تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 494 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 494


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِ هَـٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَٱخْتَلَفَ ٱلاٌّحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * ٱلاٌّخِلاَءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ * يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِأايَـٰتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ * ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَـٰفٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَٰبٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلاٌّنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلاٌّعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ * وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِىۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَـٰكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّـٰلِمِينَ * وَنَادَوْاْ يٰمَـٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَـٰكُم بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـٰرِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَٰهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَ}. التحقيق أن الضمير في قوله: وإنه راجع إلى عيسى لا إلى القرآن، ولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى قوله: {لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم، والسنة المتواترة، هو أن نزول عيسى في آخر الزمان، حيا علم للساعة أي علامة لقرب مجيئها لأنه من أشراطها الدالة على قربها.
وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى، جار على أمرين، كلاهما أسلوب عربي معروف.
أحدهما: أن نزول عيسى المذكور، لما كان علامة لقربها، كانت تلك العلامة، سبباً لعلم قربها، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب.
وإطلاق المسبب وإرادة السبب، أسلوب عربي معروف في القرآن، وفي كلام العرب.
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْق}.
فالرزق مسبب عن المطر والمطر سببه، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب.
ومعلوم أن البلاغيين، ومن وافقهم، يزعمون أن مثل ذلك، من نوع ما يسمونه المجاز المرسل، وأن الملابسة بين السبب والمسبب من علاقات المجاز المرسل عندهم.
والثاني من الأمرين أن غاية ما في ذلك، أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير، وإنه لذو علم للساعة، أي وإنه لصاحب إعلام الناس، بقرب مجيئها، لكونه علامة لذلك، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كثير في القرآن، وفي كلام العرب، وإليه أشار في الخلاصة بقوله: وما يلي المضاف يأت خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا

وهذا الأخير أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر كقولك: زيد كرم وعمرو عدل أي ذو كرم وذو عدل كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ}، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا

أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح، ففي قوله تعالى سورة النساء: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب.
ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض.
فإن قيل قد ذهبت جماعة من المفسرين، من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله: قبل موته راجع إلى الكتابي، أي إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي.
فالجواب أن يكون الضمير راجعاً إلى عيسى، يجب المصير إليه، دون القول الآخر، لأنه أرجح منه من أربعة أوجه:
الأول: أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض.
والقول الآخر بخلاف ذلك.
وإيضاح هذا أن الله تعالى قال: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ} ثم قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ} أي عيسى، {وَمَا صَلَبُوهُ} أي عيسى {وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ} أي عيسى {وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ} أي عيسى {لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} أي عيسى {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي عيسى، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِين} أي عيسى {بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ} أي عيسى {وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي عيسى {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي عيسى {وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيد} أي يكون هو، أي عيسى عليهم شهيداً.
فهذا السياق القرآني الذي ترى، ظاهر ظهوراً لا ينبغي العدول عنه، في أن الضمير في قوله قبل موته، راجع إلى عيسى.
الوجه الثاني: من مرجحات هذا القول، أنه على هذا القول الصحيح، فمفسر الضمير، ملفوظ مصرح به، في قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ}.
وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكوراً في الآية أصلاً، بل هو مقدر تقديره: ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته، أي موت أحد أهل الكتاب المقدر.
ومما لا شك فيه، أن ما لا يحتاج إلى تقدير، أرجح وأولى، مما يحتاج إلى تقدير.
الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح، أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تواترت عنه الأحاديث بأن عيسى حي الآن، وأنه سينزل في آخر الزمان حكماً مقسطاً.
ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر.
قال ابن كثير في تفسيره، بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين ما نصه: وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى ا هـ.
وقوله بالدليل القاطع يعني السنة المتواترة، لأنها قطعية وهو صادق في ذلك.
وقال ابن كثير، في تفسير آية الزخرف هذه ما نصه:
وقد تواترت الأحاديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، «أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إمَاماً عَادِلاً وَحَكماً مُقْسِطاً» ا هـ منه.
وهو صادق في تواتر الأحاديث بذلك.
وأما القول بأن الضمير في قوله قبل موته راجع إلى الكتاب فهو خلاف ظاهر القرآن، ولم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة.
