تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 493 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 493


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَٰباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلاٌّخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ أَوْ تَهْدِى ٱلْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ ٱلَّذِى وَعَدْنَـٰهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ * فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِىۤ أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ * وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِأايَـٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلاًّيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * فَلَمَّا جَآءَهُم بِأايَـٰتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَـٰهُم بِٱلْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُواْ يٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلاٌّنْهَـٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِىۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَـٰسِقِينَ * فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـٰهُمْ أَجْمَعِينَ *فَجَعَلْنَـٰهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلاٌّخِرِينَ * وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوۤاْ ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَـٰهُ مَثَلاً لِّبَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَـٰئِكَةً فِى ٱلاٌّرْضِ يَخْلُفُونَ}
قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.
وقالوا: أي قال كفار مكة، لولا أي هلا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين، أي من إحدى القريتين، وهما مكة والطائف عظيم يعنون بعظمه، كثرة ماله وعظم جاهه، وعلو منزلته في قومه، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
وعظيم الطائف. هو عروة بن مسعود. وقيل حبيب بن عمرو بن عمير. وقيل هو كنانة بن عبد ياليل وقيل غير ذلك.
وإيضاح الآية أن الكفار أنكروا أولاً أن يبعث الله رسولاً من البشر كما أوضحناه مراراً.
ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله لم يبعث إلى البشر رسولاً إلا من البشر تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين:
وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، حيث يجعلون كثرة المال، والجاه في الدنيا، موجباً لاستحقاق النبوة. وتنزيل الوحي.
ولذا زعموا، أن محمداً صلى الله عليه وسلم، ليس أهلاً لإنزال هذا القرآن عليه، لقلة ماله، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه صلى الله عليه وسلم.
وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة، شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، بقوله
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي.
وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن كقوله تعالى في الدخان
{إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}، وقوله في آخر القصص {وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}، وقوله في آخر الأنبياء {وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَـٰلَمِينَ}.
وقد قدمنا الآيات الدالة، على إطلاق الرحمة: والعلم على النبوة في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا}.
وقدمنا معاني إطلاق الرحمة، في القرآن في سورة فاطر، في الكلام على قوله تعالى {مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا}.
وقوله تعالى{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ} يعني أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم، في الدنيا، بل تولى هو جل وعلا قسمة ذلك بينهم، فجعل هذا غنياً، وهذا فقيراً، وهذا رفيعاً، وهذا وضيعاً، وهذا خادماً، وهذا مخدوعاً، ونحو ذلك فإذا لم يفوض إليهم، حظوظهم في الدنيا، ولم يحكمهم فيها.
بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا في من ينزل إليه الوحي؟
فهذا مما لا يعقل ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة
{لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّا} التحقيق إن شاء الله أنه من التسخير.
ومعنى تسخير بعضهم لبعض، خدمة بعضهم البعض، وعمل بعضهم لبعض، لأن نظام العالم في الدنيا، يتوقف قيامه على ذلك، فمن حكمته جل وعلا، أن يجعل هذا فقيراً مع كونه قوياً قادراً على العمل، ويجعل هذا ضعيفاً لا يقدر على العمل بنفسه، ولكنه تعالى يهيىء له دراهم، يؤجر بها ذلك الفقير القوي فينتفع القوي بدراهم الضعيف، والضعيف بعمل القوي فتنتظم المعيشة، لكل منهما وهكذا.
وهذه المسائل التي ذكرها الله جل وعلا، في هذه السورة الكريمة جاءت كلها موضحة في آيات أخر من كتاب الله.
أما زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أنقص شرفاً، وقدراً من أن ينزل عليه الوحي، فقد ذكره الله عنهم في (صۤ) في قوله تعالى
{أَءَنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى}.
فقول كفار مكة {أَءَنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَ}
معناه إنكارهم، أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم، لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه، لكثرة ماله، وجاهه وشرفه فيهم.
وقد قال قوم صالح، مثل ذلك لصالح، كما قال تعالى منهم
{أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ}.
ف
قلوب الكفار متشابهة فكانت أعمالهم متشابهة.
كما قال تعالى
{كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَـٰبَهَتْ قُلُوبُهُمْ} وقوله تعالى {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَـٰغُونَ}.
وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم، فقد ذكره تعالى في سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ} وقوله تعالى في المدثر {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً}.
