تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 429 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 429


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 َفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاٌّخِرَةِ فِى ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلْبَعِيدِ *أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلاٌّرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ * أَنِ ٱعْمَلْ سَـٰبِغَـٰتٍ وَقَدِّرْ فِى ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

تقدم شرح هذه الأيات مع الأيات التي في الصفحة السابقة

{وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـٰرِيبَ وَتَمَـٰثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَٰسِيَـٰتٍ ٱعْمَلُوۤاْ ءَالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاٌّرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ * لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَـٰهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِىۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـٰهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ * فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَـٰتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلاٌّخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفُيظٌ * قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَلاَ فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَـٰعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ * قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ قُلِ ٱللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ * قُل لاَّ تُسْألُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْألُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ * قُلْ أَرُونِىَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحْكِيمُ * وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَلاَ بِٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَـٰكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلاٌّغْلَـٰلَ فِىۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ * وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَٰلاً وَأَوْلَـٰداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءَامِنُونَ * وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِىۤ ءَايَـٰتِنَا مُعَـٰجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ فِى ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ}
{وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}.
قد بيَّنا الآيات التي فيها إيضاح له في سورة «الأنبياء»، في الكلام على قوله: {وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلاْرْضِ}، مع الأجوبة عن بعض الأسئلة الواردة على الآيات المذكورة {وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ}، إلى قوله تعالىٰ: {وَقُدُورٍ رَٰسِيَـٰتٍ} . قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنبياء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَمِنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَـٰفِظِينَ}. {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الحجر»، في الكلام على قوله تعالىٰ عنه: {لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى ٱلاْرْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. وفي سورة «الأعراف»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ}، وقوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ}، قرأه عاصم وحمزة والكسائي بتشديد الدال، والباقون بالتخفيف. {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلاٌّخِرَةِ}. قد بيَّنا الأيات الموضحة له في سورة «الحجر»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ}، وفي غير ذلك من المواضع. {قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَلاَ فِى ٱلاٌّرْضِ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا}. {وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَـٰعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «البقرة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـٰعَةٌ}. {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ قُلِ ٱللَّهُ}. أمر اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة، نبيَّه محمّد صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفّار: {مَن يَرْزُقُكُم مّنَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ}، أي: يرزقكم من السمٰوات بإنزال المطر مثلاً، والأرض بإنبات الزروع والثمار، ونحو ذلك. ثم أمره أن يقول: {ٱللَّهِ}، أي: الذي يرزقكم من السمٰوات والأرض هو اللَّه، وأمره تعالىٰ له صلى الله عليه وسلم بأن يجيب بأن رازقهم هو اللَّه يفهم منه أنهم مقرّون بذلك، وأنه ليس محل نزاع.
وقد صرّح تعالىٰ بذلك في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلاْبْصَـٰرَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيّتَ مِنَ ٱلْحَىّ}، وإقرارهم بربوبيته تعالىٰ يلزمه الاعتراف بعبادته وحده، والعلم بذلك.
وقد قدَّمنا كثيرًا من الآيات الموضحة لذلك في سورة «بني إسرٰئيل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ}. {قُل لاَّ تُسْألُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْألُ عَمَّا تَعْمَلُونَ }. أمر اللَّه جلَّ وعلا نبيّه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للكفار: إنهم وإيّاهم ليس أحد منهم مسؤولاً عمّا يعمله الآخر، بل كل منهم مؤاخذ بعمله، والآخر بريء منه.
وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ}، وقوله تعالىٰ: {قُلْ يٰأَهْلَ أَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، إلى قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ}، وفي معنى ذلك في الجملة قوله تعالىٰ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْـئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ وكقوله تعالىٰ عن نبيّه هود عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام: {قَالَ إِنِى أُشْهِدُ ٱللَّهِ وَٱشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ}. {قُلْ أَرُونِىَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحْكِيمُ }. أمر اللَّه جلَّ وعلا نبيّه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول لعبدة الأوثان: أروني أوثانكم التي ألحقتموها باللَّه شركاء له في عبادته كفرًا منكم، وشركاء وافتراء، وقوله: {أَرُونِىَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء}، لأنهم إن أروه إيّاها تبيّن برؤيتها أنها جماد لا ينفع ولا يضرّ، واتّضح بعدها عن صفات الألوهيّة، فظهر لكل عاقل برؤيتها بطلان عبادة ما لا ينفع ولا يضرّ، فإحضارها والكلام فيها، وهي مشاهدة أبلغ من الكلام فيها غائبة، مع أنه صلى الله عليه وسلم يعرفها، وكما أنه في هذه الآية الكريمة أمرهم أن يروه إياها ليتبيّن بذلك بطلان عبادتها، فقد أمرهم في آية أخرى أن يسمّوها بأسمائها؛ لأن تسميتها بأسمائها يظهر بها بعدها عن صفات الألوهيّة، وبطلان عبادتها لأنها أسماء إناث حقيرة كاللات والعزّى، ومناة الثالثة الأخرى؛ كما قال تعالىٰ: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـٰث}، وذلك في قوله تعالىٰ: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى ٱلاْرْضِ أَم بِظَـٰهِرٍ مّنَ ٱلْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ}.
والأظهر في قوله: {أَرُونِىَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ} في هذه الآية: هو ما ذكرنا من أن الرؤية بصرية، وعليه فقوله: {شُرَكَاء} حال، وقال بعض أهل العلم: إنها من رأى العلمية، وعليه فـــ {شُرَكَاء} مفعول ثالث لــ {أَرُونِىَ}، قال القرطبي: يكون {أَرُونِىَ} هنا من رؤية القلب، فيكون: {شُرَكَاء} مفعولاً ثالثًا، أي: عرّفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء للَّه عزّ وجلَّ، وهل شاركت في خلق شىء، فبيّنوا ما هو وإلا فلم تعبدونها، اهــ محل الغرض منه. واختار هذا أبو حيّان في «البحر المحيط». وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {كَل} ردع لهم، وزجر عن إلحاق الشركاء به. وقوله: {بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحْكِيمُ}، أي: المتّصف بذلك هو المستحق للعبادة، وقد قدّمنا معنى {ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ} بشواهده مرارًا. {وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيرا}. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الأعراف»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، وفي غير ذلك من المواضع. وقوله تعالىٰ: {إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ}، استشهد به بعض علماء العربية على جواز تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف؛ كما أشار له ابن مٰلك في «الخلاصة»،بقوله: وسبق حال ما بحرف جر قد أبوا ولا أمنعه فقد ورد

