تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 39 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 39

39- تفسير الصفحة رقم39 من المصحف
الآية: 238 {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين}
قوله تعالى: "حافظوا" خطاب لجمع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها. والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه. ، والوسطى تأنيث الأوسط. ووسط الشيء خيره وأعدله؛ ومنه قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" [البقرة: 143] وقد تقدم. وقال أعرابي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم وأكرم الناس أما برة وأبا
ووسط فلان القوم يسطهم أي صار في وسطهم. وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر وقد دخلت قبل في عموم الصلوات تشريفا لها؛ كقوله تعالى: "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح" [الأحزاب: 7]، وقوله: "فيهما فاكهة ونخل ورمان" [الرحمن: 68]. وقرأ أبو جعفر الواسطي "والصلاة الوسطى" بالنصب على الإغراء، أي وألزموا الصلاة الوسطى: وكذلك قرأ الحلواني. وقرأ قالون عن نافع "الوصطى" بالصاد لمجاورة الطاء لها؛ لأنهما من حيز واحد، وهما لغتان كالصراط ونحوه.
واختلف الناس في تعيين الصلاة الوسطى على عشرة أقوال:
الأول: أنها الظهر؛ لأنها وسط النهار على الصحيح من القولين أن النهار أوله من طلوع الفجر كما تقدم، وإنما بدأنا بالظهر لأنها أول صلاة صليت في الإسلام. وممن قال أنها الوسطى زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وعبدالله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم. ومما يدل على أنها وسطى ما قالته عائشة وحفصة حين أملتا "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" بالواو. وروي أنها كانت أشق على المسلمين؛ لأنها كانت تجيء في الهاجرة وهم قد نفهتهم أعمالهم في أموالهم. وروى أبو داود عن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن تصلى صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. وروى مالك في موطئه وأبو داود الطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر؛ زاد الطيالسي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجير.
الثاني: إنها العصر؛ لأن قبلها صلاتي نهار وبعدها صلاتي ليل. قال النحاس: وأجود من هذا الاحتجاج أن يكون إنما قيل لها وسطى لأنها بين صلاتين إحداهما أول ما فرض والأخرى الثانية مما فرض. وممن قال أنها وسطى علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري، وهو اختيار أبي حنيفة وأصحابه، وقاله الشافعي وأكثر أهل الأثر، وإليه ذهب عبدالملك بن حبيب واختاره ابن العربي في قبسه وابن عطية في تفسيره وقال: وعلى هذا القول الجمهور من الناس وبه أقول واحتجوا بالأحاديث الواردة في هذا الباب خرجها مسلم وغيره، وأنصها حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة الوسطى صلاة العصر) خرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقد أتينا زيادة على هذا في القبس في شرح موطأ مالك بن أنس.
الثالث: إنها المغرب؛ قاله قبيصة بن أبي ذؤيب في جماعة. والحجة لهم أنها متوسطة في عدد الركعات ليست بأقلها ولا أكثرها ولا تقصر في السفر، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها، وبعدها صلاتا جهر وقبلها صلاتا سر. وروي من حديث عائشة رضي الله عتها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب لم يحطها عن مسافر ولا مقيم فتح الله بها صلاة الليل وختم بها صلاة النهار فمن صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين بنى الله له قصرا في الجنة ومن صلى بعدها أربع ركعات غفر الله له ذنوب عشرين سنة - أو قال - أربعين سنة).
الرابع: صلاة العشاء الآخرة؛ لأنها بين صلاتين لا تقصران، وتجيء في وقت نوم ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها.
الخامس: إنها الصبح؛ لأن قبلها صلاتي ليل يجهر فيهما وبعدها صلاتي نهار يسر فيهما؛ ولأن وقتها يدخل والناس نيام، والقيام إليها شاق في زمن البرد لشدة البرد وفي زمن الصيف لقصر الليل. وممن قال أنها وسطى علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس، أخرجه، الموطأ بلاغا، وأخرجه الترمذي عن ابن عمر وابن عباس تعليقا، وروي عن جابر بن عبدالله، وهو قول مالك وأصحابه وإليه ميل الشافعي فيما ذكر عنه القشيري. والصحيح عن علي أنها العصر، وروي عنه ذلك من وجه معروف صحيح وقد استدل من قال أنها الصبح بقوله تعالى: "وقوموا لله قانتين" يعني فيها، ولا صلاة مكتوبة فيها قنوت إلا الصبح. قال أبو رجاء: صلى بنا ابن عباس صلاة الغداة بالبصرة فقنت فيها قبل الركوع ورفع يديه فلما فرغ قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله تعالى أن نقوم فيها قانتين. وقال أنس: قنت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بعد الركوع؛ وسيأتي حكم القنوت وما للعلماء فيه في "آل عمران" عند قوله تعالى: "ليس لك من الأمر شيء".
السادس: صلاة الجمعة؛ لأنها خصت بالجمع لها والخطبة فيها وجعلت عيدا ذكره ابن حبيب ومكي وروى مسلم عن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: (لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم).
السابع: إنها الصبح والعصر معا. قاله الشيخ أبو بكر الأبهري؛ واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار...) الحديث، رواه أبو هريرة. وروى جرير بن عبدالله قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (أما أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها...) يعني العصر والفجر: ثم قرأ جرير "وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" [ق: 39]. وروى عمارة بن رؤيبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)، يعني الفجر والعصر. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى البردين دخل الجنة) كله ثابت في صحيح مسلم وغيره. وسميتا البردين لأنهما يفعلان في وقتي البرد.
الثامن: إنها العتمة والصبح. قال أبو الدرداء رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه: (اسمعوا وبلغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة - العشاء والصبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على مرافقكم وركبكم) قاله عمر وعثمان. وروى الأئمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا - وقال - إنهما أشد الصلاة على المنافقين) وجعل لمصلي الصبح في جماعة قيام ليلة والعتمة نصف ليلة؛ ذكره مالك موقوفا على عثمان ورفعه مسلم، وخرجه أبو داود والترمذي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة) وهذا خلاف ما رواه مالك ومسلم.
التاسع: أنها الصلوات الخمس بجملتها؛ قاله معاذ بن جبل؛ لأن قوله تعالى: "حافظوا على الصلوات" يعم الفرض والنفل، ثم خص الفرض بالذكر.
العاشر: إنها غير معينة؛ قاله نافع عن ابن عمر، وقاله الربيع بن خيثم فخبأها الله تعالى في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان، وكما خبأ ساعة يوم الجمعة وساعات الليل المستجاب فيها الدعاء ليقوموا بالليل في الظلمات لمناجاة عالم الخفيات. ومما يدل على صحة أنها مبهمة غير معينة ما رواه مسلم في صحيحه في آخر الباب عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية: "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر" فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فقال رجل: هي إذا صلاة العصر؟ قال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله تعالى، والله أعلم. فلزم من هذا أنها بعد أن عينت نسخ تعيينها وأبهمت فارتفع التعيين، والله أعلم. وهذا اختيار مسلم لأنه أتى به في آخر الباب وقال به غير واحد من العلماء المتأخرين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لتعارض الأدلة وعدم الترجيح فلم يبق إلا المحافظة على جميعها وأدائها في أوقاتها والله أعلم.
