تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 360 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 360


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً * ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاًّنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـوٰةً وَلاَ نُشُوراً * وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوۤاْ أَسَـٰطِيرُ ٱلاٌّوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاٌّرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيم}
{تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً }. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه {نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ}، وهو هذا القرءان العظيم {عَلَىٰ عَبْدِهِ}، وهو محمّد صلى الله عليه وسلم؛ لأجل أن يكون {لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِير}، أي: منذرًا، وقد قدّمنا مرارًا أن الإنذار هو الإعلام المقترن بتهديد وتخويف، وأن كل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارًا، كما أوضحناه في أول سورة «الأعراف».
وهذه الآية الكريمة تدلّ على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للأسود والأحمر والجنّ والإنس، لدخول الجميع في قوله تعالىٰ: {لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِير}.
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعً}، وقوله تعالىٰ: {وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ}، أي: أرسلناك للناس كافّة، أي: جميعًا. وقوله تعالىٰ: {قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ لاِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ}، وقوله تعالىٰ: {ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ وَٱلاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ فِيهَا فَـٰكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلاْكْمَامِ وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}، وقوله تعالىٰ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُواْ يأَبَانَا قَوْمُنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـٰباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدّقاً لّمَابَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * مُّسْتَقِيمٍ * يٰقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ ٱللَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى ٱلاْرْضَ}. وفي معنى قوله تعالىٰ: {تَبَـٰرَكَ} أقوال لأهل العلم، قال القرطبي: {تَبَـٰرَكَ} اختلف في معناه، فقال الفراء: هو في العربية بمعنى: تقدّس وهما للعظمة، وقال الزجاج: {تَبَـٰرَكَ}: تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خير، وقيل: {تَبَـٰرَكَ}: تعالىٰ، وقيل: تعالىٰ عطاؤه، أي: زاد وكثر. وقيل المعنى:
دام وثبت إنعامه. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق من برك الشىء إذا ثبت ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي: دام وثبت، انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
وقال أبو حيان في «البحر المحيط»: قال ابن عباس: {تَبَـٰرَكَ}: لم يزل، ولا يزول. وقال الخليل: تمجد. وقال الضحاك: تعظّم. وحكى الأصمعي: تباركت عليكم من قول عربي صعد رابية، فقال ذلك لأصحابه، أي: تعاليت وارتفعت. ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات. وقال ابن عباس أيضًا، والحسن، والنخعي: هو من البركة، وهو التزايد في الخير من قبله. فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر، وعلى هذا يكون صفة فعل، انتهى محل الغرض من كلام أبي حيان.
قال مقيّده ــ عفا اللَّه عنه وغفر له ــ : الأظهر في معنى {تَبَـٰرَكَ} بحسب اللغة التي نزل بها القرءان أنه تفاعل من البركة، كما جزم به ابن جرير الطبري، وعليه فمعنى {تَبَـٰرَكَ}: تكاثرت البركات والخيرات من قبله، وذلك يستلزم عظمته وتقدّسه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله؛ لأن من تأتي من قبله البركات والخيرات ويدرّ الأرزاق على الناس هو وحده المتفرّد بالعظمة، واستحقاق إخلاص العبادة له، والذي لا تأتي من قبله بركة ولا خير، ولا رزق كالأصنام، وسائر المعبودات من دون اللَّه لا يصحّ أن يعبد، وعبادته كفر مخلّد في نار جهنّم، وقد أشار تعالىٰ إلى هذا في قوله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ}، وقوله تعالىٰ: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ}، وقوله تعالىٰ: {هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمْ ءايَـٰتِهِ وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ ٱلسَّمَاء رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ * فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ}.
تنبيـــه
اعلم أن قوله: {تَبَـٰرَكَ} فعل جامد لا يتصرف، فلا يأتي منه مضارع، ولا مصدر، ولا اسم فاعل، ولا غير ذلك، وهو مما يختصّ به اللَّه تعالىٰ، فلا يقال لغيره تبارك خلافًا لما تقدّم عن الأصمعي، وإسناده {تَبَـٰرَكَ} إلى قوله: {ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ}، يدلّ على أن إنزاله الفرقان على عبده من أعظم البركات والخيرات والنعم التي أنعم بها على خلقه، كما أوضحناه في أول سورة «الكهف»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَـٰبَ}، وذكرنا الآيات الدالّة على ذلك، وإطلاق العرب {تَبَـٰرَكَ} مسندًا إلى اللَّه تعالىٰ معروف في كلامهم، ومنه قول الطرماح:
تباركت لا معط لشىء منعته وليس لما أعطيت يا ربّ مانع

وقول الآخر:
فليست عشيّات الحمى برواجع لنا أبدًا ما أورق السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

وقد قدّمنا الشاهد الأخير في سورة «الأنبياء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}، وقوله: {ٱلْفُرْقَانَ}، يعني: هذا القرءان العظيم، وهو مصدر زيدت فيه الألف والنون كالكفران والطغيان والرجحان، وهذا المصدر أُريد به اسم الفاعل؛ لأن معنى كونه فرقانًا أنه فارق بين الحقّ والباطل، وبين الرشد والغي، وقال بعض أهل العلم: المصدر الذي هو {ٱلْفُرْقَانَ} بمعنى اسم المفعول؛ لأنه نزل مفرّقًا، ولم ينزل جملة.
