تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 360 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 360

359

فقال: 3- "واتخذوا من دونه آلهة" والضمير في اتخذوا للمشركين وإن لم يتقدم لهم ذكر، لدلالة نفي الشريك عليهم: أي اتخذ المشركون لأنفسهم متجاوزين الله آلهة "لا يخلقون شيئاً" والجملة في محل نصب صفة لآلهة: أي لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء وغلب العقلاء على غيرهم، لأن في معبودات الكفار الملائكة وعزير والمسيح "وهم يخلقون" أي يخلقهم الله سبحانه. وقيل عبر عن الآلهة بضمير العقلاء جرياً على اعتقاد الكفار أنها تضر وتنفع. وقيل معنى "وهم يخلقون" أن عبدتهم يصورونهم. ثم لما وصف سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ فقال "ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً" أي لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً ولا يدفعوا عنها ضرراً، وقدم ذكر الضر لأن دفعه أهم من جلب النفع وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع فيما يتعلق بأنفسهم فكيف يملكون ذلك لمن يعبدهم. ثم زاد في بيان عجزهم فنصص على هذه الأمور فقال: "ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً" أي لا يقدرون على إماتة الأحياء ولا إحياء الموتى ولا بعثهم من القبور، لأن النشور الإحياء بعد الموت، يقال أنشر الله الموتى فنشروا، ومنه قول الأعشى: حتى يقول الناس مما رأوا يا عجباً للميت الناشر ولما فرغ من بيان التوحيد وتزييف مذاهب المشركين شرع في ذكر شبه منكري النبوة.
فالشبهة الأولى ما حكاه عنهم بقوله: 4- "وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك" أي كذب "افتراه" أي اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم، والإشارة بقوله هذا إلى القرآن "وأعانه عليه" أي على الاختلاق "قوم آخرون" يعنون من اليهود. قيل وهم: أبو فكيهة يسار مولى الحضرمي، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى، وجبر مولى ابن عامر وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود، وقد مر الكلام على مثل هذا في النحل. ثم رد الله سبحانه عليهم فقال: " فقد جاؤوا ظلما وزورا " أي فقد قالوا ظلماً هائلاً عظيماً وكذباً ظاهراً، وانتصاب ظلماً بجاءوا، فإن جاء قد يستعمل استعمال أتى ويعدى تعديته. وقال الزجاج: إنه منصوب بنزع الخافض، والأصل جاءوا بظلم. وقيل هو منتصب على الحال، وإنما كان ذلك منهم ظلماً لأنهم نسبوا القبيح إلى من هو مبراً منه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه، وهذا هو الظلم، وأما كون ذلك منهم زوراً فظاهر لأنهم قد كذبوا هذه المقالة.
ثم ذكر الشبهة الثانية فقال: 5- "وقالوا أساطير الأولين" أي أحاديث الأولين وما سطروه من الأخبار. قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة، وقال غيره: أساطير جمع أسطار مثل أقاويل وأقوال "اكتتبها" أي استكتبها أو كتبها لنفسه، ومحل اكتتبها خبره، ويجوز أن يكون معنى اكتتبها جمعها من الكتب، وهو الجمع، لا من الكتابة بالقلم. والأولى أولى. وقرأ طلحة "اكتتبها" مبنياً للمفعول، والمعنى: اكتتبها له كاتب لأنه كان أمياً لا يكتب، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً، كذا قال في الكشاف، واعرضه أبو حيان "فهي تملى عليه" أي تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أمياً لا يقدر على أن يقرأها من ذلك المكتوب بنفسه، ويجوز أن يكون المعنى اكتتبها أراد اكتتابها "فهي تملى عليه" لأنه يقال أمليت عليه فهو يكتب "بكرةً وأصيلاً" غدوةً وعشياً كأنهم قالوا: إن هؤلاء يعلمون محمداً طرفي النهار، وقيل معنى بكرةً وأصيلاً: دائماً في جميع الأوقات.
فأجاب سبحانه عن هذه الشبهة بقوله: 5- "قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض" أي ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة وأخبار الأولين، بل هو أمر سماوي أنزله الذي يعلم كل شيء لا يغيب عنه شيء من الأشياء، فلهذا عجزتم عن معارضته ولم تأتوا بسورة منه، وخص السر للإشارة إلى انطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة لا تبلغ إليها عقول البشر، والسر: الغيب أي يعلم الغيب الكائن فيهما، وجملة "إنه كان غفوراً رحيماً" تعليل لتأخير العقوبة: أي إنكم وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة لما تفعلونه من الكذب على رسوله والظلم له، فإنه لا يجعل عليكم بذلك لأنه كثير المغفرة والرحمة. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "تبارك" تفاعل من البركة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وأعانه عليه قوم آخرون" قال يهود: " فقد جاؤوا ظلما وزورا " قال: كذباً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده" هو القرآن فيه حلاله وحرامه وشرائعه ودينه، وفرق الله بين الحق والباطل "ليكون للعالمين نذيراً" قال: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نذيراً من الله لينذر الناس بأس الله ووقائعه بمن خلا قبلكم "وخلق كل شيء فقدره تقديراً" قال: بين لكل شيء من خلقه صلاحه وجعل ذلك بقدر معلوم "واتخذوا من دونه آلهة" قال: هي الأوثان التي تعبد من دون الله "لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون" وهو الله الخالق الرازق، وهذه الأوثان تخلق ولا تخلق شيئاً ولا تضر ولا تنفع ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً: يعني بعثاً "وقال الذين كفروا" هذا قول مشركي العرب "إن هذا إلا إفك" هو الكذب " افتراه وأعانه عليه " أي على حديثه هذا وأمره " قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الأولين " كذب الأولين وأحاديثهم.