الوجه الرابع: هو أن القول الأول الصحيح، واضح لا إشكال فيه، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص بخلاف القول الآخر، فهو مشكل لا يكاد يصدق، إلا مع تخصيص، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس، وغيره، ظاهرة البعد والسقوط لأنه على القول بأن الضمير في قوله قبل موته راجع إلى عيسى فلا إشكال ولا خفاء، ولا حاجة إلى تأويل، ولا إلى تخصيص.
وأما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جداً بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب، كالذي يسقط من عال إلى أسفل، والذي يقطع رأسه بالسيف وهو غافل والذي يموت في نومه ونحو ذلك، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع، من أهل الكتاب، إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص.
ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن، إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة.
وما يذكر عن ابن عباس من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب فقال إن رأسه يتكلم، بالإيمان بعيسى، وأن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي، لا يخفى بعده وسقوطه، وأنه لا دليل ألبتة عليه كما ترى.
وبهذا كله تعلم، أن الضمير في قوله {قَبْلَ مَوْتِهِ}، راجع إلى عيسى، وأن تلك الآية من سورة النساء تبين قوله تعالى هنا: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} كما ذكرنا.
فإن قيل: إن كثيراً ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي، ويعتقدون مثل ما يعتقده، ضلال اليهود والنصارى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} وقوله {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}.
فالجواب أنه لا دلالة في إحدى الآيتين ألبتة على أن عيسى قد توفي فعلاً.
أما قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه:
الأول: أن قوله: {مُتَوَفّيكَ} حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملاً غير ناقص، والعرب تقول: توفي فلان دينه يتوفاه فهو متوف له إذا قبضه وحازه إليه كاملاً من غير نقص.
فمعنى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} في الوضع اللغوي أي حائزك إلي، كاملاً بروحك وجسمك.
ولكن الحقيقة العرفية خصصت التوفي المذكور بقبض الروح دون الجسم ونحو هذا مما دار بين الحقيقة اللغوية العرفية فيه لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب.
الأول: هو تقديم الحقيقة العرفية، وتخصيص عموم الحقيقة اللغوية بها.
وهذا هو المقرر في أصول الشافعي وأحمد، وهو المقرر في أصول مالك إلا أنهم في الفروع ربما لم يعتمدوه في بعض المسائل.
وإلى تقديم الحقيقة العرفية، على الحقيقة اللغوية أشار في مراقي السعودي بقوله: واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي ولم يجب بحث عن المجاز في الذي انتخب

المذهب الثاني: هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية بناء على أن العرفية وإن ترجحت بعرف الاستعمال، فإن اللغوية مترجحة بأصل الوضع.
وهذا القول مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
المذهب الثالث: أنه لا تقدم العرفية على اللغوية، ولا اللغوية على العرفية، بل يحكم باستوائهما ومعادلة الاحتمالين فيهما، فيحكم على اللفظ بأنه مجمل، لاحتمال هذه واحتمال تلك.
وهذا اختيار ابن السبكي، ومن وافقه، وإلى هذين المذهبين الأخيرين أشار في مراقي السعودي بقوله: ومذهب النعمان عكس ما مضى والقول بالإجمال فيه مرتضى

وإذا علمت هذا، فاعلم أنه على المذهب الأول، الذي هو تقديم الحقيقة اللغوية، على العرفية، فإن قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} لا يدل إلا على أنه قبضه إليه بروحه وجسمه، ولا يدل على الموت أصلاً، كما أن توفي الغريم لدينه لا يدل على موت دينه.
وأما على المذهب الثاني: وهو تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية، فإن لفظ التوفي حينئذ، يدل في الجملة على الموت.
ولكن سترى إن شاء الله، أنه وإن دل على ذلك في الجملة، لا يدل على أن عيسى قد توفي فعلاً.
وقد ذكرنا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب، في سورة آل عمران، وجه عدم دلالة الآية، على موت عيسى فعلاً، أعني قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فقلنا ما نصه: والجواب عن هذا، من ثلاثة أوجه:
الأول أن قوله تعالى: {مُتَوَفّيكَ} لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه قد مضى.
وأما عطفه ورافعك إلى، على قوله: متوفيك، فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي، على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك.
وقد ادعى السيرافي والسهيلي، إجماع النحاة على ذلك، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق خلافاً لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه.
وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال لم أجده في كتابه.
وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي.
حكاه عنه صاحب الضياء اللامع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أبدأ بما بدأ الله به» يعني الصفا لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب.
وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكره عنه صاحب الضياء اللامع.
وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية، فكذلك لا تقتضي المنع منهما.
فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} بدليل الحديث المتقدم.
وقد يكون المعطوف بها مرتباً كقول حسان: * هجوت محمداً وأجبت عنه *
على رواية الواو.
وقد يراد بها المعية كقوله: {فأَنْجَيْنـٰهُ وأَصْحَـٰبَ ٱلسَّفِينَةِ} وقوله {وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ} ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل.
الوجه الثاني: أن معنى {مُتَوَفِّيكَ} أي منيمك ورافعك إلي، أي في تلك النومة.
وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ}، وقوله: {ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلاٌّنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا وَٱلَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِـهَا}، وعزى ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدل بالآيتين المذكورتين.
الوجه الثالث: أن متوفيك، اسم فاعل توفاه، إذا قبضه وحازه إليه، ومنه قولهم: توفي فلان دينه إذا قبضه إليه، فيكون معنى متوفيك على هذا، قابضك منهم إلي حياً، وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياماً، ثم أحياه فلا معول عليه، إذ لا دليل عليه. ا هـ. من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
وقد قدمنا في هذا البحث أن دلالة قوله تعالى: {مُتَوَفِّيكَ} على موت عيسى فعلاً، منفية من أربعة أوجه، وقد ذكرنا منها ثلاثة، من غير تنظيم، أولها أن {مُتَوَفّيكَ} حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه.
الثاني: أن {مُتَوَفّيكَ} وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك، كما أوضحنا في هذا المبحث.
الثالث: أنه توفي نوم، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن النوم يطلق عليه الوفاة، فكل من النوم والموت، يصدق عليه اسم التوفي، وهما مشتركان في الاستعمال العرفي.
فهذه الأوجه الثلاثة ذكرناها كلها في الكلام الذي نقلنا من كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
وذكرنا الأول منها بانفراده لنبين مذاهب الأصوليين فيه.
أما قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى}، فدلالته على أن عيسى مات، منفية من وجهين:
الأول منهما: أن عيسى يقول ذلك يوم القيامة، ولا شك أن يموت قبل يوم القيامة، فإخباره يوم القيامة بموته، لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى.
والثاني منهما: أن ظاهر الآية أنه توفي رَفْعٌ وقَبْضٌ للروح والجسد، لا توفي موت.
وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى}، تدل على ذلك لأنه لو كان توفي موت، لقال ما دمت حياً، فلما توفيتني لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة كما في قوله: {وَأَوْصَانِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيّا}.
أما التوفي المقابل بالديمومة فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم، إلى موضع آخر.
وغاية ما في ذلك هو حمل اللفظ على حقيقته اللغوية مع قرينة صارفة عن قصد العرفية، وهذا لا إشكال فيه.
وأما الوجه الرابع، من الأوجه المذكورة سابقاً، أن الذين زعموا أن عيسى قد مات، قالوا إنه لا سبب لذلك الموت، إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه، فإذا تحقق نفي هذا السبب وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره، تحققنا أنه لم يمت أصلاً، وذلك السبب الذي زعموه، منفي يقيناً بلا شك، لأن الله جل وعلا قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}. وقال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ}.
وضمير رفعه ظاهر في رفع الجسم والروح معاً كما لا يخفى.
وقد بين الله جل وعلا مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه، بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر فصار من يراه يعتقد اعتقاداً جازماً أنه عيسى.
فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي عليه اعتقاداً جازماً أنه عيسى فقتلوه.
فهم يعتقدون صدقهم، في أنهم قتلوه وصلبوه، ولكن العليم اللطيف الخبير، أوحى إلى نبيه، في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه.
محمد صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى كما أوضحه تعالى بقوله {وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناًبَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ}.
والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما دال على أن عيسى حي، وأنه سينزل في آخر الزمان، وأن نزوله من علامات الساعة، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى.
وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك، وأن قوله {مُتَوَفِّيكَ} على موته فعلاً.
وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه، وأنه على المقرر في الأصول، في المذاهب الثلاثة التي ذكرنا عنهم، ولا إشكال في أنه لم يمت فعلاً.
أما على القول بتقديم الحقيقة اللغوية فالأمر واضح، لأن الآية على ذلك لا تدل على الموت.