وهذا الاختلاف في الصلاة الوسطى يدل على بطلان من أثبت "وصلاة العصر" المذكور في حديث أبي يونس مولى عائشة حين أمرته أن يكتب لها مصحفا قرآنا. قال علماؤنا: وإنما ذلك كالتفسير من النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على ذلك حديث عمرو بن رافع قال: (أمرتني حفصة أن أكتب لها مصحفا...) الحديث. وفيه: فأملت علي "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى - وهي العصر - وقوموا لله قانتين" وقالت: هكذا سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها. فقولها: "وهي العصر" دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الصلاة الوسطى من كلام الله تعالى بقوله هو(وهي العصر). وقد روى نافع عن حفصة "وصلاة العصر"؛ كما روي عن عائشة وعن حفصة أيضا "صلاة العصر" بغير واو. وقال أبو بكر الأنباري: وهذا الخلاف في هذا اللفظ المزيد يدل على بطلانه وصحة ما في الإمام مصحف جماعة المسلمين. وعليه حجة أخرى وهو أن من قال: والصلاة الوسطى وصلاة العصر جعل الصلاة الوسطى غير العصر؛ وفي هذا دفع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبدالله قال: شغل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب عن صلاة العصر حتى اصفرت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا...) الحديث.
قوله تعالى: "والصلاة الوسطى" دليل على أن الوتر ليس بواجب لأن المسلمين اتفقوا على أعداد الصلوات المفروضات أنها تنقص عن سبعة وتزيد على ثلاثة وليس بين الثلاثة والسبعة فرد إلا الخمسة والأزواج لا وسط لها فثبت أنها خمسة. وفي حديث الإسراء: (هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي).
قوله تعالى: "وقوموا لله قانتين" معناه في صلاتكم. واختلف الناس في معنى قوله "قانتين" فقال الشعبي: طائعين؛ وقاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير.، وقال الضحاك: كل قنوت في القرآن فإنما يعني به الطاعة. وقاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإن أهل كل دين فهم اليوم يقومون عاصين، فقيل لهذه الأمة فقوموا لله طائعين. وقال مجاهد: معنى قانتين خاشعين، والقنوت طول الركوع والخشوع وغض البصر وخفض الجناح. وقال الربيع: القنوت طول القيام؛ وقاله ابن عمر وقرأ "أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما" [الزمر: 9]. وقال عليه السلام. (أفضل الصلاة طول القنوت) خرجه مسلم وغيره. وقال الشاعر:
قانتا لله يدعو ربه وعلى عمدن من الناس اعتزل
وقد تقدم. وروي عن ابن عباس "قانتين" داعين. وفي الحديث: (قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان) قال قوم: معناه دعا، وقال قوم: معناه طول قيامه. وقال السدي: "قانتين" ساكتين؛ دليله أن الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحا في صدر الإسلام؛ وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم وغيره عن عبدالله بن مسعود قال: كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ فقال: (إن في الصلاة شغلا). وروى زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: "وقوموا لله قانتين" فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وقيل: إن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء. ومن حيث كان أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتا، وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة، أو أطال الخشوع والسكوت، كل هؤلاء فاعلون للقنوت.
قال أبو عمر: أجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنه يفسد الصلاة، إلا ما روي عن الأوزاعي أنه قال: من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام لم تفسد صلاته بذلك. وهو قول ضعيف في النظر؛ لقول الله عز وجل: "وقوموا لله قانتين" وقال زيد بن أرقم: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: "وقوموا لله قانتين"...) الحديث. وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله أحدث من أمره ألا تكلموا في الصلاة). وليس الحادث الجسيم الذي يجب له قطع الصلاة ومن أجله يمنع من الاستئناف، فمن قطع صلاته لما يراه من الفضل في إحياء نفس أو مال أو ما كان بسبيل ذلك استأنف صلاته ولم يبن. هذا هو الصحيح في المسألة إن شاء الله تعالى.
واختلفوا في الكلام ساهيا فيها؛ فذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلى أن الكلام فيها ساهيا لا يفسدها، غير أن مالكا قال: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها؛ وهو قول ربيعة وابن القاسم. وروى سحنون عن ابن القاسم عن مالك قال: لو أن قوما صلى بهم الإمام ركعتين وسلم ساهيا فسبحوا به فلم يفقه، فقال له رجل من خلفه ممن هو معه في الصلاة: إنك لم تتم فأتم صلاتك؛ فالتفت إلى القوم فقال: أحق ما يقول هذا؟ فقالوا: نعم، قال: يصلي بهم الإمام ما بقي من صلاتهم ويصلون معه بقية صلاتهم من تكلم منهم ومن لم يتكلم ولا شيء عليهم ويفعلون في ذلك ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذي اليدين. هذا قول ابن القاسم في كتابه المدونة وروايته عن مالك، وهو المشهور من مذهب مالك وإياه تقلد إسماعيل بن إسحاق واحتج له في كتاب رده على محمد بن الحسن. وذكر الحارث بن مسكين قال: أصحاب مالك كلهم على خلاف قول مالك في مسألة ذي اليدين إلا ابن القاسم وحده فإنه يقول فيها بقول مالك، وغيرهم يأبونه ويقولون: إنما كان هذا في صدر الإسلام، فأما الآن فقد عرف الناس صلاتهم فمن تكلم فيها أعادها؛ وهذا هو قول العراقيين: أبي حنيفة وأصحابه والثوري فإنهم ذهبوا إلى أن الكلام في الصلاة يفسدها على أي حال كان سهوا أو عمدا لصلاة كان أو لغير ذلك؛ وهو قوله إبراهيم النخعي، وعطاء والحسن وحماد بن أبي سليمان وقتادة. وزعم أصحاب أبي حنيفة أن حديث أبى هريرة هذا في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم، قالوا: وإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام فإنه أرسل حديث ذي اليدين كما أرسل حديث (من أدركه الفجر جنبا فلا صوم له) قالوا: وكان كثير الإرسال. وذكر علي بن زياد قال حدثنا أبو قرة قال: سمعت مالكا يقول: يستحب إذا تكلم الرجل في الصلاة أن يعود لها ولا يبني. قال: وقال لنا مالك إنما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم أصحابه معه يومئذ؛ لأنهم ظنوا أن الصلاة قصرت ولا يجوز ذلك لأحد اليوم. وقد روى سحنون عن ابن القاسم في رجل صلى وحده ففرغ عند نفسه من الأربع، فقال له رجل إلى جبنه: إنك لم تصل إلا ثلاثا؛ فالتفت إلى آخر فقال: أحق ما يقول هذا؟ قال: نعم، قال: تفسد صلاته ولم يكن ينبغي له أن يكلمه ولا أن يلتفت إليه. قال أبو عمر: فكانوا يفرقون في هذه المسألة بين الإمام مع الجماعة والمنفرد فيجيزون من الكلام في شأن الصلاة. للإمام ومن معه ما لا يجيزونه للمنفرد؛ وكان غير هؤلاء يحملون جواب ابن القاسم في المنفرد في هذه المسألة وفي الإمام ومن معه على اختلاف من قوله في استعمال حديث ذي اليدين كما اختلف قول مالك في ذلك. وقال الشافعي وأصحابه: من تعمد الكلام وهو يعلم أنه لم يتم الصلاة وأنه فيها أفسد صلاته، فإن تكلم ساهيا أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة لأنه قد أكملها عند نفسه فإنه يبني. واختلف قول أحمد في هذه المسألة فذكر الأثرم عنه أنه قال: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لم تفسد عليه صلاته، فإن تكلم لغير ذلك فسدت؛ وهذا هو قول مالك المشهور. وذكر الخرقي عنه أن مذهبه فيمن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته، إلا الإمام خاصة فإنه إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل صلاته. واستثنى سحنون من أصحاب مالك أن من سلم من اثنتين في الرباعية فوقع الكلام هناك لم تبطل الصلاة، وإن وقع في غير ذلك بطلت الصلاة. والصحيح ما ذهب إليه مالك في المشهور تمسكا بالحديث وحملا له على الأصل الكلي من تعدي الأحكام، وعموم الشريعة، ودفعا لما يتوهم من الخصوصية إذ لا دليل عليها. فإن قال قائل: فقد جرى الكلام في الصلاة والسهو أيضا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) فلم لم يسبحوا؟ فيقال: لعل في ذلك الوقت لم يكن أمرهم بذلك، ولئن كان كما ذكرت فلم يسبحوا؛ لأنهم توهموا أن الصلاة قصرت؛ وقد جاء ذلك في الحديث قال: وخرج سرعان الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ فلما يكن بد من الكلام لأجل ذلك. والله أعلم.
