فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء" فيكون إصابته نقمة وصرفه نعمة. وقد مضى في "البقرة". و[الرعد] أن من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عوفي مما يكون في ذلك الرعد. "يكاد سنا برقه" أي ضوء ذلك البرق الذي في السحاب "يذهب بالأبصار" من شدة بريقه وضوئه. قال الشماخ:
وما كادت إذا رفعت سناها ليبصر ضوءها إلا البصير
وقال امرؤ القيس:
يضيء سناه أو مصابيح راهب أهان السليط في الذبال المفتل
فالسنا - مقصور - ضوء البرق. والسنا أيضا نبت يتداوى به. والسناء من الرفعة ممدود. وكذلك قرأ طلحة بن مصرف "سناء" بالمد على المبالغة من شدة الضوء والصفاء؛ فأطلق عليه اسم الشرف. قال المبرد: السنا - مقصور - وهو اللمع؛ فإذا كان من الشرف والحسب فهو ممدود وأصلهما واحد وهو الالتماع. وقرأ طلحة بن مصرف "سناء برقه" قال أحمد بن يحيى: وهو جمع برقة. قال النحاس: البرقة المقدار من البرق، والبرقة المرة الواحدة. وقرأ الجحدري وابن القعقاع "يُذهب بالأبصار" بضم الياء وكسر الهاء؛ من الإذهاب، وتكون الباء في "بالأبصار" صلة زائدة. الباقون "يذهب بالأبصار" بفتح الياء والهاء، والباء للإلصاق. والبرق دليل على تكاثف السحاب، وبشير بقوة المطر، ومحذر من نزول الصواعق.
قوله تعالى: "يقلب الله الليل والنهار" قيل: تقليبهما أن يأتي بأحدهما بعد الآخر. وقيل: تقليبهما نقصهما وزيادتهما. وقيل: هو تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى؛ وكذا الليل مرة بظلمة السحاب ومرة بضوء القمر؛ قاله النقاش. وقيل: تقليبهما باختلاف ما تقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر. "إن في ذلك" أي في الذي ذكرناه من تقلب الليل والنهار، وأحوال المطر والصيف والشتاء "لعبرة" أي اعتبارا "لأولي الأبصار" أي لأهل البصائر من خلقي.