تفسير الطبري تفسير الصفحة 360 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 360
361
359
 الآية : 3
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: مُقَرّعا مشركي العرب بعبـادتهما ما دونه من الاَلهة, ومعجّبـا أولـي النّهَى منهم, ومُنَبّههُم علـى موضع خطأ فِعْلهم وذهابهم عن منهج الـحقّ وركوبهم من سُبُل الضلالة ما لا يركبه إلاّ كل مدخول الرأي مسلوب العقل: واتـخذ هؤلاء الـمشركون بـالله من دون الذي له مُلك السموات والأرض وحده, من غير شريك, الذي خـلق كلّ شيء فقدّره, آلهةً يعنـي أصناما بأيديهم يعبدونها, لا تـخـلق شيئا وهي تُـخْـلق, ولا تـملك لأنفسها نفعا تـجرّه إلـيها ولا ضرّا تدفعه عنها مـمن أرادها بضرّ, ولا تـملك إماتة حيّ ولا إحياء ميت ولا نشره من بعد مـماته, وتركوا عبـادة خالق كلّ شيء وخالق آلهتهم ومالك الضرّ والنفع والذي بـيده الـموت والـحياة والنشور. والنشور: مصدر نُشِر الـميت نشورا, وهو أن يُبعث ويحيا بعد الـموت.
الآية : 4
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ هَـَذَا إِلاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً }.
يقول تعالـى ذكره: وقال هؤلاء الكافرون بـالله الذين اتـخذوا من دونه آلهة: ما هذا القرآن الذي جاءنا به مـحمد إلاّ إفْكٌ يعنـي: إلاّ كذب وبُهتان, افْتَرَاهُ اختلقه وتـخرّصه بقوله, وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ذكر أنهم كانوا يقولون: إنـما يُعَلّـم مـحمدا هذا الذي يجيئنا به الـيهود, فذلك قوله: وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ يقول: وأعان مـحمدا علـى هذا الإفك الذي افتراه يهود. ذكر من قال ذلك:
19922ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قال: يهود.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
وقوله: فَقَدْ جاءُوا ظُلْـما وَزُورا يقول تعالـى ذكره: فقد أتـى قائلو هذه الـمقالة, يعنـي الذين قالوا: إنْ هَذَا إلاّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ظلـما, يعنـي بـالظلـم نسبتهم كلام الله وتنزيـله إلـى أنه إفك افتراه مـحمد صلى الله عليه وسلم. وقد بـيّنا فـيـما مضى أن معنى الظلـم: وضع الشيء فـي غير موضعه فكأنّ ظلـم قائلـي هذه الـمقالة القرآن بقـيـلهم هذا وصفُهم إياه بغير صفته. والزور: أصله تـحسين البـاطل. فتأويـل الكلام: فقد أتـى هؤلاء القوم فـي قـيـلهم إنْ هَذَا إلاّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانَهُ عَلَـيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ كذبـا مَـحْضا.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19923ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وحدثنـي القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: فَقَدْ جاءُوا ظُلْـما وَزُورا قال: كذبـا.
الآية : 5 - 6
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُوَاْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىَ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنّهُ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً }.
ذكر أن هذه الاَية نزلت فـي النّضْر بن الـحارث, وأنه الـمعنـيّ بقوله: وَقالُوا أساطيرُ الأوّلِـينَ. ذكر من قال ذلك:
19924ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يونس بن بكير, قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنا شيخ من أهل مصر, قدم منذ بضع وأربعين سنة, عن عكرِمة, عن ابن عبـاس, قال: كان النّضْر بن الـحارث بن كَلَدَة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصيّ من شياطين قريش, وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة, وكان قد قَدِم الـحِيرة, تعلّـم بها أحاديث ملوك فـارس وأحاديث رُسْتَـم وأسفنديار, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مـجلسا فذكّر بـالله وحدّث قومه ما أصاب من قبلهم من الأمـم من نقمة الله, خـلَفه فـي مـجلسه إذا قام, ثم يقول: أنا والله يا معشر قُريش أحسن حديثا منه, فهلـموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدّثهم عن ملوك فـارس ورسْتَـم وأسفنديار, ثم يقول: ما مـحمد أحسن حديثا منـي قال: فأنزل الله تبـارك وتعالـى فـي النضر ثمانـيَ آيات من القرآن, قوله: وَإذَا تُتْلَـى عَلَـيْهِ آياتُنا قالَ أساطيرُ الأوّلـينَ وكلّ ما ذُكِر فـيه الأساطير فـي القرآن.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عبـاس نـحوه, إلاّ أنه جعل قوله: «فأنزل الله فـي النضْر ثمانـي آيات», عن ابن إسحاق, عن الكلْبـيّ, عن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس.