وقد قال بعض المخالفين: قول أبي هريرة (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن يكون مراده أنه صلى بالمسلمين وهو ليس منهم؛ كما روي عن النزال بن سبرة أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف وأنتم اليوم بنو عبدالله ونحن بنو عبدالله) وإنما عنى به أنه قال لقومه وهذا بعيد؛ فإنه لا يجوز أن يقول صلى بنا وهو إذ ذاك كافر ليس من أهل الصلاة ويكون ذلك كذبا، وحديث النزال هو كان من جملة القوم وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع. وأما ما ادعته الحنفية من النسخ والإرسال فقد أجاب عن قولهم علماؤنا وغيرهم وأبطلوه، وخاصة الحافظ أبا عمر بن عبدالبر في كتابه المسمى بـ [التمهيد] وذكر أن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وقدم المدينة في ذلك العام، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أعوام، وشهد قصة ذي اليدين وحضرها، وأنها لم تكن قبل بدر كما زعموا، وأن ذا اليدين قتل في بدر. قال: وحضور أبي هريرة يوم ذي اليدين محفوظ من رواية الحفاظ الثقات، وليس تقصير من قصر عن ذلك بحجة على من علم ذلك وحفظه وذكر.
القنوت: القيام، وهو أحد أقسامه فيما ذكر أبو بكر بن الأنباري، وأجمعت الأمة على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، منفردا كان أو إماما. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما) الحديث،، أخرجه الأئمة، وهو بيان لقوله تعالى: "وقوموا لله قانتين". واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي قاعدا خلف إمام مريض لا يستطيع القيام؛ فأجازت ذلك طائفة من أهل العلم بل جمهورهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الإمام: (وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون) وهذا هو الصحيح في المسألة على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى. وقد أجاز طائفة من العلماء صلاة القائم خلف الإمام المريض لأن كلا يؤدي فرضه على قدر طاقته تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صلى في مرضه الذي توفي فيه قاعدا وأبو بكر إلى جنبه قائما يصلي بصلاته والناس قيام خلفه، ولم يشر إلى أبي بكر ولا إليهم بالجلوس، وأكمل صلاته بهم جالسا وهم قيام؛ ومعلوم أن ذلك كان منه بعد سقوطه عن فرسه؛ فعلم أن الآخر من فعله ناسخ للأول. قال أبو عمر: وممن ذهب إلى هذا المذهب واحتج بهذه الحجة الشافعي وداود بن علي، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. قال: وأحب إلي أن يقوم إلى جنبه ممن يعلم الناس بصلاته، وهذه الرواية غريبة عن مالك. وقال بهذا جماعة من أهل المدينة وغيرهم وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأنها آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمشهور عن مالك أنه لا يؤم القيام أحد جالسا، فإن أمهم قاعدا بطلت صلاته وصلاتهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحد بعدي قاعدا). قال: فإن كان الإمام عليلا تمت صلاة الإمام وفسدت صلاة من خلفه. قال: ومن صلى قاعدا من غير علة أعاد الصلاة؛ هذه رواية أبي مصعب في مختصره عن مالك، وعليها فيجب على من صلى قاعدا الإعادة في الوقت وبعده. وقد روي عن مالك في هذا أنهم يعيدون في الوقت خاصة، وقول محمد بن الحسن في هذا مثل قول مالك المشهور. واحتج لقوله ومذهبه بالحديث الذي ذكره أبو مصعب، أخرجه الدارقطني عن جابر عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحد بعدي جالسا). قال الدارقطني: لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي وهو متروك الحديث، مرسل لا تقوم به حجة. قال أبو عمر: جابر الجعفي لا يحتج بشيء يرويه مسندا فكيف بما يرويه مرسلا؟ قال محمد بن الحسن: إذا صلى الإمام المريض جالسا بقوم أصحاء ومرضى جلوسا فصلاته وصلاة من خلفه ممن لا يستطيع القيام صحيحة جائزة، وصلاة من صلى خلفه ممن حكمه القيام باطلة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: صلاته وصلاتهم جائزة. وقالوا: لو صلى وهو يومئ بقوم وهم يركعون ويسجدون لم تجزهم في قولهم جميعا وأجزأت الإمام صلاته. وكان زفر يقول: تجزئهم صلاتهم؛ لأنهم صلوا على فرضهم وصلى إمامهم على فرضه، كما قال الشافعي.