واستدلّ أهل هذا القول بقوله تعالىٰ: {وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ}، وقوله: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءانُ جُمْلَةً وٰحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيل}، وقوله في هذه الآية الكريمة: {نَزَّلَ} بالتضعيف يدلّ على كثرة نزوله أنجمًا منجمًا. قال بعض أهل العلم: ويدلّ على ذلك قوله في أول سورة «آل عمران»: {نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ}، قالوا: عبّر في نزول القرءان بـ:{نَزَّلَ} بالتضعيف لكثرة نزوله. وأمّا التوراة والإنجيل، فقد عبّر في نزولهما بـ:{أَنَزلَ} التي لا تدلّ على تكثير؛ لأنهما نزلا جملة في وقت واحد، وبعض الآيات لم يعتبر فيها كثرة نزول القرءان؛ كقوله تعالىٰ: {ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَـٰبَ}، وقوله في هذه الآية: {عَلَىٰ عَبْدِهِ}، قال فيه بعض العلماء: ذكره صفة العبودية مع تنزيل الفرقان، يدلّ على أن العبودية للَّه هي أشرف الصفات، وقد بيّنا ذلك في أوّل سورة «بني إسرٰئيل». {ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }. قوله: {ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ}، بدل من الَّذي في قوله تعالىٰ : {تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ}، وقال بعضهم: هو مرفوع على المدح، وقال بعضهم: هو منصوب على المدح. وقد أثنى جلَّ وعلا على نفسه في هذه الآية الكريمة بخمسة أمور، هي أدلَّة قاطعة على عظمته، واستحقاقه وحده لإخلاص العبادة له:
الأول: منها أنه هو الذي له ملك السمٰوات والأرض.
والثاني: أنه لم يتّخذ ولدًا، سبحانه وتعالىٰ عن ذلك علوًّا كبيرًا.
والثالث: أنه لا شريك له في ملكه.
والرابع: أنه هو خالق لك شىء.
والخامس: أنه قدّر كل شىء خلقه تقديرًا، وهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في ايات أُخر.
أمّا الأوّل منها: وهو أنه له ملك السمٰوات والأرض، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ في سورة «المائدة»: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ}، وقوله تعالىٰ في سورة «النور»: {وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ}، وقوله تعالىٰ: {ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}، وجميع الآيات التي ذكر فيها جلَّ وعلا أن له الملك، فالملك فيها شامل لملك السمٰوات والأرض وما بينهما، وغير ذلك. كقوله تعالىٰ: {قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ}، وقوله تعالىٰ: {تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ} وقوله تعالىٰ: {لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ}، وقوله تعالىٰ: {وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّوَرِ}، وقوله تعالىٰ: {مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ}، والآيات الدالّة على أن له ملك كل شىء كثيرة جدًا معلومة.
وأمّا الأمر الثاني: وهو كونه تعالىٰ لم يتّخذ ولدًا، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وقوله تعالىٰ: {وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَـٰحِبَةً وَلاَ وَلَد}، وقوله تعالىٰ: {بَدِيعُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَـٰحِبَةٌ} وقوله تعالىٰ: {وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلاْرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ إِلاَّ اتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْد}، وقوله تعالىٰ: {وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لائَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبً}، وقوله تعالىٰ: {أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمً}، وقوله تعالىٰ: {مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهاٍ}، إلى قوله: {سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة، وقد قدّمنا ذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة «الكهف» وغيرها.
وأمّا الأمر الثالث: وهو كونه تعالىٰ لم يكن له شريك في الملك، فقد جاء موضحًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ في آخر سورة «بني إسرٰئيل»: {وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى ٱلْمُلْكِ}، وقوله تعالىٰ في سورة «سبأ»: {قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلاْرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ}، وقوله تعالىٰ: {لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ}؛ لأن قوله: {ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ} يدلّ على تفرّده بالملك، والقهر، واستحقاق إخلاص العبادة، كما لا يخفى، إلى غير ذلك من الآيات.
وأمّا الأمر الرابع: وهو أنه تعالىٰ خلق كل شىء، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {بَدِيعُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَـٰحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء وهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ * ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء فَٱعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ * شَىْء وَكِيلٌ}، وقوله تعالىٰ: {ذَلِكُـمُ ٱللَّهُ رَبُّـكُمْ خَـٰلِقُ كُـلّ شَىْء لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وأمّا الأمر الخامس: وهو أنه قدَّر كل شىء خلقه تقديرًا، فقد جاء أيضًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ: {ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ}، وقوله تعالىٰ: {وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}، وقوله تعالىٰ: {إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ}، إلى غير ذلك من الآيات. وقال ابن عطيّة: تقدير الأشياء هو حدّها بالأمكنة، والأزمان، والمقادير، والمصلحة، والإتقان، انتهى بواسطة نقل أبي حيّان في «البحر».
تنبيــه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: الخلق في اللغة العربية، معناه التقدير. ومنه قول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعــ ــض القوم يخلق ثم لا يفري

قال بعضهم: ومنه قوله تعالىٰ: {فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ}، قال: أي أحسن المقدّرين، وعلى هذا فيكون معنى الآية {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء}، أي: قدّر كل شىء فقدّره تقديرًا، وهذا تكرار كما ترى، وقد أجاب الزمخشري عن هذا السؤال، وذكر أبو حيان جوابه في «البحر»، ولم يتعقّبه.
والجواب المذكور هو قوله: فإن قلت في الخلق معنى التقدير، فما معنى قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِير}، كأنه قال: وقدّر كل شىء فقدّره.
قلت: المعنى أنه أحدث كل شىء إحداثًا مراعي فيه التقدير والتسوية فقدّره وهيّأه لما يصلح له.
مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدّر المسوى، الذي تراه فقدّره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الحيلة المستوية المقدّرة بأمثلة الحكمة والتدبير، فقدّره لأمر ما ومصلحة مطابقًا لما قدّر له غير متجافٍ عنه، أو سمى إحداث اللَّه خلقًا؛ لأنه لا يحدث شيئًا لحكمته إلا على وجه التقدير غير متفاوت، فإذا قيل: خلق اللَّه كذا، فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنّه قيل: وأوجد كل شىء فقدّره في إيجاده لم يوجده متفاوتًا. وقيل: فجعل له غاية ومنتهى، ومعناه: فقدّره للبقاء إلى أمد معلوم، انتهى كلام صاحب «الكشاف» وبعضه له اتّجاه، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاًّنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـوٰةً وَلاَ نُشُوراً }. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الآلهة التي يعبدها المشركون من دونه، متّصفة بستّة أشياء كل واحد منها برهان قاطع، أن عبادتها مع اللَّه، لا وجه لها بحال، بل هي ظلم متناه، وجهل عظيم، وشرك يخلد به صاحبه في نار جهنم، وهذا بعد أن أثنى على نفسه جلّ وعلا بالأمور الخمسة المذكورة في الآية التي قبلها التي هي براهين قاطعة، على أن المتّصف بها هو المعبود وحده، والأمور الستّة التي هي من صفات المعبودات من دون اللَّه:
الأول منها: أنها لا تخلق شيئًا، أي: لا تقدر على خلق شىء.
والثاني منها: أنها مخلوقة كلّها، أي: خلقها خالق كل شىء.
والثالث: أنها لا تملك لأنفسها ضرًّا ولا نفعًا.
الرابع والخامس والسادس: أنها لا تملك موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا، أي: بعثًا بعد الموت، وهذه الأمور الستّة المذكورة في هذه الآية الكريمة، جاءت مبيّنة في مواضع أُخر من كتاب اللَّه تعالىٰ.
أمّا الأول منها: وهو كون الآلهة المعبودة من دون اللَّه لا تخلق شيئًا، فقد جاء مبيّنًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ}، وقوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوٰتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}، وقوله تعالىٰ في سورة «فاطر»: {قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلاْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلاْرْضِ أَمْ لَهُمْ}، وقوله تعالىٰ في سورة «لقمان»: {هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ}، وقوله تعالىٰ في «الأحقاف»:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلاْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ ٱئْتُونِى بِكِتَـٰبٍ مّن قَبْلِ هَـٰذَا أَوْ أَثَـٰرَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ}، وقوله تعالىٰ: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلّينَ عَضُد}، وقد بيّن تعالىٰ في آيات من كتابه الفرق بين من يخلق، ومن لا يخلق؛ لأن من يخلق هو المعبود، ومن لا يخلق لا تصح عبادته؛ كقوله تعالىٰ: {يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ}، أي: وأما من لم يخلقكم، فليس بربّ، ولا بمعبود لكم، كما لا يخفى. وقوله تعالىٰ: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}، وقوله تعالىٰ: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّـٰرُ}، أي: ومن كان كذلك، فهو المعبود وحده جلّ وعلا، وقوله تعالىٰ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.
وأمّا الأمر الثاني منها: وهو كون الآلهة المعبودة من دونه مخلوقة، فقد جاء مبيّنًا في آيات من كتاب اللَّه؛ كآية «النحل»، و «الأعراف»، المذكورتين آنفًا.
أمّا آية «النحل»، فهي قوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، فقوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} صريح في ذلك. وأمّا آية «الأعراف»، فهي قوله تعالىٰ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وأمّا الأمر الثالث منها: وهو كونهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فقد جاء مبيّنًا في مواضع من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالىٰ: {قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّ}، وكقوله تعالىٰ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}، ومن لا ينصر نفسه فهو لا يملك لها ضرًّا ولا نفعًا. وقوله تعالىٰ: {وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}، وقوله تعالىٰ: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَـٰمِتُونَ * إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ}.
وفيها الدلالة الواضحة على أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئًا، وقوله تعالىٰ: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وأمّا الرابع والخامس والسادس، من الأمور المذكورة: أعني كونهم لا يملكون موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا. فقد جاءت أيضًا مبيّنة في آيات من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالىٰ: {ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَـٰنَهُ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
فقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَـٰنَهُ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}،يدلّ دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئًا من ذلك المذكور في الآية، ومنه الحياة المعبّر عنها بــ: {خَلَقَكُمْ}، والموت المعبّر عنه بقوله: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}، والنشور المعبّر بقوله: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}، وبيَّن أنهم لا يملكون نشورًا بقوله: {أَمِ ٱتَّخَذُواْ الِهَةً مّنَ ٱلاْرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ}. وبيّن أنهم لا يملكون حياة لا نشورًا، في قوله تعالىٰ: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}. وبيَّن أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـٰباً مُّؤَجَّل}، وقوله تعالىٰ: {وَلَن يُؤَخّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَ}، وقوله تعالىٰ: {إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ} وقوله تعالىٰ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}، وقوله تعالىٰ: {قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ}، إلى غير ذلك من الآيات. وهذا الذي ذكرنا من بيان هذه الآيات بعضها لبعض معلوم بالضرورة من الدّين.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {وَلاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْع}، أظهر الأقوال فيه أن المعنى لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع؛ كما قاله القرطبي وغيره. وغاية ما في هذا التفسير حذف مضاف دلّ المقام عليه، وهو كثير في القرءان وفي كلام العرب، وقد أشار إليه في «الخلاصة» بقوله: وما يلي المضاف يأتي خلفًا عنه في الإعراب إذا ما حذفا

وقيل المعنى: لا يقدرون أن يضرّوا أنفسهم، أو ينفعوها بشىء، والأول هو الأظهر، أي: وإذا عجزوا عن دفع ضرّ عن أنفسهم وجلب نفع لها فهم عن الموت والحياة والنشور أعجز؛ لأن ذلك لا يقدر عليه إلاّ اللَّه جلَّ وعلا.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {وَلاَ نُشُور}، اعلم أن النشور يطلق في العربية إطلاقين:
الأول: أن يكون مصدر نشر الثلاثي المتعدّي، تقول: نشر اللَّه الميت ينشره نشرًا ونشورًا.