19925ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: أساطِيرُ الأوّلـينَ أشعارهم وكَهانتهم وقالها النضر بن الـحارث.
فتأويـل الكلام: وقال هؤلاء الـمشركون بـالله الذين قالوا لهذا القرآن إن هذا إلاّ إفك افتراه مـحمد صلى الله عليه وسلم: هذا الذي جاءنا به مـحمد أساطير الأوّلـين, يَعنُون أحاديثهم التـي كانوا يُسَطّرونها فـي كتبهم, اكتتبها مـحمد صلى الله عليه وسلم من يهود. فَهِيَ تُـمْلَـى عَلَـيْهِ يعنون بقوله: فَهِي تُـمْلَـى عَلَـيْهِ فهذه الأساطير تُقرأ علـيه, من قولهم: أملـيت علـيك الكتاب وأملَلْت. بُكْرَةً وأصِيلاً يقول: وتـملَـى علـيه غُدْوة وعشيّا.
وقوله: قُلْ أنْزَلَهُ الّذِي يَعْلَـمُ السّرّ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول تعالـى ذكره: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمكذّبـين بآيات الله من مشركي قومك: ما الأمر كما تقولون من أن هذا القرآن أساطير الأوّلـين وأن مـحمد صلى الله عليه وسلم افتراه وأعانه علـيه قوم آخرون, بل هو الـحقّ, أنزله الربّ الذي يعلـم سرّ من فـي السموات ومن فـي الأرض, ولا يخفـى علـيه شيء, ومُـحْصِي ذلك علـى خـلقه, ومُـجازيهم بـما عزمت علـيه قلوبهم وأضمروه فـي نفوسهم. إنّهُ كانَ غَفُورا رَحِيـما يقول: إنه لـم يزل يصفح عن خـلقه ويرحمهم, فـيتفضلُ علـيهم بعفوه, يقول: فلأَن ذلك من عادته فـي خـلقه, يُـمْهلكم أيها القائلون ما قلتـم من الإفك والفـاعلون ما فعلتـم من الكفر.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19926ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: قُلْ أنْزَلَهُ الّذِي يَعْلَـمُ السّرّ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ قال: ما يسر أهل الأرض وأهل الـمساء.

الآية : 7 - 8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالُواْ مَا لِهَـَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَىَ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً }.
ذُكر أن هاتـين الاَيتـين نزلتا علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما كان مشركو قومه قالوا له لـيـلة اجتـماع أشرافهم بظهر الكعبة, وعرضوا علـيه أشياء, وسألوه الاَيات.
فكان فـيـما كلّـموه به حينئذٍ, فـيـما:
19927ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, مولـى زيد بن ثابت, عن سعيد بن جُبـير, أو عكرِمة مولـى ابن عبـاس, عن ابن عبـاس: أن قالوا له: فإن لـم تفعل لنا هذا يعنـي ما سألوه من تسيـير جبـالهم عنهم, وإحياء آبـائهم, والـمـجيء بـالله والـملائكة قبـيلاً, وما ذكره الله فـي سورة بنـي إسرائيـل فخذ لنفسك, سلْ ربك يبعثْ معك ملَكا يصدّقك بـما تقول ويراجعنا عنك, وسَلْه فـيجعل لك قصورا وجنانا وكنوزا من ذهب وفضة, تغنـيك عما نراك تبتغي, فإنك تقوم بـالأسواق وتلتـمس الـمعاش كما نلتـمسه, حتـى نعلـم فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بِفـاعِلٍ» فأنزل الله فـي قولهم: أنْ خُذْ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لها: أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا, أو يبعث معه ملَكا يصدّقه بـما يقول ويردّ عنه من خاصمه. وقالُوا ما لِهَذَا الرّسُولِ يأْكُلُ الطّعامَ ويَـمْشِي فِـي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مَلَكٌ فَـيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا أوْ يُـلْقَـى إلَـيْهِ كَنْزٌ أوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظّالِـمُونَ إنْ تَتّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُورا.
