تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 428 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 428


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلاٌّخِرَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلْغَفُورُ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَلاَ فِى ٱلاٌّرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ * لِّيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِىۤ ءَايَـٰتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِىۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ وَيَهْدِىۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاٌّخِرَةِ فِى ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلْبَعِيدِ *أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلاٌّرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ * أَنِ ٱعْمَلْ سَـٰبِغَـٰتٍ وَقَدِّرْ فِى ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
قوله تعالىٰ: {وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلاٌّخِرَةِ}. قد ذكرنا ما هو بمعناه من الآيات في أوّل سورة «الفاتحة»، في الكلام على قوله: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}. {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلْغَفُورُ }. بيَّن جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى ٱلاْرْضِ}، أي: ما يدخل فيها كالماء النازل من السماء، الذي يلج في الأرض؛ كما أوضحه بقوله تعالىٰ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ٱلاْرْضِ}.
وقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلاْرْضِ}، فهو جلَّ وعلا يعلم عدد القطر النازل من السماء إلى الأرض، وكيف لا يعلمه من خلقه: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ}، ويعلم أيضًا ما يلج في الأرض من الموتى الذين يدفنون فيها؛ كما قال جلَّ وعلا: {مِنْهَا خَلَقْنَـٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}، وقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلاْرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاء وَأَمْوٰت}، والكفات من الكفت: وهو الضم، لأنها تضمّهم أحياء على ظهرها، وأمواتًا في بطنها، ويعلم أيضًا ما يلج في الأرض من البذر؛ كما قال تعالىٰ: {وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلاْرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ}، وكذلك ما في بطنها من المعادن، وغير ذلك.
قوله: {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَ}، أي: من الأرض كالنبات والحبوب، والمعادن، والكنوز، والدفائن وغير ذلك، ويعلم {مَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاء} من المطر، والثلج، والبرد، والرزق وغير ذلك. {وَمَا يَعْرُجُ}، أي: يصعد فيها، أي: السماء، كالأعمال الصالحة؛ كما بيّنه بقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرْفَعُهُ}، وكأرواح المؤمنين وغير ذلك؛ كما قال تعالىٰ: {تَعْرُجُ ٱلْمَلَـئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}.
وقال تعالىٰ: {يُدَبّرُ ٱلاْمْرَ مِنَ ٱلسَّمَاء إِلَى ٱلاْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ}، وما ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه يعلم جميع ما ذكر، ذكره في سورة «الحديد»، في قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى ٱلاْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ * أَيْنَمَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
وقد أوضحنا الآيات الدالَّة على كمال إحاطة علم اللَّه بكل شىء في أوّل سورة «هود»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ}، وفي مواضع أُخر متعدّدة. {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ}. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار أنكروا البعث، وقالوا: {لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ}، أي: القيامة، وأنّه جلَّ وعلا أمر نبيّه أن يقسم لهم بربّه العظيم أن الساعة سوف تأتيهم مؤكّدًا ذلك توكيدًا متعدّدًا.
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من إنكار الكفار للبعث، جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالىٰ: {وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ وَلاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ}، وقوله تعالىٰ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ}، وقوله تعالىٰ: {وَيَقُولُ ٱلإِنْسَـٰنُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّا}، وقوله تعالىٰ عنهم: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}، {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا، وما ذكره جلَّ وعلا من أنه أمر نبيّه بالإقسام لهم على أنهم يبعثون، جاء موضحًا في مواضع أُخر.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابعة لهنّ، ممّا أمر اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربّه العظيم على وقوع المعاد، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهنّ في سورة «يونس» عليه السّلام، وهي قوله تعالىٰ: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ}، والثانية هذه: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ}، والثالثة في سورة «التغابن»، وهي قوله تعالىٰ: {زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ}.
وقد قدّمنا البراهين الدالَّة على البعث بعد الموت من القرءان في سورة «البقرة»، و سورة «النحل» وغيرهما.
