تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 360 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 360

360- تفسير الصفحة رقم360 من المصحف
قوله تعالى: "واتخذوا من دونه آلهة" ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة، مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته. "لا يخلقون شيئا" يعني الآلهة. "وهم يخلقون" لما اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع، عبر عنها كما يعبر عما يعقل. "ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا" أي لا دفع ضر وجلب نفع، فحذف المضاف. وقيل: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء، ولا لمن يعبدهم، لأنها جمادات. "ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا" أي لا يميتون أحدا، ولا يحيونه. والنشور: الإحياء بعد الموت؛ أنشر الله الموتى فنشروا. وقال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر
الآيات: 4 - 5 - 6 {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا، وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيم}
قوله تعالى: "وقال الذين كفروا" يعني مشركي قريش. وقال ابن عباس: القائل منهم ذلك النضر بن الحرث؛ وكذا كل ما في القرآن فيه ذكر الأساطير. قال محمد بن إسحاق: كان مؤذيا للنبي صلى الله عليه وسلم. "إن هذا" يعني القرآن. "إلا إفك افتراه" أي كذب اختلقه. "وأعانه عليه قوم آخرون" يعني اليهود؛ قاله مجاهد. وقال ابن عباس: المراد بقوله: "قوم آخرون" أبو فكيهة مولى بني الحضرمي وعداس وجبر، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب. وقد مضى في "النحل" ذكرهم. "فقد جاؤوا ظلما وزورا" أي بظلم. وقيل: المعنى فقد أتوا ظلما. "وقالوا أساطير الأولين" قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة؛ مثل أحدوثة وأحاديث. وقال غيره: أساطير جمع أسطار؛ مثل أقوال وأقاويل. "اكتتبها" يعني محمدا. "فهي تملى عليه" أي تلقى عليه وتقرأ "بكرة وأصيلا" حتى تحفظ. و"تملى" أصله تملل؛ فأبدلت اللام الأخيرة ياء من التضعيف: كقولهم: تقضى البازي؛ وشبهه.
قوله تعالى: "قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض" أي قل يا محمد أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر، فهو عالم الغيب، فلا يحتاج إلى معلم. وذكر "السر" دون الجهر؛ لأنه من علم السر فهو في الجهر أعلم. ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها. وأيضا ولو كان مأخوذا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضا كما تمكن محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهلا عارضوه فبطل اعتراضهم من كل وجه. "إنه كان غفورا رحيما" يريد غفورا لأوليائه رحيما بهم.
الآيتان: 7 - 8 {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحور}
قوله تعالى: "وقالوا" ذكر شيئا آخر من مطاعنهم. والضمير في "قالوا" لقريش؛ وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس مشهور، ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره. مضمنه - أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا: يا محمد! إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا؛ فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق! فعيروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا، وعيروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم؛ فقالوا: هذا يطلب أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك؛ فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيه: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق" [الفرقان: 20] فلا تغتم ولا تحزن، فإنها شكاة ظاهر عنك عارها.
دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش. وكان عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق. وفي البخاري في صفته عليه السلام: "ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق". وقد تقدم. وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح. وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين؛ كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق؛ خرجه البخاري. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في هذه السورة إن شاء الله.
قوله تعالى: "لولا أنزل إليه ملك" أي هلا. "فيكون معه نذيرا" جواب الاستفهام. "أو يلقى إليه كنز"
في موضع رفع؛ والمعنى: أو هلا يلقى "إليه كنز" "أو" هلا "تكون له جنة يأكل منها" "يأكل" بالياء قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين بالنون، والقراءتان حسنتان تؤديان عن معنى، وإن كانت القراءة بالياء أبين؛ لأنه قد تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحده فأن يعود الضمير عليه أبين؛ ذكره النحاس. "وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا" تقدم في "سبحان" والقائل عبدالله بن الزبعرى فيما ذكره الماوردي.
الآيتان: 9 - 10 {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا، تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصور}
قوله تعالى: "انظر كيف ضربوا لك الأمثال" أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك. "فضلوا" عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا. "فلا يستطيعون سبيلا" إلى تصحيح ما قالوه فيك.
قوله تعالى: "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات" شرط ومجازاة، ولم يدغم "جعل لك" لأن الكلمتين منفصلتان، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين. "ويجعل لك" في موضوع جزم عطفا على موضع "جعل". ويجوز أن يكون في موضع رفع مقطوعا من الأول. وكذلك قرأ أهل الشام. ويروى عن عاصم أيضا: "ويجعل لك" بالرفع؛ أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا. قال مجاهد: كانت قريش ترى البيت من حجارة قصرا كائنا ما كان. والقصر في اللغة الحبس، وسمي القصر قصرا لأن من فيه مقصور عن أن يوصل إليه. وقيل: العرب تسمى بيوت الطين القصر. وما يتخذ من الصوف والشعر البيت. حكاه القشيري. وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا؛ وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة؛ فقال: (يجمع ذلك لي في الآخرة) فأنزل الله عز وجل: "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا". ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال: يا محمد! رب العزة يقرئك السلام، وهذا سَفَط - فإذا سفط من نور يتلألأ - يقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة؛ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له؛ فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع؛ فقال: (يا رضوان لا حاجة لي فيها الفقر أحب إلي وأن أكون عبدا صابرا شكورا). فقال رضوان: أصبت! الله لك. وذكر الحديث.
الآيات: 11 - 14 {بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا، إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا، وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا، لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثير}
قوله تعالى: "بل كذبوا بالساعة" يريد يوم القيامة. "وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا" يريد جهنم تتلظى عليهم. "إذا رأتهم من مكان بعيد" أي من مسيرة خمسمائة عام. "سمعوا لها تغيظا وزفيرا" قيل: المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم. وقيل: المعنى إذا رأتهم خزانها سمعوا لهم تغيظا وزفيرا حرصا على عذابهم. والأول أصح؛ لما روي مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا) قيل: يا رسول الله! ولها عينان؟ قال: (أما سمعتم الله عز وجل يقول: "إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا" يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر فلهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه) في رواية (فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم) ذكره رَزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال: أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة. وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق بقول إني وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين). وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال الكلبي: سمعوا لها تغيظا كتغيظ بني آدم وصوتا كصوت الحمار. وقيل: فيه تقديم وتأخير، سمعوا لها زفيرا وعلموا لها تغيظا. وقال قطرب: التغيظ لا يسمع، ولكن يرى، والمعنى: رأوا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا؛ كقول الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
أي وحاملا رمحا. وقيل: "سمعوا لها" أي فيها؛ أي سمعوا فيها تغيظا وزفيرا للمعذبين. كما قال تعالى: "لهم فيها زفير وشهيق" [هود: 106] و"في واللام" يتقاربان؛ تقول: أفعل هذا في الله ولله. "وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين" قال قتادة: ذكر لنا أن عبدالله كان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح؛ ذكره ابن المبارك في رقائقه. وكذا قال ابن عباس، ذكره الثعلبي والقشيري عنه، وحكاه الماوردي عن عبدالله بن عمرو. ومعنى "مقرنين" مكتفين؛ قاله أبو صالح. وقيل: مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. وقيل: قرنوا مع الشياطين؛ أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه؛ قاله يحيى بن سلام. وقد مضى هذا في "إبراهيم" وقال عمرو بن كلثوم:
فأبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مقرنينا
"دعوا هنالك ثبورا" أي هلاكا؛ قاله الضحاك. ابن عباس: ويلا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول من يقول إبليس وذلك أنه أول من يكسى حلة من النار فتوضع على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول واثبوراه). وانتصب على المصدر، أي ثبرنا ثبورا؛ قاله الزجاج. وقال غيره: هو مفعول به.
قوله تعالى: "لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا" فإن هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة. وقال: ثبورا لأنه مصدر يقع للقليل والكثير فلذلك لم يجمع؛ وهو كقولك: ضربته ضربا كثيرا، وقعد قعودا طويلا. ونزلت الآيات في ابن خطل وأصحابه.