تفسير الطبري تفسير الصفحة 355 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 355
356
354
 الآية : 36-38
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ * رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فِـي بُـيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرفَعَ الله نور السموات والأرض, مَثَل نورِه كمشكاة فـيها مصبـاح, فـي بـيوت أذن الله أن ترفع. كما:
19793ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الـمِشكاة: التـي فـيها الفتـيـلة التـي فـيها الـمصبـاح. قال: الـمصابـيح فـي بـيوت أذن الله أن ترفع.
قال أبو جعفر: قد يحتـمل أن تكون «من» فـي صلة «توقد», فـيكون الـمعنى: تُوقَد من شجرة مبـاركة ذلك الـمصبـاح فـي بـيوت أذن الله أن ترفع. وعنى بـالبـيوت: الـمساجد.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي ذلك, فقال بعضهم بـالذي قلنا فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:
19794ـ حدثنا ابن حميد, ونصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ, قالا: حدثنا حَكّام, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن أبـي صالـح فـي قول الله: فِـي بُـيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال: الـمساجد.
19795ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: فِـي بُـيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وهي الـمساجد تُكْرَم, ونهي عن اللغو فـيها.
19796ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فـي قوله: فِـي بُـيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ يعنـي: كل مسجد يصلّـى فـيه, جامع أو غيره.
19797ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قالـي: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: فِـي بُـيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال: مساجد تُبْنـي.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19798ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن, فـي قوله: فِـي بُـيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال: فـي الـمساجد.
19799ـ قال: أخبرنا معمر, عن أبـي إسحاق, عن عمرو بن ميـمون, قال: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: الـمساجد: بـيوت الله, وإنه حقّ علـى الله أن يُكْرِم من زاره فـيها.
19800ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن سالـم بن عمر, فـي قوله: فِـي بُـيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال: هي الـمساجد.
19801ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فِـي بُـيُوتٍ أَذِن الله أنْ تُرْفَعَ قال: الـمساجد.
وقال آخرون: عَنَى بذلك البـيوتَ كلّها. ذكر من قال ذلك:
19802ـ حدثنا ابن حميد, ونصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ, قالا: حدثنا حَكّام بن سلـم, عن إسماعيـل بن أبـي خالد, عن عكرمة: فِـي بُـيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال: هي البـيوت كلها.
وإنـما اخترنا القول الذي اخترناه فـي ذلك, لدلالة قوله: يُسَبّحُ لَهُ فِـيها بـالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِـجارَةٌ وَلا بَـيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ علـى أنها بـيوت بنـيت للصلاة فلذلك قلنا هي الـمساجد.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: أَذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ فقال بعضهم: معناه: أذن الله أن تُبْنَـي. ذكر من قال ذلك:
19803ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عصام, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ قال: تُبْنَى.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد مثله.
وقال آخرون: معناه: أذن الله أن تعظّم. ذكر من قال ذلك:
19804ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن, فـي قوله: أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ يقول: أن تعظّم لذكره.
وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب القول الذي قاله مـجاهد, وهو أن معناه: أذن الله أن ترفع بناء, كما قال جلّ ثناؤهِ: وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ وذلك أن ذلك هو الأغلب من معنى الرفع فـي البـيوت والأبنـية.
وقوله: وَيُذْكَرَ فِـيها اسْمُهُ يقول: وأَذِن لعبـاده أن يذكروا اسمه فـيها. وقد قـيـل: عُنِـي به أنه أذن لهم بتلاوة القرآن فـيها. ذكر من قال ذلك:
19805ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: ثم قال: وَيُذْكَرَ فِـيها اسْمُهُ يقول: يُتْلَـى فـيها كتابه.
وهذا القول قريب الـمعنى مـما قلناه فـي ذلك, لأن تلاوة كتاب الله من معانـي ذكر الله. غير أن الذي قلنا به أظهر معنـيـيه, فلذلك اخترنا القول به.
وقوله: يُسَبّحُ لَهُ فِـيها بـالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِـجارَةٌ وَلا بَـيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: يُسَبّحُ لَهُ, فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: يُسَبّحُ لَهُ بضم الـياء وكسر البـاء, بـمعنى: يصلّـي له فـيها رجال, وبجعل «يسبّح» فعلاً ل«الرجال» وخبرا عنهم, وترفع به «الرجال». سوى عاصم وابن عامر, فإنهما قرءا ذلك: «يُسَبّحُ له» بضمّ الـياء وفتـح البـاء, علـى ما لـم يسمّ فـاعله, ثم يرفعان «الرجال» بخبر ثان مضمر, كأنهما أرادا: يسبّح الله فـي البـيوت التـي أذن الله أن ترفع, فسبّح له رجال فرفعا «الرجال» بفعل مضمر.
