تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 355 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 355

354

وهو ما ذكرناه 37- "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" هذه الجملة صفة لرجال: أي لا تشغلهم التجارة والبيع عن الذكر، وخص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الذكر. وقال الفراء: التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على بدنه، وخص قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع بعذها، وبمثل قول الفراء. قال الواقدي: فقال التجار هم الجلاب المسافرون والباعة هم المقيمون، ومعنى عن ذكر الله: هو ما تقدم في أوله "ويذكر فيها اسمه" وقيل المراد الأذان، وقيل عن ذكره بأسمائه الحسنى: أي يوحدونه ويمجدونه. وقيل المراد عن الصلاة، ويرده ذكر الصلاة بعد الذكر هنا. والمراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، وحذفت التاء لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث كلمات جمعها الشاعر في قوله: ثلاثـــة تـحذف تاآتهــا مضافــة عنـد جمــع النحــاة وهي إذا شئت أبو عذرها وليت شعري وإقام الصلاة وأنشد الفراء في الاستشهاد للحذف المذكور في هذه الآية قول الشاعر: إن الخليط أجدوا البين وانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا أي عدة الأمر، وفي هذا البيت دليل على أن الحذف مع الإضافة لا يختص بتلك الثلاثة المواضع. قال الزجاج: وإنما حذفت الهاء لأنه يقال أقمت الصلاة إقامة، وكان الأصل إقواماً، ولكن قلبت الواو ألفاً فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي أقمت الصلاة إقاماً فأدخلت الهاء عوضاً عن المحذوف وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة، وهذا إجماع من النحويين انتهى. وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة أن يحمل إقام الصلاة على تأديتها في أوقاتها فراراً من التكرار ولا ملجىء إلى ذلك، بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدمنا. والمراد بالزكاة المذكورة هي المفروضة، وقيل المراد بالزكاة طاعة الله والإخلاص، إذ ليس لكل مؤمن مال "يخافون يوماً" أي يوم القيامة، وانتصابه على أنه مفعول للفعل لا ظرف له، ثم وصف هذا اليوم بقوله: "تتقلب فيه القلوب والأبصار" أي تضطرب وتتحول، قيل المراد بتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها ولا تخرج، والمراد بتقلب الأبصار هو أن تصير عمياء بعد أن كانت مبصرة. وقيل المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، وأما تقلب الأبصار فهو نظرها من أي ناحية يؤخذون، وإلى أي ناحية يصيرون. وقيل المراد تحول قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين، ومثله قوله: "فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" فما كان يراه في الدنيا غياً يراه في الآخرة رشداً. وقيل المراد التقلب على جمر جهنم، وقيل غير ذلك.
38-"ليجزيهم الله أحسن ما عملوا" متعلق بمحذوف: أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة "ليجزيهم الله أحسن ما عملوا": أي أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعدهم من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله وإلى سبعمائة ضعف، وقيل المراد بما في هذه الآية ما يتفضل سبحانه به عليهم زيادة على ما يستحقونه، والأول أولى لقوله: "ويزيدهم من فضله" فإن المراد به التفضل عليهم بما فوق الجزاء الموعود به "والله يرزق من يشاء بغير حساب" أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، أو أن عطاءه سبحانه لا نهاية له،والجملة مقررة لما سبقها من الوعد بالزيادة. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "الله نور السموات والأرض" قال: يدبر الأمر فيهما نجومهما وقمرهما. وأخرج الفريابي عنه في قوله: "الله نور السموات والأرض مثل نوره" الذي أعطاه المؤمن "كمشكاة" وقال في تفسير: "زيتونة لا شرقية ولا غربية" إنها التي في سفح جبل لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور" فذلك مثل قلب المؤمن نور على نور. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن الشعبي قال: في قراءة أبي بن كعب مثل نور المؤمن كمشكاة. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال: يقول مثل نور من آمن بالله كمشكاة، وهي الكوة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "مثل نوره" قال: هي خطأ من الكاتب هو أعظم من أن يكون مثل نوره المشكاة، قال: مثل نور المؤمن كمشكاة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً "الله نور السموات والأرض" قال: هادي أهل السموات والأرض "مثل نوره" مثل هداه في قلب المؤمن "كمشكاة" يقول موضع الفتيلة كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدى ونوراً على نور، وفي إسناده علي بن أبي طلحة، وفيه مقال. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي بن كعب "الله نور السموات والأرض مثل نوره" قال: هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله، فقال: "نور السموات والأرض مثل نوره" فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن، فقال مثل نور من آمن به، فكان أبي بن كعب يقرأها مثل نور من آمن به فهو المؤمن، جعل الإيمان والقرآن في صدره "كمشكاة" قال: فصدر المؤمن المشكاة "فيها مصباح المصباح" النور، وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره "في زجاجة" و "الزجاجة" قلبه "كأنها كوكب دري" يقول كوكب مضيء "يوقد من شجرة مباركة" والشجرة المباركة: أصل المبارك الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له "زيتونة لا شرقية ولا غربية" قال: فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت، فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن. وأخرج ابن أبي جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن اليهود قالوا لمحمد: كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره فقال: "الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة" المشكاة كوة البيت فيها مصباح، وهو السراج يكون في الزجاجة، وهو مثل ضربه الله لطاعته، فسمى طاعته نوراً، ثم سماها أنواعاً شتى "لا شرقية ولا غربية" قال: وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت، وذلك أجود الزيت "يكاد زيتها يضيء" بغير نار "نور على نور" يعني بذلك إيمان العبد وعلمه "يهدي الله لنوره من يشاء" وهو مثل المؤمن. وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر في قوله: "كمشكاة فيها مصباح" قال: المشكاة في جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي في قلبه "يوقد من شجرة مباركة" الشجرة إبراهيم "زيتونة لا شرقية ولا غربية" لا يهودية ولا نصرانية، ثم قرأ "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن شمر بن عطية قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار، فقال حدثني عن قوله الله: "الله نور السموات والأرض مثل نوره" قال: مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة قال: المشكاة الكوة ضربها الله مثلاً لقمة فيها مصباح، والمصباح قلبه "المصباح في زجاجة" والزجاجة صدره "كأنها كوكب دري" شبه صدر محمد صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدري، ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال: " يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء " قال: يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي، كما يكاد الزيت أن يضيء ولو لم تمسسه نار. وأقول: إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدم عن أبي بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما تقتضيه لغة العرب، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجوز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية، ولكن هؤلاء الصحابة ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة، ولهذا قال ابن عباس: هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة كما قدمنا عنه، ولا وجه لهذا الاستبعاد. فإنا قد قدمنا في أول البحث ما يرفع الإشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه وأبلغ أسلوب، وعلى ما تقتضيه لغة العرب ويفيده كلام الفصحاء، فلا وجه للعدول عن الظاهر، لا من كتاب ولا من سنة ولا من لغة. وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدمنا، فإن كان هو سبب عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية، فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به في مثل هذا. وقد نبهناك فيما سبق أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيراً، فلا تقوم به الحجة ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي، نعم إن صحت قراءة أبي بن كعب، كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر، وتكون كالزيادة المبينة للمراد، وإن لم تصح فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة وغيرهم ممن قبلهم وممن بعدهم هو المتعين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "في بيوت أذن الله أن ترفع" قال: هي المساجد تكرم وينهى عن اللغو فيها، ويذكر فيها اسم الله، يتلى فيها كتابه "يسبح له فيها بالغدو والآصال" صلاة الغداة وصلاة العصر، وهما أول ما فرض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما ويذكر بهما عباده. وقد ورد في تعظيم المساجد وتنزيهها عن القذر واللغو وتنظيفها وتطبيقها أحاديث ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها إلا غواص في قوله: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" قال: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن ابن سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" قال: هم الذي يبتغون من فضل الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية، قال: كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون، فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم وقاموا إلى المسجد فصلوا. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في الشعب عنه في الآية، قال: ضرب الله هذا المثل قوله: "كمشكاة" لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً عن ذكر الله قال: عن شهود الصلاة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر. أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم، ثم دخلوا المسجد، فقال ابن عمر فيهم نزلت: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه رأى ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم، فقال: هؤلاء الذي قال الله فيهم: "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله". وأخرج هناد بن السري في الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب ومحمد بن نصر في الصلاة عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي ينفذهم البصر، فيقوم مناد فينادي: أين الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يعود فينادي: أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادى: ليقم الذين كانوا لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يقوم سائر الناس فيحاسبون". وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر مرفوعاً نحوه.
