تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 429 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 429

428

ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم رددوا ما وعدهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من البعث بين أمرين فقالوا: 8- "أفترى على الله كذباً أم به جنة" أي أهو كاذب فيما قاله أم به جنون بحيث لا يعقل ما يقوله، والهمزة في أفترى هي همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل كما تقدم في قوله: "أطلع الغيب" ثم رد عليهم سبحانه ما قالوه في رسوله فقال: "بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد" أي ليس الأمر كما زعموا، بل هم الذين ضلوا عن الفهم وإدراك الحقائق، فكفروا بالآخرة ولم يؤمنوا بما جاءهم به، فصاروا بسبب ذلك في العذاب الدائم في الآخرة وهم اليوم في الضلال البعيد عن الحق غاية البعد. ثم وبخهم سبحان بما اجترأوا عليه من التكذيب مبيناً لهم أن ذلك لم يصدر منهم إلا لعدم التفكر والتدبر في خلق السماء والأرض، وأن من قدر على هذا الخلق العظيم لا يعجزه أن يبعث من مخلوقاته ما هو دون ذلك ويعيده إلى ما كان عليه من الذات والصفات.
ومعنى 9- "إلى ما بين أيديهم وما خلفهم" أنهم إذا نظروا رأوا السماء خلفهم وقدامهم، وكذلك إذا نظروا في الأرض رأوها خلفهم وقدامهم، فالسماء والأرض محيطتان بهم فهو القادر على أن ينزل بهم ما شاء من العذاب بسبب كفرهم وتكذيبهم لرسوله وإنكارهم للبعث، فهذه الآية اشتملت على أمرين: أحدهما أن الخلق الذي خلقه الله من السماء والأرض يدل على كمال القدرة على ما هو دونه من البعث كما في قوله: " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ". والأمر الآخر: التهديد لهم بأن من خلق السماء والأرض على هذه الهيئة التي قد أحاطت بجميع المخلوقات فيهما قادر على تعجيل العذاب لهم "إن نشأ نخسف بهم الأرض" كما خسف بقارون "أو نسقط عليهم كسفاً" أي قطعاً "من السماء" كما أسقطها على أصحاب الأيكة فكيف يأمنون ذلك. قرأ الجمهور "إن نشأ" بنون العظمة، وكذا "نخسف" " أو نسقط ". وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في الأفعال الثلاثة، أي إن يشأ الله. وقرأ الكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء في "نخسف بهم". قال أبو علي الفارسي: وذلك غير جائز لأن الفاء من بطان الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا بخلاف الباء، وقرأ الجمهور "كسفاً" بسكون السين. وقرأ حفص والسلمي بفتحها "إن في ذلك" المذكور من خلق السماء والأرض "لآية" واضحة ودلالة بينة "لكل عبد منيب" أي راجع إلى ربه بالتوبة والإخلاص وخص المنيب لأنه المنتفع بالتفكر. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "يعلم ما يلج في الأرض" قال: من المطر "وما يخرج منها" قال: من النبات "وما ينزل من السماء" قال: من الملائكة "وما يعرج فيها" قال: الملائكة، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "من رجز أليم" قال: الرجز هو العذاب الأليم الموجع، وفي قوله: "ويرى الذين أوتوا العلم" قال: أصحاب محمد. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: يعني المؤمنين من أهل الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل" قال: قال ذلك مشركو قريش "إذا مزقتم كل ممزق" يقول: إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتاً وعظاماً وتقطعكم السباع والطير "إنكم لفي خلق جديد" إنكم ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً به "أفترى على الله كذباً أم به جنة" قال: قالوا إما أن يكون يكذب على الله وإما أن يكون مجنوناً "أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض" قالوا: إنك إن نظرت عن يمينك وعن شمالك وما بين يديك ومن خلفك رأيت السماء والأرض "إن نشأ نخسف بهم الأرض" كما خسفنا بمن كان قبلهم "أو نسقط عليهم كسفاً من السماء" أي قطعاً من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل وكل خلقه له جند "إن في ذلك لآية لكل عبد منيب" قال: تائب مقبل إلى الله.