والثاني: أن يكون مصدر نشر الميّت ينشر نشورًا لازمًا، والميت فاعل نشر.
والحاصل أن في المادة ثلاث لغات، الأولى: أنشره رباعيًّا بالهمزة ينشره بضم الياء إنشارًا، ومنه قوله تعالىٰ: {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ}، وقوله تعالىٰ: {وَٱنظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ}، بضمّ النون وبالراء المهملة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وهو مضارع أنشره. والثانية نشر اللَّه الميت ينشره بصيغة الثلاثي المتعدّي، والمصدر في هذه اللغة النشر والنشور، ومنه قوله هنا: {حَيَـوٰةً وَلاَ نُشُور}، أي لا يملكون أن ينشروا أحدًا، بفتح الياء وضمّ الشين. والثالثة: نشر الميّت بصيغة الثلاثي اللازم، ومعنى أنشره ونشره متعدّيًا أحياه بعد الموت، ومعنى نشر الميّت لازمًا حيى الميت وعاش بعد موته، وإطلاق النشر والنشور على الإحياء بعد الموت، وإطلاق النشور على الحياة بعد الموت معروف في كلام العرب، ومن إطلاقهم نشر الميّت لازمًا فهو ناشر، أي: عاش بعد الموت، قول الأعشى: لو أسندت ميّتًا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبًا للميّت الناشر

ومن إطلاق النشور بمعنى الإحياء بعد الموت، مصدر الثلاثي المتعدّي، قوله هنا: {وَلاَ نُشُور}، أي: بعثًا بعد الموت، ومن إطلاقهم النشور بمعنى الحياة بعد الموت مصدر الثلاثي اللازم، قول الآخر: إذا قبلتها كرعت بفيها كروع العسجدية في الغدير
فيأخذني العناق مبرد فيها بموت في عظامي أو فتور
فنحيا تارة ونموت أخرى ونخلط ما نموت بالنشور

فقد جعل الغيبوبة من شدّة اللذّة موتًا، والإفاقة منها نشورًا، أي: حياة بعد الموت.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَةً}، حذف فيه أحد المفعولين، أي: اتّخذوا من دونه أصنامًا آلهة؛ كقوله تعالىٰ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لاِبِيهِ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لاِبِيهِ}، والآلهة جمع إلٰه، فهو فعال مجموع على أفعلة، لأن الألف التي بعد الهمزة مبدّلة من همزة ساكنة هي فاء الكلمة، كما قال في «الخلاصة»: ومدًّا أبدل ثاني الهمزين من كلمة إن يسكن كآثر وأتمن

والإلٰه المعبود فهو فعال بمعنى مفعول، وإتيان الفعال بمعنى المفعول جاءت منه أمثلة في اللغة العربية كالإلٰه بمعنى المألوه، أي: المعبود، والكتاب بمعنى المكتوب، واللباس بمعنى: الملبوس، والإمام بمعنى المؤتم به، ومعلوم أن المعبود بحقّ واحد وغيره من المعبودات أسماء سمّاها الكفّار، ما أنزل اللَّه بها من سلطان: {وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ * ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}، {إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـٰنٍ}. {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً }. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين كفروا وكذّبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا في هذا القرءان العظيم، الذي أوحاه اللَّه إليه: {إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ}، أي: ما هذا القرءان إلا كذب اختلقه محمّد صلى الله عليه وسلم، وأعانه عليه على الإفك الذي افتراه قوم آخرون، قيل: اليهود، وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكيهة الرومي، قال ذلك النضر بن الحر العبدري.
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفّار كذّبوه وادّعوا عليه أن القرءان كذب اختلقه، وأنه أعانه على ذلك قوم آخرون جاء مبيّنًا في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا سَـٰحِرٌ كَذَّابٌ}، وقوله تعالىٰ: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، وقوله تعالىٰ: {بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ}، وقوله تعالىٰ: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ}، والآيات في ذلك كثيرة معلومة.
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أنهم افتروا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه أعانه على افتراء القرءان قوم آخرون جاء أيضًا موضحًا في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ}، وقوله تعالىٰ: {فَقَالَ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ}، أي: يرويه محمّد صلى الله عليه وسلم عن غيره {إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ}، وقوله تعالىٰ: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ}، كما تقدّم إيضاحه في «الأنعام»، وقد كذّبهم اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة فيما افتروا عليه من البهتان بقوله: {فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُور} ، قال الزمخشري: ظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من الأعجمي الرومي كلامًا عربيًّا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، والزور هو أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه، انتهى. وتكذيبه جلَّ وعلا لهم في هذه الآية الكريمة، جاء موضحًا في مواضع أُخر من كتاب اللَّه؛ كقوله تعالىٰ: {لّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ}، كما تقدّم إيضاحه في سورة «النحل»، وقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ}، وقوله تعالىٰ: {فَقَالَ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}، لأن قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} بعد ذكر افترائه على القرءان العظيم يدلّ على عظم افترائه وأنه سيصلى بسببه عذاب سقر، أعاذنا اللَّه وإخواننا المسلمين منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل.