وأما على القول بالإجمال، فالمقرر في الأصول أن المحمل، لا يحمل على واحد من معنييه، ولا معانيه بل يطلب بيان المراد منه، بدليل منفصل.
وقد دل الكتاب هنا والسنة المتواترة على أنه لم يمت وأنه حي.
وأما على القول بتقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية، فإنه يجاب عنه من أوجه:
الأول: أن التوفي محمول على النوم، وحمله عليه يدخل في اسم الحقيقة العرفية.
والثاني: أنا وإن سلمنا أنه توفي موت، فالصيغة لا تدل على أنه قد وقع فعلاً.
الثالث: أن القول المذكور بتقديم العرفية، محله فيما إذا لم يوجد دليل صارف، عن إرادة العرفية اللغوية، فإن دل على ذلك دليل وجب تقديم اللغوية قولاً واحداً.
وقد قدمنا مراراً دلالة الكتاب والسنة المتواترة على إرادة اللغوية هنا دون العرفية.
واعلم بأن القول بتقديم اللغوية على العرفية، محله فيما إذا لم تتناس اللغوية بالكلية، فإن أميتت الحقيقة اللغوية بالكلية، وجب المصير إلى العرفية إجماعاً، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله: أجمع إن حقيقة تمات على التقدم له الإثبات

فمن حلف ليأكلن من هذه النخلة، فمقتضى الحقيقة اللغوية، أنه لا يبر يمينه حتى يأكل من نفس النخلة لا من ثمرتها.
ومقتضى الحقيقة العرفية أنه يأكل من ثمرتها لا من نفس جذعها.
والمصير إلى العرفية هنا واجب إجماعاً، لأن اللغوية في مثل هذا أميتت بالكلية.
فلا يقصد عاقل ألبتة الأكل من جذع النخلة.
أما الحقيقة اللغوية في قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فإنها ليست من الحقيقة المماتة كما لا يخفى.
ومن المعلوم في الأصول أن العرفية تسمى حقيقة عرفية ومجازاً لغوياً، وأن اللغوية تسمى عندهم حقيقة لغوية، ومجازاً عرفياً.
وقد قدمنا مراراً أنا أوضحنا أن القرآن الكريم لا مجاز فيه على التحقيق في رسالتنا المسماة «منع جواز المجاز، في المنزل للتعبد والإعجاز».
فاتضح مما ذكرنا كله أن آية الزخرف هذه تبينها آية النساء المذكورة، وأن عيسى لم يمت وأنه ينزل في آخر الزمان وإنما قلنا إن قوله تعالى هنا: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} أي علامة ودليل على قرب مجيئها، لأن وقت مجيئها بالفعل لا يعلمه إلا الله.
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك مراراً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَ} أي لا تشكن في قيام الساعة فإنه لا شك فيه.
وقد قدمنا الآيات الموضحة له مراراً كقوله تعالى: {وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَ}. وقوله: {وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ٱلسَّعِيرِ}.
وقوله {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} وقوله {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـٰهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}. وقد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة مراراً كقوله: {إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّ}. وقوله {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}. قوله هنا {ظَلَمُو} أي كفروا، بدليل قوله في مريم، في القصة بعينها، {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
وقوله {مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يوضحه قوله هنا: {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}.
وقد قدمنا مراراً الآيات الدالة على إطلاق الظلم على الكفر كقوله: {إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وقوله: {وَٱلْكَـٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} وقوله: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} وقوله تعالى {وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ} أي بشرك، كما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الثابت في صحيح البخاري. قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}. الاستفهام بهل هنا بمعنى النفي، وينظرون بمعنى ينتظرون، أي ما ينتظر الكفار إلا الساعة، أي القيامة أن تأتيهم بغتة، أي في حال كونها مباغتة لهم، أي مفاجئة لهم، وهم لا يستغفرون أي بمفاجأتها في حال غفلتهم وعدم شعورهم بمجيئها.
والظاهر أن المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله: {أَن تَأْتِيَهُمْ} في محل نصب، على أنه بدل اشتمال من الساعة، وكون ينظرون، بمعنى ينتظرون، معروف في كلام العرب، ومنه قول امرىء القيس: فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب

وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الساعة تأتيهم بغتة، جاء موضحاً في آيات من كتاب الله. كقوله تعالى في الأعراف: {ثَقُلَتْ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}. وقوله تعالى في القتال {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَ} وقوله تعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَٰحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً}.
