تفسير الطبري تفسير الصفحة 429 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 429
430
428
 الآية : 8
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنّةٌ بَلِ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضّلاَلِ الْبَعِيدِ }.
يقول تعالـى ذكره مخبرا عن قـيـل هؤلاء الذين كفروا به, وأنكروا البعث بعد الـمـمات بعضهم لبعض, معجبـين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي وعده إياهم ذلك: أفترى هذا الذي يعدنا أنا بعد أن نـمزّق كلّ مـمزّق فـي خـلق جديد علـى الله كذبـا, فتـخـلق علـيه بذلك بـاطلاً من القول, وتـخرص علـيه قول الزور أمْ به جِنّةٌ يقول: أم هو مـجنون فـيتكلـم بـما لا معنى له. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21913ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: قالوا تكذيبـا: أفْتَرَى علـى اللّهِ كَذِبـا قال: قالوا: إما أن يكون يكذب علـى الله, أم به جنة, وإما أن يكون مـجنونا بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ... الاَية.
21914ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد ثم قال بعضهم لبعض: أفْتَرَى عَلـى اللّهِ كَذِبـا أمْ بِهِ جِنّةٌ الرجل مـجنون فـيتكلـم بـما لا يعقل, فقال الله: بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـالاَخِرَةِ فِـي العَذَابِ والضّلالِ البَعِيدِ.
وقوله: بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـالاَخِرَةِ فِـي العَذَابِ والضّلالِ البَعِيدِ يقول تعالـى ذكره: ما الأمر كما قال هؤلاء الـمشركون فـي مـحمد صلى الله عليه وسلم, وظنوا به من أنه أفترى علـى الله كذبـا, أو أن به جنة, لكنّ الذين لا يؤمنون بـالاَخرة من هؤلاء الـمشركين فـي عذاب الله فـي الاَخرة, وفـي الذهاب البعيد عن طريق الـحقّ, وقصد السبـيـل, فهم من أجل ذلك يقولون فـيه ما يقولون.
21915ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد قال الله: بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـالاَخِرَةِ فِـي العَذَابِ والضّلالِ البَعِيدِ وأمره أن يحلف لهم لـيعتبروا, وقرأ: قُلْ بَلـى وَرَبّـي لَتُبْعَثُنّ ثُمّ لَتُنَبّؤُنّ بِـما عَمِلْتُـمْ... الاَية كلها, وقرأ: قُلْ بَلـى وَربّـي لَتَأْتِـيَنّكُمْ.
وقطعت الألف من قوله: أفْتَرَى علـى اللّهِ فـي القطع والوصل, ففتُـحت لأنها ألف استفهام. فأما الألف التـي بعدها, التـي هي ألف أفتعل, فإنها ذهبت لأنها خفـيفة زائدة تسقط فـي اتصال الكلام, ونظيرها: سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ وبِـيَدَيّ أسْتَكْبَرْتَ وأَصْطَفَـى الْبَنَاتِ وما أشبه ذلك. وأما ألف «آلاَنَ» «وآلذّكَرَيْنِ» فطوّلت هذه, ولـم تطوّل تلك, لأن آلاَن وآلذكرين كانت مفتوحة, فلو أسقطت لـم يكن بـين الاستفهام والـخبر فرق, فجعل التطويـل فـيها فرقا بـين الاستفهام والـخبر, وألف الاستفهام مفتوحة, فكانتا مفترقتـين بذلك, فأغنى ذلك دلالة علـى الفرق من التطويـل.
الآية : 9
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ إِن نّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السّمَآءِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مّنِيبٍ }.
