تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 489 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 489


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِىۤ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلاٍّمُورُ}

تقدم شرح هذه الأيات مع الأيات التي في الصفحة السابقة

# تفسير سورة الزخرف #

{حـمۤ * وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِىۤ أُمِّ ٱلْكِتَـٰبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى ٱلاٌّوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِىٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلاٌّوَّلِينَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ * ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَٱلَّذِى نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَٱلَّذِى خَلَقَ ٱلأَزْوَٰجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلاٌّنْعَـٰمِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}
قوله تعالى: {حـمۤوَٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّ}. قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة هود.
وقوله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّ} قد قدمنا الكلام عليه في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى: {لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} وفي سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى: {قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ}. قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلاٌّوَّلِينَ}. الضمير في قوله منهم عائد إلى القوم المسرفين، المخاطبين بقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ}، وفيه ما يسميه علماء البلاغة بالالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
وقوله {أَشَدَّ مِنْهُم} مفعول به لأهلكنا، وأصله نعت لمحذوف، والتقدير: فأهلكنا قوماً أشد منهم بطشاً، على حد قوله في الخلاصة: وما من المنعوت والنعت عُقِل يجوز حذفه وفي النعت يَقِل

وقوله بطشاً: تمييز محول من الفاعل على حد قوله في الخلاصة: والفاعل المعنى انصبن بأفعَلا مفضِّلاً كأنت أعلا منزِلاَ