واعلم: أن العرب تستعمل جاء وأتى بمعنى: فعل، فقوله: {فَقَدْ جَاءوا ظُلْم}، أي: فعلوه، وقيل: بتقدير الباء، أي: جاءوا بظلم، ومن إتيان أتى بمعنى فعل قوله تعالىٰ: {لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْ}، أي: بما فعلوه. وقول زهير بن أبي سلمى:
فما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل

واعلم بأن الإفك هو أسوأ الكذب، لأنه قلب للكلام عن الحقّ إلى الباطل، والعرب تقول: أفكه بمعنى قلبه، ومنه قوله تعالىٰ في قوم لوط: {وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ}، وقوله: {وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ}، وإنما قيل لها مؤتفكات؛ لأن الملك أفكها، أي: قلبها؛ كما أوضحه تعالىٰ بقوله: {جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَ}. {وَقَالُوۤاْ أَسَـٰطِيرُ ٱلاٌّوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاٌّرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }. ذكر جلَّ وعلا في الأولى من هاتين الآيتين أن الكفّار، قالوا: إن هذا القرءان {أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ}، أي: مما كتبه، وسطره الأوّلون كأحاديث رستم واسفنديار، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جمعه، وأخذه من تلك الأساطير، وأنه اكتتب تلك الأساطير، قال الزمخشري: أي كتبها لنفسه وأخذها، كما تقول: استكب الماء واصطبّه إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه، وقوله: {فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ}، أي: تلقى إليه، وتقرأ عليه عند إرادته كتابتها ليكتبها، والإملاء إلقاء الكلام على الكاتب ليكتبه، والهمزة مبدّلة من اللام تخفيفًا، والأصل في الإملاء الإملال باللام، ومنه قوله تعالىٰ: {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ}.
وقوله: {بُكْرَةً وَأَصِيل}، البكرة: أوّل النهار، والأصيل: آخره.
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية من أن الكفّار، قالوا: إن القرءان أساطير الأوّلين، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم تعلمه من غيره، وكتبه جاء موضحًا في آيات متعدّدة؛ كقوله تعالىٰ:{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاوَّلِينَ}.
وقد ذكرنا آنفًا الآيات الدالَّة على أنهم افتروا عليه أنه تعلّم القرءان من غيره، وأوضحنا تعنّتهم، وكذبهم في ذلك في سورة «النحل»، ودلالة الآيات على ذلك في الكلام على قوله تعالىٰ: {لّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ}، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ومن الآية الدالَّة على كذبهم في قوله: {ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ}، قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ * تَتْلُواْ مِنْهُ قَبْلِهِ مِن كِتَـٰبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَـٰبَ ٱلْمُبْطِلُونَ}، وقوله تعالىٰ: {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلامّىَّ}، إلى قوله تعالىٰ: {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنّى رَسُولُ}، والأُمّي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، وما ذكر جلَّ وعلا في الآية الأخيرة من قوله: {قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسّرَّ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ}، جاء أيضًا موضحًا في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبّكَ}، وقوله تعالىٰ: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ}، وقوله تعالىٰ: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاْمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ}، وقوله تعالىٰ: {وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وقوله تعالىٰ: {لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ فَٱتَّبِعْ قُرْءانَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}، وقوله تعالىٰ: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مّن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}، وقوله تعالىٰ: {تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق ٱلاْرْضَ وَٱلسَّمَـٰوٰتِ ٱلْعُلَى}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله هنا: {ٱلَّذِى يَعْلَمُ ٱلسّرَّ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ}، أي: ومن يعلم السر، فلا شكّ أنه يعلم الجهر.
ومن الآيات الدالَّة على ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة، من كونه تعالىٰ يعلم السرّ في السمٰوات والأرض، قوله تعالىٰ: {وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسّرَّ وَأَخْفَى}، وقوله تعالىٰ: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ}، وقوله تعالىٰ: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ}، وقوله تعالىٰ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوٰهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}، وقوله تعالىٰ: {ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ}، وقوله تعالىٰ: {وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي أَنفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ}، وقوله تعالىٰ: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيم}، قال فيه ابن كثير: هو دعاء لهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، وأن من تاب إليه تاب عليه، فهؤلاء مع كذبهم، وافترائهم، وفجورهم، وبهتانهم، وكفرهم، وعنادهم، وقولهم عن الرسول والقرءان ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عمّا هم فيه إلى الإسلام والهدى؛ كما قال تعالىٰ: {لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَـٰلِثُ ثَلَـٰثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ}، وقال تعالىٰ: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ}.
قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة، انتهى كلام ابن كثير رحمه اللَّه تعالىٰ، وما ذكره واضح.
والآيات الدالَّة على مثله كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ}، وقوله تعالىٰ: {وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحَ}، إلى غير ذلك من الآيات.