يقول تدعالـى ذكره: أفلـم ينظر هؤلاء الـمكذّبون بـالـمعاد, الـجاحدون البعث بعد الـمـمات, القائلون لرسولنا مـحمد صلى الله عليه وسلم: أفْتَرَى علـى اللّهِ كَذِبـا أمْ بِهِ جِنّةٌ إلـى ما بـين أيديهم وما خـلفهم من السماء والأرض, فـيعلـموا أنهم حيث كانوا, فإن أرضي وسمائي مـحيطة بهم من بـين أيديهم ومن خـلفهم, وعن أيـمانهم, وعن شمائلهم, فـيرتدعوا عن جهلهم, ويتزجروا عن تكذيبهم بآياتنا حذرا أن نأمر الأرض فتـخسف بهم, أو السماء فتسقط علـيهم قطعا, فإنّا إن نشأ نفعل ذلك بهم فعلنا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21916ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أفَلَـمْ يَرَوْا إلـى ما بَـينَ أيْدِيهِمْ وَما خَـلْفَهُمْ قال: ينظرون عن أيـمانهم, وعن شمائلهم, كيف السماء قد أحاطت بهم إنْ نَشأْ نَـخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ كما خسفنا بـمن كان قبلهم أوْ نُسْقِطْ عَلَـيْهِمْ كِسَفـا مّنَ السّماءِ: أي قِطعا من السماء.
وقوله: إنّ فِـي ذلكَ لاَيَةً لِكُلّ عَبْدٍ مُنِـيبٍ يقول تعالـى ذكره: إن فـي إحاطة السماء والأرض بعبـاد الله لاَية يقول: لدلالة لكلّ عبد منـيب يقول: لكل عبد أناب إلـى ربه بـالتوبة, ورجع إلـى معرفة توحيده, والإقرار بربوبـيته, والاعتراف بوحدانـيته, والإذعان لطاعته, علـى أن فـاعل ذلك لا يـمتنع علـيه فعل شيء أراد فعله, ولا يتعذّر علـيه فعل شيء شاءه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21917ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إنّ فِـي ذلكَ لاَيَةً لِكُلّ عَبْدٍ مُنِـيبٍ والـمنـيب: الـمقبل التائب.
الآية : 10 -11
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنّا فَضْلاً يَجِبَالُ أَوّبِي مَعَهُ وَالطّيْرَ وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِي السّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد أعطينا داود منا فضلاً, وقلنا للـجبـال: أوّبِـي مَعَهُ: سبحي معه إذا سبح.
والتأويب عند العرب: الرجوع, ومبـيت الرجل فـي منزله وأهله ومنه قول الشاعر:
يَوْمانِ يَوْمُ مَقاماتٍ وأنْدِيَةٍوَيَوْمُ سَيْرٍ إلـى الأعْدَاءِ تَأوِيبِ
أي رجوع. وقد كان بعضهم يقرؤه: «أُوْبِـي مَعَهُ» من آب يؤوب, بـمعنى: تصرّفـي معه وتلك قراءة لا أستـجيز القراءة بها لـخلافها قراءة الـحجة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21918ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: ثنـي مـحمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كدينة. وحدثنا مـحمد بن سنان القزاز, قال: حدثنا الـحسن بن الـحسن الأشقر, قال: حدثنا أبو كدينة, عن عطاء, عن سعيد بن جُبَـير, عن ابن عبـاس أوّبِـي مَعَهُ قال: سَبّحي معه.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله يا جِبـالُ أوّبِـي مَعَهُ يقول: سَبّحِي معه.
21919ـ حدثنا أبو عبد الرحمن العلائي, قال: حدثنا مِسْعر, عن أبـي حُصين, عن أبـي عبد الرحمنيا جِبـالُ أوّبِـي مَعَهُ يقول: سَبّحي.
21920ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن أبـي إسحاق, عن أبـي ميسرة يا جبـالُ أَوّبِـي مَعَهُ قال: سَبّحي, بلسان الـحبشة.
21921ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي, قال: حدثنا فضيـل, عن منصور, عن مـجاهد, فـي قوله: يا جبـالُ أوّبِـي مَعَهُ قال: سبحي معه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: يا جبـالُ أوّبِـي مَعَهُ قال: سَبّحي.
21922ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة يا جِبـالُ أَوّبِـي مَعَهُ: أي سبّحي معه إذا سبّح.
21923ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يا جِبـالُ أَوّبِـي مَعَهُ قال: سبّحي معه قال: والطيرُ أيضا.
21924ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: يا جِبـالُ أَوّبِـي مَعَهُ قال: سبّحي.