لما ذكر سبحانه حال المؤمنين وما يؤول إليه أمرهم ذكر مثلاً للكافرين فقال: 39- "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة" المراد بالأعمال هنا: هي الأعمال التي من أعمال الخير كالصدقة والصلة وفك العاني وعمارة البيت وسقاية الحاج، والسراب: ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حر النهار على صورة الماء في ظن من يراه، وسمي سراباً لأنه يسرب: أي يجري كالماء، إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين السماء والأرض، قال امرؤ القيس: ألم أنض المطي بكل خرق طويل الطول لماع السراب وقال آخر: فلما كففنا الحرب كانت عهودهم كلمع سراب بالفلا متألق والقيعة حمع قاع: وهو الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء، مثل جيرة وجال، قاله الهروي. وقال أبو عبيد: قيعة وقاع واحد. قال الجوهري: القاع المستوي من الأرض، والجمع: أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها، والقيعة مثل القاع. قال: وبعضهم يقول هو جمع " يحسبه الظمآن ماء " هذه صفة ثانية لسراب، والظمآن العطشان، وتخصيص الحسبان بالظمآن مع كون الريان يراه كذلك، لتحقيق التشبيه المبني على الطمع "حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً" أي إذا جاء العطشان ذلك الذي حسبه ماء لم يجده شيئاً مما قدره وحسبه ولا من غيره، والمعنى: أن الكفار يعولون على أعمالهم التي يظنونها من الخير ويطمعون في ثوابها، فإذا قدموا على الله سبحانه لم يجدوا منها شيئاً، لأن الكفر أحبطها ومحا أثرها، والمراد بقوله: "حتى إذا جاءه" مع أنه ليس بشيء أنه جاء الموضع الذي كان يحبسه فيه. ثم ذكر سبحانه ما يدل على زيادة حسرة الكفرة، وأنه لم يكن قصارى أمرهم مجرد الخيبة كصاحب السراب فقال: "ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب" أي وجد الله بالمرصاد فوفاه حسابه: أي جزاء عمله، كما قال امرؤ القيس: فولى مدبراً يهوي حثيثاً وأيقن أنه لاقى الحسابا وقيل وجد وعد الله بالجزاء على عمله، وقيل وجد أمر الله عند حشره، وقيل وجد حكمه وقضاءه عند المجيء، وقيل عند العمل والمعنى متقارب. وقرأ مسلمة بن محارب بقيعاه بهاء مدورة كما يقال رجل عزهاه. وروي عنه أنه قرأ بقيعات بتاء مبسوطة. قيل يجوز أن تكون الألف متولدة من إشباع العين على الأول، وجمع قيعة على الثاني. وروي عن نافع وأبي جعفر وشيبة أنهم قرأوا الظمآن بغير همز، والمشهور عنهم الهمز.