{وَقَالُواْ مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلاٌّسْوَاقِ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً * ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلاٌّمْثَـٰلَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً * تَبَارَكَ ٱلَّذِىۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاٌّنْهَـٰرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً * بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِير}
{وَقَالُواْ مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلاٌّسْوَاقِ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً }. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفّار قالوا في نبيّنا صلى الله عليه وسلم: ما لهذا الذي يدعي أنه رسول، وذلك كقول فرعون في موسى: {إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}، أي: ما له يأكل الطعام كما نأكله، فهو محتاج إلى الأكل كاحتياجنا إليه، ويمشي في الأسواق أي لاحتياجه إلى البيع والشراء، ليحصل بذلك قوته يعنون أنه لو كان رسولاً من عند اللَّه، لكان ملكًا من الملائكة لا يحتاج إلى الطعام، ولا إلى المشي في الأسواق، وادّعاء الكفار أن الذي يأكل كما يأكل الناس، ويحتاج إلى المشي في الأسواق، لقضاء حاجته منها، لا يمكن أن يكون رسولاً، وأن اللَّه لا يرسل إلا ملكًا لا يحتاج للطعام، ولا للمشي في الأسواق، جاء موضحًا في آيات كثيرة، وجاء في آيات أيضًا تكذيب الكفار في دعواهم هذه الباطلة.
فمن الآيات الدالَّة على قولهم مثل ما ذكر عنهم في هذه الآية، قوله تعالىٰ: {وَقَالَ ٱلْمَلاَ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء ٱلاْخِرَةِ وَأَتْرَفْنَـٰهُمْ فِى ٱلْحَيـوٰةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ}، وقوله تعالىٰ: {وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرًا رَّسُولا}، وقوله تعالىٰ عنهم: {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ * لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا}، وقوله تعالىٰ: {أَبَشَراً مّنَّا وٰحِداً نَّتَّبِعُهُ}، وقوله: {فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ}، وقوله تعالىٰ: {قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَ}. ومن الآيات التي كذبهم الله بها في دعواهم هذه الباطلة، وبين فيها أن الرسل يأكلون ويمشون في الأسواق ويتزوجون ويولد لهم، وأنهم من جملة البشر، إلا أنه فضلهم بوحيه ورسالته، وأنه لو أرسل للبشر ملكاً لجعله رجلاً، وأنه لو كانت في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين، لنزل عليهم ملكاً رسولاً، لأن المرسل من جنس المرسل إليهم، قوله تعالى في هذه السورة الكريمة: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى ٱلاْسْوَاقِ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ * مّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ}،أي ولم نجعلهم ملائكة، لأن كونهم رجالاً وكونهم من أهل القرى، صريح في أنهم ليسوا ملائكة، وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار: إنه بشر، وإنه رسول. وذلك لأن البشرية لا تنافي الرسالة في قوله تعالى: {قُلْ سُبْحَـٰنَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُول}، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِح}، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ فَٱسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ} الآية. وبين جل وعلا أن الرسل قالوا مثل ذلك في قوله: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ * إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} الآية، وقال تعالى: {قُل لَوْ كَانَ فِى ٱلاْرْضِ مَلَـٰئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ ٱلسَّمَاء مَلَكًا رَّسُولا}، وقوله تعالى: {وَيَمْشِى فِى ٱلاْسْوَاقِ} جمع سوق وهي مؤنثة، وقد تذكر. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهاَ}. اعلم أولاً أن لولا في هذه الآية الكريمة حرف تحضيض على التحقيق، والتحضيض. هو الطلب بحث، وشدة، وإليه أشار في الخلاصة بقوله: وبهما التحضيض مزوهلا ألاّ ألا وأولينها الفعلا

وبه تعلم أن المضارع في قوله: فيكون معه نذيراً منصوب بأن مسترة وجوباً، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض، كما أشار له في الخلاصة بقوله: وبعد فاجواب نفي أو طلب محضين أن وسترها حتم نصب

ونظير هذا من النصب بأن السترة بعد الفاء التي هي جواب التحضيض. قوله تعالى: {فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} لأن قوله: لولا أخرتني طلب منه للتأخير بحث وشدة، كما دل عليه حرف التحضيض الذي هو لولا، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر: لولا تعوجين يا سلمى على دنف فتخمدي نار وجد كاد يفنيه

فقوله تعالى في الآية الكريمة: فأصدق بالنصب، وقول الشاعر: فتخمدي منصوب أيضاً، بحذف النون، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض.
واعلم أن جزم الفعل المعطوف على الفعل المنصوب أعني قوله: {وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} إنما ساغ فيه الجزم، لأنه عطف على المحل لأن الفاء لو حذفت مع قصد جواب التحضيض لجزم الفعل، وجواز الجزم المذكور عند الحذف المذكور، هو الذي سوغ عطف المجزوم على المنصوب، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: وبعد غير النفي جزماً اعتمد إن تسقط الفا والجزاء قد قصد

وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره، وأشار له الزمخشري من أن لولا في الآية للاستفهام، ليس بصحيح.
واعلم أن الكفار في هذه الآية الكريمة اقترحوا بحث وشدة عليه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور:
الأول: أن ينزل إليه ملك، فيكون معه نذيراً أي يشهد له بالصدق، ويعينه على التبليغ.
الثاني: أن يلقى إليه كنز، أي ينزل عليه كنز من المال ينفق منه، ويستغني به عن المشي في الأسواق.
الثالث: أن تكون له جنة يأكل منها، والجنة في لغة العرب البستان ومنه قول زهير: كأن عيني في غربي مقتلة ن النواضح تسقى جنة سحقا
فقوله: تسقى جنة أي بستاناً، وقوله: سحقا يعني أن نخله طوال.
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة التي اقترحها الكفار وطلبوها بشدة وحث، تعنتاً منهم وعناداً، جاءت مبينة في غير هذا الموضع، فبين جل وعلا في سورة هود اقتراحهم، لنزول الكنز، ومجيء الملك معه، وأن ذلك العناد والتعنت قد يضيق به صدره صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ}، وبين جلا وعلا في سورة بني إسرائيل إقتراحهم الجنة، وأوضح أنهم يعنون بها بستاناً من نخيل وعنب، وذلك في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلاْرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ ٱلاْنْهَـٰرَ خِلَـٰلَهَا تَفْجِيرً} واقتراحهم هذا شبيه بقول فرعون في موسى: {فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ ٱلْمَلَـئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم.