فالمراد بالصيحة: القيامة.
وقوله: {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً}، يدل على أنها تأتيهم وهم في غفلة، وعدم شعور بإتيانها، إلى غير ذلك من الآيات. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِأايَـٰتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بعض صفات الذين ينتفي عنهم الخوف والحزن يوم القيامة.
فذكر منها هنا الإيمان بآيات الله والإسلام، وذكر بعضاً منها في غير هذا الموضع.
فمن ذلك الإيمان والتقوى، وذلك في قوله تعالى في سورة يونس {أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}.
ومن ذلك الاستقامة، وقولهم: ربنا الله، وذلك في قوله في فصلت: {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُوا}: وقوله تعالى في الأحقاف {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
والخوف في لغة العرب: الغم من أمر مستقبل.
والحزن: الغم من أمر ماض.
وربما استعمل كل منهما في موضع الآخر.
وإطلاق الخوف على العلم أسلوب عربي معروف.
قال بعض العلماء: ومنه قوله تعالى {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ}.
قال معناه: إلا أن يعلما.
ومنه قول أبي محجن الثقفي:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها
ولا تدفني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
فقوله أخاف: أي أعلم لأنه لا يشك في أنه لا يشربها بعد موته.
وقوله في هذه الآية الكريمة {ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِأايَـٰتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام.
وقد دل بعض الآيات على اتحادهما كقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ}.
ولا منافاة في ذلك، فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل. كما ثبت في الصحيح، في حديث وفد عبد القيس، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جداً.
ومن أصرحها في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «الإيمان بضع وسبعون».
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح «وستون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق».
فقد سمى صلى الله عليه وسلم «إماطة الأذى عن الطريق» إيماناً.
وقد أطال البيهقي رحمه الله في شعب الإيمان، في ذكر الأعمال التي جاء الكتاب والسنة تسميتها إيماناً.
فالإيمان الشرعي التام والإسلام الشرعي التام معناهما واحد.
وقد يطلق الإيمان إطلاقاً آخر على خصوص ركنه الأكبر الذي هو الإيمان بالقلب، كما في حديث جبريل الثابت في الصحيح.
والقلب مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله. فغيره تابع له. وعلى هذا تحصل المغايرة في الجملة بين الإيمان والإسلام.
فالإيمان، على هذا الإطلاق، اعتقاد والإسلام شامل للعمل.
واعلم أن مغايرته تعالى بين الإيمان والإسلام في قوله تعالى: {قَالَتِ ٱلاٌّعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلاۤيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ}.
قال بعض العلماء: المراد بالإيمان هنا، معناه الشرعي، والمراد بالإسلام معناه اللغوي.
لأن إذعان الجوارح وانقيادها دون إيمان القلب إسلام لغة لا شرعاً.
وقال بعض العلماء: المراد بكل منهما معناه الشرعي، ولكن نفي الإيمان في قوله: ولما يدخل الإيمان، يراد به عند من قال هذا، نفي كمال الإيمان لا نفي أصله، ولكن ظاهر الآية لا يساعد على هذا، لأن قوله {وَلَمَّا يَدْخُلِ} فعل في سياق النفي وهو صيغة عموم، على التحقيق، وإن لم يؤكد بمصدر، ووجهه واضح جداً، كما قدمناه مراراً.
وهو أن الفعل الصناعي ينحل، عن مصدر وزمن عند النحويين، وعن مصدر وزمن، ونسبة عند البلاغيين، كما حرروه في مبحث الاستعارة التبعية، وهو أصوب.
فالمصدر كامن في مفهوم الفعل الصناعي إجماعاً، وهو نكرة لم تتعرف بشيء فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي.
وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم بقوله: ونحو لا شربت أو وإن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا

ووجه إهمال لا في هذه الآية في قوله تعالى: {لاَ خَوْفٌ} أن لا الثانية التي هي {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بعدها معرفة وهي الضمير، وهي لا تعمل في المعارف، بل في النكرات، فلما وجب إهمال الثانية، أهملت الأولى لينسجم الحرفان بعضهما مع بعض في إهمالهما معاً. قوله تعالى: {ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ تُحْبَرُونَ}. قوله تعالى في هذه الآية {وَأَزْوَٰجُكُمْ} فيه لعلماء التفسير وجهان:
أحدهما، أن المراد بأزواجهم، نظراؤاهم وأشباههم في الطاعة وتقوى الله واقتصر على هذا القول ابن كثير.
