تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 534 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 534

533

68- "فيهما فاكهة ونخل ورمان" هذا من صفات الجنتين المذكورتين قريباً، والنخل والرمان وإن كانا من الفاكهة لكنهما خصصا بالذكر لمزيد حسنهما وكثرة نفعهما بالنسبة إلى سائر الفواكه كما حكاه الزجاج والأزهري وغيرهما. وقيل إنما خصهما لكثرتهما في أرض العرب، وقيل خصهما لأن النخل فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء. وقد ذهب إلى أنهما من جملة الفاكهة جمهور أهل العلم، ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد.
69- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن من جملتها هذه النعم التي في جنات النعيم، ومجرد الحكاية لها أثر في نفوس السامعين وتجذبهم إلى طاعة رب العالمين.
70- "فيهن خيرات حسان" قرأ الجمهور " خيرات " بالتخفيف، وقرأ قتادة وابن السميفع وأبو رجاء العطاردي وبكر بن حبيب السهمي وابن مقسم والنهدي بالتشديد، فعلى القراءة الأولى هي جمع خيرة بزنة فعلة بسكون العين، يقال امرأة خيرة وأخرى شرة، أو جمع خيرة مخفف خيرة، وعلى القراءة الثانية جمع خيرة بالتشديد. قال الواحدي: قال المفسرون: الخيرات النساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه. قيل وهذه الصفة عائدة إلى الجنان الأربع، ولا وجه لهذا فإنه قد وصف نساء الجنتين الأوليين بأنهن "قاصرات الطرف" "كأنهن الياقوت والمرجان" وبين الصفتين بون بعيد.
71- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن شيئاً منها كائناً ما كان لا يقبل التكذيب.
72- "حور مقصورات في الخيام" أي محبوسات، ومنه القصر، لأنه يحبس من فيه، والحور جمع حوراء وهي شديدة بياض العين شديدة سوادها، وقد تقدم بيان معنى الحوراء والخلاف فيه. وقيل معنى مقصورات: أنهن قصرن على أزواجهن لا يردن غيرهم، وحكاه الواحدي عن المفسرين. والأول أولى، وبه قال أبو عبيدة ومقاتل وغيرهما. قال في الصحاح: قصرت الشيء أصره قصراً حبسته، والمعنى: أنهن خدرن في الخيام. والخيام جمع خيمة، وقيل جمع خيم، والخيم جمع خيمة، وهي أعواد تنصب وتظلل بالثياب، فتكون أبرد من الأخبية، قيل الخيمة من خيام الجنة درة مجوفة فرسخ في فرسخ، وارتفاع حو على البدلية من خيرات.
73- "فبأي آلاء ربكما تكذبان".
74- "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان" قد تقدم تفسيره في صفة الجنتي الأولين.
75- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإنها كلها نعم لا تكفر ومنن لا تجحد.
76- "متكئين على رفرف خضر" انتصاب متكئين على الحال أو المدح كما سبق، قال أبو عبيدة، الرفاف البسط، وبه قال الحسن مقاتل والضحاك وغيرهم. وقال ابن عيينة: هي الزرابي. وقال ابن كيسان: هي المرافق. وروي عن أبي عبيدة أنه قال: هي حاشية الثوب. وقال الليث: ضرب من الثياب الخضر وقيل الفرش المرتفعة، وقيل كل ثوب عريض. قال في الصحاح: والرفرف ثياب خضر يتخذ منها المحابس، والواحدة رفرفة. وقال الزجاج: قالوا الرفرف هنا رياض الجنة. وقالوا الرفرف الوسائد، وقالوا الرفرف المحابس. اهـ. ومن القائلين بأنها رياض الجنة سعيد بن جبير، واشتقاق الرفرف من رف يرف: إذا ارتفع، ومنه رفرفة الطائر، وهي تحريك جناحيه في الهواء. قرأ الجمهور "رفرف" على الإفراد. وقرأ عثمان بن عفان والحسن والجحدري رفاف على الجمع "وعبقري حسان" العبقري الزرابي، والطنافس الموشية. قال أبو عبيدة: كل وش من البسط عبقري، وهو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي، قال الفراء: العبقري الطنافس الثمان، وقيل الزرابي، وقيل البسط، وقيل الديباج. قال ابن الأنباري: الأصل فيه أن عبقر قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق، قال الخليل: العبقري عند العرب كل جليل فاضل فاخر من الرجال والنساء، ومنه قول زهير: تخيل عليها جنة عبقرية جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا قال الجوهري: العبقري موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد: كهرل وشبان كجنة عبقري ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته فقالوا عبقري، وهو واحد وجمع. قرأ الجمهور "عبقري" وقرأ عثمان بن عفان والحسن والجحدري عباقري وقرئ عباقر وهما نسبة إلى عباقر اسم بلد. وقال قطرب: ليس بمنسوب، وهو مثل كرسي وكراسي. وبختي وبخاتي. قرأ الجمهور "خضر" بضم الخاء وسكون الضاد، وقرئ بضمهما وهي لغة قليلة.
