تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 488 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 488


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ ٱلْجَوَارِ فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلاٌّعْلَـٰمِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَـٰتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِىۤ ءَايَـٰتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ * فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَىْءٍ فَمَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰئِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَٰحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ * وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ * وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ * وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى ٱلاٌّرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلاٍّمُورِ * وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى ٱلظَّـٰلِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـٰشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِنَّ ٱلْخَـٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ أَلاَ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ * ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ كَفُورٌ * لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـٰثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـٰثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِىۤ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلاٍّمُورُ}
قوله تعالى:
{وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى ٱلاٌّرْضِ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النور في الكلام على قوله تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ}. قوله تعالى: {وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ ٱلْجَوَارِ فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلاٌّعْلَـٰمِ}. قوله: ومن آياته أي من علاماته الدالة على قدرته واستحقاقه للعبادة وحده، الجواري وهي السفن واحدتها جارية، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَـٰكُمْ فِى ٱلْجَارِيَةِ} يعني سفينة نوح، وسميت جارية لأنها تجري في البحر.
وقوله {كَٱلاٌّعْلَـٰمِ} أي كالجبال، شبه السفن بالجبال لعظمها.
وعن مجاهد أن الأعلام القصور، وعن الخليل: أن كل مرتفع تسميه العرب علماً، وجمع العلم أعلام.
وهذا الذي ذكره الخليل معروف في اللغة، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخراً: وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن جريان السفن في البحر، من آياته تعالى الدالة على كمال قدرته، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى {وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِوَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَوَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَإِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ} {فأَنْجَيْنـٰهُ وأَصْحَـٰبَ ٱلسَّفِينَةِ وَجَعَلْنَـٰهَآ ءَايَةً لِّلْعَـٰلَمِينَ} وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِى تَجْرِى فِى ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ} إلى قوله: {لآيَـٰتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. وقوله تعالى في سورة النحل: {وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ}. وقوله في فاطر: {وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ}. والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو «الجواري» بياء ساكنة بعد الراء في الوصل فقط، دون الوقف وقرأه ابن كثير بالياء المذكور في الوصل والوقف معاً، وقرأه الباقون الجوار بحذف الياء في الوصل والوقف معاً. قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰئِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَٰحِشَ}. قرأ هذا الحرف الحمزة والكسائي (كبير الإثم)، بكسر الباء بعدها ياء ساكنة وراء على صيغة الإفراد.
وقرأه الباقون بفتح الباء بعدها ألف فهمزة مكسورة قبل الراء على صيغة الجمع.
وقوله {وَٱلَّذِينَ}: في محل جر عطفاً على قوله: {وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي وخير وأبقى أيضاً للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش.
والفواحش جمع فاحشة. والتحقيق إن شاء الله أن الفواحش من جملة الكبائر.
والأظهر أنها من أشنعها، لأن الفاحشة في اللغة: وهي الخصلة المتناهية في القبح، وكل متشدد في شيء مبالغ فيه فهوفاحش فيه.
ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد

فقوله: الفاحش أي المبالغ في البخل المتناهي فيه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وعده تعالى الصادق للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش بما عنده لهم من الثواب الذي هو خير وأبقى، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، فبين تعالى في سورة النساء أن من ذلك تكفيره تعالى عنهم سيئاتهم، وإدخالهم المدخل الكريم وهو الجنة في قوله تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيم}، وبين في سورة النجم أنهم باجتنابهم كبائر الإثم والفواحش، يصدق عليهم اسم المحسنين ووعدهم على ذلك بالحسنى.
والأظهر أنها الجنة، ويدل له حديث «الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم» في تفسير قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ} كما قدمناه.
وآية النجم المذكورة هي قوله تعالى {وَيِجْزِى ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى} ثم بين المراد بالذين أحسنوا في قوله {ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰئِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَٰحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ}.
وأظهر الأقوال في قوله: إلا اللمم، أن المراد باللمم صغائر الذنوب، ومن أوضح الآيات القرآنية في ذلك قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ}. فدلت على أن اجتناب الكبائر سبب لغفران الصغائر، وخير ما يفسر به القرآن، القرآن.