ثم ذكر سبحانه من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في داود "فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب" وقال في سليمان "وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب" فقال: 10- "ولقد آتينا داود منا فضلاً" أي آتيناه بسبب إنابته فضلاً منا على سائر الأنبياء. واختلف في هذا الفضل على أقوال: فقيل النبوة، وقيل الزبور، وقيل العلم، وقيل القوة كما في قوله: "واذكر عبدنا داود ذا الأيد" وقيل تسخير الجبال كما في قوله: "يا جبال أوبي معه" وقيل التوبة وقيل الحكم بالعدل كما في قوله: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق" وقيل هو إلانة الحديد كما في قوله: "وألنا له الحديد" وقيل حسن الصوت، والأولى أن يقال: إن هذا المذكور هو ما ذكره الله بعده من قوله: "يا جبال" إلى آخر الآية، وجملة "يا جبال أوبي معه" مقدرة بالقول: أي قلنا يا جبال: والتأويب: التسبيح كما في قوله: "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن". قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة. وكان إذا سبح داود سبحت معه، ومعنى تسبيح الجبال: إن الله سجعلها قادرة على ذلك، أو يخلق فيها التسبيح معجزة لداود، وقيل معنى أوبي: سيري معه، من التأويب الذي هو سير النهار أجمع، ومنه قول ابن مقبل: لحقنا بحي أوبوا السير بعدما دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح قرأ الجمهور "أوبي" بفتح الهمزة وتشديد الواو على صيغة الأمر، من التأويب: وهو الترجيع أو التسبيح أو السير أو النوح. وقرأ ابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق "أوبي" بضم الهمزة أمراً من آب يؤوب إذا رجع: أي ارجعي معه. قرأ الجمهور "والطير" بالنصب عطفاً على "فضلاً" على معنى: وسخرنا له الطير، لأنه إيتاءه إياها تسخيرها له، أو عطفاً على محل "يا جبال" لأنه منصوب تقديراً، إذ المعنى: نادينا الجبال والطير. وقال سيبويه وأبو عمرو بن العلاء: انتصابه بفعل مضمر على معنى وسخرنا له الطير. وقال الزجاج والنحاس: يجوز أن يكون مفعولاً معه كما تقول: استوى الماء والخشبة. وقال الكسائي إنه معطوف على فضلاً لكن على تقدير مضاف محذوف أي آتيناه فضلاً وتسبيح الطير. وقرأ السلمي والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبد الملك بالرفع عطفاً علىلفظ الجبال، أو على المضمر في أوبي لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه "وألنا له الحديد" معطوف على آتيناه: أي جعلناه ليناً ليعمل به ما شاء. قال الحسن: صار الحديد كالشمع يعمله من غير نار. وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة، وكذا قال مقاتل، وكان يفرغ من عمل الدرع في بعض يوم.
11- "أن اعمل سابغات" في أن هذه وجهان: أحدهما أنها مصدرية على حذف حرف الجر: أي بأن اعمل، والثاني أنها المفسرة لقوله: "وألنا" وفيه نظر لأنها لا تكون إلا بعد القول أو ما هو في معناه. وقدر بعضهم فعلاً فيه معنى القول فقال التقدير وأمرناه أن اعمل. وقوله: "سابغات" صفة لموصوف محذوف: أي دروعاً سابغات، والسابغات الكوامل الواسعات، يقال سبغ الدرع والثوب وغيرهما: إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه فضلة "وقدر في السرد" السرد نسج الدروع، ويقال السرد والزرد كما يقال السراد والزراد لصانع الدروع، والسرد أيضاً الخرز، يقال سرد يسرد: إذا خرز، ومنه سرد الكلام: إذا جاء به متوالياً، ومن حديث عائشة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم. قال سيبويه: ومنه سريد: أي جري، ومعنى سرد الدروع إحكامها، وأن يكون نظام حلقها ولاء غير مختلف، ومنه قول لبيد: سرد الدروع مضاعفاً أسراده لينال طول العيش غير مروم وقول أبي ذؤيب الهذلي: وعليهما مسرودتان قضاهما داود إذ صنع السوابغ تبع قال قتادة: كانت الدروع قبل داود ثقالاً، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع الخفة والحصانة: أي قدر ما تأخذ من هذهين المعنيين بقسطه فلا تقصد الحصانة فيثقل ولا الخفة فيزيل المنعة، وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة: أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فتثقل على لابسها. وقيل إن التقدير هو في المسمار: أي لا تجعل مسمار الدرع دقيقاً فيقلق ولا غليظاً فيفصم الحلق. ثم خاطب داود وأهله فقال: "واعملوا صالحاً" أي عملاً صالحاً كما في قوله: "اعملوا آل داود شكراً" ثم علل الأمر بالعمل الصالح بقوله: "إني بما تعملون بصير" أي لا يخفى علي شيء من ذلك.