والقراءة التـي هي أولاهما بـالصواب: قراءة من كسر البـاء, وجعله خبرا ل«الرجال» وفعلاً لهم. وإنـما كان الاختـيار رفع الرجال بـمضمر من الفعل لو كان الـخبر عن البـيوت لا يتـمّ إلا بقوله: يُسَبّحُ لَهُ فِـيها, فأما والـخبر عنها دون ذلك تام, فلا وجه لتوجيه قوله: يُسَبّحُ لَهُ إلـى غيره, أيْ غير الـخبر عن الرجال. وعُنِـي بقوله: يُسَبّحُ لَهُ فِـيها بـالغُدُوّ والاَصَالِ يصلّـي له فـي هذه البـيوت بـالغُدُوات والعَشيات رجال.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19806ـ حدثنـي علـيّ بن الـحسن الأزديّ, قال: حدثنا الـمَعافـى بن عمران, عن سفـيان, عن عَمّار الدّهنـي, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, قال: كلّ تسبـيح فـي القرآن فهو صلاة.
19807ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: ثم قال: يُسَبّحُ لَهُ فِـيها بـالغُدُوّ والاَصَالِ يقول: يصلـى له فـيها بـالغداة والعشيّ. يعنـي بـالغدوّ: صلاة الغَداة, ويعنـي بـالاَصال: صلاة العصر. وهما أوّل ما افترض الله من الصلاة, فأحبّ أن يذكرهما ويذكر بهما عبـادته.
19808ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الـحسن: يُسَبّحُ لَهُ فِـيها بـالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ أذِن الله أن تُبْنى, فـيصلّـى فـيها بـالغدوّ والاَصال.
19809ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول فـي قوله: يُسَبّحُ لَهُ فِـيها بـالغُدُوّ والاَصَالِ يعنـي الصلاة الـمفروضة.
وقوله: رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِـجارَةٌ وَلا بَـيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ يقول تعالـى ذكره: لا يشغل هؤلاء الرجال الذي يصلّون فـي هذه الـمساجد التـي أذن الله أن ترفع عن ذكر الله فـيها وإقام الصلاة, تـجارة ولا بـيع. كما:
19810ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن حعفر, قال: حدثنا شعبة, عن سعيد بن أبـي الـحسن, عن رجل نسي اسمه فـي هذه الآية: فِـي بُـيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِـيها بـالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِـجارَةٌ وَلا بَـيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ... إلـى قوله: والأبْصَارِ قال: هم قوم فـي تـجاراتهم وبـيوعهم, لا تلهيهم تـجاراتهم ولا بـيوعهم عن ذكر الله.
19811ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا جعفر بن سلـيـمان, عن عمرو بن دينار, عن سالـم بن عبد الله: أنه نظر إلـى قوم من السّوق قاموا وتركوا ببـاعاتهم إلـى الصلاة, فقال هؤلاء الذين ذكر الله فـي كتابه: لا تُلْهِيهِمْ تِـجارَةٌ وَلا بَـيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ... الآية.
19812ـ قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, عن سيار, عمن حدثه, عن ابن مسعود, نـحو ذلك.
حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هُشَيـم, عن سيار, قال: حُدثت عن ابن مسعود, أنه رأى قوما من أهل السوق حيثُ نودي بـالصلاة تركوا بِـياعاتهم ونهضوا إلـى الصلاة, فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله فـي كتابه: لا تُلْهِيهِمْ تِـجارَةٌ وَلا بَـيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ.
وقال بعضهم: معنـي ذلك: لا تُلْهِيهِمْ تِـجارَةٌ وَلا بَـيْعٌ عن صلاتهم الـمفروضة علـيهم. ذكر من قال ذلك:
19813ـ حدّثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قال: ثم قال: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِـجارَةٌ وَلا بَـيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ يقول: عن الصلاة الـمكتوبة.
وقوله: وَإقامِ الصّلاةِ يقول: ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها فـي أوقاتها.
وبنـحو قولنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19814ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا مـحمد, قال: حدثنا عوف, عن سعيد بن أبـي الـحسن, عن رجل نسي عوف اسمه فـي: وَإقامِ الصّلاةِ قال: يقومون للصلاة عند مواقـيت الصلاة.
فإن قال قائل: أو لـيس قوله: وَإقامِ الصّلاةِ مصدرا من قوله أقمت؟ قـيـل: بلـى. فإن قال: أو لـيس الـمصدر منه إقامة, كالـمصدر من آجرت إجارة؟ قـيـل: بلـى. فإن قال: وكيف قال: وَإقامِ الصّلاةِ, أو تـجيز أن نقول: أقمت إقاما؟ قـيـل: ولكنـي أجيز: أعجبنـي إقام الصلاة. فإن قـيـل: وما وجه جواز ذلك؟ قـيـل: إن الـحكم فـي أقمت إذا جعل منه مصدر أن يقال إقواما, كما يقال: أقعدت فلانا إقعادا وأعطيته إعطاء ولكن العرب لـما سكنت الواو من «أقمت» فسقطت لاجتـماعها وهي ساكنة والـميـم ووهي ساكنة, بنَوا الـمصدر علـى ذلك إذ جاءت الواو ساكنة قبل ألف الإفعال وهي ساكنة, فسقطت الأولـى منهما, فأبدلوا منها هاء فـي آخر الـحرف, كالتكثـير للـحرف, كما فعلوا ذلك فـي قولهم: وَعَدته عِدَة, ووزنته زِنة إذ ذهبت الواو من أوّله, كثّروه من آخره بـالهاء فلـما أضيفت الإقامة إلـى الصلاة, حذفوا الزيادة التـي كانوا زادوها للتكثـير, وهي الهاء فـي آخرها لأن الـخافض وما خفض عندهم كالـحرف الواحد, فـاستغنَوا بـالـمضاف إلـيه من الـحرف الزائد. وقد قال بعضهم فـي نظير ذلك:
إنّ الـخَـلِـيطَ أجَدّوا البَـيْنَ فـانْـجَرَدواوأخْـلَفوكَ عِدَ الأمْرِ الّذِي وَعَدُوا
يريد: عدة الأمر. فأسقط الهاء من العدة لـما أضافها, فكذلك ذلك فـي إقام الصلاة.