لما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن ذكر ما طعنوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، 7- "وقالوا مال هذا الرسول" وفي الإشارة هنا تصغير لشأن المشار إليه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسموه استهزاء وسخرية "يأكل الطعام ويمشي في الأسواق" أي ما باله يأكل الطعام كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد، وزعموا أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الطعام والكسب، وما الاستفهامية في محل رفع على الابتداء، والاستفهام للاستنكار، وخبر المبتدأ لهذا الرسول، وجملة يأكل في محل نصب على الحال، وبها تتم فائدة الإخبار كقوله: "فما لهم عن التذكرة معرضين" والإنكار متوجه إلى السبب مع تحقق المسبب، وهو الأكل والمشي، ولكنه استبعد تحقق ذلك لانتفاء سببه عندهم تهكماً واستهزاءً. والمعنى: أنه إن صح ما يدعيه من النبوة فما باله لم يخالف حاله حالنا " لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا " طلبوا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مصحوباً بملك يعضده ويساعده، تنزلوا عن اقتراح أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ملكاً مستغنياً عن الأكل والكسب، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدقه ويشهد له بالرسالة. قرأ الجمهور "فيكون" بالنصب على كونه جواب التحضيض. وقرئ فيكون بالرفع على أنه معطوف على أنزل، وجاز عطفه على الماضي لأن المراد به المستقبل.
8- "أو يلقى إليه كنز" معطوف على أنزل، ولا يجوز عطفه على يكون معه كنز يلقى إليه من السماء ليستغني به عن طلب الرزق "أو تكون له جنة يأكل منها" قرأ الجمهور "تكون" بالمثناة الفوقية، وقرأ الأعمش وقتادة يكون بالتحتية، لأن تأنيث الجنة غير حقيقي. وقرأ "نأكل" بالنون حمزة وعلي وخلف، وقرأ الباقون "يأكل" بالمثناة التحتية: أي بستان نأكل نحن من ثماره، أو يأكل هو وحده منه ليكون له بذلك مزية علينا حيث يكون أكله من جنته. قال النحاس: والقراءتان حسنتان وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فعود الضمير إليه بين "وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً" المراد بالظالمون هنا هم القائلون بالمقالات الأولى، وإنما وضع الظاهر موضع المضمر مع الوصف بالظلم للتسجيل عليهم به: أي ما تتبعون إلا رجلا مغلوبا على عقله بالسحر، وقيل ذا سحر، وهي الرئة: أي بشراً له رئة لا ملكاً، وقد تقدم بيان مثل هذا في سبحان.
9- "انظر كيف ضربوا لك الأمثال" ليتوصلوا بها إلى تكذيبك، والأمثال هي الأقوال النادرة والاقتراحات الغريبة، وهي ما ذكروه هاهنا "فضلوا" عن الصواب فلا يجدون طريقاً إليه ولا وصلوا إلى شيء منه، بل جاءوا بهذه المقالات الزائفة التي لا تصدر عن أدنى العقلاء وأقلهم تمييزاً ولهذا قال: "فلا يستطيعون سبيلاً" أي لا يجدون إلى القدح في نبوة هذا النبي طريقاً من الطرق.
10- "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك" أي تكاثر خير الذي إن شاء جعل لك في الدنيا معجلاً خيراً من ذلك الذي اقترحوه. ثم فسر الخير فقال: "جنات تجري من تحتها الأنهار" فجنات بدل من خيراً "ويجعل لك قصوراً" معطوف على موضع جعل، وهو الجزم، وبالجزم قرأ الجمهور. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع "يجعل" على أنه مستأنف، وقد تقرر في علم الإعراب أن الشرط إذا كان ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع فجاز أن يكون جعل هاهنا في محل جزم ورفع فيجوز فيما عطف عليه أن يجزم ويرفع. وقرئ بالنصب. وقرئ بإدغام لام لك في لام يجعل لاجتماع المثلين. وقرئ بترك الإدغام لأن الكلمتين منفصلتان، والقصر البيت من الحجارة، لأن الساكن به مقصور عن أن يوصل إليه، وقيل هو بيت الطين وبيوت الصوف والشعر. ثم أضرب سبحانه عن توبيخهم بما حكاه عنهم من الكلام الذي لا يصدر عن العقلاء.
11- "بل كذبوا بالساعة" أي بل أتوا بأعجب من ذلك كله. وهو تكذيبهم بالساعة، فلهذا لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها. ثم ذكر سبحانه ما أعده لمن كذب بالساعة فقال: "وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً" أي ناراً مشتعلة متسعرة، والجملة في محل نصب على الحال: أي بل كذبوا بالساعة، والحال أنا أعتدنا. قال أبو مسلم: أعتدنا: أي جعلناه عتيداً ومعداً لهم.