حدثنا عمرو بن عبد الـحميد, قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن جُوَيبر, عن الضحاك, قوله: يا جِبـالُ أَوّبِـي مَعَهُ سبّحي معه.
وقوله: والطّيْرَ وفـي نصب الطير وجهان: أحدهما علـى ما قاله ابن زيد من أن الطير نُوديت كما نوديت الـجبـال, فتكون منصوبة من أجل أنها معطوفة علـى مرفوع, بـما لا يحسن إعادة رافعه علـيه, فـيكون كالـمصدر عن جهته. والاَخر: فعل ضمير متروك استغنـي بدلالة الكلام علـيه, فـيكون معنى الكلام: فقلنا: يا جبـال أوّبـي معه, وسخرنا له الطير. وإن رفع ردّا علـى ما فـي قوله «سبحي» من ذكر الـجبـال كان جائزا. وقد يجوز رفع الطير وهو معطوف علـى الـجبـال, وإن لـم يحسن نداؤها بـالذي نُوديت به الـجبـال, فـيكون ذلك كما قال الشاعر:
ألا يا عَمْرُو والضّحاكَ سِيرَافَقَدْ جاوَزْتُـمَا خَمَرَ الطّرِيقِ
وقوله: وألَنّا لَهُ الـحَدِيدَ ذكر أن الـحديد كان فـي يده كالطين الـمبلول يصرّفه فـي يده كيف يشاء بغير إدخال نار, ولا ضرب بحديد. ذكر من قال ذلك:
21925ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وألَنّا لَهُ الـحَدِيدَ سخّر الله له الـحديد بغير نار.
21926ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن عثمة, قال: حدثنا سعيد بن بشير, عن قتادة, فـي قوله: وألَنّا لَهُ الـحَدِيدَ كان يسوّيها بـيده, ولا يدخـلها نارا, ولا يضربها بحديدة.
وقوله: أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ يقول: وعهدنا إلـيه أن اعمل سابغات, وهي التوامّ الكوامل من الدروع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21927ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ دروع, وكان أوّل من صنعها داود, إنـما كان قبل ذلك صفـائح.
21928ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ قال: السابغات: دروع الـحديد.
وقوله: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ اختلف أهل التأويـل فـي السرد, فقال بعضهم: السرد: هو مسمار حلق الدرع. ذكر من قال ذلك:
21929ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: كان يجعلها بغير نار, ولا يقرعها بحديد, ثم يسردها. والسرد: الـمسامير التـي فـي الـحَلَق.
وقال آخرون: هو الـحلق بعينها. ذكر من قال ذلك:
21930ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: السرد: حلقه أي قدّر تلك الـحلق. قال: وقال الشاعر:
الـمُسَدّي سَرْدَها وأذَالَهَا
قال: يقول: وسعها, وأجاد حلقها().
21931ـ حدثنا مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ يعنـي بـالسرد: ثقب الدروع فـيسد قتـيرها.
وقال بعض أهل العلـم بكلام العرب: يقال درع مسرودة: إذا كانت مسمورة الـحلق واستشهد لقـيـله ذلك بقول الشاعر:
وَعَلَـيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضَاهُمادَاوُدُ أوْ صَنَعُ السّوَابِغَ تُبّعُ
وقـيـل: إنـما قال الله لداود: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ لأنها كانت قبلُ صفـائح. ذكر من قال ذلك:
21932ـ حدثنا نصر بن علـيّ, قال: حدثنا أبـي, قال: حدثنا خالد بن قـيس, عن قتادة وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: كانت صفـائح, فأمر أن يسردها حلقا.
وعنى بقوله وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ: وقدّر الـمسامير فـي حلق الدروع حتـى يكون بـمقدار لا تغلظ الـمسمار, وتضيق الـحلقة, فتفصم الـحلقة, ولا توسع الـحلقة, وتصغر الـمسامير وتدقها, فتسلس فـي الـحلقة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21933ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: قدّر الـمسامير والـحلق, لا تدقّ الـمسامير فتسلس, ولا تـجلها. قال مـحمد بن عمرو, وقال الـحارث: فتفصم.
حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, فـي قوله: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: لا تصغر الـمسمار, وتعظم الـحلقة فتسلس, ولا تعظم الـمسمار وتصغر الـحلقة فـيفصم الـمسمار.