12- "ولسليمان الريح" قرأ الجمهور "الريح" بالنصب على تقدير: وسخرنا لسليمان الريح كما قال الزجاج، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بالرفع على الابتداء والخبر: أي ولسليمان الريح ثابتة أو مسخرة، وقرأ الجمهور "الريح" وقرأ الحسن وأبو حيوة وخالد بن إلياس "الرياح" بالجمع "غدوها شهر ورواحها شهر" أي تسير بالغداة مسيرة شهر وتسير بالعشي كك، والجملة إما مستأنفة لبيان تسخير الريح، أو في محل نصب على الحال، والمعنى: أنها كانت تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين. قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر "وأسلنا له عين القطر" القطر: النحاس الذائب. قال الواحدي: قال المفسرون: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطي سليمان، والمعنى: أسلنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود، وقال قتادة: أسأل الله له عيناً يستعملها فيما يريد "ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه" من مبتدأ و يعمل خبره و من الجن متعلق به أو بمحذوف على أنه حال، أو من يعمل معطوف على الريح ومن الجن حال، والمعنى: وسخرنا له من يعمل بين يديه حال كونه من الجن بإذن ربه: أي بأمره. والإذن مصدر مضاف إلى فاعله، والجار والمجرور في محل نصب على الحال: أي مسخراً أو ميسراً بأمر ربه "ومن يزغ منهم عن أمرنا" أي ومن يعدل من الجن عن أمرنا الذي أمرناه به: وهو طاعة سليمان "نذقه من عذاب السعير" قال أكثر المفسرين: وذكل في الآخرة، وقيل في الدنيا. قال السدي: وكل الله بالجن ملكاً بيده سوط من النار، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك أمر السوط ضربة فتحرقه.
ثم ذكر سبحانه ما يعمله الجن لسليمان فقال: 13- "يعملون له ما يشاء" و من في قوله: "من محاريب" للبيان، والمحاريب في اللغة كل موضع مرتفع وهي الأبنية الرفيعة والقصور العالية. قال المبرد: لا يكون المحارب إلا أن يرتقى إليه بدرج، ومنه قيل للذي يصلى فيه محراب لأنه يرفع ويعظم. وقال مجاهد: المحاريب دون القصور. وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار، ومنه قول الشاعر: وماذا عليه إن ذكرت أوانسا كغزلان رمل في محاريب أقيال وقال الضحاك: المراد بالمحاريب هنا المساجد، والتماثيل جمع تمثال وهو كل شيء مثلته بشيء: أي صورته بصورته من نحاس أو زجاج أو رخام أو غير ذلك. قيل كانت هى التماثيل صور الأنبياء والملائكة والعلماء والصلحاء، وكانوا يصورونها في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهاداً. وقيل هي تماثيل أشياء ليست من الحيوان. وقد استدل بهذا على أن التصوير كان مباحاً في شرع سليمان، ونسخ ذلك بشرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والجفان جمع جنفة وهي القصعة الكبيرة. والجواب جمع جابية وهي حفيرة كالحوض، وقيل هي الحوض الكبير يجبي الماء: أي يجمعه. قال الواحدي: قال المفسرون: يعني قصاعاً في العظم كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها. قال النحاس: الأولى إثبات الياء في الجوابي، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا تغيرها عن حالها، فلما كان يقال جواب ودخلت الألف واللام أقر على حاله فحذف الياء. قال الكسائي: يقال جبوت الماء وجبيته في الحوض: أي جمعته، والجابية الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل. وقال النحاس: والجابية القدر العظيمة والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء: أي يجمع، ومنه جبيت الخراج وجبيت الجراد: جمعته في الكساء "وقدور راسيات" قال قتادة: هي قدور النحاس تكون بفارس، وقال الضحاك: هي قدور تنحت من الجبال الصم عملتها له الشياطين، ومعنى راسيات: ثابتات لا تحمل ولا تحرك لعظمها. ثم أمر سبحانه بالعمل الصالح على العموم: أي سليمان وأهله، فقال: "اعملوا آل داود شكراً" أي وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكراً له على ما آتاكم أو اعملوا عملاً شكراً على أنه صفة مصدر محذوف، أو عملوا للشكر على أنه مفعول له أو حال: أي شاكرين أو مفعول به، وسميت الطاعة شكراً لأنها من جملة أنواعه، أو منصوب على المصدرية بفعل مقدر من جنسه: أي اشكروا شكراً. ثم بين بعد أمرهم بالشكر أن الشاكرين له من عباد ليسوا بالكثير فقال: "وقليل من عبادي الشكور" أي العامل بطاعتي الشاكر لنعمتي قليل. وارتفاع قليل على أنه خبر مقدم. ومن عبادي صفة له. والشكور مبتدأ.