والثاني: أن المراد بأزواجهم، نساؤهم في الجنة.
لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول.
ولذا يكثر في القرآن، ذكر إكرام أهل الجنة، بكونهم مع نسائهم دون الامتنان عليهم، بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة.
قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَـٰكِهُونَهُمْ وَأَزْوَٰجُهُمْ فِى ظِلَـٰلٍ عَلَى ٱلاٌّرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ}.
وقال كثير في أهل العلم: إن المراد بالشغل المذكور في الآية، هو افتضاض الأبكار. وقال تعالى: {وَزَوَّجْنَـٰهُم بِحُورٍ عِينٍ}. وقال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَـٰلِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ}. وقال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَٰتٌ حِسَانٌ} إلى قوله: {حُورٌ مَّقْصُورَٰتٌ فِى ٱلْخِيَامِ}، وقال: {وَعِندَهُمْ قَـٰصِرَٰتُ ٱلطَّرْفِ عِينٌ} وقال تعالى: {وَعِندَهُمْ قَـٰصِرَٰتُ ٱلطَّرْفِ أَتْرَابٌ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا: أن مفرد الأزواج زوج بلا هاء، وأن الزوجة بالتاء لغة لا لحن خلافاً لمن زعم أن الزوجة لحن من لحن الفقهاء، وأن ذلك لا أصل له في اللغة.
والحق أن ذلك لغة عربية، ومنه قول الفرزدق: وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها

وقول الحماسي: فبكى يناتي شجوهن وزوجتي والظاعنون إلى ثم تصدع

وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية «إنها زوجتي» وقوله {تُحْبَرُونَ} أقوال العلماء فيه راجعة إلى شيء واحد، وهو أنهم يكرمون بأعظم أنواع الإكرام وأتمها. قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَـٰفٍ مِّن ذَهَبٍ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له، وجميع الآيات التي فيها الأنعام على أهل الجنة بأواني الذهب والفضة، والتحلي بهما، ولبس الحرير، ومنه السندس والإستبرق، وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ}. قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلاٌّنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلاٌّعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، أي تلتذ به الأعين أي برؤيته لحسنه، كما قال تعالى: {صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّـٰظِرِينَ}. وأسند اللذة إلى العين، وهي في الحقيقة مسندة لصاحب العين، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية، وهي مقدم شعر الرأس، في قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَـٰذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} وكإسناد الخشوع، والعمل والنصب، إلى الوجوه، في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـٰشِعَةٌعَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ}.
ومعلوم أن الكذب والخطيئة مسندان في الحقيقة لصاحب الناصية، كما أن الخشوع والعمل، والنصب مسندات إلى أصحاب الوجوه.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الجنة، فيها كل مشتهى، وكل مستلذ، جاء مبسوطاً موضحة أنواعه في آيات كثيرة، من كتاب الله، وجاء محمد أيضاً إجمالاً شاملاً لكل شيء من النعيم.
أما إجمال ذلك ففي قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
وأما بسط ذلك وتفصيله، فقد بين القرآن، أن من ذلك النعيم المذكور في الآية، المشارب، والمآكل والمناكح، والفرش والسرر، والأواني، وأنواع الحلي والملابس والخدم إلى غير ذلك، وسنذكر بعض الآيات الدالة على كل شيء من ذلك.
أما المآكل فقد قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَـٰكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ}، وقال: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} وقال تعالى: {وَفَـٰكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} وقال تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَـٰبِه}. إلى غير ذلك من الآيات.
أما المشارب، فقد قال تعالى: {إِنَّ ٱلاٌّبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَـٰفُوراًعَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِير}. وقال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاًعَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيل}، وقوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍلاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ}. وقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّـٰرِبِينَلاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ}: وقال تعالى: {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَـٰرٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنْهَـٰرٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ
ٱلثَّمَرَٰتِ
} وقال تعالى {كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى ٱلاٌّيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ} إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الملابس والأواني والحلي، فقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة النحل.
وأما المناكح فقد قدمنا بعض الآيات الدالة عليها قريباً.
وهي كثيرة كقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ}. ويكفي ما قدمنا من ذلك قريباً.
وأما ما يتكئون عليه من الفرش والسرر ونحو ذلك، ففي آيات كثيرة كقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}. وقوله تعالى: {هُمْ وَأَزْوَٰجُهُمْ فِى ظِلَـٰلٍ عَلَى ٱلاٌّرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ} وقوله تعالى: {عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَـٰبِلِينَ}.