قلت: أما ما ذكره أبو عمر وغيره من العلماء قبله وبعده من أنها آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأيت لغيرهم خلال ذلك ممن جمع طرق الأحاديث في هذا الباب، وتكلم عليها وذكر اختلاف الفقهاء في ذلك، ونحن نذكر ما ذكره ملخصا حتى يتبين لك الصواب إن شاء الله تعالى. وصحة قول من قال أن صلاة المأموم الصحيح قاعدا خلف الإمام المريض جائزة، فذكر أبو حاتم محمد بن حبان البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من أصحابه فقال: (ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم) قالوا: بلى، نشهد أنك رسول الله، قال: (ألستم تعلمون أنه من أطاعني فقد أطاع الله ومن طاعة الله طاعتي)؟ قالوا: بلى، نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله ومن طاعة الله طاعتك. قال: (فإن من طاعة الله أن تطيعوني ومن طاعتي أن تطيعوا أمراءكم فإن صلوا قعودا فصلوا قعودا). في طريقه عقبة بن أبي الصهباء وهو ثقة؛ قاله يحيى بن معين. قال أبو حاتم: في هذا الخبر بيان واضح أن صلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا من طاعة الله جل وعلا التي أمر الله بها عباده، وهو عندي ضرب من الإجماع الذي أجمعوا على إجازته؛ لأن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أفتوا به: جابر بن عبدالله وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قهد، ولم يرو عن أحد من الصحابة الذين شهدوا هبوط الوحي والتنزيل وأعيذوا من التحريف والتبديل خلاف لهؤلاء الأربعة، لا بإسناد متصل ولا منقطع؛ فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعدا كان على المأمومين أن يصلوا قعودا. وبه قال جابر بن زيد والأوزاعي ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة وابن أبي شيبة ومحمد بن إسماعيل ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل محمد بن نصر ومحمد بن إسحاق بن خزيمة. وهذه السنة رواها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك وعائشة وأبو هريرة وجابر بن عبدالله وعبدالله بن عمر بن الخطاب وأبو أمامة الباهلي. وأول من أبطل في هذه الأمة صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب النخعي وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة وتبعه عليه من بعده من أصحابه. وأعلى شيء احتجوا به فيه شيء رواه جابر الجعفي عن الشعبي قال قال رسول الله: (لا يؤمن أحد بعدي جالسا) وهذا لو صح إسناده لكان مرسلا، والمرسل من الخبر وما لم يرو سيان في الحكم عندنا، ثم إن أبا حنيفة يقول: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، وما أتيته بشيء قط من رأي إلا جاءني فيه بحديث، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينطق بها؛ فهذا أبو حنيفة يجرح جابرا الجعفي ويكذبه ضد قول من انتحل من أصحابه مذهبه. قال أبو حاتم: وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فجاءت الأخبار فيها مجملة ومختصرة، وبعضها مفصلة مبينة؛ ففي بعضها: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر. وفي بعضها: فجلس عن يسار أبي بكر وهذا مفسر. وفيه: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس قاعدا وأبو بكر قائما. قال أبو حاتم: وأما إجمال هذا الخبر فإن عائشة حكت هذه الصلاة إلى هذا الموضع، وآخر القصة عند جابر بن عبدالله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقعود أيضا في هذه الصلاة كما أمرهم به عند سقوطه عن فرسه؛ أنبأنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال أنبأنا يزيد بن موهب قال حدثني الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، قال: فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا). قال أبو حاتم: ففي هذا الخبر المفسر بيان واضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قعد عن يسار أبي بكر وتحول أبو بكر مأموما يقتدى بصلاته ويكبر يسمع الناس التكبير ليقتدوا بصلاته، أمرهم صلى الله عليه وسلم حينئذ بالقعود حين رآهم قياما؛ ولما فرغ من صلاته أمرهم أيضا بالقعود إذا صلى إمامهم قاعدا.
وقد شهد جابر بن عبدالله صلاته صلى الله عليه وسلم حين سقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، وكان سقوطه صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجة آخر سنة خمس من الهجرة، وشهد هذه الصلاة في علته صلى الله عليه وسلم في غير هذا التاريخ فأدى كل خبر بلفظه؛ ألا تراه يذكر في هذه الصلاة: رفع أبو بكر صوته بالتكبير ليقتدي به الناس، وتلك الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته عند سقوطه عن فرسه، لم يحتج إلى أن يرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس تكبيره على صغر حجرة عائشة، وإنما كان رفعه صوته بالتكبير في المسجد الأعظم الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في علته؛ فلما صح ما وصفنا لم يجز أن نجعل بعض هذه الأخبار ناسخا لبعض؛ وهذه الصلاة كان خروجه إليها صلى الله عليه وسلم بين رجلين، وكان فيها إماما وصلى بهم قاعدا وأمرهم بالقعود. وأما الصلاة التي صلاها آخر عمره فكان خروجه إليها بين بريرة وثوبة، وكان فيها مأموما، وصلى قاعدا خلف أبي بكر في ثوب واحد متوشحا به. رواه أنس بن مالك قال: آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد متوشحا به قاعدا خلف أبي بكر فصلى عليه السلام صلاتين في المسجد جماعة لا صلاة واحدة. وإن في خبر عبيدالله بن عبدالله عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بين رجلين. يريد أحدهما العباس والآخر عليا. وفي خبر مسروق عن عائشة: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين بريرة وثوبة، إني لأنظر إلى نعليه تخطان في الحصى وأنظر إلى بطون قدميه؛ الحديث. فهذا يدلك على أنهما كانتا صلاتين لا صلاة واحدة. قال أبو حاتم: أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا بدل بن المحبر قال: حدثنا شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن عبيدالله بن عبدالله عن عائشة: أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه. قال أبو حاتم: خالف شعبة بن الحجاج زائدة بن قدامة في متن هذا الخبر عن موسى بن أبي عائشة فجعل شعبة النبي صلى الله عليه وسلم مأموما حيث صلى قاعدا والقوم قيام، وجعل زائدة النبي صلى الله عليه وسلم إماما حيث صلى قاعدا والقوم قيام، وهما متقنان حافظان. فكيف يجوز أن يجعل إحدى الروايتين اللتين تضادتا في الظاهر في فعل واحد ناسخا لأمر مطلق متقدم، فمن جعل أحد الخبرين ناسخا لما تقدم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وترك الآخر من غير دليل ثبت له على صحته سوغ لخصمه أخذ ما ترك من الخبرين وترك ما أخذ منهما. ونظير هذا النوع من السنن خبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم وخبر أبي رافع صلى نكحها وهما حلالان فتضاد الخبران في فعل واحد في الظاهر من غير أن يكون بينهما تضاد عندنا؛ فجعل جماعة من أصحاب الحديث الخبرين اللذين رويا في نكاح ميمونة متعارضين، وذهبوا إلى خبر عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح المحرم ولا ينكح) فأخذوا به، إذ هو يوافق إحدى الروايتين اللتين رويتا في نكاح ميمونة، وتركوا خبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهو محرم؛ فمن فعل هذا لزمه أن يقول: تضاد الخبران في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في علته على حسب ما ذكرناه قبل، فيجب أن يجيء إلى الخبر الذي فيه الأمر بصلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا فيأخذ به، إذ هو يوافق إحدى الروايتين اللتين رويتا في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في علته ويترك الخبر المنفرد عنهما كما فعل ذلك في نكاح ميمونة. قال أبو حاتم: زعم بعض العراقيين ممن كان ينتحل مذهب الكوفيين أن قوله: (وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا) أراد به وإذا تشهد قاعدا فتشهدوا قعودا أجمعون فحرف الخبر عن عموم ما ورد الخبر فيه بغير دليل ثبت له على تأويله.