أ
ي تنزل عليه صحف بالوحي من السماء، كما قال مجاهد وغير واحد، وهو ظاهر القرآن.
وفي الآية قول آخر معروف.
وأما إنكاره تعالى عليهم، اقتراح إنزال الوحي على غير محمد صلى الله عليه وسلم، الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار لتجهيلهم، وتسفيه عقولهم، في قوله:
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ}. فقد أشار تعالى إليه مع الوعيد الشديد في الأنعام.
لأنه تعالى لما قال
{وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ} أتبع ذلك بقوله، رداً عليهم، وإنكاراً لمقالتهم {ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.
ثم أوعدهم على ذلك فقوله {سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ}.
وأما كونه تعالى هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم، فقد جاء في مواضع أخر كقوله تعالى: {وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ}وقوله تعالى{ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلاٌّخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـٰتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا}وقوله تعالى{ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} وقوله تعالى{وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} وقوله تعالى {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَ}.
وقد أوضح تعالى حكمة هذا التفاضل، والتفاوت في الأرزاق، والحظوظ والقوة والضعف، ونحو ذلك، بقوله هنا {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّا}، كما تقدم.
وقوله تعالى هنا
{وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}. يعني أن النبوة، والاهتداء يهدي الأنبياء، وما يناله المهتدون يوم القيامة، خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها.
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى، في غير هذا الموضع، كقوله في سورة يونس {قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} وقوله تعالى في آل عمران {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
مسألة
دلت هذه الآيات الكريمة، المذكورة هنا، كقوله تعالى:
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ}.وقوله تعالى {وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلْرِّزْقِ} ونحو ذلك من الآيات، على أن تفاوت الناس في الأرزاق، والحظوظ سنة، من سنن الله السماوية الكونية، القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض، البتة تبديلها، ولا تحويلها، بوجه من الوجوه، {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلا}.
وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله، ولجميع النبوات، والرسائل السماوية، إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص، عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس، في معايشهم أمر باطل. لا يمكن بحال من الأحوال.
مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون. وإنما يقصدون استئثارهم، بأملاك جميع الناس، ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها، كيف شاءوا، تحت ستار كثير من أنواع الكذب، والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم، وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم.
فالطغمة القليلة الحاكمة، ومن ينظم إليها، هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد. وغيرهم من عامة الشعب. محرومون من كل خير. مظلومون في كل شيء. حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة، كما تعلف البغال والحمير.
وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، بقوله تعالى:
{إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}.
وقوله {فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك. قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَٰباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلاٌّخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}. قوله لبيوتهم، في الموضعين، قرأه ورش وأبو عمرو وحفص، عن عاصم، بضم الباء على الأصل.
وقرأه قالون، عن نافع وابن كثير، وابن عامر، وحمزة والكسائي، وشعبة عن عاصم {
وَلِبُيُوتِهِمْ } بكسر الباء لمجانسة الكسرة للياء.
وقوله سقفاً: قرأه نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم، سقفاً بضمتين، على الجمع.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو {
سُقُفاً } بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد المراد به الجمع.
وقوله: {
وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} قرأه نافع وابن كثير، وابن عامر، في رواية ابن ذكوان، وإحدى الروايتين عن هشام وأبي عمرو والكسائي {لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } بتخفيف الميم من لما.
وقرأه عاصم، وحمزة وهشام، عن ابن عامر، وفي إحدى الروايتين {
لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } بتشديد الميم من لما.
ومعنى الآية الكريمة، أن الله لما بين حقارة الدنيا، وعظم شأن الآخرة في قوله:
{وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
أتبع ذلك ببيان شدة حقارتها، وأنه جعلها مشتركة، بين المؤمنين، والكافرين وجعل ما في الآخرة من النعيم خاصاً بالمؤمنين، دون الكافرين وبين حكمته في اشتراك المؤمن مع الكافر، في نعيم الدنيا بقوله: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً} أي لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة، متفقة على الكفر، لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار.
ولكننا لعلمنا، بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا، وحبها لها لو أعطينا ذلك كله للكفار، لحملت الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفاراً، فجعلنا في كل من الكافرين والمؤمنين غنياً وفقيراً، وأشركنا بينهم في الحياة الدنيا.
ثم بين جل وعلا اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين في قوله:
{وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلاٌّخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}.
أ
ي خالصة لهم دون غيرهم.
وهذا المعنى جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف
: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ}.
وقوله تعالى{قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} أي مشتركة بينهم في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة.
أي خاصة بهم، دون الكفار، يوم القيامة.
إذ لا نصيب للكفار البتة في طيبات الآخرة.
فقوله في آية الأعراف هذه {
قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} صريح في اشتراك المؤمنين مع الكفار في متاع الحياة الدنيا.
وذلك الاشتراك المذكور، دل عليه حرف الامتناع، للوجود الذي هو لولا، في قوله هن
{وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً}.
وخصوص طيبات الآخرة، بالمؤمنين المنصوص عليه في آية الأعراف بقوله {خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ} هو الذي أوضحه تعالى في آية الزخرف هذه بقوله {وَٱلاٌّخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}.
وجميع المؤمنين يدخلون في الجملة في لفظ المتقين لأن كل مؤمن اتقى الشرك بالله.
وما دلت عليه هذه الآيات. من أنه تعالى يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا، دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله. كقوله تعالى
{قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ} وقوله تعالى:  {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وقوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَـٰعٌ فِى ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ ٱلْعَذَابَ ٱلشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} والآيات بمثل هذا كثيرة.
وقد بين تعالى في آيات من كتابه، أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه، ولكنه للاستدراج، كقوله تعالى
{فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} وقوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}وقوله تعالى:  {قُلْ مَن كَانَ فِى ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّ} على أظهر التفسيرين. وقوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وقوله تعالى:  {فَأمْلَيْتُ لِلْكَـٰفِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}.
و
دعوى الكفار، أن الله ما أعطاهم المال ونعيم الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك، وأنه إن كان البعث حقاً أعطاهم خيراً منه في الآخرة قد ردها الله عليهم في آيات كثيرة كقوله تعالى {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ}وقوله تعالى: {وَمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِح}وقوله تعالى: {قَالُواْ مَآ أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}وقوله تعالى:  {مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}وقوله تعالى: {وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا طرفاً من هذا في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى:
{وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَبا}.
ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية الكريمة. فقوله {لَّجَعَلْناَ} أي صيرنا، وقوله {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال مع إعادة العامل، من قوله لمن يكفر، وعلى قراءة سقفاً بضمتين، فهو جمع سقف، وسقف البيت معروف.
وعلى قراءة سقفاً بفتح السين، وسكون القاف: فهو مفرد أريد به الجمع.
وقد قدمنا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا} أن المفرد إذا كان اسم جنس. يجوز إطلاقه مراداً به الجمع وأكثرنا من أمثلة ذلك في القرآن، ومن الشواهد العربية. على ذلك.
وقوله
{وَمَعَارِجَ} الظاهر أنه جمع معرج بلا ألف بعد الراء.
والمعرج والمعراج بمعنى واحد وهو الآلة التي يعرج بها أي يصعد بها، إلى العلو.
وقوله: يظهرون أي يصعدون ويرتفعون، حتى يصيروا على ظهور البيوت. ومن ذلك المعنى قوله تعالى
{فَمَا ٱسْطَـٰعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَـٰعُواْ لَهُ نَقْبًا}.
والسرر جمع سرير، والاتكاء معروف.
والأبواب جمع باب وهو معروف، والزخرف الذهب.
قال الزمخشري: إن المعارج التي هي المصاعد، والأبواب والسرر كل ذلك من فضة، كأنه يرى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في ذلك، وعلى هذا المعنى فقوله زخرفاً مفعول، عامله محذوف والتقدير وجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً.
وقال بعض العلماء: إن جميع ذلك بعضه من فضة، وبعضه من زخرف، أي ذهب.
وقد ذكر القرطبي أن إعراب قوله وزخرفاً على هذا القول أنه منصوب بنزع الخافض، وأن المعنى من فضة، ومن زخرف، فحذف حرف الجر فانتصب زخرفاً.
وأكثر علماء النحو على أن النصيب بنزع الخافض ليس مطرداً ولا قياسياً، وما سمع منه يحفظ ولا يقاس عليه.
وعليه درج ابن مالك في الخلاصة في قوله: وإن حذف فالنصب للمتجر نقلاً، إلخ.
وعلي بن سليمان وهو الأخفش الصغير يرى اطراده في كل شيء أمن فيه اللبس، كما أشار في الكافية بقوله:
وابن سليمان اطراده رأى إن لم يخف لبس كمن زيد نأى

وقوله تعالى:
{وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} على قراءة الجمهور بتخفيف الميم من لما، فإن هي المخففة، من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين إن المخففة من الثقيلة، وإن النافية المشار إليها بقوله في الخلاصة: وخففت إن فعل العمل وتلزم اللام إذا ما تهمل

وما مزيدة للتوكيد، وأما على قراءة عاصم وحمزة وابن عامر في إحدى الروايتين عن هشام لما بتشديد الميم فإن نافية، ولما حرف إثبات بمعنى إلا.
والمعنى: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا.
وذكره بعضهم أن تشديد ميم لما على بعض القراءات في هذه الآية وآية الطارق
{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} لغة بني هذيل بن مدركة والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُون َحَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ}. قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ}.  قوله تعالى {وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}. قد قدمنا الكلام عليه في الصافات في الكلام على قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}.
 قوله تعالى{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ أَوْ تَهْدِى ٱلْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ}.  قوله تعالى {فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِىۤ أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. أمر الله جل وعلا، نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يتمسك بهدي هذا القرآن العظيم، وبين له أنه على صراط مستقيم أي طريق واضح. لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام الذي تضمنه هذا القرآن العظيم، الذي أوحي إليه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، قد جاء موضحاً في آيات أخر، من كتاب الله.
أما أمره بالتمسك بالقرآن العظيم، فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى:
{وَٱتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَـٰبِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِهِ}.
وأما إخباره له صلى الله عليه وسلم على صراط مستقيم فمن الآيات التي أوضح ذلك فيها قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلاٌّمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِىۤ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ}قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاٌّخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَٰطِ لَنَـٰكِبُونَ} قوله تعالى: {فَلاَ يُنَـٰزِعُنَّكَ فِى ٱلاٌّمْرِ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} قوله تعالى:: {فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقِّ ٱلْمُبِينِ} إلى غير ذلك من الآيات.
وآية الزخرف هذه تدل على أن التمسك بهذا القرآن على هدى من الله، وهذا معلوم بالضرورة. قوله تعالى:
{وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ}. ما تضمنته هذه الآية الكريمة. من أن جميع الرسل جاءوا بإخلاص التوحيد لله، الذي تضمنته كلمة لا إله إلا الله، جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ}.
قوله تعالى:{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِىۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ}، وذلك التوحيد هو أول ما يأمر به كل نبي أمته.
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ}قوله تعالى:{وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ}قوله تعالى: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـٰلِحًا قَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ}قوله تعالى: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ}. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى:: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِأايَـٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلاًّيْهِ}. قد قدمنا الكلام على قصة موسى وفرعون في سورة الأعراف وسورة طه. قوله تعالى: {وَأَخَذْنَـٰهُم بِٱلْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. لم يبين هنا نوع العذاب الذي أخذهم به، ولكنه أوضحه في الأعراف في قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَايَـٰتٍ مّفَصَّلاَتٍ}قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ}. قوله تعالى:{وَقَالُواْ يٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}. ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أوضحه في الأعراف بقوله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يٰمُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَـٰلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}.
والرجز المذكور في الأعراف هو بعينه العذاب المذكور في آية الزخرف هذه. قوله تعالى: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ}. قد تقدم الكلام عليه في طه في الكلام على قوله تعالى عن موسى {وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى}. قوله تعالى: {فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}. قد قدمنا الكلام عليه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: {لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِير}.  قوله تعالى: {فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ}. آسفونا معناه أغضبونا، وأسخطونا وكون المراد بالأسف الغضب، يدل عليه إطلاق الأسف على أشد الغضب في قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَـٰنَ أَسِفً} على أصح التفسيرين. قوله تعالى: {فَجَعَلْنَـٰهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلاٌّخِرِينَ}. قد قدمنا الكلام عليه في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلاٌّوَّلِينَ}. قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوۤاْ ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}. قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر والكسائي (يصدون) بضم الصاد.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة (يصدون) بكسر الصاد.
فعلى قراءة الكسر فمعنى يصدون يضجون ويصيحون، وقيل يضحكون، وقيل معنى القراءتين واحد. كيعرشون ويعرشون ويعكفون ويعكفون.
وعلى قراءة الضم فهو من الصدود والفاعل المحذوف في قوله (ضرب).
قال جمهور المفسرين هو عبد الله بن الزبعري السهمي قبل إسلامه.
أي ولما ضرب ابن الزبعري المذكور عيسى ابن مريم فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك، فرحاً منهم وزعماً منهم أن ابن الزبعري خصمك، أو فاجأك صدودهم عن الإيمان بسبب ذلك المثل.
والظاهر أن لفظة من هنا سببية، ومعلوم أن أهل العربية، يذكرون أن من معاني من السببية، ومنه قوله تعالى:
{مِّمَّا خَطِيۤئَـٰتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَار}.
أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا.
ومن ذلك قول الحالفين في أيمان القسامة: أقسم بالله لمن ضربه مات.
وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعري عيسى مثلاً، أن الله لما أنزل قوله تعالى
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}،قال ابن الزبعري: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول إن كل معبود من دون الله في النار وأننا وأصنامنا جميعاً في النار، وهذا عيسى ابن مريم قد عبده النصارى من دون الله فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه.
وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة لأن عزيراً عبده اليهود، والملائكة عبدهم بعض العرب.
فاتضح أن ضربه عيسى مثلاً، يعني أنه على ما يزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قاله، من أن كل معبود وعابده في النار، يقتضي أن يكون عيسى مثلاً لأصنامهم، في كون الجميع في النار، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يثني على عيسى الثناء الجميل، ويبين للناس أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
فزعم ابن الزبعري أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول النار مع أنه صلى الله عليه وسلم يعترف بأن عيسى رسول الله وأنه ليس في النار، دل ذلك على بطلان كلامه عنده.
وعند ذلك أنزل الله
{إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِى مَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـٰلِدُونَ لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلاٌّكْبَرُ}، وأنزل الله أيضاً قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلا}.
وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا}، أي ما ضربوا عيسى مثلاً إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل.
وقيل إن جدلاً حال وإتيان المصدر المنكر حالاً كثير، وقد أوضحنا توجيهه مراراً.
والمراد بالجدل هنا الخصومة بالباطل لقصد الغلبة بغير حق.
قال جماعة من العلماء: والدليل على أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل، أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل، لا تدل البتة، على ما زعموه، وهم أهل اللسان، ولا تخفى عليهم معاني الكلمات.
والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة «ما» التي هي في الموضع العربي لغير العقلاء لأنه قال {
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل (ومن) تعبدون وذلك صريح في أن المراد الأصنام، وأنه لا يتناول عيسى ولا عزيراً ولا الملائكة، كما أوضح تعالى أنه لم يرد ذلك بقوله تعالى بعده: {إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ}.
وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة، لم تتناول عيسى بمقتضى لسانهم العربي، الذي نزل به القرآن، تحققنا أنهم ما ضربوا عيسى مثلاً، إلا لأجل الجدل، والخصومة بالباطل.
ووجه التعبير في صيغة الجمع في قوله
{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا} مع أن ضارب المثل واحد وهو ابن الزبعري يرجع إلى أمرين:
أحدهما: أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع القبيلة، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله:
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدى ورقاء عن رأس خالد

فإنه نسب الضرب إلى جميع بني عبس مع تصريحه بأن السيف في يد رجل واحد منهم، وهو ورقاء بن زهير، والشاعر يشير بذلك إلى قتل خالد بن جعفر الكلابي لزهير بن جذيمة العبسي، وأن ورقاء بن زهير، ضرب بسيف بني عبس، رأس خالد بن جعفر الكلابي، الذي قتل أباه ونبا عنه، أي لم يؤثر في رأسه، فإن معنى: نبا السيف ارتفع عن الضريبة ولم يقطع.
والشاعر يهجو بني عبس بذلك.
والحروب التي نشأت عن هذه القصة، وقتل الحارث بن ظالم المري لخالد المذكور، كل ذلك معروف في محله.
والأمر الثاني: أن جميع كفار قريش، صوبوا ضرب ابن الزبعري عيسى مثلاً، وفرحوا بذلك، ووافقوه عليه، فصاروا كالمتمالئين عليه.
وبهذين الأمرين المذكورين جمع المفسرون بين صيغة الجمع في قوله:
{فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ} وقوله {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} وبين صيغة الإفراد في قوله: {فَنَادَوْاْ صَـٰحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ}.
وقال بعض العلماء: الفاعل المحذوف في قوله ولما ضرب ابن مريم مثلاً هو عامة قريش.
والذين قالوا إن كفار قريش لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر عيسى، وسمعوا قول الله تعالى:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ}. ثالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك كما عبد النصارى عيسى.
وعلى هذا فالمعنى أنهم ضربوا عيسى مثلاً للنبي صلى الله عليه وسلم، في عبادة الناس لكل منهما، زاعمين أنه يريد أن يعبد كما عبد عيسى.
وعلى هذا القول فمعنى قوله
{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا} أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه.
وقوله تعالى:
{قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ}.
وإن كان من القرآن المدني النازل بعد الهجرة فمعناه يكرره عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً قبل الهجرة كما هو معلوم.
وكذلك قوله
{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِٱلْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
ولا شك أن كفار قريش متيقنون، في جميع المدة التي أقامها صلى الله عليه وسلم، في مكة قبل الهجرة بعد الرسالة، وهي ثلاث عشرة سنة، أنه لا يدعو إلا إلى عبادة الله، وحده لا شريك له.
فادعاؤهم أنه يريد أن يعبدوه، افتراء منهم، وهم يعلمون أنهم مفترون، في ذلك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة
{ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}
التحقيق أن الضمير في قوله {هُوَ} راجع إلى عيسى، لا إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
قال بعض العلماء: ومرادهم بالاستفهام تفضيل معبوداتهم على عيسى.
قيل: لأنهم يتخذون الملائكة آلهة، والملائكة أفضل عندهم من عيسى.
وعلى هذا فمرادهم أن عيسى عبد من دون الله، ولم يكن ذلك سبباً لكونه في النار، ومعبوداتنا خير من عيسى، فكيف تزعم أنهم في النار.
وقال بعض العلماء: أرادوا تفضيل عيسى على آلهتهم.
والمعنى على هذا أنهم يقولون: عيسى خير من آلهتنا، أي في زعمك وأنت تزعم أنه في النار، بمقتضى عموم ما تتلوه من قوله
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}.
وعيسى عبده النصارى من دون الله، فدلالة قولك على أن عيسى في النار، مع اعترافك بخلاف ذلك، يدل على أن ما تقوله، من أنا ووآلهتنا، في النار ليس بحق أيضاً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي لد، مبالغون في الخصومة، بالباطل، كما قال تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّا} أي شديدي الخصومة.
وقوله تعالى:
{وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ}، لأن الفعل بفتح فكسر كخصم، من صيغ المبالغة، كما هو معلوم في محله.
وقد علمت مما ذكرنا أن قوله تعالى هنا
{وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَل} إنما بينته الآيات التي ذكرنا ببيان سببه.
ومعلوم أن الآية قد يتضح معناها ببيان سببها.
فعلى القول الأول، أنهم ضربوا عيسى مثلاً لأصنامهم، في دخول النار، فإن ذلك المثل يفهم من أن سبب نزول الآية نزول قوله تعالى قبلها
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} لأنها لما نزلت قالوا إن عيسى عبد من دون الله كآلهتهم فهم بالنسبة لما دلت عليه سواء.
وقد علمت بطلان هذا مما ذكرناه آنفاً.
وعلى القول الثاني أنهم ضربوا عيسى مثلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم، في أن عيسى قد عبد، وأنه صلى الله عليه وسلم، يريد أن يعبد كما عبد عيسى، فكون سبب ذلك سماعهم لقوله تعالى:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} وسماعهم للآيات المكية النازلة في شأن عيسى يوضح المراد بالمثل.
وأما الآيات التي بينت قوله
{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا} فبيانها له واضح على كلا القولين. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}. والتحقيق أن الضمير في قوله: هو عائد إلى عيسى أيضاً لا إلى محمد عليهما الصلاة والسلام.
وقوله هنا:
{عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} لم يبين هنا شيئاً من الإنعام الذي أنعم به على عبده عيسى، ولكنه بين ذلك في المائدة، في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِىءُ ٱلاٌّكْمَهَ وَٱلاٌّبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ} وفي آل عمران، في قوله تعالى {إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلاٌّخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ}  الى قوله تعالى{وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} إلى غير ذلك من الآيات.