21934ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عيـينة, قال: حدثنا أبـي, عن الـحكم, فـي قوله: وَقَدّرْ فِـي السّرْدِ قال: لا تغلظ الـمسمار فـيفصم الـحلقة, ولا تدقه فـيقلق.
وقوله: واعْمَلُوا صَالِـحا يقول تعالـى ذكره: واعمل يا داود أنت وآلك بطاعة الله إنّـي بـمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يقول جلّ ثناؤه: إنـي بـما تعمل أنت وأتبـاعك ذو بصر لا يخفـى علـيّ منه شيء, وأنا مـجازيك وإياهم علـى جميع ذلك.
الآية : 12
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ غُدُوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السّعِيرِ }.
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحَ بنصب الريح, بـمعنى: ولقد آتـينا داود منا فضلاً, وسخرنا لسلـيـمان الريحَ. وقرأ ذلك عاصم: «وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحُ» رفعا بحرف الصفة, إذ لـم يظهر الناصب.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا النصب لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه.
وقوله: غُدُوّها شَهْرٌ يقول تعالـى ذكره: وسخرنا لسلـيـمان الريح, غدوّها إلـى انتصاف النهار مسيرة شهر, ورواحها من انتصاف النهار إلـى اللـيـل مسيرة شهر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21935ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحَ غُدُوّها شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ قال: تغدو مسيرة شهر, وتروح مسيرة شهر, قال: مسيرة شهرين فـي يوم.
21936ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلـم, عن وهب بن منبه: وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحَ غُدُوّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ قال: ذكر لـي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فـيه كتاب كتبه بعض صحابة سلـيـمان, إما من الـجنّ, وإما من الإنس: نـحن نزلناه وما بنـيناه, ومبنـيا وجدناه, غدونا من إصطخر فقِلناه, ونـحن رائحون منه إن شاء الله فبـائتون بـالشام.
21937ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلِسُلَـيْـمانَ الرّيحَ غُدُوّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ قال: كان له مركب من خشب, وكان فـيه ألف ركن, فـي كل ركن ألف بـيت تركب فـيه الـجنّ والإنس, تـحت كل ركن ألف شيطان, يرفعون ذلك الـمركب هم والعصار فإذا ارتفع أتت الريح رُخَاء, فسارت به, وساروا معه, يقـيـل عند قوم بـينه وبـينهم شهر, ويـمسي عند قوم بـينه وبـينهم شهر, ولا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الـجيوش والـجنود.
21938ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو عامر, قال: حدثنا قرة, عن الـحسن, فـي قوله غُدُوّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ قال: كان يغدو فـيقـيـل فـي إصطخر, ثم يروح منها, فـيكون رواحها بكابل.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا حماد, قال: حدثنا قرة, عن الـحسن بـمثله.
وقوله: وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ يقول: وأذبنا له عين النـحاس, وأجريناها له. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21939ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ عين النـحاس, كانت بأرض الـيـمن, وإنـما ينتفع الـيوم بـما أخرج الله لسلـيـمان.
21940ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ قال: الصّفر سال كما يسيـل الـماء, يعمل به كما كان يعمل العجين فـي اللـين.
21941ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ يقول: النـحاس.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ يعنـي: عين النـحاس أسيـلت.
وقوله: وَمِنَ الـجِنّ مَنْ يَعْمَلُ بَـينَ يَدَيْهِ بإذْنِ رَبّهِ يقول تعالـى ذكره: ومن الـجنّ من يطيعه, ويأتـمر بأمره, وينتهي لنهيه, فـيعمل بـين يديه ما يأمره طاعة له بإذن ربه يقول: بأمر الله بذلك, وتسخيره إياه له وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أمْرِنا يقول: ومن يزُل ويعدل من الـجنّ عن أمرنا الذي أمرناه من طاعة سلـيـمان نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السّعِيرِ فِـي الاَخرة, وذلك عذاب نار جهنـم الـموقدة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21942ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أمْرِنا أي يعدل منهم عن أمرنا عما أمره به سلـيـمان نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السّعِيرِ.