وقد قدّمنا الآيات الدالَّة على إنكار الكفار البعث، وما أعدّ اللَّه لمنكري البعث من العذاب في «الفرقان»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيرا}، وفي مواضع أُخر. وقوله: {قُلْ بَلَىٰ} لفظة: {بَلَىٰ} قد قدّمنا معانيها في اللغة العربية بإيضاح في سورة «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء بَلَىٰ}. {عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَلاَ فِى ٱلاٌّرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ}. ما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلاْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ}، جاء موضحًا في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن}، وقوله تعالىٰ: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا}، والآيات بمثل ذلك كثيرة، وقد بينَّاها في مواضع متعدّدة من هذا الكتاب المبارك.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {لاَ يَعْزُبُ}، أي: لا يغيب عنه مثقال ذرّة، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي:
أخي كان أما حلمه فمروح عليه وأما جهله فعزيب

يعني: أن الجهل غائب عنه ليس متّصفًا به. وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر: {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ}، بألف بعد العين وتخفيف اللام المكسورة، وضمّ الميم على وزن فاعل. وقرأه حمزة والكسائي: {عِلْمَ ٱلْغَيْبَ}، بتشديد الميم وألف بعد اللام المشدّدة وخفض الميم على وزن فعال. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ}؛ كقراءة نافع وابن عامر، إلا أنهم يخفضون الميم. وعلى قراءة نافع وابن عامر بضم الميم، من قوله: {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ}، فهو مبتدأ خبره جملة: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} الآية، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عالم الغيب.
وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم: {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ}، بخفض الميم فهو نعت لقوله: {رَبّى}، أي: قل: بلى وربي عالم الغيب لتأتينكم، وكذلك على قراءة حمزة والكسائي: {عِلْمَ ٱلْغَيْبَ}. وقرأ هذا الحرف عامّة القرّاء غير الكسائي: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ}، بضم الزاي من {يَعْزُبُ}، وقرأه الكسائي بكسر الزاي. {وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِىۤ ءَايَـٰتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ }. لم يبيّن هنا نوع هذا العذاب، ولكنّه بيَّنه بقوله في «الحجّ»: {وَٱلَّذِينَ سَعَوْاْ فِى ءايَـٰتِنَا مُعَـٰجِزِينَ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ}، وقوله: {مُعَـٰجِزِينَ}، أي: مغالبين ومسابقين، يظنون أنهم يعجزون ربّهم، فلا يقدر على بعثهم وعذابهم. والرجز: العذاب؛ كما قال: {فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً}، وقرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو: {مُعَـٰجِزِينَ}، بلا ألف بعد العين مع تشديد الجيم المكسورة. وقرأه الباقون بألف بعد العين، وتخفيف الجيم، ومعنى قراءة التشديد أنهم يحسبون أنهم يعجزون ربهم، فلا يقدر على بعثهم وعقابهم.
وقال بعضهم: أن معنى {مُعَـٰجِزِينَ} بالتشديد، أي: مثبطين الناس عن الإيمان. وقرأ ابن كثير وحفص: {مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ}، بضم الميم من قوله: {أَلِيمٌ} على أنه نعت؛ لقوله: {عَذَابِ} وقرأ الباقون: {أَلِيمٌ} بالخفض على أنه نعت لقوله: {رِجْزَا}. {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ }،إلى قوله: {وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلْبَعِيدِ}. ما تضمّنته هذه الآية الكريمة من إنكار البعث، وتكذيب اللَّه لهم في ذلك، قدم موضحًا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب في «البقرة» و «النحل» وغيرهما.