77- "فبأي آلاء ربكما تكذبان" فإن كل واحد منها أجل من أن يتطرق إليه التكذيب، وأعظم من أن يجحده جاحد أو ينكره منكر، وقد قدمنا في أول هذه السورة وجه تكرير هذه الآية فلا نعيده.
78- "تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام" تبارك تفاعل من البركة. قال الرازي: وأصل التبارك من التبرك، وهو الدوام والثبات، ومنه برك البعثر وبركة الماء فإن الماء يكون دائماً، والمعنى: دام اسمه وثبت أو دام الخير عنده، لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير، أو يكون معناه علا وارتفع شأنه. وقيل معناه: تنزيه الله سبحانه وتقديسه، وإذا كان هذا التبارك منسوباً إلى اسمه عز وجل، فلما ظنك بذاته سبحانه؟ وقيل الاسم بمعنى الصفة، وقيل هو مقحم كما في قول الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر وقد تقدم تفسير ذي الجلا والإكرام في هذه السورة. قرأ الجمهور "ذي الجلال" على أنه صفة للرب سبحانه. وقرأ ابن عامر "ذو الجلا" على أنه صفة لاسم. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ولمن خاف مقام ربه جنتان" قال: وعد الله المؤمني الذي خافوا مقامه فأدوا فرائضه الجنة. وأخرج ابن جرير عنه في الآية يقول: خاف ثم اتقى، والخائف: من ركب طاعة الله وترك معصيته. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عطاء أنها نزلت في أبي بكر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب مثله. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود في الآية قال: لمن خافه في الدنيا. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن منيع والحاكم والترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية "ولمن خاف مقام ربه جنتان" فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثانية "ولمن خاف مقام ربه جنتان" فقلت: وإن زنى وإن سرق، فقال الثالثة "ولمن خاف مقام ربه جنتان" فقلت: وإن زنى وإن سرق، قال: نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء". وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولمن خاف مقام ربه جنتان" فقال أبو الدرداء: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال: وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي الدرداء". وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن يسار مولى لآل معاوية عن أبي الدرداء في قوله: "ولمن خاف مقام ربه جنتان" قال: لأبي الدرداء: وإن زنى وإن سرق؟ قال: من خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق. وأخرج ابن مردويه عن ابن شهاب قال: كنت عند هشام بن عبد الملك، فقال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ""ولمن خاف مقام ربه جنتان" قال أبو هريرة: وإن زنى وإن سرق؟ فقلت: إنما كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فلما نزلت الفرائض ذهب هذا". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جنان الفردوس أربع جنات: جنتان من ذهب حليتهما وأبنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة حليتهما وأبنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى "عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ولمن خاف مقام ربه جنتان" وفي قوله: "من دونهما جنتان" قال: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي موسى في قوله: "ولمن خاف مقام ربه جنتان" قال: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ذواتا أفنان" قال: ذواتا أفنان قال: ذواتا ألوان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: فن غصونها يمس بعضها بعضاً. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً قال: الفن الغصن. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن مسعود في قوله: "متكئين على فرش بطائنها من إستبرق" قال: أخبرتم بالبطائن، فكيف بالظهائر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه قيل له بطائنها من إستبرق، فما الظواهر؟ قال: ذلك مما قال الله "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عنه في قوله: "وجنى الجنتين دان" قال: جناها ثمرها، والداني: القريب منك يناله القائم والقاعد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عنه أيضاً في قوله: "فيهن قاصرات الطرف" يقول: عن غير أزواجهن "لم يطمثهن" يقول: لم يدن منهن أو لم يدمهن. وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم "في قوله: "كأنهن الياقوت والمرجان" قال: تنظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، وإنه يكون عليها سبعون ثوباً وينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك" وأخرج ابن أبي شيبة وهناد بن السدي والترمذي وابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها، وذلك أن الله يقول: كأنهن الياقوت والمرجان، فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته من ورائه" وقد رواه الترمذي موقوفاً وقال هو أصح. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب وضعفه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في قوله: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة". وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والبغوي في تفسيره، والديلمي في مسند الفردوس، وابن النجار في تاريخه عن أنس مرفوعاً مثله. وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً في الآية قال: "هل جزاء من أنعمنا عليه بالإسلام إلا أن أدخله الجنة". وأخرج ابن النجار في تاريخه عن علي بن أبي طالب مرفوعاً مثل حديث ابن عمر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" قال: هل جزاء من قال لا إله إلا الله في الدنيا إلا الجنة في الآخرة. وأخرج ابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي والبيهقي في الشعب وضعفه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل الله علي هذه الآية في سورة الرحمن للكافر والمسلم: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان". وأخرجه ابن مردويه موقوفاً على ابن عباس. وأخرج هناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "مدهامتان" قال: هما خضراوان. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: قد اسودتا من الخضرة من الري من الماء. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عبد الله بن الزبير نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: "مدهامتان" قال: خضراوان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "نضاختان" قال: فائضتان. وأخرج عبد بن حميد عنه قال: ينضخان بالماء. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: "خيرات حسان" قال: لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها من الله لك يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك، لا مراحات ولا طماحات ولا بخرات ولا دفرات، حور عين كأنهن بيض مكنون. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "حور" قال: بيض "مقصورات" قال: محبوسات "في الخيام" قال: في بيوت اللؤلؤ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال: الحور سود الحدق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخيام در مجوف". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم "الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن". وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "متكئين على رفرف" قال: فضول المحابس والفرش والبسط. وأخرج عبيد بن حميد عن علي بن أبي طالبقال: هي فضول المحابس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبيهقي في البعث من طرق عن ابن عباس "رفرف خضر" قال: المحابس "وعبقري حسان" قال: الزرابي. وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال: الرفرف الرياض، والعبقري الزرابي. سورة الواقعة هي سبع وتسعون، أو ست وتسعون آية وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" وقال الكلبي: إنها مكية إلا أربع آيات منها، وهي " أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " وقوله: " ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين " وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة الواقعة بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قرأ سورة الواقعة ليلة لم تصبه فاقة أبداً". وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سورة الواقعة سورة الغنى، فاقرأوها وعلموها أولادكم". وأخرج الديلمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علموا نسائكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى"، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: "شيبتني هود الواقعة" اهـ. قوله: 1- "إذا وقعت الواقعة" الواقعة اسم للقيامة كالآزفة وغيرها، وسميت واقعة لأنها كائنة لا محالة، أو لقرب وقوعها، أو لكثرة ما يقع فيها من الشدائد، وانتصاب إذا بمضمر: أي أذكر وقوع الواقعة.
أو بالنفي المفهو من قوله: 2- "ليس لوقعتها كاذبة" أي لا يكون عند وقوعها تكذيب، والكاذبة مصدر كالعاقبة: أي ليس لمجيئها وظهورها كذب أصلاً، وقيل إذا شرطية وجوابها مقدر: أي إذا وقعت كان كيت وكيت، والجواب هذا هو العامل فيها، وقيل إنها شرطية، والعامل فيها الفعل الذي بعدها، واختار هذا أبو حيان، وقد سبقه إلى هذا مكي فقال: والعامل وقعت. قال المفسرون: والواقعة هنا هي النفخة الآخرة، ومعنى الآية: أنها إذا وقعت النفخة الآخرة عند البعث لم يكن هناك تكذيب بها أصلا، أو لا يكون هناك نفس تكذب على الله وتكذب بما أخبر عنه من أمور الآخرة. قال الزجاج: ليس لوقعتها كاذبة: أي لا يردها شيء، وبه قال الحسن وقتادة. وقال النووي: ليس لوقعتها أحد يكذب بها. وقال الكسائي: ليس لها تكذيب: أي لا ينبغي أن يكذب بها أحد.