وقد قدمنا في الكلام على آية سورة بني إسرائيل، هذه الآيات الدالة على كثرة اقتراح الكفار، وشدة تعنتهم وعنادهم، وأن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا كما قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـٰباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} وقال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِنَ ٱلسَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَـٰرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ} الآية، وقال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ} الآية. إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
وقال الزمخشري في تفسير آية الفرقان هذه: يأكل الطعام كما نأكل، ويتردد في الأسواق كما نتردد. يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك، حتى يتساعدا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضاً فقالوا إن لم يكن مرفوداً بذلك، فليكن مرفوداً بكنز يلقى إليه من السماء، يستظهر به، ولا يحتاج إلى تحصيل المعاض، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه، ويرتزق كالدهاقين أو يأكلون هم من ذلك البستان، فينتفعون به في دنياهم، ومعاشهم. انتهى منه، وكل تلك الاقتراحات لشدة تعنتهم، وعنادهم. وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي بأكل منها بالمثناة التحتية، وقرأ حمزة والكسائي: جنة نأكل منها بالنون، وهذه القراءة هي مراد الزمخشري بقوله: أو يأكلون هم من ذلك البستان. قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً * ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلاْمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيل}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الظالمين وهم الكفار قالوا للذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورً} يعنون: أنه أثر فيه السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره، وقال مجاهد: مسحوراً: أي مخدوعاً كقوله: فأنى تسحرون: أي من أين تخدعون، وقال بعضهم: مسحوراً: أي له سحر أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو بشر مثلكم، وليس بملك، وقد قدمنا كلام أهل العلم في قوله: مسحوراً بشواهده العربية في سورة طه في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّـٰحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ} ولما ذكر الله هذا الذي قاله الكفار في نبيه صلى الله عليه وسلم، من الإفك والبهتان خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلاْمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيل}، وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قولهم: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورً} وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قوله: {ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلاْمْثَالَ}. جاء كله مصرحاً به في سورة بني إسرائيل في قوله تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورً}.
قال الزمخشري: ضربوا لك الأمثال قالوا: فيك تلك الأقوال، واقترحوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة، من نبوة مشتركة بين إنسان وملك، وإلقاء كنز عليك من السماء، وغير ذلك، فبقوا متحيرين ضلالاً لا يجدون قولاً يستقرون عليه، أو فضلوا عن الحق، فلا يجدون طريقاً إليه ا هـــ.
والأظهر عندي في معنى الآية ما قاله غير واحد من أن معنى: ضربوا لك الأمثال: أنها تارة يقولون إنك ساحر، وتارة مسحور، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة كاهن، وتارة كذاب، ومن ذلك ما ذكر الله عنهم من قوله هنا: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ} الآية، وقوله: {وَقَالُواْ أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ} وقوله: {وَقَالَ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُور} وقوله تعالى: {فُضّلُو} أي عن طريق الحق، لأن الأقوال التي قالوها، والأمثال التي ضربوها كلها كذب وافتراء، وكفر مخلد في نار جهنم، فالذين قالوها هم أضل الضالين، وقوله تعالى: {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيل} فيه أقوال كثيرة متقاربة.
وأظهرها أن معنى: فلا يستطيعون سبيلاً: أي طريقاً إلى الحق والصواب، ونفي الاستطاعة المذكور هنا كقوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} وقوله تعالى: {ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْع} وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة هود في الكلام على قوله تعالى {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} وقد قدمنا أيضاً معنى الظلم والضلال والضلال وما فيهما من الإطلاقات في اللغة مع الشواهد العربية في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِير}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار كذبوا بالساعة أي أنكروا القيامة من أصلها لإنكارهم البعث بعد الموت والجزاء، وأنه جل وعلا اعتد أي هيأ وأعد لمن كذب بالساعة: أي أنكر يوم القيامة سعيراً: أي ناراً شديدة الحر يعذبه بها يوم القيامة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِير} يدل على أن التكذيب بالساعة كفر مستوجب لنار جهنم، كما سترى الآيات الدالة على ذلك قريباً إن شاء الله تعالى. وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة، وهما تكذيبهم بالساعة، ووعيد الله لمن كذب بها بالسعير جاءا موضحين في آيات أخر، أما تكذيبهم بيوم القيامة لإنكارهم البعث، والجزاء بعد الموت، فقد جاء في آيات كثيرة عن طوائف الكفار كقوله تعالى: {إِنَّ هَـؤُلاَء لَيَقُولُونَ * إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلاْوْلَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} وقوله تعالى: {مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ} إلى غير ذلك من الآيات.
وأما كفر من كذب بيوم القيامة ووعيده بالنار، فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّ} إلى قوله: {وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نَّـٰصِرِينَ} فقوله: ومأواكم النار بعد قوله: {قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا ٱلسَّاعَةُ}، يدل على أن قولهم: ما تدري ما الساعة هو سبب كون النار مأواهم، وقوله بعده {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ هُزُو} لا ينافي ذلك لأن من اتخاذهم آيات الله هزواً تكذيبهم بالساعة، وإنكارهم البعث كما لا يخفى، وكقوله تعالى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلاْغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدونَ} فقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة من سورة الرعد أن إنكارهم البعث، الذي عبروا عنه باستفهام الإنكار في قوله تعالى عنهم {مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} جامع بين أمرين.