وقوله تعالىٰ في هذه الآية الكريمة: {إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍا}، أي: تمزّقت أجسادكم وتفرّقت وبليت عظامكم، واختلطت بالأرض، وتلاشت فيها. وقوله عنهم: {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ}، أي: البعث بعد الموت، وهو مصب إنكارهم قبّحهم اللَّه، وهو جلَّ وعلا يعلم ما تلاشى في الأرض من أجسادهم وعظامهم؛ كما قال تعالىٰ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلاْرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَـٰبٌ حَفِيظٌ}. {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلاٌّرْضِ}. ما دلَّت عليه هذه الآية الكريمة من توبيخ الكفار، وتقريعهم على عدم تفكّرهم ونظرهم إلى ما بين أيديهم، وما خلفهم من السماء والأرض، ليستدلّوا بذلك على كمال قدرة اللَّه على البعث، وعلى كل شىء، وأنه هو المعبود وحده، جاء موضحًا في مواضع أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ٱلسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـٰهَا وَزَيَّنَّـٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَٱلاْرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوٰسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}، وقوله تعالىٰ: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْء وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}، وقوله تعالىٰ: {وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة معروفة.
وقال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية: قال عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزّاق، عن معمر عن قتادة: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ}، قال: إنك إن نظرت عن يمينك، أو عن شمالك، أو من بين يديك، أو من خلفك، رأيت السماء والأرض. {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلاٌّرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ}. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أمرين:
أحدهما: أنه إن شاء خسف الأرض بالكفار، خسفها بهم لقدرته على ذلك.
والثاني: أنه إن شاء أن يسقط عليهم كسفًا من السماء، فعل ذلك أيضًا لقدرته عليه.
أمّا الأول: الذي هو أنه لو شاء أن يخسف بهم الأرض لفعل، فقد ذكره تعالىٰ في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالىٰ: {مَّن فِى ٱلسَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلاْرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ أَمْا}، وقوله تعالىٰ: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرّ}، وقوله تعالىٰ: {لَوْلا أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا}، وقوله تعالىٰ في «الأنعام»: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}.
وقوله هنا: {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ ٱلسَّمَاء}، قد بيَّنا في سورة «بني إسرٰئيل»، أنه هو المراد بقوله تعالىٰ عن الكفّار: {أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفً}. وقرأه حمزة والكسائي: {إِن يَشَأْ يَخْسِفَ بِهِمُ ٱلاْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ ٱلسَّمَاء} بالياء المثناة التحتية في الأفعال الثلاثة، أعني: يشأ، ويخسف، ويسقط؛ وعلى هذه القراءة فالفاعل ضمير يعود إلى اللَّه تعالىٰ، أي: إن يشأ هو، أي: اللَّه يخسف بهم الأرض، وقرأ الباقون بالنون الدالَّة على العظمة في الأفعال الثلاثة، أي: إن نشأ نحن.. الخ، وقرأ حفص عن عاصم: {كِسَفً} بفتح السين، والباقون بسكونها والكسف بفتح السين القطع، والكسف بسكون السين واحدها. {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْل}. ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه آتى داود منه فضلاً تفضَّل به عليه، وبيَّن هذا الفضل الذي تفضّل به على داود في آيات أُخر؛ كقوله تعالىٰ: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء}، وقوله تعالىٰ: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءاتَيْنَـٰهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ}، وقوله تعالىٰ: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَـٰنَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، وقوله تعالىٰ: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذٰلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـئَابٍ}، وقوله تعالىٰ: {مَـئَابٍ يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلاْرْضِ}، وقوله تعالىٰ: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا * دَاوُودُ وَسُلَيْمَـٰنَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ}، وقوله تعالىٰ: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَءاتَيْنَا * دَاوُودُ زَبُور}، إلى غير ذلك من الآيات. {يٰجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ}.
قد بيَّنا الآيات الموضحة له مع إيضاح معنى {أَوّبِى مَعَهُ} في سورة «الأنبياء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَسَخَّرْنَا مَعَ * دَاوُودُ ٱلْجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَـٰعِلِينَ}. {وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ أَنِ ٱعْمَلْ سَـٰبِغَـٰتٍ وَقَدِّرْ فِى ٱلسَّرْدِ}.
قد قدّمنا الآيات التي فيها إيضاحه مع بعض الشواهد، وتفسير قوله: {وَقَدّرْ فِى ٱلسَّرْدِ}، في سورة «الأنبياء»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ}. وفي «النحل»، في الكلام على قوله تعالىٰ: {وَسَرٰبِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ}.