والسرر الموضونة هي المنسوجة بقضبان الذهب.
وقوله تعالى {إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ}. وقوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ}. وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ} إلى غير ذلك من الآيات.
وأما خدمهم فقد قال تعالى في ذلك: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٌ مُّخَلَّدُونَ}. وقال تعالى في سورة الإنسان في صفة هؤلاء الغلمان: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُورا}، وذكر نعيم أهل الجنة بأبلغ صيغة في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِير}.
والآيات الدالة على أنواع نعيم الجنة وحسنها وكمالها كالظلال والعيون والأنهار وغير ذلك كثيرة جداً ولنكتف منها بما ذكرنا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأَنتُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ}، قد قدمنا الآيات الموضحة، لأن خلودهم المذكور لا انقطاع له ألبتة كقوله تعالى: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غير مقطوع، وقوله تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} وقوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ}. قوله تعالى: {وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِىۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. قد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة، ونحوها من الآيات الدالة على أن العمل سبب لدخول الجنة كقوله تعالى: {وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله تعالى: {تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّ} وقوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
وبينا أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وما بمعناها، مع وقوله صلى الله عليه وسلم «لن يدخل أحدكم عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».
وذكرنا في ذلك أن العمل الذي بينت الآيات كونه سبب دخول الجنة هو العمل الذي تقبله الله برحمة منه وفضل.
وأن العمل الذي لا يدخل الجنة هو الذي لم يتقبله الله.
والله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ}. قوله تعالى: {وَنَادَوْاْ يٰمَـٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ}. اللام في قوله {لِيَقْضِ} لام الدعاء.
والظاهر أن المعنى، أن مرادهم بذلك سؤال مالك خازن النار، أن يدعو الله لهم بالموت.
والدليل على ذلك أمران:
الأول: أنهم لو أرادوا دعاء الله بأنفسهم أن يميتهم لما نادوا يا مالك، ولما خاطبوه في قولهم: {رَبُّكَ}.
والثاني: أن الله بين في سورة المؤمن أن أهل النار، يطلبون خزنة النار، أن يدعو الله لهم ليخفف عنهم العذاب، وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِى ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ ٱلْعَذَابِ}. وقوله {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي ليمتنا فنستريح بالموت من العذاب.
ونظيره قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ} أي أماته.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قَالَ إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ} دليل على أنهم لا يجابون إلى الموت بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية.
وقد دل القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت، ولا تغني هي عنهم، ولا يخفف عنهم عذابها، ولا يخرجون منها.
أما كونهم لا يموتون فيها الذي دل عليه قوله هنا {قَالَ إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ} فقد دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ}، وقوله تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلاٌّشْقَىٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا}. وقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}. وقوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}.
وأما كون النار لا تغني عنهم، فقد بينه تعالى بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرً}، فمن يدعي أن للنار خبوة نهائية وفناء رد عليه بهذه الآية الكريمة.
وأما كون العذاب لا يخفف عنه فقد دلت عليه آيات كثيرة جداً كقوله: {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَ}. وقوله تعالى: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}، وقوله تعالى: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاب}، وقوله تعالى: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ}. وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاما} وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما} على الأصح في الأخيرين.
وأما كونهم لا يخرجون منها فقد جاء موضحاً في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى في البقرة: {كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَـٰلَهُمْ حَسَرَٰتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ} وقوله تعالى في المائدة: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}، وقوله تعالى في الحج: {كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَ}. وقوله تعالى في السجدة: {كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَ}، وقوله تعالى في الجاثية: {فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا هذا المبحث إيضاحاً شافياً في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب» في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى {قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَـٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ} وفي سورة النبأ في الكلام على قوله تعالى: {لَّـٰبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابا} وسنوضحه أيضاً إن شاء الله، في هذا الكتاب المبارك في الكلام على آية النبأ المذكورة، ونوضح هناك إن شاء الله إزالة إشكال يورده الملحدون على الآيات التي فيها إيضاح هذا المبحث. قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْنَـٰكُم بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـٰرِهُونَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}. قوله تعالى: {بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَـٰدَتُهُمْ وَيُسْألُونَ}، وأكثرنا من الآيات الموضحة لذلك في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ}.