40- "أو كظلمات" معطوف على كسراب، ضرب الله مثلاً آخر لأعمال الكفار كما أنه تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات، فهي أيضاً تشبه الظلمات. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار إن مثلت بما يوجد فمثلها كمثل السراب، وإن مثلت بما يرى فهي كهذه الظلمات التي وصف. قال أيضاً: إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل بهذه الظلمات، فأو للإباحة حسبما تقدم من القول في "أو كصيب" قال الجرجاني الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، والثانية في ذكر كفرهم، ونسق الكفر على أعمالهم لأنه أيضاً من أعمالهم. قال القشيري: فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجرجاني لكفر الكفار "في بحر لجي" اللجة معظم الماء، والجمع لجج وهو الذي لا يدرك لعمقه. ثم وصف سبحانه هذا البحر بصفة أخرى فقال: "يغشاه موج" أي يعلو هذا البحر موج فيستره ويغطيه بالكلية، ثم وصف هذا الموج بقوله: "من فوقه سحاب" أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب، فيجتمع حينئذ عليهم خوف البحر وأمواجه والسحاب المرتفعة فوقه. وقيل إن المعنى: يغشاه موج من بعده موج، فيكون الموج يتبع بعضه بعضاً حتى كأن بعضه فوق بعض، والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف شدة، لأنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر، ثم إذا أمطرت تلك السحاب وهبت الريح المعتادة في الغالب عند نزول المطر تكاثفت الهموم وترادفت الغموم، وبلغ الأمر إلى الغاية التي ليس وراءها غاية، ولهذا قال سبحانه: "ظلمات بعضها فوق بعض" أي هي ظلمات، أو هذه ظلمات متكاتفة مترادفة، ففي هذه الجملة بيان لشدة الأمر وتعاظمه وقرأ ابن محيصن والبزي "سحاب ظلمات" بإضافة سحاب إلى ظلمات، ووجه الإضافة أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة. وقرأ الباقون بالقطع والتنوين. ومن غرائب التفاسير أنه سبحانه أراد بالظلمات: أعمال الكافر، وبالبحر اللجي: قلبه: وبالموج فوق الموج: ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة. والسحاب الرين والختم والطبع على قلبه، وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكان بعيد. ثم بالغ سبحانه في هذه الظلمات المذكورة بقوله: "إذا أخرج يده لم يكد يراها" وفاعل أخرج ضمير يعود على مقدر دل عليه المقام: أي إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من ابتلي بها. قال الزجاج وأبو عبيدة: المعنى لم يرها ولم يكد. وقال الفراء: إن كاد زائدة. والمعنى: إذا أخرج يده لم يرها، كما تقول ما كدت أعرفه. وقال المبرد: يعني لم يرها إلا من بعد الجهد. قال النحاس، أصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها، فإذن لم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة، وجملة "ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور" مقررة لما قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة، والمعنى: ومن لم يجعل الله له هداية فما له من هداية. قال الزجاج: ذلك في الدنيا، والمعنى: من لم يهده الله لم يهتد، وقيل المعنى من لم يجعل له نوراً يمشي به يوم القيامة فما له من نور يهتدي به إلى الجنة.
41-"ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض" قد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان، والخطاب لكل من له أهلية النظر، أو للرسول صلى الله عليه وسلم وقد علمه من جهة الاستدلال، ومعنى "ألم تر" ألم نعلم، والهمزة للتقرير: أي قد علمت علماً يقينياً شبيهاً بالمشاهدة، والتسبيح التنزيه في ذاته وأفعاله وصفاته عن كل ما يليق به، ومعنى "من في السماوات والأرض" من هو مستقر فيهما من العقلاء وغيرهم، وتسبيح غير العقلاء ما يسمع من أصواتها ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها. وقيل إن التسبيح هنا هو الصلاة من العقلاء والتنزيه من غيرهم. قد قيل إن هذه الآية تشمل الحيوانات والجمادات، وأن أثار الصنعة الإلهية في الجمادات ناطق ومخبر باتصافه سبحانه بصفات الجلال والكمال وتنزهه عن صفات النقص، وفي ذلك تقريع للكفار وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له يعبدونها كعبادته عز وجل. وبالجملة فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق بكل نوع من أنواع المخلوقات على طريقة عموم المجاز. قرأ الجمهور "والطير صافات" بالرفع للطير والنصب لصافات على أن الطير معطوفة على من، وصافات منتصب على الحال. وقرأ الأعرج "والطير" بالنصب على المفعول معه، وصافات حال أيضاً. قال الزجاج وهي أجود من الرفع. وقرأ الحسن وخارجه عن نافع "والطير صافات" برفعهما على الابتداء والخبر، ومفعول صافات محذوف: أي أجنحتها، وخص الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السماوات والأرض لعدم استمرار استقرارها في الأرض وكثرة لبثها وهو ليس من السماء ولا من الأرض، ولما فيها من الصنعة البديعة التي تقدر بها تارة على الطيران، وتارة على المشي بخلاف غيرها من الحيوانات، وذكر حالة من حالات الطير، وهي كون صدور التسبيح منها حال كونها صافات لأجنحتها، لأن هذه الحالة هي أغرب أحوالها، فإن استقرارها في الهواء مسبحة من دون تحريك لأجنحتها ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كل شيء. ثم زاد في البيان فقال: "كل قد علم صلاته وتسبيحه" أي كل واحد مما ذكر، والضمير في علم يرجع إلى كل. والمعنى: أن كل واحد من هذه المسبحات لله قد علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح. وقيل المعنى: أن كل مصلي ومسبح قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه. قيل والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر للتأكيد، والصلاة قد تسمى تسبيحاً. وقيل المراد بالصلاة هنا الدعاء: أي كل واحد قد علم دعاءه وتسبيحه. وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا روية، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه وعظيم شأنه، كونه جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها غير جاهلة له "والله عليم بما يفعلون" هذه الجملة مقررة لما قبلها: أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم، ويجوز أن يكون الضمير في علم لله سبحانه: أي كل واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته وتسبيحه إياه والأول أرجح لاتفاق القراء على رفع كل، ولو كان الضمير في علم لله لكان نصب كل أولى. وذكر بعض المفسرين أنها قراءة طائفة من القراء علم على البناء للمفعول.
ثم بين سبحانه أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال، 42-"ولله ملك السماوات والأرض" أي له لا لغيره "وإليه المصير" لا إلى غيره، والمصير: الرجوع بعد الموت. وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في غير موضع. ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر من الآثار العلوية.
فقال: 43- "ألم تر أن الله يزجي سحاباً" الإزجاء: السوق قليلاً قليلاً، ومنه قول النابغة: إني أتيتك من أهلي ومن وطني أزجي حشاشة نفس ما بها رمق وقوله أيضاً: أسرت عليه من الجوزاء سارية يزجي السماك عليه جامد البرد والمعنى: أنه سبحانه يسوق السحاب سوقاً رقيقاً إلى حيث يشاء "ثم يؤلف بينه" أي بين أجزائه، فيضم بعضه إلى بعض ويجمعه بعد تفرقه ليقوى ويتصل ويكثف، والأصل في التأليف الهمز. وقرأ ورش وقالون عن نافع " يولج " بالواو تخفيفاً، والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع، ولهذا دخلت بين عليه لأن أجزاءه في حكم المفردات له. قال الفراء: إن الضمير في بينه راجع إلى جملة السحاب، كما تقول الشجر قد جلست بينه، لأنه جمع وأفرد الضمير باعتبار اللفظ "ثم يجعله ركاماً" أي متراكماً يركب بعضه بعضاً. والركم: جمع الشيء، يقال ركم الشيء يركمه ركماً: أي جمعه وألقى بعضه على بعض وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع، والركمة: الطين المجموع، والركام: الرمل المتراكب "فترى الودق يخرج من خلاله" الودق: المطر عند جمهور المفسرين، ومنه قول الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها وقال امرؤ القيس: فدفعهما ودق وسح وديمة وسكب وتوكاف وتهملان يقال ودقت السحاب فهي وادقة ودق المطر يدق: أي قطر يقطر، وقيل إن الودق البرق، ومنه قول الشاعر: أثرن عجاجة وخرجن منها خروج الودق من خلل السحاب والأول أولى. ومعنى "من خلاله" من فتوقه التي هي مخارج القطر، وجملة "يخرج من خلاله" في محل نصب على الحال، لأن الرؤية هنا هي البصرية. وقرأ ابن عباس وابن مسعود والضحاك وأبو العالية من خلله على الإفراد. وقد وقع الخلاف في خلال، هل هو مفرد كحجاب؟ أو جمع كجبال؟ "وينزل من السماء من جبال فيها من برد" المراد بقوله من سماء: من عال، لأن السماء قد تطلق على جهة العلو، ومعنى من برد للتبعيض، وهو مفعول ينزل. وقيل إن المفعول محذوف، والتقدير: ينزل من جبال فيها من برد برداً. وقيل إن من في من برد زائدة، والتقدير: ينزل من السماء من جبال فيها برد. وقيل إن في الكلام مضافاً محذوفاً: أي ينزل من السماء قدر الجبال، أو مثل جبال من برد إلى الأرض. قال الأخفش: إن من في من جبال وفي من برد زائدة في الموضعين والجبال والبرد في موضع نصب: أي ينزل من السماء برداً يكون كالجبال. والحاصل أن من في من السماء لابتداء الغاية بلا خلاف و من في من جبال فيها ثلاثة أوجه: الأول لابتداء الغاية فتكون هي ومجرورها بدلاً من الأولى بإعادة الخافض بدل اشتمال. الثاني أنها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الإنزال، كأنه قال: وينزل بعض جبال. الثالث أنها زائدة: أي ينزل من السماء جبالاً. وأما من في من برد ففيها أربعة أوجه: الثلاثة المتقدمة. والرابع أنها لبيان الجنس، فيكون التقدير على هذا الوجه: وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد. قال الزجاج: معنى الآية: وينزل من السماء من جبال بردل فيها، كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد: أي خاتم حديد في يدي، لأنك إذا قلت هذا خاتم من حديد وخاتم حديد كان المعنى واحداً انتهى. وعلى هذا يكون من برد في موضع جر صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم ويكون مفعول ينزل من جبال، ويلزم من كون الجبال برداً أن يكون المنزل برداً. وذكر أبو البقاء أن التقدير: شيئاً من جبال، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة "فيصيب به من يشاء" أي يصيب بما ينزل من البرد من يشاء أن يصيبه من عباده " ويصرفه عن من يشاء " منهم، أو يصيب به مال من يشاء ويصرفه عن مال من يشاء، وقد تقدم الكلام عن مثل هذا في البقرة " يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار " السنا الضوء: أي يكاد ضوء البرق الذي في السحاب يذهب بالأبصار من شدة بريقه وزيادة لمعانه، وهو كقوله: "يكاد البرق يخطف أبصارهم" قال الشماخ: وما كادت إذا رفعت سناها ليبصر ضوءها إلا البصير وقال امرؤ القيس: يضيء سناه أو مصابيح راهب أهان السليط في الذبال المفتل فالسنا بالقصر ضوء البرق وبالمد الرفعة، كذا قال المبرد وغيره. وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب سناء برقه بالمد على المبالغة في شدة الضوء والصفاء، فأطلق عليه اسم الرفعة والشرف. وقرأ طلحة ويحيى أيضاً بضم الباء من برقه وفتح الراء. قال أحمد بن يحيى ثعلب: وهي على هذه القراءة جمع برق. وقال النحاس: البرقة المقدار من البرق والبرقة الواحدة. وقرأ الجحدري وابن القعقاع "يذهب" بضم الياء وكسر الهاء من الإذهاب. وقرأ الباقون "سنا" بالقصر و "برقه" بفتح الباء وسكون الراء و "يذهب" بفتح الياء والهاء من الذهاب، وخطأ قراءة الجحدري وابن القعقاع الأخفش وأبو حاتم. ومعنى ذهاب البرق بالأبصار: خطفه إياها من شدة الإضاءة وزيادة البريق، والباء في الأبصار على قراءة الجمهور للإلصاق، وعلى قراءة غيرهم زائدة.