الأول منهما: أنه عجب من العجب لكثرة البراهين القطعية الواضحة الدالة على ما أنكروه.
والثاني منهما: وهو محل الشاهد من الآية أن إنكارهم البعث المذكور كفر مستوجب للنار وأغلالها والخلود فيها، وذلك في قوله تعالى مشيراً إلى الذين أنكروا البعث {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلاْغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدونَ} ومعلوم أن إنكار البعث إنكار للساعة، وكقوله تعالى: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ} أي لا يصدنك من لا يؤمن بالساعة عن الإيمان بها، فتردى: أي تهلك لعدم إيمانك بها، والردى الهلاك، وهو هنا عذاب النار بسبب التكذيب بالساعة، وقد قال تعالى: {وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ} وقوله تعالى في آية طه هذه: فتردى، يدل دلالة واضحة على أنه إن صده من لا يؤمن بالساعة من التصديق بها، أن ذلك يكون سبباً لرداه أي هلاكه بعذاب النار كما لا يخفى، وكقوله تعالى: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا وَلِقَاء ٱلاّخِرَةِ فَأُوْلَـئِكَ فِى ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} فآية الروم هذه، تدل على أن الذين كذبوا بلقاء الآخرة وهم الذين كذبوا بالساعة معدودون مع الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وأنهم في العذاب محضرون. وهو عذاب النار. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ} أظهر الأقوال فيه عندي أنه متصل بما يليه، وأن بل فيه للإضراب الانتقالي، وقد أوضحنا معنى السعير مع بعض الشواهد العربية في أول سورة الحج، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيرا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن النار يوم القيامة، إذا رأت الكفار من مكان بعيد: أي في عرصات المحشر اشتد غيظها على من كفر بربها وعلا زفيرها فسمع الكفار صوتها من شدة غيظها، وسمعوا زفيرها.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين بعضه في سورة الملك، فأوضح فيها شدة غيظها على من كفر بربها، وأنهم يسمعون لها أيضاً شهيقاً مع الزفير الذي ذكره في آية الفرقان هذه، وذلك في قوله تعالى: {إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} أي يكاد بعضها ينفصل عن بعض من شدة غيظها، على من كفر بالله تعالى.
وللعلماء أقوال في معنى الزفير والشهيق، وأقربها أنهما يمثلهما معاً صوت الحمار في نهيقه، فأوله زفير، وآخره الذي يردده في صدره شهيق.
والأظهر أن معنى قوله تعالى: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظ} أي سمعوا غليانها من شدة غيظها، ولما كان سبب الغليان التغيظ أطلقه عليه، وذلك أسلوب عربي معروف. وقال بعض أهل العلم: سمعوا لها تغيظاً: أي أدركوه، والإدراك يشمل الرؤية والسمع، وعلى هذا فالسمع مضمن معنى الإدراك، وما ذكرنا أظهر.
وقال القرطبي: قيل المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم، ثم ذكر في آخر كلامه أن هذا القول هو الأصح. مسألة
اعلم أن التحقيق أن النار تبصر الكفار يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في قوله هنا: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} ورؤيتها إياهم من مكان بعيد، تدل على حدة بصرها كما لا يخفى، كما أن النار تتكلم كما صرح الله به في قوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} والأحاديث الدالة على ذلك كثير، كحديث محاجة النار مع الجنة، وكحديث اشتكائها إلى ربها، فأذن لها في نفسين، ونحو ذلك، ويكفى في ذلك أن الله جل وعلا صرح في هذه الآية، أنها تراهم وأن لها تغيظاً على الكفار، وأنها تقول: هل من مزيد.
واعلم أن ما يزعمه كثير من المفسرين وغيرهم، من المنتسبين للعلم من أن النار لا تبصر، ولا تتكلم، ولا تغتاظ. وأن ذلك كله من قبيل المجاز، أو أن الذي يفعل ذلك خزنتها كله باطل ولا معول عليه لمخالفته نصوص الوحي الصحيحة بلا مستند، والحق هو ما ذكرنا.
وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم على أن النصوص من الكتاب والسنة، لا يجوز صرفها عن ظاهرها إلا لدليل يجب الرجوع إليه، كما هو معلوم في محله.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: إن القول بأن النار تراهم هو الأصح، ثم قال لما روى مرفوعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً. قيل يا رسول الله أولها عينان؟ قال: أو ما سمعتم الله عز وجل يقول: إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً، يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول: وكلت بكل من جعل مع الله آلهاً آخر فهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه» وفي رواية «يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم» ذكره رزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال: أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة، كما يفصل الطائر حب السمسم عن التربة، وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق فيقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله آلهاً آخر وبالمصورين» وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
وقال صاحب الدر المنثور: وأخرج الطبراني، وابن مردويه من طريق مكحول، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعداً من بين عيني جهنم. قالوا يا رسول الله: وهل لجهنم من عين؟ قال: نعم أما سمعتم الله يقول: إذا رأتهم من مكان بعيد. فهل تراهم إلا بعينين» وأخرج عبد الله بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طريق خالد بن دريك، عن رجل من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يقل عليّ ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً قيل: يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: نعم أما سمعتم الله يقول: إذا رأتهم من مكان بعيد إلى آخر كلامه»، وفيه شدة هول النار، وأنها تزفر زفرة يخاف منها جميع الخلائق.
نرجو الله جل وعلا أن يعيذنا وإخواننا المسلمين منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل.