تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 534 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 534


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

  فِيهِمَا فَـٰكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَٰتٌ حِسَانٌ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَٰتٌ فِى ٱلْخِيَامِ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ * فَبِأَىِّ ءَالاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِى ٱلْجَلَـٰلِ وَٱلإِكْرَامِ}

تقدم شرح هذه الأيات مع الأيات التي في الصفحة السابقة

#تفسير سورة الواقعة #

{إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ ٱلاٌّرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً * وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَـٰثَةً * فَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْأمَةِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْأمَةِ * وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ * فِى جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ}
قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}. الذي يظهر لي صوابه أن إذا هنا هي الظرفية المضمنة معنى الشرط، وأن قوله الآتي: {إِذَا رُجَّتِ ٱلاٌّرْضُ رَجّا} بدل من قوله: {إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ} وأن جواب إذا هو قوله: {فَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ}، وهذا هو اختيار أبي حيان خلافاً لمن زعم أنها مسلوبة معنى الشرط هنا، وأنها منصوبة بأذكر مقدرة أو أنها مبتدأ، وخلافاً لمن زعم أنها منصوبة بليس المذكورة بعدها.
والمعروف عند جمهور النحويين أن إذا ظرف مضمن معنى الشرط منصوب بجزائه، وعليه فالمعنى: إذا قامت القيامة وحصلت هذه الأحوال العظيمة ظهرت منزلة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ} أي قامت القيامة، فالواقعة من أسماء القيامة كالطامة والصاخة والآزفة والقارعة.
وقد بين جل وعلا أن الواقعة هي القيامة في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَٰحِدَةٌوَحُمِلَتِ ٱلاٌّرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَٰحِدَةًفَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُوَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} فيه أوجه من التفسير معروفة عند العلماء كلها حق، وبعضها يشهد له قرآن.
الوجه الأول: أن قوله كاذبة مصدر جاء بصفة اسم الفاعل، فالكاذبة بمعنى الكذب كالعافية بمعنى المعافاة، والعاقبة بمعنى العقبى، ومنه قوله تعالى عند جماعات من العلماء {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَـٰغِيَةً} قالوا معناه لا تسمع فيها لغواً، وعلى هذا القول، فالمعنى ليس لقيام القيامة كذب ولا تخلف بل هو أمر واقع يقيناً لا محالة.
ومن هذا المعنى، قولهم: حمل الفارس على قرنه فما كذب، أي ما تأخر ولا تخلف ولا جبن.
ومنه قول زهير: ليث يعثر يصطاد الرجال إذا ما كذب الليث عن أقرانه صدقا

وهذا المعنى قد دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: {ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، وقوله تعالى: {وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَ}، وقوله تعالى: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة شورى في الكلام على قوله تعالى: {وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ}.
الوجه الثاني: أن اللام في قوله: {لِوَقْعَتِهَ} ظرفية، و{كَاذِبَةٌ} اسم فاعل صفة لمحذوف أي ليس في وقعة الواقعة نفس كاذبة بل جميع الناس يوم القيامة صادقون بالاعتراف بالقيامة مصدقون بها ليس فيهم نفس كاذبة بإنكارها ولا مكذبة بها.
وهذا المعنى تشهد له في الجملة آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاٌّلِيمَ}، وقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: {بَلِ ٱدَٰرَكَ عِلْمُهُمْ فِى ٱلاٌّخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}، وباقي الأوجه قد يدل على معناه قرآن ولكنه لا يخلو من بعد عندي، ولذا لم أذكره، وأقربها عندي الأول. قوله تعالى: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ}. خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة رافعة، ومفعول كل من الوصفين محذوف.
قال بعض العلماء: تقديره هي خافضة أقواماً في دركات النار، رافعة أقواماً إلى الدرجات العلى إلى الجنة، وهذا المعنى قد دلت عليه آيات كثيرة كقوله: {إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلاٌّسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ}، وقوله تعالى {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَـٰتُ ٱلْعُلَىٰ جَنَّـٰتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ} وقوله تعالى: {وَلَلاٌّخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـٰتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وقال بعض العلماء: تقديره خافضة أقواماً كانوا مرتفعين في الدنيا رافعة أقواماً كانوا منخفضين في الدنيا، وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} ـ إلى قوله ـ {فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى ٱلاٌّرَآئِكِ يَنظُرُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
وقال بعض العلماء: تقديره، خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة كالنجوم التي تسقط وتتناثر يوم القيامة، وذلك خفض لها بعد أن كانت مرتفعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا ٱلْكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتْ} وقال تعالى: {وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ}.
رافعة: أي رافعة بعض الأجرام التي كانت منخفضة كالجبال التي ترفع من أماكنها وتسير بين السماء والأرض كما قال تعالى: {„ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ بَارِزَةً}، فقوله: {وَتَرَى ٱلاٌّرْضَ بَارِزَةً}، لأنها لم يبق على ظهرها شيء من الجبال، وقال تعالى: {وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ}.
وقد قدمنا أن التحقيق الذي دل عليه القرآن، أن ذلك يوم القيامة، وأنها تسير بين السماء والأرض كسير السحاب الذي هو المزن.
وقد صرح بأن الجبال تحمل هي والأرض أيضاً يوم القيامة. وذلك في قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَٰحِدَةٌوَحُمِلَتِ ٱلاٌّرْضُ وَٱلْجِبَالُ}.
وعلى هذا القول، فالمراد تعظيم شأن يوم القيامة، وأنه يختل فيه نظام العالم، وعلى القولين الأولين، فالمراد الترغيب والترهيب، ليخاف الناس في الدنيا من أسباب الخفض في الآخرة فيطيعوا الله ويرغبوا في أسباب الرفع فيطيعوه أيضاً، وقد قدمنا مراراً أن الصواب في مثل هذا حمل الآية على شمولها للجميع. قوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ ٱلاٌّرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّا}. قد قدمنا أن الأظهر عندنا أن قوله {إِذَا رُجَّتِ}. بدل من قوله {إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ}، والرج: التحريك الشديد، وما دلت عليه هذه الآية من أن الأرض يوم القيامة تحرك تحريكاً شديداً جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلاٌّرْضُ زِلْزَالَهَ}، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} وقوله تعالى: {وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّا} في معناه لأهل العلم أوجه متقاربة، لا يكذب بعضها بعضاً وكلها حق، وكلها يشهد له قرآن.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها أوجه كلها حق وكلها يشهد له قرآن، فنذكر جميع الأوجه وأدلتها القرآنية.
قال أكثر المفسرين {وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّا} أي فتت تفتيتاً حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن، ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقاً عنده فخاف أن يعجل عنه، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقاً ملتوتاً، وهو البسيسة.
لا تخبزا خبزاً وبسابسا ولا تطيلا بمناخ حبسا

وهذا الوجه يشهد له قرآن كقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلاٌّرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيل}، فقوله: {كَثِيباً مَّهِيل} أي رملاً متهايلاً، ومنه قول امرىء القيس:
ويوماً على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل

ومشابهة الدقيق المبسوس بالرمل المتهايل واضحة، فقوله: {وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيل} مطابق في المعنى لتفسير {وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّا} بأن بسها هو تفتيتها وطحنها كما ترى.
وما دلت عليه هذه الآيات من أنها تسلب عنها قوة الحجرية وتتصف بعد الصلابة والقوة باللين الشديد الذي هو كلين الدقيق، والرمل المتهايل يشهد له في الجملة تشبيهها في بعض الآيات بالصوف المنفوش الذي هو العهن، كقوله تعالى {وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ}، وقوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْل ِوَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ} وأصل العهن أخص من مطلق الصوف لأنه الصوف المصبوغ خاصة. ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
كأن فتاة العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم

وقال بعضهم: الجبال منها جدد بيض وحمر ومختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا بست وفتتت يوم القيامة وطيرت في الجو أشبهت العهن إذا طيرته الريح في الهوى، وهذا الوجه يدل عليه ترتيب كينونتها هباء منبثاً بالفاء على قوله: {وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّ} لأن الهباء هو ما ينزل من الكوة من شعاع الشمس إذا قابلتها:
{مُّنبَثّ} أي متفرقاً، ووصفها بالهباء المنبث أنسب لتكون البس بمعنى التفتيت والطحن.
الوجه الثاني: أن معنى قوله: {وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّ} أي سيرت بين السماء والأرض، وعلى هذا فالمراد ببسها سوقها وتسييرها من قول العرب: بسست الإبل أبسها، بضم الباء وأبستها أبسها بضم الهمزة وكسر الباء، لغتان بمعنى سقتها، ومنه حديث: «يخرج أقوام من المدينة إلى اليمن والشام، والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون».
وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {„ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ}، وقوله {وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْر}.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله: {وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ}.
الوجه الثالث: أن معنى قوله: {وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّا} نزعت من أماكنها وقلعت، وقد أوضحنا أن هذا الوجه راجع للوجه الأول مع الإيضاح التام لأحوال الجبال يوم القيامة، وأطوارها، بالآيات القرآنية، وفي سورة طه في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْف}، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّا} كقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاب}، والهباء إذا انبث، أي تفرق، واضمحل وصار لا شيء، والسراب قد قال الله تعالى فيه: {حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئ}. قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَـٰثَةً}. أي صرتم أزواجاً ثلاثة، والعرب تطلق كان بمعنى صار، ومنه {وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ} أي فتصيرا من الظالمين.
ومنه قول الشاعر: بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها

وقوله: {أَزْوَاج}: أي أصنافاً ثلاثة، ثم بين هذه الأزواج الثلاثة بقوله: {فَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْأمَةِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْأمَةِ وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ فِى جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ} أما أصحاب الميمنة فهم أصحاب اليمين، كما أوضحه تعالى بقوله: {وَأَصْحَـٰبُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلْيَمِينِ فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ}، وأصحاب المشأمة هم أصحاب الشمال كما أوضحه تعالى: بقوله {وَأَصْحَـٰبُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلشِّمَالِ فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ}.
قال بعض العلماء: قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم.
وقيل: لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة.
وقيل: لأنهم عن يمين أبيهم آدم، كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ليلة الإسراء.
وقيل سموا أصحاب اليمين، وأصحاب الميمنة لأنهم ميامين، أي مباركون على أنفسهم، لأنهم أطاعوا ربهم فدخلوا الجنة، واليمن البركة.
وسمي الآخرون أصحاب الشمال، وقيل: لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم.
وقيل: لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار، والعرب تسمي الشمال شؤماً، كما تسمي اليمين يميناً، ومن هنا قيل لهم أصحاب المشأمة أو لأنهم مشائيم على أنفسهم: فعصوا الله فأدخلهم النار، والمشائيم ضد الميامين، ومنه قول الشاعر: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا بين غرابها

وبين جل وعلا أن السابقين هم المقربون، وذلك في قوله: {وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ}، وهذه الأزواج الثلاثة المذكورة هي وجزاؤها في أول هذه السورة الكريمة جاءت هي وجزاؤها أيضاً في آخرها، وذلك في قوله: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِين َفَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّـٰتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ فَسَلَـٰمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلْيَمِين ِوَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّين َفَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}.
والمكذبون هم أصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال.
وذكر تعالى بعض صفات أصحاب الميمنة والمشأمة في البلد في قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍأَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍيَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} ـ إلى قوله تعالى ـ {أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِوَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَـٰتِنَا هُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْأمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ}.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ}، وقوله: {مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَشْأمَةِ}
استفهام أريد به التعجب من شأن هؤلاء في السعادة، وشأن هؤلاء في الشقاوة، والجملة فيهما مبتدأ وخبر، وهي خبر المبتدأ قبله، وهو أصحاب الميمنة في الأول وأصحاب المشأمة في الثاني.
وهذا الأسلوب يكثر في القرآن نحو {ٱلْحَاقَّةُمَا ٱلْحَآقَّةُ}، {ٱلْقَارِعَةُ مَا ٱلْقَارِعَةُ}. والرابط في جملة الخبر في جميع الآيات المذكورة هو إعادة لفظ المبتدأ في جملة الخبر كما لا يخفى، وقوله: {وَٱلسَّـٰبِقُونَ} لم يذكر فيه استفهام تعجب كما ذكره فيما قبله، ولكنه ذكر في مقابلة تكرير لفظ السابقين.
والأظهر في إعرابه أنه مبتدأ وخبر على عادة العرب في تكريرهم اللفظ وقصدهم الإخبار بالثاني عن الأول، يعنون أن اللفظ المخبر عنه هو المعروف خبره الذي لا يحتاج إلى تعريف ومنه قول أبي النجم:
أنا أبو النجم وشعري شعري لله درى ما أجن صدري

فقوله: وشعري شعري يعني شعري هو الذي بلغك خبره، وانتهى إليك وصفه.