3- "خافضة رافعة" قرأ الجمهور برفعهما على إضمار مبتدأ: أي هي خافضة رافعة. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي بنصبهما على الحال. قال عكرمة والسدي ومقاتل: خفضت الصوت فأسمعت من دنا، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى: أي أسمعت القريب والبعيد. وقال قتادة: خفضت أقواماً في عذاب الله، ورفعت أقواماً إلى طاعة الله. وقال محمد بن كعب: خفضت أقواماً كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت أقواماً كانوا في الدنيا مخفوضين، والعرب تستعمل الخفض والرفع في المكان والمكانة والعز والإهانة، ونسبة الخفض والرفع إليها على طريق المجاز، والخافض الرافع في الحقيقة هو الله سبحانه.
4- "إذا رجت الأرض رجا" أي إذا حركت حركة شديدة، يقال رجه يرجه رجا إذا حركه، والرجة الاضطراب، وارتج البحر اضطرب. قال المفسرون: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها وينكسر كل شيء من الجبال وغيرها. قال قتادة ومقاتل ومجاهد: معنى رجت زلزلت، والظرف متعلق بقوله خافضة رافعة أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لأنه عند ذلك يرتفع ما هو منخفض وينخفض ما هو مرتفع. وقيل إنه بدل من الظرف والأول ذكره الزجاج، فيكون معنى وقوع الواقعة هو رج الأرض، وبس الجبال.
5- "وبست الجبال بسا" البس: الفت، يقال: بس الشيء إذا فته حتى يصير فتاتاً، ويقال بس السويق: إذا لته بالسمن أو بالزيت. قال مجاهد ومقاتل: المعنى أن الجبال فتت فتاً. وقال السدي: كسرت كسراً. وقال الحسن: فلعت من أصلها. وقال مجاهد أيضاً: بست كما يبس الدقيق بالسمن أو بالزيت، والمعنى: أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت. وقال أبو زيد: البس السوق، والمعنى على هذا: سيقت الجبال سوقاً. قال أبو عبيد: بس الإبل وأبسها لغتان: إذا زجرها. وقال عكرمة: المعنى هدت هداً.
6- "فكانت هباء منبثاً" أي غباراً متفرقاً منتشراً. قال مجاهد: الهباء الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة الغبار، وقيل هو الرهج الذي يسطع من حوافر الدواب ثم يذهب، وقيل ما تطاير من النار إذا اضطرمت على سورة الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً، وقد تقدم بيانه في الفرقان عند تفسير قوله: "فجعلناه هباء منثوراً" قرأ الجمهور "منبثاً" بالمثلثة. وقرأ مسروق والنخعي وأبو حيوة بالتاء المثناة من فوق: أي منقطعاً، من قولهم بته الله: أي قطعه.
ثم ذكر سبحانه أحوال الناس واختلافهم فقال: 7- "وكنتم أزواجاً ثلاثة" والخطاب لجميع الناس أو للأمة الحاضرة، والأزواج الأصناف، والمعنى: وكنتم في ذلك اليوم أصنافاً ثلاثة.
ثم فسر سبحانه هذه الأصناف فقال: 8- "فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة" أي أصحاب اليمين،وهم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، أو الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، أصحاب الميمنة مبتدأ، وخبره: ما أصحاب الميمن: أي أي شيء هم في حالهم وصفتهم، والاستفهام للتعظيم والتفخيم، وتكرير المبتدأ هنا بلغظه مغن عن الضمير الرابط، كما في قوله: " الحاقة * ما الحاقة " " القارعة * ما القارعة " ولا يجوز مثل هذا إلا في مواضع التفخيم والتعظيم.
