تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 39 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 39

 حَـٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَوٰةِ ٱلْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـٰنِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَٰجًا وَصِيَّةً لازْوَاجِهِم مَّتَـٰعًا إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

تقدم توضيح  هذه الأيات مع الأيات التي في الصفحة السابقة

{وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
، وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ ظاهر هذه الآية الكريمة أن المتعة حق لكل مطلقة على مطلقها المتقي ، سواء أطلقت قبل الدخول أم لا ؟ فرض لها صداق أم لا ؟ ويدل لهذا العموم قوله تعالىٰ : {شَىْء قَدِيراً يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لاْزْوٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاح} ، مع قوله : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وقد تقرر في الأصول أن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم يعم حكمه جميع الأمة إلا بدليل على الخصوص كما عقده في « مراقي السعود » بقوله : وما به قد خوطب النبي تعميمه في المذهب السني

وهو مذهب الأئمة الثلاثة ، خلافًا للشافعي القائل بخصوصه به صلى الله عليه وسلم إلا بدليل على العموم ، كما بينّاه في غير هذا الموضع .
وإذا عرفت ذلك فاعلم : أن أزواج النبيّ مفروض لهن ومدخول بهن ، وقد يفهم من موضع آخر أن المتعة لخصوص المطلقة قبل الدخول ، وفرض الصداق معًا ؛ لأن المطلقة بعد الدخول تستحق الصداق ، والمطلقة قبل الدخول وبعد فرض الصداق تستحق نصف الصداق . والمطلقة قبلهما لا تستحق شيئًا ، فالمتعة لها خاصة لجبر كسرها وذلك في قوله تعالىٰ : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنَّ} ، ثم قال : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، فهذه الآية ظاهرة في هذا التفصيل ، ووجهه ظاهر معقول .
وقد ذكر تعالىٰ في موضع آخر ما يدل على الأمر بالمتعة للمطلقة قبل الدخول وإن كان مفروضًا لها ، وذلك في قوله تعالىٰ : {وَكِـيلاً يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ وَسَرّحُوهُنَّ} ؛ لأن ظاهر عمومها يشمل المفروض لها الصداق وغيرها ، وبكل واحدة من الآيات الثلاث أخذ جماعة من العلماء ، والأحوط الأخذ بالعموم ، وقد تقرر في الأصول أن النصّ الدال على الأمر مقدم على الدال على الإباحة ، وعقده في « مراقي السعود » بقوله : وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر

على إباحة الخ ...
فقوله ثم هذا الآخر على إباحة ، يعني : أن النصّ الدال على أمر مقدم على النص الدال على إباحة ، للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب .
والتحقيق أن قدر المتعة لا تحديد فيه شرعًا لقوله تعالىٰ : {عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ} ، فإن توافقا على قدر معين فالأمر واضح ، وإن اختلفا فالحاكم يجتهد في تحقيق المناط ، فيعين القدر على ضوء قوله تعالىٰ : {عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ} ، هذا هو الظاهر ، وظاهر قوله : {وَمَتّعُوهُنَّ} ، وقوله : {وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ} ، يقتضي وجوب المتعة في الجملة خلافًا لمٰلك ومن وافقه في عدم وجوب المتعة أصلاً ، واستدل بعض المالكية على عدم وجوب المتعة بأن اللَّه تعالىٰ قال : {حَقّا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ} ، وقال : {حَقّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ} ، قالوا : فلو كانت واجبة لكانت حقًا على كل أحد ، وبأنها لو كانت واجبة لعيّن فيها القدر الواجب .
قال مقيده عفا اللَّه عنه هذا الاستدلال على عدم وجوبها لا ينهض فيما يظهر ؛ لأن قوله : {عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ} و {عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ} تأكيد للوجوب وليس لأحد أن يقول لست متقيًا مثلاً ؛ لوجوب التقوى على جميع الناس .
قال القرطبي في تفسير قوله تعالىٰ : {وَمَتّعُوهُنَّ} الآية ما نصّه : وقوله {عَلَىٰ} تأكيد لإيجابها ؛ لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي اللَّه في الإشراك به ومعاصيه وقد قال تعالىٰ في القرءَان : {فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} ، وقولهم لو كانت واجبة لعيّن القدر الواجب فيها ، ظاهر السقوط . فنفقة الأزواج والأقارب واجبة ولم يعيّن فيها القدر اللازم ، وذلك النوع من تحقيق المناط مجمع عليه في جميع الشرائع كما هو معلوم . قوله تعالىٰ :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَـٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
، أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ المقصود من هذه الآية الكريمة ، تشجيع المؤمنين على القتال بإعلامهم بأن الفرار من الموت لا ينجي ، فإذا علم الإنسان أن فراره من الموت أو القتل لا ينجيه ، هانت عليه مبارزة الأقران ؛ والتقدم في الميدان . وقد أشار تعالىٰ أن هذا هو مراده بالآية حيث أتبعها بقوله : {وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ} ، وصرح بما أشار إليه هنا في قوله : {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيل} ، وهذه أعظم آية في التشجيع على القتال ؛ لأنها تبين أن الفرار من القتل لا ينجي منه ، ولو فرض نجاته منه فهو ميت عن قريب ، كما قال قعنب ابن أم صاحب : إذا أنت لاقيت في نجدة فلا تتهيّبك أن تقدما
فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما
وإن تتخطّك أسبابها فإن قصاراك أن تهرما

وقال زهير :
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تُمِتْهُ ومن تُخطىء يُعمرَّ فيهرم

وقال أبو اطلطيب :
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جبانا
ولقد أجاد من قال : في الجبن عارٌ وفي الإقدام مكرمة والمرء في الجبن لا ينجو من القدر

وهذا هو المراد بالآيات المذكورة ، ويؤخذ من هذه الآية عدم جواز الفرار من الطاعون إذا وقع بأرض وأنت فيها ، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم النهي عن الفرار من الطاعون وعن القدوم على الأرض التي هو فيها إذا كنت خارجًا عنها . تنبيــه
لم تأت لفظة {أَلَمْ تَرَ} ونحوها في القرءان مما تقدمه لفظ {الم} ، معداة إلا بالحرف الذي هو {إِلَىٰ} . وقد ظن بعض العلماء أن ذلك لازم ، والتحقيق عدم لزومه وجواز تعديته بنفسه دون حرف الجر ، كما يشهد له قول امرىء القيس :
ألم ترياني كلما جئت طارقًا وجدت بها طيبًا وإن لم تطيب