وقوله: وَإيتاءِ الزّكاةِ قـيـل: معناه: وإخلاص الطاعة لله. ذكر من قال ذلك:
19815ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وأقِـيـمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ وكان يأمر أهله بـالصلاة والزكاة. وقوله: وأوْصَانِـي بـالصّلاةِ والزّكاةِ, وقوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللّهُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ أبَدا, وقوله: وَحَنانا مِنْ لَدُنّا وَزَكاةً ونـحو هذا فـي القرآن, قال: يعنـي بـالزكاة: طاعة الله والإخرص.
وقوله: يخافُونَ يَوْما تَتَقَلّبُ فِـيهِ القُلُوبُ والأبْصَارُ يقول: يخافون يوما تتقلب فـيه القلوب من هوله, بـين طمع بـالنـجاة وحذر بـالهلاك. والأبصار: أيّ ناحية يؤخذ بهم: أذات الـيـمين أم ذات الشمال؟ ومن أين يُؤْتون كتبهم: أمن قِبَل الأيـمان أو من قبل الشمائل؟ وذلك يوم القـيامة.) كما:
19816ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الله بن عياش, قال زيد بن أسلـم, فـي قول الله: فِـي بُـيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ... إلـى قوله: تَتَقَلّبُ فِـيهِ القُلُوبُ والأبْصَارُ يوم القـيامة.
وقوله: لـيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أحْسَنَ ما عَمِلُوا يقول: فعلوا ذلك, يعنـي أنهم لـم تلههم تـجارة ولا بـيع عن ذكر الله, وأقاموا الصلاة وآتَوا الزكاة وأطاعوا ربهم, مخافة عذابه يوم القـيامة كي يثـيبهم الله يوم القـيامة بأحسن أعمالهم التـي عملوها فـي الدنـيا, ويزيدهم علـى ثوابه إياهم علـى أحسن أعمالهم التـي عملوها فـي الدنـيا, من فضله, فـيُفْضِل علـيهم عن عنده بـما أحبّ من كرامته لهم. وقوله: وَاللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بغيرِ حِسابٍ يقول تعالـى ذكره: يتفضل علـى من شاء وأراد من طَوْله وكرامته, مـما لـم يستـحقه بعمله ولـم يبلغه بطاعته بغير حساب يقول: بغير مـحاسبة علـى ما بذل له وأعطاه.
الآية : 39
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَآءً حَتّىَ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }.
وهذا مَثَل ضربه الله لأعمال أهل الكفر به, فقال: والذين جحدوا توحيد ربهم وكذّبوا بهذا القرآن وبـمن جاء به, مَثَل أعمالهم التـي عملوها كسراب يقول: مثلُ سَراب, والسراب: ما لَصِق بـالأرض, وذلك يكون نصف النهار وحين يشتدّ الـحرّ. والاَل ما كان كالـماء بـين السماء والأرض, وذلك يكون أوّل النهار, يرفع كلّ شيء ضُحًى. وقوله: بقـيَعَةٍ وهي جمع قاع, كالـجِيرة جمع جار, والقاع: ما انبسط من الأرض واتسع, وفـيه يكون السراب. وقوله: يَحْسَبُهُ الظّمآنُ ماءٌ يقول: يظن العطشان من الناس السراب, ماء. حتـى إذا جاءه والهاء من ذكر السّراب, والـمعنى: حتـى إذا جاء الظمآن السراب ملتـمسا ماء يستغيث به من عطشه لـم يَجِدْهُ شَيْئا يقول: لـم يجد السراب شيئا, فكذلك الكافرون بـالله من أعمالهم التـي عملوها فـي غُرور يحسبون أَنها منـجيتهم عند الله من عذابه, كما حسب الظمآن الذي رأى السراب فظنه ماء يُرْويه من ظمئه حتـى إذا هلك وصار إلـى الـحاجة إلـى عمله الذي كان يرى أنه نافعه عند الله, لـم يجده ينفعه شيئا لأنه كان عمله علـى كفر بـالله, ووجد الله هذا الكافر عند هلاكه بـالـمِرصاد, فوفّـاه يوم القـيامة حساب أعماله التـي عملها فـي الدنـيا وجازاه بها جزاءه الذي يستـحقه علـيه منه.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل: حتـى إذَا جاءَهُ لَـمْ يَجِدْهُ شَيْئا فإن لـم يكن السراب شيئا, فعلام أدخـلت الهاء فـي قوله: حتـى إذَا جاءَهُ؟ قـيـل: إنه شيء يُرَى من بعيد كالضبـاب الذي يرى كثـيفـا من بعيد والهبـاء, فإذا قرب منه الـمرء رقّ وصار كالهواء. وقد يحتـمل أن يكون معناه: حتـى إذا جاء موضع السراب لـم يجد السراب شيئا, فـاكتفـى بذكر السراب من ذكر موضعه. وَاللّهُ سَرِيعُ الْـحِسابِ يقول: والله سريع حسابه لأنه تعالـى ذكره لا يحتاج إلـى عقد أصابع ولا حفظ بقلب, ولكنه عالـم بذلك كله قبل أن يعمله العبد ومن بعد ما عمله.