ويدل لهذا حديث ابن عباس الثابت في الصحيح: قال ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تمني وتشتهي والفرج يُصَدِّقُ ذلك أو يكذبه».
وعلى هذا القول فالاستثناء في قوله إلا اللمم منقطع، لأن اللمم الذي هو الصغائر على هذا القول لا يدخل في الكبائر والفواحش، وقد قدمنا تحقيق المقام في الاستثناء المنقطع. في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَـٰم}.
وقالت جماعة من أهل العلم: الاستثناء متصل فالواو وعليه، فمعنى إلا اللمم: إلا أن يلم بفاحشة مرة ثم يجتنبها ولا يعود لها بعد ذلك.
واستدلوا لذلك بقول الراجز: إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما

وروى هذا البيت ابن جرير والترمذي وغيرهما مرفوعاً. وفي صحته مرفوعاً نظر.
وقال بعض العلماء. المراد باللمم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي، قبل الدخول في الإسلام ولا يخفى بعده.
وأظهر الأقوال هو ما قدمنا لدلالة آية النساء المذكورة عليه، وحديث ابن عباس المتفق عليه.
واعلم أن كبائر الإثم ليست محدودة في عدد معين، وقد جاء تعيين بعضها كالسبع الموبقات أي المهكات لعظمها، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة «أنها الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقد جاءت روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعيين بعض الكبائر «كعقوق الوالدين واستحلال حرمة بيت الله الحرام والرجوع إلى البادية بعد الهجرة وشرب الخمر واليمين الغموس والسرقة ومنع فضل الماء ومنع فضل الكلأ وشهادة الزور».
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن ابن مسعود «أن أكبر الكبائر الإشراك بالله الذي خلق الخلق ثم قتل الرجل ولده خشية أن يطعم معه، ثم زناه بحليلة جاره». وفي بعضها أيضاً «أن من الكبائر تسبب الرجل في سبب والديه»، وفي بعضها أيضاً «أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفرا» وذلك يدل على أنهما من الكبائر.
وفي بعض الروايات «أن من كبائر الوقوع في عرض المسلم، والسبتين بالسبة».
وفي بعض الروايات «أن منها جمع الصلاتين من غير عذر».
وفي بعضها «أن منها اليأس من روح الله، والأمن من مكر الله» ويدل عليهما قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَايْأسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ}. وقوله {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ}.
وفي بعضها «أن منها سوء الظن بالله» ويدل له قوله تعالى {وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَـٰتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِير}.
وفي بعضها «أن منها الإضرار في الوصية».
وفي بعضها أن منها الغلول، ويدل له قوله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ}. وقدمنا معنى الغلول في سورة الأنفال، وذكرنا حكم الغال.
وفي بعضها «أن من أهل الكبائر الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناًقليلاً». ويدل له قوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلَـٰقَ لَهُمْ فِى ٱلاٌّخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ولم نذكر أسانيد هذه الروايات ونصوص متونها خوف الإطالة، وأسانيد بعضها لا تخلو من نظر لكنها لا يكاد يخلو شيء منها عن بعض الشواهد الصحيحة، من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن أهل العلم اختلفوا في حد الكبيرة.
فقال بعضهم: هي كل ذنب استوجب حداً من حدود الله.
وقال بعضهم: هي كل ذنب جاء الوعيد عليه بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب.
واختار بعض المتأخرين حد الكبيرة بأنها هي كل ذنب دل على عدم اكتراث صاحبه بالدين.
وعن ابن عباس: أن الكبائر أقرب إلى السبعين منها إلى السبع. وعنه أيضاً أنها أقرب إلى سبعمائة منها إلى سبع.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق أنها لا تنحصر في سبع، وأن ما دل عليه من الأحاديث على أنها سبع لا يقتضى انحصارها في ذلك العدد، لأنه إنما دل على نفي غير السبع بالمفهوم، وهو مفهوم لقب، والحق عدم اعتباره.
ولو قلنا إنه مفهوم عدد لكان غير معتبر أيضاً، لأن زيادة الكبائر على السبع مدلول عليها بالمنطوق.
وقد جاء منها في الصحيح عدد أكثر من سبع، والمنطوق مقدم على المفهوم، مع أن مفهوم العدد ليس من أقوى المفاهيم.
والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، أو كان وجوب الحد فيه، أو غير ذلك مما يدل على تغليظ التحريم وتوكيده.
مع أن بعض أهل العلم قال: إن كل ذنب كبيرة. وقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ}. وقوله: {إِلاَّ ٱللَّمَمَ} يدل على عدم المساواة، وأن بعض المعاصي كبائر. وبعضها صغائر، والمعروف عند أهل العلم: أنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}. وفي سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}. قوله تعالى: {وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على آية النحل وآية الزمر المذكورتين آنفاً. قوله تعالى: {وَتَرَى ٱلظَّـٰلِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ}. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {يُنَزِّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}. قوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا}. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ}. يبين الله جل وعلا فيه مِنَّتِهِ على هذا النبي الكريم، بأنه علمه هذا القرآن العظيم ولم يكن يعلمه قبل ذلك، وعلمه تفاصيل دين الإسلام ولم يكن يعلمها قبل ذلك.
فقوله: ما كنت تدري ما الكتاب: أي ما كنت تعلم ما هو هذا الكتاب الذي هو القرآن العظيم، حتى علمتكه، وما كنت تدري ما الإيمان الذي هو تفاصيل هذا الدين الإسلامي، حتى علمتكه.
ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد.
وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة، منها: حديث وفد عبد القيس المشهور، ومنها حديث: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً» الحديث، فسمى فيه قيام رمضان إيماناً، وحديث «الإيمان بضع وسبعون شعبة»، وفي بعض رواياته «بضع وستون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق».
والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ويكفي في ذلك ما أورده البيهقي في شعب الإيمان فهو صلوات الله وسلامه عليه ما كان يعرف تفاصيل الصلوات المكتوبة وأوقاتها ولا صوم رمضان، وما يجوز فيه وما لا يجوز ولم يكن يعرف تفاصيل الزكاة ولا ما تجب فيه ولا قدر النصاب وقدر الواجب فيه ولا تفاصيل الحج ونحو ذلك، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ}.
وما ذكره هنا من أنه لم يكن يعلم هذه الأمور حتى علمه إياها بأن أوحى إليه هذا النور العظيم الذي هو كتاب الله، جاء في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}. وقوله جل وعلا {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ}.
فقوله في آية يوسف هذه: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ} كقوله هنا {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ} وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ} على أصح التفسيرات كما قدمناه في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ}، الضمير في قوله: جعلناه راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله: {رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَ} وقوله: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ} أي ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نوراً نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا.
وسمي القرآن نوراً، لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك.
وما ذكره هنا من أن هذا القرآن نور، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِين}.
وقوله تعالى {وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِىۤ أُنزِلَ مَعَهُ} وقوله تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَـٰبٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى: {فَأامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِىۤ أَنزَلْنَا}.
وما دلت عليه هذه الآيات الكريمة من كون هذا القرآن نوراً يدل على أنه هو الذي يكشف ظلمات الجهل، ويظهر في ضوئه الحق، ويتميز عن الباطل ويميز به بين الهدى والضلال والحسن والقبيح.
فيجب على كل مسلم أن يستضيء بنوره، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه ويمتثل أوامره ويجتنب ما نهى عنه ويعتبر بقصصه وأمثاله.
والسنة كلها داخلة في العمل به، لقوله تعالى: {وَمَآ ءَاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُوا}. قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِىۤ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. الصراط المستقيم، قد بينه تعالى في قوله: {ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ}.
وقوله في هذه الآية الكريمة {وَإِنَّكَ لَتَهْدِىۤ}، قد بينا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ}، وبينا هناك وجه الجمع بين قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِىۤ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} مع قوله {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ}.
والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح، والمستقيم. الذي لا اعوجاج فيه، ومنه قول جرير: أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
قوله تعالى: {أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلاٍّمُورُ}. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الأمور كلها تصير إلى الله، أي ترجع إليه وحده لا إلى غيره. جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى: {وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلاٌّمْرُ كُلُّهُ} وقوله تعالى: {وَللَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلاٍّمُورُ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} إلى غير ذلك من الآيات.

تم بحمد الله تفسير سورة الشورى