الآية: 239 {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}
قوله تعالى: "فإن خفتم" من الخوف الذي هو الفزع. "فرجالا" أي فصلوا رجالا. "أو ركبانا" معطوف عليه. والرجال جمع راجل أو رجل من قولهم: رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركوب ومشى على قدميه، فهو رجل وراجل ورجل - (بضم الجيم) وهي لغة أهل الحجاز؛ يقولون: مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا؛ - حكاه الطبري وغيره - ورجلان ورجيل ورجل، ويجمع على رجال ورجلي ورجال ورجالة ورجالى ورجلان ورجلة ورجله (بفتح الجيم) وأرجلة وأراجل وأراجيل. والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضا على رجال.
لما أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قنوت وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة ذكر حالة الخوف الطارئة أحيانا، وبين أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حال، ورخص لعبيده في الصلاة رجالا على الأقدام وركبانا على الخيل والإبل ونحوها، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه؛ هذا قول العلماء، وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو من عدو يتبعه أو سيل يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية.
هذه الرخصة في ضمنها إجماع العلماء أن يكون الإنسان حيثما توجه من السُّموت ويتقلب ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه.
واختلف في الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالا وركبانا؛ فقال الشافعي: هو إطلال العدو عليهم فيتراءون معا والمسلمون في غير حصن حتى ينالهم السلاح من الرمي أو أكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب، أو يأتي من يصدق خبره فيخبره بأن العدو قريب منه ومسيرهم جادين إليه؛ فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف. فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ثم ذهب العدو لم يعيدوا، وقيل: يعيدون؛ وهو قول أبي حنيفة. قال أبو عمر: فالحال التي يجوز منها للخائف أن يصلي راجلا أو راكبا مستقبل القبلة أو غير مستقبلها هي حال شدة الخوف، والحال التي وردت الآثار فيها هي غير هذه. وهي صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس وليس حكمها في هذه الآية، وهذا يأتي بيانه في سورة "النساء" إن شاء الله تعالى. وفرق مالك بين خوف العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه من جمل صائل أو سيل أو ما الأغلب من شأنه الهلاك، فإنه استحب من غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن. وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء.
قال أبو حنيفة: إن القتال يفسد الصلاة؛ وحديث ابن عمر يرد عليه، وظاهر الآية أقوى دليل عليه، وسيأتي هذا في "النساء" إن شاء الله تعالى. قال الشافعي: لما رخص تبارك وتعالى في جواز ترك بعض الشروط دل ذلك على أن القتال في الصلاة لا يفسدها، والله أعلم.
لا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعي وجماعة من العلماء وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما: يصلي ركعة إيماء؛ روى مسلم عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. قال ابن عبدالبر: انفرد به بكير بن الأخنس وليس بحجة فيما ينفرد به، والصلاة أولى ما احتيط فيه، ومن صلى ركعتين في خوفه وسفره خرج من الاختلاف إلى اليقين. وقال الضحاك بن مزاحم: يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين. وقال إسحاق بن راهويه: فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ذكره ابن المنذر.
وقوله تعالى: "فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم" أي ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان. وقال مجاهد: "أمنتم" خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة؛ ورد الطبري على هذا القول. وقالت فرقة: "أمنتم" زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة.
واختلف العلماء من هذا الباب في بناء الخائف إذا أمن؛ فقال مالك: إن صلى ركعة آمنا ثم خاف ركب وبنى، وكذلك إن صلى ركعة راكبا وهو خائف ثم أمن نزل وبنى؛ وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال المزني. وقال أبو حنيفة: إذا افتتح الصلاة آمنا ثم خاف استقبل ولم يبن فإن صلى خائفا ثم أمن بنى. وقال الشافعي: يبني النازل ولا يبني الراكب. وقال أبو يوسف: لا يبنى في شيء من هذا كله.
قوله تعالى: "فاذكروا الله" قيل: معناه اشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء؛ ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه. فالكاف في قوله "كما" بمعنى الشكر؛ تقول: افعل بي كما فعلت بك كذا مكافأة وشكرا. "وما" في قوله "ما لم" مفعولة بـ "علمكم".
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: الصلاة أصلها الدعاء، وحالة الخوف أولى بالدعاء؛ فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف؛ فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض، وحضر أو سفر، وقدرة أو عجز وخوف أو أمن، لا تسقط عن المكلف بحال، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال. وسيأتي بيان حكم المريض في آخر "آل عمران" إن شاء الله تعالى. والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن سائر العبادات، كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها بالرخص. قال ابن العربي: ولهذا قال علماؤنا: وهي مسألة عظمى، إن تارك الصلاة يقتل؛ لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال، وقالوا فيها: إحدى دعائم الإسلام لا تجوز النيابة عنها ببدن ولا مال، فيقتل تاركها؛ أصله الشهادتان. وسيأتي ما للعلماء في تارك الصلاة في "براءة" إن شاء الله تعالى.
الآية: 240 {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم}
قوله تعالى: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أن المتوفى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفى عنها حولا، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل؛ فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها؛ ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة "النساء" قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع. وفي السكنى خلاف للعلماء، روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان هذه الآية التي في "البقرة": "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا - إلى قوله - غير إخراج" قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه. وقال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله عز وجل: "غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم". قال ابن عطية: وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوله الطبري مجاهدا رحمهما الله تعالى، وفي ذلك نظر على الطبري. وقال القاضي عياض: والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عدتها أربعة أشهر وعشر. قال غيره: معنى قوله "وصية" أي من الله تعالى تجب على النساء بعد وفاة الزوج بلزوم البيوت سنة ثم نسخ.
قلت: ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت، خرج البخاري قال: حدثنا إسحاق قال حدثنا روح قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" قال: كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجبة فأنزل الله تعالى: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا - إلى قوله - من معروف" قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى: "غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم" إلا أن القول الأول أظهر لقوله عليه السلام: (إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول) الحديث. وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن حالة المتوفى عنهن أزواجهن قبل ورود الشرع، فلما جاء الإسلام أمرهن الله تعالى بملازمة البيوت حولا ثم نسخ بالأربعة الأشهر والعشر، هذا - مع وضوحه في السنة الثابتة المنقولة بأخبار الآحاد - إجماع من علماء المسلمين لا خلاف فيه؛ قاله أبو عمر، قال: وكذلك سائر الآية. فقوله عز وجل: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهن متاعا إلى الحول غير إخراج" منسوخ كله عند جمهور العلماء، ثم نسخ الوصية بالسكنى للزوجات في الحول، إلا رواية شاذة مهجورة جاءت عن ابن أبي نجيح عن مجاهد لم يتابع عليها، ولا قال بها فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر أحد من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فيما علمت. وقد روى ابن جريج عن مجاهد مثل ما عليه الناس، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف، وبالله التوفيق.