9- "و" الكلام في "أصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة" كالكلام في أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، والمراد الذي يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار أو يأخذون صحائف أعمالهم بشمالهم، والمراد تعجيب السامع من حال الفريقين في الفخامة والفظاعة، كأنه قيل: فأصحاب الميمنة في نهاية السعادة وحسن الحال، وأصحاب المشأمة في نهاية الشقاوة وسوء الحال. وقال السدي: أصحاب الميمنة هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبة وأصحاب المشأمة هم الذين كانوا عن شماله. وقال زيد بن أسلم: أصحاب الميمنة هم الذين آخذوا من شق آدم الأيمن، وأصحاب المشأمة هم الذين أخذوا من شقه الأيسر. وقال ابن جريح: أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات. وقال الحسن والربيع: أصحاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة هم المشائيم على أنفسهم بالأعمال القبيحة. وقال المبرد: أصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر، والعرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك: أي اجعلني من المتقدمين ولا تجعلني من المتأخرين، ومنه قول ابن الدمينة: أبنيتي أفي يمنى يديك جعلتني فأفرح أم صيرتني في شمالك
ثم ذكر سبحانه الصنف الثالث فقال: 10- "والسابقون السابقون" والتكرير فيه للتفخيم والتعظيم كما مر في القسمين الأولين، كما تقول أنت أنت وزيد زيد، والسابقون مبتدأ، وخبره السابقون. وفيه تأويلان: أحدهما أنه بمعنى السابقون هم إلى الإيمان السابقون إلى الجنة. والأول أولى لما فيه من الدلالة على التفخيم والتعظيم. قال الحسن وقتادة: هم السابقون إلى الإيمان من كلامه. وقال محمد بن كعب: إنهم الأنبياء. وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقال مجاهد: هم الذين سبقوا إلى الجهاد، وبه قال الضحاك: وقال سعيد بن جبير: هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر. وقال الزجاج: المعنى والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله.
11- "أولئك المقربون".
قيل ووجه تأخير هذا الصنف الثالث مع كونه أشرف من الصنفين الأولين هو أن يقترن به ما بعده، وهو قوله: 12- " أولئك المقربون * في جنات النعيم " فالإشارة هي إليهم: أي المقربون إلى جزيل ثواب الله وعظيم كرامته، أو الذين قربت درجاتهم وأعليت مراتبهم عند الله. وقوله في جنات النعيم متعلق بالمقربون: أي مقربون عند الله في جنات النعيم. ويجوز أن يكون خبراً ثانياً لأولئك، وأن يكون حالاً من الضمير في المقربون: أي كائنين فيها. قرأ الجمهور "في جنات" بالجمع، وقرأ طلحة بن مصرف في جنة بالإفراد، وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه كما يقال: دار الضيافة ودار الدعوة ودار العدل.
وارتفاع 13- "ثلة من الأولين" على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هم ثلة، والثلة الجماعة التي لا يحصر عددها. قال الزجاج: معنى ثلة معنى فرقة، من ثللت الشيء: إذا قطعته، والمراد بالأولين هم الأمم السابقة من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.
14- "وقليل من الآخرين" أي من هذه الأمة، وسموا قليلاً بالنسبة إلى من كان قبلهم، وهم كثيرون لكثرة الأنبياء فيهم وكثرة من أجابهم. قال الحسن: سابقو من مضى أكثر من سابقينا. قال الزجاج: الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوا بهم أكثر ممن عاين النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف هذا ما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثم قال: ثلث أهل الجنة، ثم قال: نصف أهل الجنة" لأن قوله " ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين " إنما هو تفضيل للسابقين فقط كما سيأتي في ذكر أصحاب اليميمن أنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكون نصف أهل الجنة، والمقابلة بين الثلتين في أصحاب اليمين لا تستلزم استواءهما لجواز أن يقال: هذه الثلة أكثر من هذه الثلة كما يقال: هذه الجماعة أكثر من هذه الجماعة وهذه الفرقة أكثر من هذه الفرقة، وهذه القطعة أكثر من هذه القطعة. وبهذا تعرف أنه لم يصب من قال إن هذه الآية منسوخة بالحديث المذكور.
ثم ذكر سبحانه حالة أخرى للسابقين المقربين فقال: 15- "على سرر موضونة" قرأ الجمهور "سرر" بضم السين والراء الأولى، وقرأ أبو السماك وزيد بن علي بفتح الراء، وهي لغة كما تقدم، والموضوعة المنسوجة، والوضن: النسج المضاعف. قال الواحدي: قال المفسرون: منسوجة بقضبان الذهب، وقيل مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد، وقيل إن الموضونة المصفوفة. وقال مجاهد: الموضونة المرمولة بالذهب.
وانتصاب 16- "متكئين عليها" على الحال، وكذا انتصاب "متقابلين" والمعنى: مستقرين على سرر متكئين عليها متقابلين لا ينظر بعضهم قفا بعض.