وبنـحو الذي قلنا فـي معنى ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19817ـ حدثنـي عبد الأعلـى بن واصل, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا أبو جعفر الرازيّ, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية, عن أُبـيّ بن كعب, قال: ثم ضرب مثلاً آخر, فقال: وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالُهُمْ كَسَرابٍ بقِـيعَةٍ قال: وكذلك الكافر يجيء يوم القـيامة وهو يَحْسِب أن عند الله خيرا, فلا يجد, فـيُدخـله النار.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر الرازيّ, عن أبـي العالـية, عن أُبـيّ بن كعب بنـحوه.
19818ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: أعمالُهُمْ كَسَرابٍ بقِـيعَةٍ يقول: الأرض الـمستوية.
19819ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِـيعَةٍ... إلـى قوله: وَاللّهُ سَرِيعُ الْـحِساب قال: هو مَثَل ضربه الله لرجل عطش فـاشتدّ عطشه, فرأى سرابـا فحسبه ماء, فطلبه وظنّ أنه قد قدر علـيه, حتـى أتاه, فلـما أتاه لـم يجده شيئا, وقُبض عند ذلك. يقول: الكافر كذلك, يحسب أن عمله مُغْنٍ عنه أو نافعه شيئا, ولا يكون آتـيا علـى شيء حتـى يأتـيه الـموت, فإذا أتاه الـموت لـم يجد عمله أغنى عنه شيئا ولـم ينفعه إلا كما نفع العطشانَ الـمشتدّ إلـى السّراب.
19820ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: كَسَرَابٍ بِقِـيعَةٍ قال: بقاعٍ من الأرض, والسراب: عَمَلُه. زاد الـحارث فـي حديثه عن الـحسن: والسراب عمل الكافر. إذَا جاءَهُ لَـمْ يَجِدْهُ شَيْئا. إتـيانه إياه: موته وفراقه الدنـيا. وَوَجَد اللّهَ عند فراقه الدنـيا, فَوَفّـاهُ حِسَابَهُ.
19821ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قَتادة, فـي قوله: كَسَرابٍ بِقِـيعَةٍ قال: بقِـيعة من الأرض. يَحْسَبُهُ الظّمانُ ماءً: هو مثل ضربه الله لعمل الكافر, يقول: يحسب أنه فـي شيء كما يحسب هذا السراب ماء. حتـى إذَا جاءَهُ لَـمْ يَجدْهُ شَيْئا, وكذلك الكافر إذا مات لـم يجد عمله شيئا وَوَجَدَ اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّـاهُ حِسابَهُ.
19822ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا... إلـى قوله: وَوَجَدَ اللّهُ عِنْدَهُ قال: هذا مَثَل ضربه الله للذين كفروا أعمْالُهُمْ كَسَراب بِقِـيعَةٍ قد رأى السراب, ووثق بنفسه أنه ماء, فلـما جاءه لـم يجده شيئا. قال: وهؤلاء ظنوا أن أعمالهم صالـحة, وأنهم سَيَرْجعون منها إلـى خير, فلـم يرجعوا منها إلا كما رجع صاحب السراب فهذا مَثَلٌ ضربه الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }.
وهذا مَثَل آخر ضربه الله لأعمال الكفـار, يقول تعالـى ذكره: ومَثَل أعمال هؤلاء الكفـار فـي أنها عُمِلت علـى خطأ وفساد وضلالة وحيرة من عمالها فـيها وعلـى غير هدى, مَثَل ظلـمات فـي بحر لُـجّىّ. ونسب البحر إلـى اللّـجة, وصفـا له بأنه عميق كثـير الـماء. ولـجُة البحر: معظمه. يَغْشاهُ مَوْج يقول: يغشى البحر موج, مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ: يقول: من فوق الـموج موج آخر يغشاه, مِنْ فَوْقِهِ سحَابٌ: يقول: من فوق الـموج الثانـي الذي يغشى الـموج الأوّل سحاب. فجعل الظلـمات مثلاً لأعمالهم, والبحر اللـجىّ مثلاً لقلب الكافر, يقول: عَمِل بنـية قلب قد غَمَره الـجهل وتغشّته الضلال والـحَيرة كما يغشى هذا البحر اللّـجيّ موج من فوقه موج من فوقه سحاب, فكذلك قلب هذا الكافر الذي مَثَل عمله مَثَل هذه الظلـمات, يغشاه الـجهل بـالله, بأن الله ختـم علـيه فلا يعقل عن الله, وعلـى سمعه فلا يسمع مواعظ الله, وجعل علـى بصره غشاوة فلا يبصر به حجج الله, فتلك ظلـمات بعضها فوق بعض.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19823ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: حدثنا أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: أوْ كَظُلُـماتٍ فِـي بَحْرٍ لُـجّىّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سحَابٌ... إلـى قوله: مِنْ نُورٍ قال: يعنـي بـالظلـمات: الأعمال, وبـالبحر اللّـجيّ: قلب الإنسان. قال: يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب, قال: ظلـمات بعضها فوق بعض يعنـي بذلك الغشاوة التـي علـى القلب والسمع والبصر.
وهو كقوله: خَتَـمَ اللّهُ عَلـى قُلُوبِهِمْ... الآية, وكقوله: أفَرأيْتَ مَنِ اتّـخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ... إلـى قوله: أفَلا تَذَكّرُونَ.
19824ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله: أوْ كَظُلُـماتٍ فِـي بَحْرِ لـجّيّ عميق, وهو مثل ضربه الله للكافر يعمل فـي ضلالة وحيرة, قال: ظُلُـماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْض. ورُوِيِ عن أُبـيّ بن كعب, ما:
19825ـ حدثنـي عبد الأعلـى بن واصل, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا أبو جعفر الرازيّ, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, عن أبـيّ بن كعب, فـي قوله: أوْ كُظُلُـماتٍ فِـي بَحْرٍ لُـجّىَ يَغْشاهُ مَوْجٌ... الآية, قال: ضرب مثلاً آخر للكافر, فقال: أوْ كُظُلُـماتٍ فِـي بَحْرٍ لُـجّيّ... الآية, قال: فهو يتقلب فـي خمس من الظّلَـم: فكلامه ظلـمة, وعمله ظلـمة, ومَدخـله ظلـمة, ومَخرجه ظلـمة, ومصيره إلـى الظلـمات يوم القـيامة إلـى النار.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر الرازيّ, عن أبـي الربـيع, عن أبـي العالـية, عن أُبـيّ بن كعب, بنـحوه.
19826ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: أو كَظُلُـماتٍ فِـي بَحْرِ لُـجّىّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ... إلـى قوله: ظُلُـماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ قال: شرّ بعضه فوق بعض.
وقوله: إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لَـمْ يَكَدْ يَرَاها يقول: إذا أخرج الناظر يده فـي هذه الظلـمات, لـم يكد يراها.
فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: لـم يكد يراها, مع شدّة هذه الظلـمة التـي وصف, وقد علـمت أن قول القائل: لـم أكد أرى فلانا, إنـما هو إثبـات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدّة, ومن دون الظلـمات التـي وصف فـي هذه الآية ما لا يرى الناظر يده إذا أخرجها فـيه, فكيف فـيها؟ قـيـل: فـي ذلك أقوال نذكرها, ثم نـخبر بـالصواب من ذلك. أحدها: أن يكون معنى الكلام: إذا أخرج يده رائيا لها لـم يكد يراها أي لـم يعرف من أين يراها. والثانـي: أن يكون معناه: إذا أخرج يده لـم يرها, ويكون قوله: لَـمْ يَكَدْ فـي دخوله فـي الكلام, نظير دخول الظنّ فـيـما هو يقـين من الكلام, كقوله: وَظَنّوا ما لَهُمْ مِنْ مَـحِيصٍ ونـحو ذلك. والثالث: أن يكون قد رآها بعد بطء وجهد, كما يقول القائل لاَخر: ما كدت أراك من الظلـمة, وقد رآه, ولكن بعد إياس وشدة. وهذا القول الثالث أظهر معانـي الكلـمة من جهة ما تستعمل العرب «أكاد» فـي كلامها. والقول الاَخر الذي قلنا إنه يتوجه إلـى أنه بـمعنى لـم يرها, قول أوضح من جهة التفسير, وهو أخفـى معانـيه. وإنـما حسُنَ ذلك فـي هذا الـموضع, أعنـي أن يقول: لـم يكد يراها مع شدة الظلـمة التـي ذكر لأن ذلك مَثَل لا خبر عن كائن كان. وَمَنْ لَـمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورا يقول: من من لـم يرزقه الله إيـمانا وهدى من الضلالة ومعرفة بكتابه, فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ يقول: فما له من إيـمان وهدى ومعرفة بكتابه.
الآية : 40
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَآءً حَتّىَ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }.
وهذا مَثَل ضربه الله لأعمال أهل الكفر به, فقال: والذين جحدوا توحيد ربهم وكذّبوا بهذا القرآن وبـمن جاء به, مَثَل أعمالهم التـي عملوها كسراب يقول: مثلُ سَراب, والسراب: ما لَصِق بـالأرض, وذلك يكون نصف النهار وحين يشتدّ الـحرّ. والاَل ما كان كالـماء بـين السماء والأرض, وذلك يكون أوّل النهار, يرفع كلّ شيء ضُحًى. وقوله: بقـيَعَةٍ وهي جمع قاع, كالـجِيرة جمع جار, والقاع: ما انبسط من الأرض واتسع, وفـيه يكون السراب. وقوله: يَحْسَبُهُ الظّمآنُ ماءٌ يقول: يظن العطشان من الناس السراب, ماء. حتـى إذا جاءه والهاء من ذكر السّراب, والـمعنى: حتـى إذا جاء الظمآن السراب ملتـمسا ماء يستغيث به من عطشه لـم يَجِدْهُ شَيْئا يقول: لـم يجد السراب شيئا, فكذلك الكافرون بـالله من أعمالهم التـي عملوها فـي غُرور يحسبون أَنها منـجيتهم عند الله من عذابه, كما حسب الظمآن الذي رأى السراب فظنه ماء يُرْويه من ظمئه حتـى إذا هلك وصار إلـى الـحاجة إلـى عمله الذي كان يرى أنه نافعه عند الله, لـم يجده ينفعه شيئا لأنه كان عمله علـى كفر بـالله, ووجد الله هذا الكافر عند هلاكه بـالـمِرصاد, فوفّـاه يوم القـيامة حساب أعماله التـي عملها فـي الدنـيا وجازاه بها جزاءه الذي يستـحقه علـيه منه.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل: حتـى إذَا جاءَهُ لَـمْ يَجِدْهُ شَيْئا فإن لـم يكن السراب شيئا, فعلام أدخـلت الهاء فـي قوله: حتـى إذَا جاءَهُ؟ قـيـل: إنه شيء يُرَى من بعيد كالضبـاب الذي يرى كثـيفـا من بعيد والهبـاء, فإذا قرب منه الـمرء رقّ وصار كالهواء. وقد يحتـمل أن يكون معناه: حتـى إذا جاء موضع السراب لـم يجد السراب شيئا, فـاكتفـى بذكر السراب من ذكر موضعه. وَاللّهُ سَرِيعُ الْـحِسابِ يقول: والله سريع حسابه لأنه تعالـى ذكره لا يحتاج إلـى عقد أصابع ولا حفظ بقلب, ولكنه عالـم بذلك كله قبل أن يعمله العبد ومن بعد ما عمله.
وبنـحو الذي قلنا فـي معنى ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19817ـ حدثنـي عبد الأعلـى بن واصل, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا أبو جعفر الرازيّ, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية, عن أُبـيّ بن كعب, قال: ثم ضرب مثلاً آخر, فقال: وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالُهُمْ كَسَرابٍ بقِـيعَةٍ قال: وكذلك الكافر يجيء يوم القـيامة وهو يَحْسِب أن عند الله خيرا, فلا يجد, فـيُدخـله النار.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر الرازيّ, عن أبـي العالـية, عن أُبـيّ بن كعب بنـحوه.
19818ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: أعمالُهُمْ كَسَرابٍ بقِـيعَةٍ يقول: الأرض الـمستوية.
19819ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِـيعَةٍ... إلـى قوله: وَاللّهُ سَرِيعُ الْـحِساب قال: هو مَثَل ضربه الله لرجل عطش فـاشتدّ عطشه, فرأى سرابـا فحسبه ماء, فطلبه وظنّ أنه قد قدر علـيه, حتـى أتاه, فلـما أتاه لـم يجده شيئا, وقُبض عند ذلك. يقول: الكافر كذلك, يحسب أن عمله مُغْنٍ عنه أو نافعه شيئا, ولا يكون آتـيا علـى شيء حتـى يأتـيه الـموت, فإذا أتاه الـموت لـم يجد عمله أغنى عنه شيئا ولـم ينفعه إلا كما نفع العطشانَ الـمشتدّ إلـى السّراب.
19820ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: كَسَرَابٍ بِقِـيعَةٍ قال: بقاعٍ من الأرض, والسراب: عَمَلُه. زاد الـحارث فـي حديثه عن الـحسن: والسراب عمل الكافر. إذَا جاءَهُ لَـمْ يَجِدْهُ شَيْئا. إتـيانه إياه: موته وفراقه الدنـيا. وَوَجَد اللّهَ عند فراقه الدنـيا, فَوَفّـاهُ حِسَابَهُ.
19821ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قَتادة, فـي قوله: كَسَرابٍ بِقِـيعَةٍ قال: بقِـيعة من الأرض. يَحْسَبُهُ الظّمانُ ماءً: هو مثل ضربه الله لعمل الكافر, يقول: يحسب أنه فـي شيء كما يحسب هذا السراب ماء. حتـى إذَا جاءَهُ لَـمْ يَجدْهُ شَيْئا, وكذلك الكافر إذا مات لـم يجد عمله شيئا وَوَجَدَ اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّـاهُ حِسابَهُ.
19822ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا... إلـى قوله: وَوَجَدَ اللّهُ عِنْدَهُ قال: هذا مَثَل ضربه الله للذين كفروا أعمْالُهُمْ كَسَراب بِقِـيعَةٍ قد رأى السراب, ووثق بنفسه أنه ماء, فلـما جاءه لـم يجده شيئا. قال: وهؤلاء ظنوا أن أعمالهم صالـحة, وأنهم سَيَرْجعون منها إلـى خير, فلـم يرجعوا منها إلا كما رجع صاحب السراب فهذا مَثَلٌ ضربه الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }.
وهذا مَثَل آخر ضربه الله لأعمال الكفـار, يقول تعالـى ذكره: ومَثَل أعمال هؤلاء الكفـار فـي أنها عُمِلت علـى خطأ وفساد وضلالة وحيرة من عمالها فـيها وعلـى غير هدى, مَثَل ظلـمات فـي بحر لُـجّىّ. ونسب البحر إلـى اللّـجة, وصفـا له بأنه عميق كثـير الـماء. ولـجُة البحر: معظمه. يَغْشاهُ مَوْج يقول: يغشى البحر موج, مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ: يقول: من فوق الـموج موج آخر يغشاه, مِنْ فَوْقِهِ سحَابٌ: يقول: من فوق الـموج الثانـي الذي يغشى الـموج الأوّل سحاب. فجعل الظلـمات مثلاً لأعمالهم, والبحر اللـجىّ مثلاً لقلب الكافر, يقول: عَمِل بنـية قلب قد غَمَره الـجهل وتغشّته الضلال والـحَيرة كما يغشى هذا البحر اللّـجيّ موج من فوقه موج من فوقه سحاب, فكذلك قلب هذا الكافر الذي مَثَل عمله مَثَل هذه الظلـمات, يغشاه الـجهل بـالله, بأن الله ختـم علـيه فلا يعقل عن الله, وعلـى سمعه فلا يسمع مواعظ الله, وجعل علـى بصره غشاوة فلا يبصر به حجج الله, فتلك ظلـمات بعضها فوق بعض.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19823ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: حدثنا أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: أوْ كَظُلُـماتٍ فِـي بَحْرٍ لُـجّىّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سحَابٌ... إلـى قوله: مِنْ نُورٍ قال: يعنـي بـالظلـمات: الأعمال, وبـالبحر اللّـجيّ: قلب الإنسان. قال: يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب, قال: ظلـمات بعضها فوق بعض يعنـي بذلك الغشاوة التـي علـى القلب والسمع والبصر.
وهو كقوله: خَتَـمَ اللّهُ عَلـى قُلُوبِهِمْ... الآية, وكقوله: أفَرأيْتَ مَنِ اتّـخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ... إلـى قوله: أفَلا تَذَكّرُونَ.
19824ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله: أوْ كَظُلُـماتٍ فِـي بَحْرِ لـجّيّ عميق, وهو مثل ضربه الله للكافر يعمل فـي ضلالة وحيرة, قال: ظُلُـماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْض. ورُوِيِ عن أُبـيّ بن كعب, ما:
19825ـ حدثنـي عبد الأعلـى بن واصل, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا أبو جعفر الرازيّ, عن الربـيع, عن أبـي العالـية, عن أبـيّ بن كعب, فـي قوله: أوْ كُظُلُـماتٍ فِـي بَحْرٍ لُـجّىَ يَغْشاهُ مَوْجٌ... الآية, قال: ضرب مثلاً آخر للكافر, فقال: أوْ كُظُلُـماتٍ فِـي بَحْرٍ لُـجّيّ... الآية, قال: فهو يتقلب فـي خمس من الظّلَـم: فكلامه ظلـمة, وعمله ظلـمة, ومَدخـله ظلـمة, ومَخرجه ظلـمة, ومصيره إلـى الظلـمات يوم القـيامة إلـى النار.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي جعفر الرازيّ, عن أبـي الربـيع, عن أبـي العالـية, عن أُبـيّ بن كعب, بنـحوه.
19826ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: أو كَظُلُـماتٍ فِـي بَحْرِ لُـجّىّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ... إلـى قوله: ظُلُـماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ قال: شرّ بعضه فوق بعض.
وقوله: إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لَـمْ يَكَدْ يَرَاها يقول: إذا أخرج الناظر يده فـي هذه الظلـمات, لـم يكد يراها.
فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: لـم يكد يراها, مع شدّة هذه الظلـمة التـي وصف, وقد علـمت أن قول القائل: لـم أكد أرى فلانا, إنـما هو إثبـات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدّة, ومن دون الظلـمات التـي وصف فـي هذه الآية ما لا يرى الناظر يده إذا أخرجها فـيه, فكيف فـيها؟ قـيـل: فـي ذلك أقوال نذكرها, ثم نـخبر بـالصواب من ذلك. أحدها: أن يكون معنى الكلام: إذا أخرج يده رائيا لها لـم يكد يراها أي لـم يعرف من أين يراها. والثانـي: أن يكون معناه: إذا أخرج يده لـم يرها, ويكون قوله: لَـمْ يَكَدْ فـي دخوله فـي الكلام, نظير دخول الظنّ فـيـما هو يقـين من الكلام, كقوله: وَظَنّوا ما لَهُمْ مِنْ مَـحِيصٍ ونـحو ذلك. والثالث: أن يكون قد رآها بعد بطء وجهد, كما يقول القائل لاَخر: ما كدت أراك من الظلـمة, وقد رآه, ولكن بعد إياس وشدة. وهذا القول الثالث أظهر معانـي الكلـمة من جهة ما تستعمل العرب «أكاد» فـي كلامها. والقول الاَخر الذي قلنا إنه يتوجه إلـى أنه بـمعنى لـم يرها, قول أوضح من جهة التفسير, وهو أخفـى معانـيه. وإنـما حسُنَ ذلك فـي هذا الـموضع, أعنـي أن يقول: لـم يكد يراها مع شدة الظلـمة التـي ذكر لأن ذلك مَثَل لا خبر عن كائن كان. وَمَنْ لَـمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورا يقول: من من لـم يرزقه الله إيـمانا وهدى من الضلالة ومعرفة بكتابه, فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ يقول: فما له من إيـمان وهدى ومعرفة بكتابه.
الآية : 41-42
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطّيْرُ صَآفّاتٍ كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَىَ اللّهِ الْمَصِيرُ }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ألـم تنظر يا مـحمد بعين قلبك فتعلـم أن الله يصلـي له من فـي السموات والأرض من مَلَك وإنس وجنّ. والطّيْرُ صَافّـاتٍ فـي الهواء أيضا تسبح له. كُلّ قَدْ عَلِـمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِـيحَه والتسبـيح عندك صلاة, فـيقال: قـيـل: إن الصلاة لبنـي آدم والتسبـيح لغيرهم من الـخـلق, ولذلك فصّل فـيـما بـين ذلك.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19827ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: ثنـي عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: يُسّبّحُ لَهُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ والطّيْرُ صَافّـات كُلّ قَدْ عَلِـمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِـيحَهُ قال: والصلاة للإنسان, والتسبـيح لـما سوى ذلك من الـخـلق.
19828ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: قوله: أَلَـمْ تَرَ أنّ اللّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ والطّيْرُ صَافّـاتٍ كُلّ قَدْ عَلِـمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِـيحَهُ قال: صلاته: للناس, وتسبـيحه: عامة لكلّ شيء.
ويتوجه قوله: كُلّ قَدْ عَلِـمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِـيحَهُ لوجوه: أحدها: أن تكون الهاء التـي فـي قوله: صَلاتَهُ وَتَسْبِـيحَهُ من ذكر «كلّ», فـيكون تأويـل الكلام: كل مصلّ ومسبح منهم قد علـم الله صلاته وتسبـيحه, ويكون «الكلّ» حينئذٍ مرتفعا بـالعائد من ذكره فـي قوله: كُلّ قَدْ عَلِـمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِـيحَهُ, وهو الهاء التـي فـي الصلاة.
والوجه الاَخر: أن تكون الهاء فـي الصلاة والتسبـيح أيضا ل«الكلّ», ويكون «الكلّ» مرتفعا بـالعائد من ذكره علـيه فـي: عَلِـمَ, ويكون: عَلِـمَ فعلاً ل«الكلّ», فـيكون تأويـل الكلام حينئذٍ: قد علـم كلّ مصلّ ومسبح منهم صلاة نفسه وتسبـيحه الذي كُلّفه وأُلْزمه.
والوجه الاَخر: أن تكون الهاء فـي الصلاة والتسبـيح من ذكر الله, والعلـم ل«الكل», فـيكون تأويـل الكلام حينئذٍ: قد علـم كلّ مسبّح ومُصَلّ صلاة الله التـي كلّفه إياها, وتسبـيحه. وأظهر هذه الـمعانـي الثلاثة علـى هذا الكلام الـمعنى الأوّل, وهو أن يكون الـمعنى: كلّ مصلّ منهم ومسبّح, قد علـم الله صلاته وتسبـيحه.
وقوله: وَاللّهُ عَلِـيـمٌ بِـما يَفْعَلُونَ يقول تعالـى ذكره: والله ذو علـم بـما يفعل كلّ مصلّ ومسبح منهم, لا يخفـى علـيه شيء من أفعالهم, طاعتها ومعصيتها, مـحيط بذلك كله, وهو مـجازيهم علـى ذلك كله.
وقوله: وَلِلّهِ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول جلّ ثناؤه: ولله سلطان السموات والأرض وملكها, دون كلّ من هو دونه من سلطان وملِك, فإياه فـارهبوا أيها الناس, وإلـيه فـارغبوا لا إلـى غيره, فإن بـيده خزائن السموات والأرض, لا يخشى بعطاياكم منها فقرا. وَإلـى اللّهِ الـمَصِيرُ: يقول: وأنتـم إلـيه بعد وفـاتكم, مصيركم ومَعادكم, فـيوفـيكم أجور أعمالكم التـي عملتـموها فـي الدنـيا, فأحسنوا عبـادته, واجتهدوا فـي طاعته, وقدّموا لأنفسكم الصالـحاتِ من الأعمال.)