قوله تعالى: "وصية" قرأ نافع وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر "وصية" بالرفع على الابتداء، وخبره "لأزواجهم". ويحتمل أن يكون المعنى عليهم وصية، ويكون قوله "لأزواجهم" صفة؛ قال الطبري: قال بعض النحاة: المعنى كتبت عليهم وصية، ويكون قوله "لأزواجهم" صفة، قال: وكذلك هي في قراءة عبدالله بن مسعود. وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر "وصية" بالنصب، وذلك حمل على الفعل، أي فليوصوا وصية. ثم الميت لا يوصي، ولكنه أراد إذا قربوا من الوفاة، و"لأزواجهم" على هذه القراءة أيضا صفة. وقيل: المعنى أوصى الله وصية. "متاعا" أي متعوهن متاعا: أو جعل الله لهن ذلك متاعا لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون نصبا على الحال أو بالمصدر الذي هو الوصية؛ كقوله: "أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما" [البلد: 14 - 15] والمتاع ههنا نفقة سنتها.
قوله تعالى: "غير إخراج" معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها و"غير" نصب على المصدر عند الأخفش، كأنه قال لا إخراجا. وقيل: نصب لأنه صفة المتاع وقيل: نصب على الحال من الموصين أي متعوهن غير مخرجات. وقيل: بنزع الخافض، أي من غير إخراج.
قوله تعالى: "فإن خرجن" الآية. معناه باختيارهن قبل الحول. "فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن" أي لا حرج على أحد ولِيٍّ أو حاكم أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولا. وقيل: أي لا جناح في قطع النفقة عنهن، أو لا جناح عليهن في التشوف إلى الأزواج، إذ قد انقطعت عنهن مراقبتكم أيها الورثة، ثم عليها ألا تتزوج قبل انقضاء العدة بالحول، أو لا جناح في تزويجهن بعد انقضاء العدة. لأنه قال "من معروف" وهو ما يوافق الشرع. "والله عزيز" صفة تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحد في هذه النازلة، فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج. "حكيم" أي محكم لما يريد من أمور عباده.
الآيتان: 241 - 242 {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}
اختلف الناس في هذه الآية؛ فقال أبو ثور: هي محكمة، والمتعة لكل مطلقة؛ وكذلك قال الزهري. قال الزهري: حتى للأمة يطلقها زوجها. وكذلك قال سعيد بن جبير: لكل مطلقة متعة وهو أحد قولي الشافعي لهذه الآية. وقال مالك: لكل مطلقه - اثنتين أو واحدة بنى بها أم لا؛ سمى لها صداقا أم لا - المتعة، إلا المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداقا فحسبها نصفه، ولو لم يكن سمى لها كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر، وليس لهذه المتعة حد؛ حكاه عنه ابن القاسم. وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة، قال: جعل الله تعالى المتعة لكل مطلقة بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة، وزعم ابن زيد أنها نسختها. قال ابن عطية: ففر ابن القاسم من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم، وإذا التزم ابن القاسم أن قوله: "وللمطلقات" يعم كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد. وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: هذه الآية في الثيبات اللواتي قد جومعن، إذ تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن؛ فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في العموم. فهذا يجيء على أن قوله تعالى: "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن" [البقرة: 237] مخصصة لهذا الصنف من النساء، ومتى قيل: إن هذا العموم يتناولها فذلك نسخ لا تخصيص. وقال الشافعي في القول الآخر: إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثم مسيس ولا فرض؛ لأن من استحقت شيئا من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة. وقول الله عز وجل في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: "فتعالين أمتعكن" [الأحزاب: 28] محمول على أنه تطوع من النبي صلى الله عليه وسلم، لا وجوب له. وقوله: "فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن" [الأحزاب: 49] محمول على غير المفروضة أيضا؛ قال الشافعي: والمفروض لها المهر إذا طلقت قبل المسيس لا متعة لها؛ لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطء، والمدخول بها إذا طلقت فلها المتعة؛ لأن المهر يقع في مقابلة الوطء والمتعة بسبب الابتذال بالعقد. وأوجب الشافعي المتعة للمختلعة والمبارئة. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي، فكيف تأخذ متاعا لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقا أم لا، وقد مضى هذا مبينا.
الآية: 243 {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون}
قوله تعالى: "ألم تر" هذه رؤية القلب بمعنى ألم تعلم. والمعنى عند سيبويه تنبه إلى أمر الذين. ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي "ألم تر" بجزم الراء، وحذفت الهمزة حذفا من غير إلقاء حركة لأن الأصل ألم ترء. وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، وكانوا بقرية يقال لها (داوردان) فخرجوا منها هاربين فنزلوا واديا فأماتهم الله تعالى. قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، فأماتهم الله تعالى؛ فمر بهم نبي فدعا الله تعالى فأحياهم. وقيل: إنهم ماتوا ثمانية أيام. وقيل: سبعة، والله أعلم. قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم. وقيل: إنما فعل ذلك بهم معجزة لنبي من أنبيائهم، قيل: كان اسمه شمعون. وحكى النقاش أنهم فروا من الحمى. وقيل: إنهم فروا من الجهاد ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله" [البقرة: 190]؛ قاله الضحاك. قال ابن عطية: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم؛ ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره؛ فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر. وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمرة المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد؛ هذا قول الطبري وهو ظاهر رصف الآية.
قوله تعالى: "وهم ألوف" قال الجمهور: هي جمع ألف. قال بعضهم: كانوا ستمائة ألف. وقيل: كانوا ثمانين ألفا. ابن عباس: أربعين ألفا. أبو مالك: ثلاثين ألفا. السدي: سبعة وثلاثين ألفا. وقيل: سبعين ألفا؛ قاله عطاء بن أبي رباح. وعن ابن عباس أيضا أربعين ألفا، وثمانية آلاف؛ رواه عنه ابن جريج. وعنه أيضا ثمانية آلاف، وعنه أيضا أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف. والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى: "وهم ألوف" وهو جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف. وقال ابن زيد في لفظة ألوف: إنما معناها وهم مؤتلفون، أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم إنما كانوا مؤتلفين، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة بزعمهم، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم. فألوف على هذا جمع الف؛ مثل جالس وجلوس. قال ابن العربي: أماتهم الله تعالى مدة عقوبة لهم ثم أحياهم؛ وميتة العقوبة بعدها حياة، وميتة الأجل لا حياة بعدها. قال مجاهد: إنهم لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرفون أنهم كانوا موتى ولكن سحنة الموت على وجوههم، ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. ابن جريج عن ابن عباس: وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم. وروي أنهم كانوا بواسط العراق. ويقال: إنهم أحيوا بعد أن أنتنوا؛ فتلك الرائحة موجودة في نسلهم إلى اليوم.
قوله تعالى: "حذر الموت" أي لحذر الموت؛ فهو نصب لأنه مفعول له. و"موتوا" أمر تكوين، ولا يبعد أن يقال: نودوا وقيل لهم: موتوا. وقد حكي أن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا؛ فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين "موتوا"، والله أعلم.
أصح هذه الأقوال وأبينها وأشهرها أنهم خرجوا فرارا من الوباء؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله. وقال عمرو بن دينار في هذه الآية: وقع الطاعون في قريتهم فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي، قال: فنجا الذين خرجوا ومات الذين أقاموا؛ فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم. وقال الحسن: خرجوا حذارا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفا.