الآية : 13
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ اعْمَلُوَاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ الشّكُورُ }.
يعنـي تعالـى ذكره: يعمل الـجنّ لسلـيـمان ما يشاء من مـحاريب, وهي جمع مـحراب, والـمـحراب: مقدّم كل مسجد وبـيت ومصلّـى ومنه قول عديّ بن زيد:
كَدُمَى العاجِ فِـي الـمَـحارِيبِ أوْ كالْبَـيضِ فـي الرّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِـيرُ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21943ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: ما يَشاءُ مِنْ مَـحَارِيبَ قال: بنـيان دون القصور.
21944ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَـحَارِيبَ وقصور ومساجد.
21945ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَـحَارِيبَ قال: الـمـحاريب: الـمساكن. وقرأ قول الله: فَنادَتْهُ الـمَلائكَةُ وَهُوَ قائمٌ يُصَلّـي فِـي الـمـحْرابِ.
21946ـ حدثنـي عمرو بن عبد الـحميد الاَملـي, قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن جُوَيبر, عن الضحاك: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَـحَارِيبَ قال: الـمـحاريب: الـمساجد.
وقوله: وتَـماثِـيـلَ يعنـي أنهم يعملون له تـماثـيـل من نـحاس وزجاج, كما:
21947ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد وتَـماثِـيـلَ قال: من نـحاس.
21948ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وتَـماثِـيـلَ قال: من زجاج وشَبَه.
21949ـ حدثنا عمرو بن عبد الـحميد, قال: حدثنا مروان, عن جُوَيبر, عن الضحاك فـي قول الله وتَـماثِـيـلَ قال: الصور.
وقوله: وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ يقول: وينـحتون له ما يشاء من جفـان كالـجواب وهي جمع جابـية, والـجابـية: الـحوض الذي يُجْبَـي فـيه الـماء, كما قال الأعشى ميـمون بن قَـيس:
تَرُوحُ علـى نادِي الـمُـحَلّقِ جَفْنَةٌكَجابِـيَةِ الشّيْخِ العِرَاقِـيّ تَفْهَقُ
وكما قال الاَخر:
فَصَبّحْتُ جابِـيَةً صُهارِجاكأنّها جِلْدُ السّماءِ خارِجا
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21950ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ يقول: كالـجوبة من الأرض.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ يعنـي بـالـجواب: الـحياض.
21951ـ وحدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن أبـي رجاء, عن الـحسن وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ قال: كالـحياض.
21952ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ قال: حياض الإبل.
21953ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ قال: جفـان كجوبة الأرض من العظم, والـجوبة من الأرض: يستنقع فـيها الـماء.
21954ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ, يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ كالـحياض.
حدثنا عمرو, قال: حدثنا مروان بن معاوية, قال: حدثنا جويبر, عن الضحاك: وَجِفـانٍ كالـجَوَابِ قال: كحياض الإبل من العظم.
وقوله: وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ يقول: وقدور ثابتات لا يحركن عن أماكنهنّ, ولا تـحوّل لعظمهنّ.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21955ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال: عظام.
21956ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال: عِظام ثابتات الأرض لا يزُلن عن أمكنتهن.
21957ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال: مثال الـجبـال من عِظمها, يعمل فـيها الطعام من الكبر والعظم, لا تـحرّك, ولا تنقل, كما قال للـجبـال: راسيات.
وقوله: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا يقول تعالـى ذكره: وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكرا له علـى ما أنعم علـيكم من النعم التـي خَصّكم بها عن سائر خـلقه مع الشكر له علـى سائر نعمه التـي عمكم بها مع سائر خـلقه وتُرِك ذكر: وقلنا لهم, اكتفـاء بدلالة الكلام علـى ما ترك منه, وأخرج قوله شُكْرا مصدرا من قوله اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ لأن معنى قوله اعْمَلُوا اشكروا ربكم بطاعتكم إياه, وأن العمل بـالذي رضي الله, لله شكر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21958ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا موسى بن عبـادة, عن مـحمد بن كعب, قوله: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا قال: الشكر: تقوى الله, والعمل بطاعته.