قالوا: لأن المعنى: {وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ لِلنَّاسِ كَافَّةً}، أي: جميعًا، أي: أرسلناك للناس في حال كونهم مجتمعين في رسالتك، وممّن أجاز ذلك أبو علي الفارسي، وابن كيسان، وابن برهان، ولذلك شواهد في شعر العرب؛ كقول طليحة بن خويلد الأسدي: فإن تك أذواد أصبن ونسوة فلن يذهبوا فرغًا بقتل حبال

وكقول كثير: لئن كان برد الماء هيمان صاديًا إلى حبيبًا إنها لحبيب

وقول الآخر: تسليت طرًّا عنكم بعد بينكم بذكركم حتى كأنكم عندي

وقول الآخر: غافلاً تعرض المنية للمر ء فيدّعي ولات حين إباء

وقوله: مشغوفة بك قد شغفت وإنما حم الفراق فما إليك سبيل

وقوله: إذا المرء أعيته المروءة ناشئًا فمطلبها كهلاً عليه شديد

فقوله في البيت الأول: فرغًا، أي: هدرًا، حال وصاحبه المجرور بالباء الذي هو بقتل، وحبال اسم رجل. وقوله في البيت الثاني: هيمان صاديًا، حالان من ياء المتكلم المجرورة بإلى في قوله: إليَّ حبيبًا. وقوله في البيت الثالث: طرًّا حال من الضمير المجرور بعن، في قوله: عنكم، وهكذا وتقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف منعه أغلب النحويّين.
وقال الزمخشري في «الكشاف»، في تفسير قوله تعالىٰ: {وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ}، إلا رسالة عامّة لهم محيطة بهم؛ لأنهم إذا شملتهم، فإنها قد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم.
وقال الزجاج: المعنى: أرسلناك جامعًا للناس في الإنذار والإبلاغ فجعله حالاً من الكاف، وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة، ومن جعله حالاً من المجرور متقدّمًا عليه فقد أخطأ؛ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني، فلا بدّ له من ارتكاب الخطأين، اهــ منه.
وقال الشيخ الصبان في حاشيته على الأشموني: جعل الزمخشري {كَافَّةً} صفة لمصدر محذوف، أي: رسالة كافة للناس، ولكن اعترض بأن {كَافَّةً} مختصّة بمن يعقل وبالنصب على الحال كطرًّا، وقاطبة، انتهى محل الغرض منه. وما ذكره الصبان في {كَافَّةً} هو المشهور المتداول في كلام العرب، وأوضح ذلك أبو حيان في «البحر»، والعلم عند اللَّه تعالىٰ. {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}. قد بيَّنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنعام»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلاْرْضِ يُضِلُّوكَ}، وغير ذلك من المواضع. {قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ }. قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «يونس»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.
{وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ}، إلى قوله: {إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادا}. ذكرنا بعض الآيات التي فيها بيان له في سورة «البقرة»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوا}، وبيّناه في مواضع أُخر من هذا الكتاب المبارك. {وَجَعَلْنَا ٱلاٌّغْلَـٰلَ فِىۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا}. جاء موضحًا في مواضع أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {إِذِ ٱلاْغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ وٱلسَّلَـٰسِلُ}، وقوله: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلاْغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ}، وقوله: {ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ}، إلى غير ذلك من الآيات. {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ }. قد بيَّنا الآيات الموضحة له في سورة «الأنعام»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا}، وأوضحنا ذلك في سورة «قد أفلح المؤمنون»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ}. {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَٰلاً وَأَوْلَـٰداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }. وقوله تعالىٰ: {وَمَا أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ}. قد قدّمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة «الكهف»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَبا}.