فتأويـل الكلام: وقال الـمشركون ما لِهَذا الرّسُولِ: يَعْنون مـحمدا صلى الله عليه وسلم, الذي يزعم أن الله بعثه إلـينا, يَأكُلُ الطعَامَ كما نأكل, ويَـمْشِي فـي أسواقنا كما نـمشي.لَوْلاَ أنْزِلَ إلَـيهِ يقول: هلا أنزل إلـيه ملَك إن كان صادقا من السماء, فَـيَكُونَ مَعَه منذرا للناس, مصدّقا له علـى ما يقول, أو يـلقـى إلـيه كنز من فضة أو ذهب فلا يحتاج معه إلـى التصرّف فـي طلب الـمعاش, أوْ تكون له جنة يقول: أو يكون له بستان يَأكُلُ مِنْها.
واختلف القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: يَأْكُلُ بـالـياء, بـمعنى: يأكل منها الرسول. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين: «نَأْكُلُ مِنْها» بـالنون, بـمعنى: نأكل من الـجنة.
وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأه بـالـياء وذلك للـخبر الذي ذكرنا قبل بأن مسألة من سأل من الـمشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه هذه الـخلال لنفسه لا لهم فإذ كانت مسألتهم إياه ذلك كذلك, فغير جائز أن يقولوا له: سلْ لنفسك ذلك لنأكل نـحن.
وبعدُ, فإن فـي قوله تعالـى ذكره: تَبَـارَكَ الّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذَلِكَ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهَارُ, دلـيلاً بـيّنا علـى أنهم إنـما قالوا له: اطلب ذلك لنفسك, لتأكل أنت منه, لا نـحن.
وقوله: وَقال الظّالِـمُونَ يقول: وقال الـمشركون للـمؤمنـين بـالله ورسوله: إنْ تَتّبِعُونَ أيّها القوم, بـاتبـاعكم مـحمدا إِلاّ رَجُلاً به سحر.

الآية : 9 - 10
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً * تَبَارَكَ الّذِيَ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذَلِكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَل لّكَ قُصُوراً }.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا مـحمد إلـى هؤلاء الـمشركين الذين شبهوا لك الأشبـاه بقولهم لك: هو مسحور, فضلّوا بذلك عن قصد السبـيـل وأخطئوا طريق الهُدَى والرشاد فلا يَسْتَطِيعُونَ يقول: فلا يجدون سَبِـيلاً إلـى الـحقّ, إلاّ فـيـما بعثتك به, ومن الوجه الذي ضلوا عنه.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19928ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جُبـير, أو عكرمة, عن ابن عبـاس: انْظُرْ كَيْف ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلّوا فَلا يَسْتَطيعُونَ سَبِـيلاً أي التـمسوا الهدى فـي غير ما بعثتك به إلـيهم فضلوا, فلن يستطيعوا أن يصيبوا الهُدَى فـي غيره. وقال آخرون فـي ذلك ما:
19929ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِـيلاً قال: مَخْرجا يخرجهم من الأمثال التـي ضربوا لك.
وقوله: تَبـارَكَ الّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتَها الأنهَارُ يقول تعالـى ذكره: تقدس الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنىّ ب«ذلك» التـي فـي قوله: جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذَلكَ فقال بعضهم: معنى ذلك: خيرا مـما قال هؤلاء الـمشركون لك يا مـحمد, هلا أوتـيته وأنت لله رسول ثم بـين تعالـى ذكره عن الذي لو شاء جعل له من خير مـما قالوا, فقال: جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ. ذكر من قال ذلك:
19930ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: تَبـارَكَ الّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ خيرا مـما قالوا.
19931ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله: تَبـارَكَ الّذِي إن شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ قال: مـما قالوا وتـمنّوا لك, فـيجعل لك مكان ذلك جنات تـجري من تـحتها الأنهار.
وقال آخرون: عُنِـي بذلك الـمشي فـي الأسواق والتـماس الـمعاش. ذكر من قال ذلك:
19932ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن مـحمد بن أبـي مـحمد, فـيـما يرى الطبريّ, عن سعيد بن جُبر, أو عكرِمة, عن ابن عبـاس, قال: ثم قال: تَبَـارَك الّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذَلِكَ من أن تـمشيَ فـي الأسواق وتلتـمس الـمعاش كما يـلتـمسه الناس, جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيجْعَلْ لَكَ قُصُورا.
قال أبو جعفر: والقول الذي ذكرناه عن مـجاهد فـي ذلك أشبه بتأويـل الاَية, لأن الـمشركين إنـما استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها وأن لا يُـلْقـى إلـيه كنز, واستنكروا أن يـمشي فـي الأسواق وهو لله رسول. فـالذي هو أولـى بوعد الله إياه أن يكون وعدا بـما هو خير ما كان عند الـمشركين عظيـما, لا مـما كان منكرا عندهم. وعُنِـي بقوله: جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ بساتـين تـجري فـي أصول أشجارها الأنهار. كما:
19933ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ قال: حوائط.
وقوله: وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورا يعنـي بـالقصور: البـيوت الـمبنـية.
وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19934ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: قال: أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَيجْعَلْ لَكَ قُصُورا قال: بـيوتا مبنـية مشيدة, كان ذلك فـي الدنـيا. قال: كانت قريش ترى البـيت من الـحجارة قصرا كائنا ما كان.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: ويَجْعَلْ لَكَ قُصُورا مشيدة فـي الدنـيا, كل هذا قالته قريش. وكانت قريش ترى البـيت من حجارة ما كان صغيرا قَصْرا.
19935ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن حبـيب قال: قـيـل للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك من خزائن الأرض ومفـاتـيحها ما لـم يُعْطَ نبـيّ قبلك ولا يعطى من بعدك ولا ينقص ذلك مـما لك عند الله تعالـى؟ فقال: «اجْمَعُوها لـي فـي الاَخِرَةِ» فأنزل الله فـي ذلك: تَبـارَكَ الّذي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورا.

الآية : 11 - 12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {بَلْ كَذّبُواْ بِالسّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيّظاً وَزَفِيراً }.
يقول تعالـى ذكره: ما كذّب هؤلاء الـمشركون بـالله وأنكروا ما جئتهم به يا مـحمد من الـحقّ, من أجل أنك تأكل الطعام وتـمشي فـي الأسواق, ولكن من أجل أنهم لا يوقنون بـالـمعاد ولا يصدّقون بـالثواب والعقاب, تكذيبـا منهم بـالقـيامة وبعث الله الأموات أحياء لـحشر القـيامة. وأَعْتَدْنا يقول: وأعددنا لـمن كذّب ببعث الله الأموات أحياء بعد فنائهم لقـيام الساعة, نارا تسّعر علـيهم وتتقد. إذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ يقول: إذا رأت هذه النار التـي أعتدناها لهؤلاء الـمكذّبـين أشخاصَهم من مكان بعيد, تغيظت علـيهم وذلك أن تغلـى وتفور. يقال: فلان تغيظ علـى فلان, وذلك إذ غضب علـيه فَغَلَـى صدره من الغضب علـيه وتبـين فـي كلامه. وزفـيرا, وهو صوتها.
فإن قال قائل: وكيف قـيـل: سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا والتغيظ: لا يسمع؟ قـيـل: معنى ذلك: سمعوا لها صوت التغيظ, من التلهب والتوقد.
19936ـ حدثنـي مـحمود بن خداش, قال: حدثنا مـحمد بن يزيد الواسطيّ, قال: حدثنا أصبع بن زيد الورّاق, عن خالد بن كثـير, عن فُدَيك, عن رجل من أصحاب مـحمد صلى الله عليه وسلم, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَقُولُ عَلـيّ ما لَـمْ أقُلْ فَلْـيَتَبَوّأْ بـينَ عَيْنَـيْ جَهَنّـمَ مَقْعَدا» قالوا: يا رسول الله, وهل لها من عين؟ قال: «أَلـمْ تَسْمَعُوا إلـى قَوْلِ اللّهِ: إذَا رأتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ؟»... الاَية.
19937ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر فـي قوله: سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا وَزَفِـيرا قال: أخبرنـي الـمنصور بن الـمعتـمر, عن مـجاهد, عن عبـيد بن عمير, قال: إن جهنـم لتزفر زفرة لا يبقـى ملك ولا نبـيّ إلا خرّ ترعد فرائصه حتـى إن إبراهيـم لـيجثو علـى ركبتـيه, فـيقول: يا ربّ لا أسألك الـيوم إلا نفسي.
19938ـ حدثنا أحمد بن إبراهيـم الدّورقـي, قال: حدثنا عُبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن أبـي يحيى, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, قال: «إن الرجل لـيُجَرّ إلـى النار, فتنزوي وينقبض بعضها إلـى بعض, فـيقول لها الرحمن ما لك؟ فتقول: إنه لـيستـجير منـي فـيقول: أرسلُوا عبدي وإن الرجل لـيُجَرّ إلـى النار, فـيقول: يا ربّ ما كان هذا الظنّ بك فـيقول: فما كان ظنك؟ فـيقول: أن تسعَنـي رحمتك قال: فـيقول أرسلوا عبدي وإن الرجل لـيجَرّ إلـى النار فتشهق إلـيه النار شُهوق البغلة إلـى الشعير وتَزِفْر زفرة لا يبقـى أحد إلا خاف»