21959ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: أخبرنـي حَيْوَة, عن زُهْرة بن معبد, أنه سمع أبـا عبد الرحمن الـحبلـي يقول: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا وأفضل الشكر: الـحمد.
21960ـ قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا قال: أعطاكم وعلـمكم وسخر لكم ما لـم يسخر لغيركم, وعلّـمكم منطق الطير, اشكروا له يا آل داود, قال: الـحمد طرف من الشكر.
وقوله: وَقَلِـيـلٌ مِنْ عِبـادِيَ الشّكُورُ يقول تعالـى ذكره: وقلـيـل من عبـادي الـمخـلصو توحيدي, والـمفردو طاعتـي وشكري علـى نعمتـي علـيهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21961ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَقَلِـيـلٌ مِنْ عِبـادِيَ الشّكُورُ يقول: قلـيـل من عبـادي الـموحّدون توحيدهم.
الآية : 14
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلّهُمْ عَلَىَ مَوْتِهِ إِلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الْجِنّ أَن لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }.
يقول تعالـى ذكره: فلـما أمضينا قضاءنا علـى سلـيـمان بـالـموت فمات ما دَلّهُمْ عَلـى مَوْتِهِ يقول: لـم يدلّ الـجنّ علـى موت سلـيـمان إلاّ دَابّةُ الأرْضِ وهي الأَرَضَة وقعت فـي عصاه, التـي كان متكئا علـيها فأكلتها, فذلك قول الله عزّ وجلّ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21962ـ حدثنـي ابن الـمثنى وعلـيّ, قالا: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ يقول: الأَرَضَة تأكل عصاه.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال: عصاه.
21963ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: ثنـي أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: إلاّ دَابّةُ الأرْضِ قال: الأَرَضَة تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال: عصاه.
حدثنـي مـحمد بن عمارة, قال: حدثنا عبد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن أبـي يحيى, عن مـجاهد تأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال: عصاه.
21964ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن عثمة, قال: حدثنا سعيد بن بشير, عن قتادة, فـي قوله: تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ أكلت عصاه حتـى خرّ.
21965ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: الـمنسأة: العصا بلسان الـحبشة.
21966ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الـمنسأة: العصا.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: مِنْسأتَهُ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل البصرة: «مِنْساتَهُ» غير مهموزة وزعم من اعتلّ لقارىء ذلك كذلك من أهل البصرة أن الـمنِساة: العصا, وأن أصلها من نسأت بها الغنـم, قال: وهي من الهمز الذي تركته العرب, كما تركوا همز النبـيّ والبرية والـخابـية, وأنشد لترك الهمز فـي ذلك بـيتا لبعض الشعراء:
إذَا دَبَبتَ عَلـى الـمِنساةِ مِنْ هَرَمٍفَقَدْ تَبـاعَدَ عَنْكَ اللّهْوُ والغَزَلُ
وذكر الفراء عن أبـي جعفر الرّوَاسِيّ, أنه سأل عنها أبـا عمرو, فقال: «مِنْساتَهُ» بغير همز.
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: مِنْسأتَهُ بـالهمز, وكأنهم وجهوا ذلك إلـى أنها مِفْعَلة, من نسأت البعير: إذا زجرته لـيزداد سيره, كما يقال: نسأت اللبن: إذا صببت علـيه الـماء, وهو النّسيء. وكما يقال: نسأ الله فـي أجلك أي أدام الله فـي أيام حياتك.
قال أبو جعفر: وهما قراءتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما علـماء من القرّاء بـمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, وأن كنت أختار الهمز فـيها لأنه الأصل.