والبطش: أصله الأخذ بعنف وشدة.
والمعنى: فأهلكنا قوماً أشد بطشاً من كفار مكة الذين كذبوا نبينا بسبب تكذيبهم رسلهم فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشاً، أي أكثر منهم عَدداً وعُدداً وجلداً.
فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بإهلاك الأقوى الأكثر.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلاٌّوَّلِينَ} أي صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل، بسبب تكذيبهم الرسل.
وقوله من قال: {مَثَلُ ٱلاٌّوَّلِينَ} أي عقوبتهم وسنتهم راجع في المعنى إلى ذلك.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، بأن الله أهلك من هم أقوى منهم، ليحذروا أن يفعل بهم مثل ما فعل بأولئك، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلاٌّرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا}. وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى ٱلاٌّرْضِ}. وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَار} إلى قوله {فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}. وقوله تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَـٰهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلاٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْءٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَلاَ فِى ٱلاٌّرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِير}.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلاٌّوَّلِينَ} ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد كفار مكة الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، بصفته إهلاكهم وسنته فيهم التي هي العقوبة وعذاب الاستئصال، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراًٱسْتِكْبَاراً فِى ٱلاٌّرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاٌّوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيل} وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَـٰفِرُونَ} وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلاٌّوَّلِينَ}. وقوله تعالى: {فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَـٰهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلاٌّخِرِينَ}.
وقد قدمنا بعض الآيات الدالة على هذا في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ}. قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ}.
وقد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة بني إسرائيل، في الكلام على وقوله تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ}. قوله تعالى: {ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. قرأ هذا الحرف، عاصم وحمزة والكسائي {مِهَـٰد} بفتح الميم وسكون الهاء وقرأه باقي السبعة {مِهَـٰد} بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف ومعناهما واحد وهو الفراش.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه جعل الأرض لبني آدم مهداً أي فراشاً وأنه جعل لهم فيها سبلاً أي طرقاً ليمشوا فيها ويسلكوها، فيصلوا بها من قطر إلى قطر. وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، من كونه تعالى جعل الأرض فراشاً لبني آدم وجعل لهم فيها الطرق، لينفذوا من قطر إلى قطر، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ بِسَاطاًلِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاج}، وكقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِى ٱلاٌّرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
وذكر كون الأرض فراشاً لبني آدم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَٱلاٌّرْضَ فَرَشْنَـٰهَا فَنِعْمَ ٱلْمَـٰهِدُونَ} وقوله تعالى: {ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ}. وقوله تعالى: {ٱللَّهُ ٱلَّذِى جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلاٌّرْضَ قَـرَاراً وَٱلسَّمَآءَ بِنَـآءً}.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَأَلْقَىٰ فِى ٱلاٌّرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَـٰراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. قوله تعالى: {وَٱلَّذِى نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من دلالة إحياء الأرض بعد موتها على خروج الناس من قبورهم أحياء بعد الموت، في قوله تعالى: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} جاء موضحاً في آيات كثيرة قد قدمناها في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ} مع بقية براهين البعث في القرآن. وأوضحنا ذلك أيضاً في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِىۤ أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}، وفي غير ذلك من المواضع، وأحلنا على ذلك مراراً كثيرة في هذا الكتاب المبارك.
وقد قدمنا في سورة الفرقان معنى الإنشاء والنشور وما في ذلك من اللغات مع الشواهد العربية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بِقَدَرٍ}.
قال بعض العلماء: أي بقدر سابق وقضاء.
وقال بعض العلماء: أي بمقدار يكون به إصلاح البشر فلم يكثر الماء جداً فيكون طوفاناً فيهلكهم، ولم يجعله قليلاً دون قدر الكفاية، بل نزله بقدر الكفاية من غير مضرة، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلاٌّرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَـٰدِرُونَ}.
وقال تعالى: {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} إلى قوله {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَـٰزِنِينَ}. قوله تعالى: {وَٱلَّذِى خَلَقَ ٱلأَزْوَٰجَ كُلَّهَا}. الأزواج الأصناف، والزوج تطلقه العرب على الصنف.
وقد بين تعالى أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله.
قال تعالى: {سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى خَلَق ٱلاٌّزْوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلاٌّرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ}.
وقال تعالى: {وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَـٰتٍ شَتَّىٰ} وقال تعالى: {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي من كل صنف حسن من أصناف النبات.
وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}. ومن إطلاق الأزواج على الأصناف في القرآن قوله تعالى: {وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَٰجٌ}. وقوله تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجاً مِّنْهُمْ}.
وقد قدمنا طرفاً من ذلك في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى {ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَٰجَهُمْ}. قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلاٌّنْعَـٰمِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة المؤمن، في الكلام على قوله تعالى {ٱللَّهُ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاٌّنْعَـٰمَ لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا}. وضمير المفرد المذكر الغائب في قوله: {لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ}، وقوله: {إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِا} راجع إلى لفظ ما في قوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلاٌّنْعَـٰمِ مَا تَرْكَبُونَ}. قوله تعالى: {وَتَقُولُواْ سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}. يعني جل وعلا أنه جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن، ومن الأنعام ليستووا أي يرتفعوا معتدلين على ظهوره ثم يذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات ثم يقولوا بألسنتهم مع تفهم معنى ما يقولون {سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}.
وقوله: «سبحان» قد قدمنا في أول سورة بني إسرائيل معناه، بإيضاح وأنه يدل على تنزيه الله جل وعلا أكمل التنزيه وأتمه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله والإشارة في قوله {هَـٰذَ} راجعة إلى لفظ {مَ} من قوله: {مَا تَرْكَبُونَ} وجمع الظهور نظراً إلى معنى {مَ}، لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها ولفظها مفرد، فالجمع في الآية باعتبار معناها، والإفراد باعتبار لفظها.
وقوله: {ٱلَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَ} أي الذي ذلل لنا هذا الذي هو ما نركبه من الأنعام والسفن لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها ولا يخفى أن الجمل أقوى من الرجل، وكذلك البحر لو لم يذلله لهم ويسخر لهم إجراء السفن فيه لما قدروا على شيء من ذلك.
وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي مطيقين. والعرب تقول: أقرن الرجل للأمر وأقرنه إذا كان مطيقاً له كفؤاً للقيام به من قولهم: أقرنت الدابة للدابة، بمعنى أنك إذا قرنتهما في حبل قدرت على مقاومتها، ولم تكن أضعف منها، فتجرها لأن الضعيف إذا لز في القرن أي الحبل، مع القوي جره ولم يقدر على مقاومته، كما قال جرير: وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس

وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معد يكرب وقد أنشده قطرب لهذا المعنى: لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا

وقول ابن هرمة: وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر

وقول الآخر: ركبتم صعبتي أشراً وحيفا ولستم للصعاب بمقرنينا

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام لو لم يذلله الله لهم لما أقرنوا له ولما أطاقوه جاء مبيناً في آيات أخر. قال تعالى في ركوب الفلك: {وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}. وقال تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}. وقال تعالى: {ٱللَّهُ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِىَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ}. وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَـٰرَ}. وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِى تَجْرِى فِى ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ}. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلاٌّرْضِ وَٱلْفُلْكَ تَجْرِى فِى ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلاٌّرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقال تعالى في تسخير الأنعام: {وَذَلَّلْنَـٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} وقال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَـٰهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ} إلى غير ذلك من الآيات.