قلت: وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية. فروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال (رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه) وأخرجه أبو عيسى الترمذي فقال حدثنا قتيبة أنبأنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عامر بن سعد عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال: (بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها) قال: حديث حسن صحيح. وبمقتضى هذه الأحاديث عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم عبدالرحمن بن عوف بالحديث، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره. وقد كره قوم الفرار من الوباء والأرض السقيمة؛ روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الفرار من الوباء كالفرار من الزحف. وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة، وفيها: أنه رجع. وقال الطبري: في حديث سعد دلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها؛ وذلك أنه عليه السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه؛ فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام: (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا).
قلت: وهذا هو الصحيح في الباب، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام رضي الله عنهم، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجا عليه لما قال له: أفرارا من قدر الله فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. المعنى: أي لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه، ولكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات. ثم قال له: أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله عز وجل. فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة. قال الكيا الطبري: ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص. وقد قيل: إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضوع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادئ الوباء مشقات السفر، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال: ما فر أحد من الوباء فسلم؛ حكاه ابن المدائني. ويكفي في ذلك موعظة قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا" ولعله إن فر ونجا يقول: إنما نجوت من أجل خروجي عنه فيسوء اعتقاده. وبالجملة فالفرار منه ممنوع لما ذكرناه، ولما فيه من تخلية البلاد: ولا تخلو من مستضعفين يصعب عليهم الخروج منها، ولا يتأتى لهم ذلك، ويتأذون بخلو البلاد من المياسير الذين كانوا أركانا للبلاد ومعونة للمستضعفين. وإذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان؛ وفي الدخول عليه الهلاك، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة، وقد يخاف عليه من سوء الاعتقاد بأن يقول: لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه. فهذه فائدة النهي عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها، والله أعلم. وقد قال ابن مسعود: الطاعون فتنة على المقيم والفار؛ فأما الفار فيقول: فبفراري نجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت؛ وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهة النظر إلى المجذوم فقال: ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء: (إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه). وسئل أيضا عن البلدة يقع فيها الموت وأمراض، فهل يكره الخروج منها ؟ فقال: ما أرى بأسا خرج أو أقام.
في قوله عليه السلام: (إذا وقع الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه). دليل على أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه، إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل إذا أيقن أن دخولها لا يجلب إليه قدرا لم يكن الله قدره له؛ فباح له الدخول إليه والخروج منه على هذا الحد الذي ذكرناه، والله أعلم.
في فضل الصبر على الطاعون وبيانه. الطاعون وزنه فاعول من الطعن، غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالا على الموت العام بالوباء؛ قاله الجوهري. ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فناء أمتي بالطعن والطاعون) قالت: الطعن قد عرفناه فما الطاعون ؟ قال: (غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط). قال العلماء: وهذا الوباء قد يرسله الله نقمة وعقوبة على من يشاء من العصاة من عبيده وكفرتهم، وقد يرسله شهادة ورحمة للصالحين؛ كما قال معاذ في طاعون عمواس: إنه شهادة ورحمة لكم ودعوة نبيكم، اللهم أعط معاذا وأهله نصيبهم من رحمتك. فطعن في كفه رضي الله عنه. قال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعوة نبيكم ؟ فسألت عنها فقيل: دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها فدعا بهذا. ويروى من حديث جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف). وفي البخاري عن يحيى بن يعمر عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم: (أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد). وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام: (الطاعون شهادة والمطعون شهيد). أي الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه؛ ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعلمه أن من مات فهو شهيد. وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث، والله أعلم.
قال أبو عمر: لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكره ابن المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السيالة فكان يجمع كل جمعة ويرجع؛ فكان إذا جمع صاحوا به: فر من الطاعون فمات بالسيالة. قال: وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد إلى الرباطية فقال إبراهيم بن علي الفقيمي في ذلك:
ولما استفز الموت كل مكذب صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو
وذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال: هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارا له ومضى بأهله نحو سفوان؛ فسمع حاديا يحدو خلفه:
لن يسبق الله على حمار ولا على ذي منعة طيار
أو يأتي الحتف على مقدار قد يصبح الله أمام الساري
وذكر المدائني قال: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبدالعزيز بن مروان فخرج هاربا منه فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها [سكر]. فقدم عليه حين نزلها رسول لعبدالملك بن مروان. فقال له عبدالعزيز: ما اسمك ؟ فقال له: طالب بن مدرك. فقال: أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط فمات في تلك القرية.
الآية: 244 {وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم}
هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور. وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا. وسبل الله كثيرة فهي عامة في كل سبيل؛ قال الله تعالى: "قل هذه سبيلي" [يوسف: 108]. قال مالك: سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا. وقيل: الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل؛ وروي عن ابن عباس والضحاك. والواو على هذا في قوله "وقاتلوا" عاطفة على الأمر المتقدم، وفي الكلام متروك تقديره: وقال لهم قاتلوا. وعلى القول الأول عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام. قال النحاس: "وقاتلوا" أمر من الله تعالى للمؤمنين ألا تهربوا كما هرب هؤلاء. "واعلموا أن الله سميع عليم" أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به، وقال الطبري: لا وجه لقول من قال: إن الأمر بالقتال للذين أحيوا. والله أعلم.
الآية: 245 {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون}
قوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق - إذ ليس شيء من الشريعة إلا ويجوز القتال عليه وعنه، وأعظمها دين الإسلام كما قال مالك - حرض على الإنفاق في ذلك. فدخل في هذا الخبر المقاتل في سبيل الله، فإنه يقرض به رجاء الثواب كما فعل عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة. و" من" رفع بالابتداء، و"ذا" خبره، و"الذي" نعت لذا، وإن شئت بدل. ولما نزلت هذه الآية بادر أبو الدحداح إلى التصدق بماله ابتغاء ثواب ربه. أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث القاضي أبو عامر يحيى بن عامر بن أحمد بن منيع الأشعري نسبا ومذهبا بقرطبة - أعادها الله - في ربيع الآخر عام ثمانية وعشرين وستمائة قراءة مني عليه قال: أخبرنا أبي إجازة قال: قرأت على أبي بكر عبدالعزيز بن خلف بن مدين الأزدي عن أبي عبدالله بن سعدون سماعا عليه؛ قال: حدثنا أبو الحسن علي بن مهران قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عبدالله بن زكريا بن حيوة النيسابوري سنة ست وستين وثلاثمائة، قال: أنبأنا عمي أبو زكريا يحيى بن زكريا قال: حدثنا محمد بن معاوية بن صالح قال: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن مسعود قال: لما نزلت: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" قال أبو الدحداح: يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القرض ؟ قال: (نعم يا أبا الدحداح) قال: أرني يدك؛ قال فناوله؛ قال: فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة.، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله؛ فناداها: يا أم الدحداح؛ قالت: لبيك؛ قال: اخرجي، قد أقرضت ربي عز وجل حائطا فيه ستمائة نخلة. وقال زيد بن أسلم: لما نزل: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ؟ قال: (نعم يريد أن يدخلكم الجنة به). قال: فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة ؟ قال: (نعم) قال: فناولني يدك؛ فناوله رسوله الله صلى الله عليه وسلم يده: فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضا لله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك) قال: فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: (إذا يجزيك الله به الجنة). فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:
هداك ربي سبل الرشاد إلى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضا إلى التناد
أقرضته الله على اعتمادي بالطوع لا من ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في المعاد فارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لا شك فخير زاد قدمه المرء إلى المعاد
قالت أم الدحداح: ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:
بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ونصح
قد متع الله عيالي ومنح بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح).