وقوله: فَلَـمّا خَرّ تَبَـيّنَتِ الـجِنّ يقول عزّ وجلّ: فلـما خرّ سلـيـمان ساقطا بـانكسار منسأته تبـيّنت الـجنّ أنْ لو كانوا يعلـمون الغَيْبَ الذي يدّعون علـمه ما لَبِثُوا فِـي العَذَابِ الـمُهِينِ الـمذلّ حولاً كاملاً بعد موت سلـيـمان, وهم يحسبون أن سلـيـمان حيّ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
21967ـ حدثنا أحمد بن منصور, قال: حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة, قال: حدثنا إبراهيـم بن طهمان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبَـير, عن ابن عبـاس, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كانَ سُلَـيْـمانُ نَبِـيّ اللّهِ إذَا صَلّـى رأَى شَجَرَةً نابِتَةً بـينَ يَدَيْهِ, فَـيَقُولُ لَهَا: ما اسمُكِ؟ فَتَقُولُ: كَذَا, فَـيَقُولُ: لأَيّ شَيْءٍ أنْتِ؟ فإنْ كانَتْ تُغْرَسُ غُرِسَتْ, وَإنْ كانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ, فَبَـيْنَـما هُوَ يُصَلّـي ذَاتَ يَوْمٍ, إذْ رأى شَجَرَةً بـينَ يَدَيْهِ, فَقالَ لَهَا: ما اسمُكِ؟ قالَتْ: الـخَرّوب, قالَ: لأَيّ شَيْءٍ أنْتِ؟ قالَتْ: لـخَرَابِ هَذَا البَـيْتِ, فَقالَ سُلَـيْـمانُ: اللّهُمّ عَمّ علـى الـجِنّ مَوْتِـي حتـى يَعْلَـمَ الإنْسُ أنّ الـجِنّ لا يَعْلَـمُونَ الغَيْبَ, فَنَـحَتَها عَصا فَتَوَكّأَعَلَـيْها حَوْلاً مَيّتا, والـجِنّ تَعْمَلُ, فأكَلَتْها الأرَضَةُ, فَسَقَطَ, فَتَبَـيّنَتِ الإنْسُ أنّ الـجِنّ لَوْ كانُوا يَعْلَـمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا حَوْلاً فِـي العَذَابِ الـمُهِينِ» قال: وكان ابن عبـاس يقرؤها كذلك, قال: فشكرت الـجنّ للأرضة, فكانت تأتـيها بـالـماء.
21968ـ حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـي خبر ذكره عن أبـي مالك, وعن أبـي صالـح, عن ابن عبـاس, وعن مُرّة الهمْدانـيّ, عن ابن مسعود, وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان سلـيـمان يتـجرّد فـي بـيت الـمقدس السنة والسنتـين, والشهر والشهرين, وأقلّ من ذلك وأكثر, يَدْخـل طعامه وشرابه, فدخـله فـي الـمرّة التـي مات فـيها, وذلك أنه لـم يكن يوم يُصبح فـيه, إلا تنبت فـيه شجرة, فـيسألها ما اسمك, فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا, فـيقول لها: لأيّ شيء نبتّ؟ فتقول: نبتّ لكذا وكذا, فـيأمر بها فتقطع, فإن كانت نبتت لغرس غرسها, وإن كانت نبتت لدواء, قالت: نبتّ دواء لكذا وكذا, فـيجعلها كذلك, حتـى نبتت شجرة يقال لها الـخرّوبة, فسألها: ما اسمك؟ فقالت له: أنا الـخرّوبة, فقال: لأيّ شيء نبتّ؟ قالت: لـخراب هذا الـمسجد قال سلـيـمان: ما كان الله لـيخربه وأنا حيّ, أنت التـي علـى وجهك هلاكي وخراب بـيت الـمقدس, فنزعها وغرسها فـي حائط له, ثم دخـل الـمـحراب, فقام يصلـي متكئا علـى عصاه, فمات ولا تعلـم به الشياطين فـي ذلك, وهم يعملون له يخافون أن يخرج فـيعاقبهم وكانت الشياطين تـجتـمع حول الـمـحراب, وكان الـمـحراب له كُوًى بـين يديه وخـلفه, وكان الشيطان الذي يريد أن يخـلع يقول: ألست جَلدا إن دخـلتُ, فخرجتُ من الـجانب الاَخر فدخـل شيطان من أولئك فمرّ, ولـم يكن شيطان ينظر إلـى سلـيـمان فـي الـمـحراب إلا احترق, فمرّ ولـم يسمع صوت سلـيـمان علـيه السلام, ثم رجع فلـم يسمع, ثم رجع فوقع فـي البـيت فلـم يحترق, ونظر إلـى سلـيـمان قد سقط فخرج فأخبر الناس أن سلـيـمان قد