14- "فلما قضينا عليه الموت" أي حكمنا عليه به وألزمناه إياه "ما دلهم على موته إلا دابة الأرض" يعني الأرضة. وقرئ "الأرض" بفتح الراء: أي الأكل، يقال أرضت الخشبة أرضاً: إذا أكلتها الأرضة. ومعنى "تأكل منسأته": تأكل عصاه التي كان متكئاً عليها، والمنسأة: العصا بلغة الحبشة، أو هي مأخوذة من نسأت الغنم: أي زجرتها. قال الزجاج: المنسأة التي ينسأ بها: أي يطرد. قرأ الجمهور "منسأته" بهمزة مفتوحة. وقرأ ابن ذكوان بهمزة ساكنة. وقرأ نافع وأبو عمرو بألف محضة. قال المبرد: بعض العرب يبدل من همزتها ألفاً وأنشد: إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل ومثل قراءة الجمهور قول الشاعر: ضربنا بمنسأة وجهه فصار بذاك مهيناً ذليلاً ومثله: أمن أجل حبل لا أباك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا ومما يدل على قراءة ابن ذكوان قول طرفة: أمون كألواح الأران نسأتها على لاحب كأنه ظهر برجد "فلما خر" أي سقط "تبينت الجن" أي ظهر لهم، من تبينت الشيء إذا علمته: أي علمت الجن "أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين" أي لو صح ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب لعلموا بموته ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العذاب المهين في العمل الذي أمرهم به والطاعة له وهو إذ ذاك ميت. قال مقاتل: العذاب المهين: الشقاء والنصب في العمل. قال الواحدي: قال المفسرون: كانت الناس في زمان سليمان يقولون إن الجن تعلم الغيب، فلما مكث سليمان قائماً على عصاه حولاً ميتاً، والجن تعمل تلك الأعمال الشاعقة التي كانت تعمل في حياة سليمان لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتاً فعلموا بموته وعلم الناس أن الجن لا تعلم الغيب، ويجوز أن يكون تبينت الجن من تبين الشيء، ولا من تبينت الشيء: أي ظهر وتجلى، وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الجن مع تقدير محذوف: أي ظهر أمر الجن للناس أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، أو ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب إلخ. قرأ الجمهور تبينت على البناء للفاعل مسنداً إلى الجن. وقرأ ابن عباس ويعقوب تبينت على البناء للمفعول، ومعنى القراءتين يعرف مما قدمنا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أوبي معه" قال: سبحي معه، وروي مثله عن أبي ميسرة ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وألنا له الحديد" قال: كالعجين. وأخرج وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله: "وقدر في السرد" قال: حلق الحديد. وأخرج عبد الرزاق والحاكم عنه أيضاً "وقدر في السرد" قال: لا تدق المسامير وتوسع الحلق فتسلس، ولا تغلظ المسامير وتضيق الحلق فتقصم، واجعله قدراً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله "وأسلنا له عين القطر" قال النحاس. وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: القطر النحاس لم يقدر عليها أحد بعد سليمان، وإنما يعمل الناس بعده فيما كان أعطي سليمان. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: القطر الصفر. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله: "وتماثيل" قال: اتخذ سليمان تماثيل من نحاس فقال: يا رب انفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة، فنفخ الله فيها الروح فكانت تخدمه، وكان اسفنديار من بقاياهم، فقيل لداود وسليمان " اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "كالجواب" قال: كالجوبة من الأرض "وقدور راسيات" قال: أثافيها منها. وأخرج وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "وقليل من عبادي الشكور" يقول: قليل من عبادي الموحدين توحيدهم. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً قال: لبث سليمان على عصاه حولاً بعد ما مات، ثم خر على رأس الحول، فأخذت الجن عصا مثل عصاه ودابة مثل دابته فأرسلوها عليها فأكلتها في سنة، وكان ابن عباس يقرأ "فلما خر تبينت الجن" الآية، قال سفيان: وفي قراءة ابن مسعود وهم يدأبون له حولاً. وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها ما اسمك؟ فتقول كذا وكذا، فيقول لما أنت؟ فتقول لكذا وكذا، فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت" وصلى ذات يوم فإذا شجرة نابتة بين يديه فقال لها ما اسمك؟ قالت الخروب؟ قال لأي شيء أنت؟ قال لخراب هذا البيت، فقال سليمان: اللهم عم عن الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فهيأ عصا فتوكأ عليها، وقبضه الله وهو متكئ عليها، فمكث حولاً ميتاً والجن تعمل، فأكلتها الأرضة فسقطت، فعلموا عند ذلك بموته، فتبينت الإنس "أن" الجن "لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين" وكان ابن عباس يقرأها كذلك، فشكرت الجن للأرضة، فأينما كانت يأتوا لها بالماء، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفاً، وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعاً " يقول الله عز وجل:إني تفضلت على عبادي بثلاث: ألقيت الدابة على الحبة ولولا ذلك لكنزها الملوك كما يكنزون الذهب والفضة، وألقيت النتن على الجسد ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه، واستلبت الحزن ولولا ذلك لذهب النسل".