قال ابن العربي: "انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما، فتفرقوا فرقا ثلاثة: الفرقة الأولى الرَّذلى قالوا: إن رب محمد محتاج فقير إلينا ونحن أغنياء، فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب، فرد الله عليهم بقوله: "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء" [آل عمران: 181]. الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا أعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار. الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره. والله أعلم.
قوله تعالى: "قرضا حسنا" القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه قال الشاعر وهو لبيد:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه إنما يجزي الفتى ليس الجمل
والقرض بالكسر لغة فيه حكاها الكسائي. واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني. واقترضت منه أي أخذت القرض. وقال الزجاج: القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيئ قال أمية:
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا أو سيئا ومدينا مثل ما دانا
وقال آخر:
تجازى القروض بأمثالها فبالخير خيرا وبالشر شرا
وقال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ. وأصل الكلمة القطع؛ ومنه المقراض. وأقرضته أي قطعت له من مالي قطعة يجازي عليها. وانقرض القوم: انقطع أثرهم وهلكوا. والقرض ههنا: اسم، ولولاه لقال ههنا إقراضا. واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هي تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغني الحميد؛ لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء. حسب ما يأتي بيانه في "براءة" إن شاء الله تعالى. وقيل المراد بالآية الحث على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم، وفي سبيل الله بنصرة ا الدين. وكنى الله سبحانه عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيبا في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة عن النقائص والآلام. ففي صحيح الحديث إخبارا عن الله تعالى: (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني) قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال: (استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي) وكذا فيما قبل؛ أخرجه مسلم والبخاري وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كنى عنه ترغيبا لمن خوطب به.
يجب على المستقرض رد القرض؛ لأن الله تعالى بين أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى بل يرد الثواب قطعا وأبهم الجزاء. وفي الخبر: (النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر) على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" [البقرة: 261] الآية. وقال ههنا: "فيضاعفه له أضعافا كثيرة" وهذا لا نهاية له ولا حد.
ثواب القرض عظيم، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه. خرج ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة). قال: حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا يعلى حدثنا سليمان بن يسير عن قيس بن رومي قال: كان سليمان بن أذنان يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه، فلما خرج عطاؤه تقاضاها منه، واشتد عليه فقضاه، فكأن علقمة غضب فمكث أشهرا ثم أتاه فقال: أقرضني ألف درهم إلى عطائي، قال: نعم وكرامة يا أم عتبة هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك، قال: فجاءت بها؛ فقال: أما والله إنها لدراهمك التي قضيتني ما حركت منها درهما واحدا؛ قال: فلله أبوك ؟ ما حملك على ما فعلت بي ؟ قال: ما سمعت منك؛ قال: ما سمعت مني ؟ قال: سمعتك تذكر عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة) قال: كذلك أنبأني ابن مسعود.
قرض الآدمي للواحد واحد، أي يرد عليه مثل ما أقرضه. وأجمع أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب وكل ما له مثل من سائر الأطعمة جائز. وأجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف - كما قال ابن مسعود - أو حبة واحدة. ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه؛ لأن ذلك من باب المعروف؛ استدلالا بحديث أبي هريرة في البكر: (إن خياركم أحسنكم قضاء) رواه الأئمة: البخاري ومسلم وغيرهما. فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء، وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة. وكذلك قضى هو صلى الله عليه وسلم في البكر وهو الفتي المختار من الإبل جملا خيارا رباعيا، والخيار: المختار، والرباعي هو الذي دخل في السنة الرابعة؛ لأنه يلقي فيها رباعيته وهي التي تلي الثنايا وهي أربع رباعيات - مخففة الباء - وهذا الحديث دليل على جواز قرض الحيوان، وهو مذهب الجمهور، ومنع من ذلك أبو حنيفة وقد تقدم.
ولا يجوز أن يهدي من استقرض هدية للمقرض، ولا يحل للمقرض قبولها إلا أن يكون عادتهما ذلك؛ بهذا جاءت السنة: خرج ابن ماجة حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال:، سألت أنس بن مالك عن الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته فلا يقبلها ولا يركبها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبله ذلك).
القرض يكون من المال - وقد بينا حكمه - ويكون من العرض؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعِرضي على عبادك). وروي عن ابن عمر: أقرض من عرضك ليوم فقرك؛ يعني من سبك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر. وقال أبو حنيفة: لا يجوز التصدق بالعِرض لأنه حق الله تعالى، وروي عن مالك. ابن العربي: وهذا فاسد، قال عليه السلام في الصحيح: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام...) الحديث. وهذا يقتضي أن تكون هذه المحرمات الثلاث تجري مجرى واحدا في كونها باحترامها حقا للآدمي.
قوله تعالى: "حسنا" قال الواقدي: محتسبا طيبة به نفسه. وقال عمرو بن عثمان الصدفي: لا يمن به ولا يؤذي. وقال سهل بن عبدالله: لا يعتقد في قرضه عوضا.
قوله تعالى: "فيضاعفه له أضعافا كثيرة" قرأ عاصم وغيره "فيضاعفه" بالألف ونصب الفاء. وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد في العين مع سقوط الألف ونصب الفاء. وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وشيبة بالتشديد ورفع الفاء. وقرأ الآخرون بالألف ورفع الفاء. فمن رفعه نسقه على قوله: "يقرض" وقيل: على تقدير هو يضاعفه. ومن نصب فجوابا للاستفهام بالفاء. وقيل: بإضمار "أن" والتشديد والتخفيف لغتان. دليل التشديد "أضعافا كثيرة" لأن التشديد للتكثير. وقال الحسن والسدي: لا نعلم هذا التضعيف إلا لله وحده، لقوله تعالى: "ويؤت من لدنه أجرا عظيما" [النساء:40]. قاله أبو هريرة: هذا في نفقة الجهاد، وكنا نحسب والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره بألفي ألف.
قوله تعالى: "والله يقبض ويبسط" هذا عام في كل شيء فهو القابض الباسط، وقد أتينا عليهما في (شرح الأسماء الحسنى في الكتاب الأسنى). "وإليه ترجعون" وعيد فيجازي كلا بعمله.