مات, ففتـحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته, وهي العصا بلسان الـحبشة, قد أكلتها الأرضة, ولـم يعلـموا منذ كم مات, فوضعوا الأرضة علـى العصا, فأكلت منها يوما ولـيـلة, ثم حسبوا علـى ذلك النـحو, فوجدوه قد مات منذ سنة. وهي فـي قراءة ابن مسعود: «فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً» فأيقن الناس عند ذلك أن الـجنّ كانوا يكذِبونهم, ولو أنهم علـموا الغيب لعلـموا بـموت سلـيـمان, ولـم يـلبثوا فـي العذاب سنة يعملون له, وذلك قول الله: ما دَلّهُمْ عَلـى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ فَلَـمّا خَرّ تَبَـيّنَتِ الـجِنّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَـمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا فِـي العَذابِ الـمُهِينِ يقول: تبـين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذِبونهم, ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلـين الطعام أتـيناك بأطيب الطعام, ولو كنت تشربـين الشراب سقـيناك أطيب الشراب, ولكنا سننقل إلـيك الـماء والطين, فـالذي يكون فـي جوف الـخشب, فهو ما تأتـيها به الشياطين شكرا لها.
21969ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كانت الـجنّ تـخبر الإنس أنهم كانوا يعلـمون من الغيب أشياء, وأنهم يعلـمون ما فـي غد, فـابتلوا بـموت سلـيـمان, فمات, فلبث سنة علـى عصاه وهم لا يشعرون بـموته, وهم مسخرون تلك السنة يعملون دائبـين فَلَـمّا تَبَـيّنَتِ الْـجِنّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَـمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا فِـي العَذَابِ الـمُهِينِ ولقد لبثوا يدأبون, ويعملون له حولاً.
21970ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: ما دَلّهُمْ عَلـى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال: قال سلـيـمان لـملك الـموت: يا ملك الـموت, إذا أُمِرْتَ بـي فأعلـمنـي قال: فأتاه فقال: يا سلـيـمان, قد أُمرت بك, قد بقـيت لك سُويعة, فدعا الشياطين فبنوا علـيه صرحا من قوارير, لـيس له بـاب, فقام يصلـي, واتكأ علـى عصاه قال: فدخـل علـيه ملك الـموت فقبض روحه وهو متكىء علـى عصاه ولـم يصنع ذلك فرارا من ملك الـموت, قال: والـجنّ تعمل بـين يديه, وينظرون إلـيه, يحسبون أنه حيّ, قال: فبعث الله دابة الأرض, قال: دابة تأكل العِيدان يقال لها القادح, فدخـلت فـيها فأكلتها, حتـى إذا أكلت جوف العصا, ضعفت وثقل علـيها, فخرّ ميتا, قال: فلـما رأت الـجنّ ذلك, انفضوا وذهبوا, قال: فذلك قوله: ما دَلّهُمْ عَلـى مَوْتِهِ إلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ قال: والـمنسأة: العصا.
21971ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, قال: كان سلـيـمان بن داود يصلـي, فمات وهو قائم يصلـي والـجنّ يعملون لا يعلـمون بـموته, حتـى أكلت الأرضة عصاه, فخرّ, و«أن» فـي قوله: أن لَوْ كانُوا فـي موضع رفع بتبـين, لأن معنى الكلام: فلـما خرّ تبـين وانكشف, أن لو كان الـجنّ يعلـمون الغيب, ما لبثوا فـي العذاب الـمهين.
وأما علـى التأويـل الذي تأوّله ابن عبـاس من أن معناه: تبـينت الإنس الـجنّ, فإنه ينبغي أن يكون فـي موضع نصب بتكريرها علـى الـجنّ, وكذلك يجب علـى هذه القراءة أن تكون الـجنّ منصوبة, غير أنـي لا أعلـم أحدا من قرّاء الأمصار يقرأ ذلك بنصب الـجنّ, ولو نصب كان فـي قوله تَبَـيّنَت ضمير من ذكر الإنس