تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 62 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 62

 {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلاٌّرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّـٰصِرِينَ * لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَٰءِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ * فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ * قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَـٰلَمِينَ }
، إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلاٌّرْضِ ذَهَبًا صرّح في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار يوم القيامة لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به .
وصرّح في مواضع أخر أنه لو زيد بمثله لا يقبل منه أيضًا كقوله : {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَ} ، وبيّن في مواضع أُخر ، أنه لا يقبل فداء في ذلك اليوم منهم بتاتًا كقوله : {فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُو} ، وقوله : {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَ} ، وقوله : {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَـٰعَةٌ} ، والعدل : الفداء .
{فِيهِ ءَايَـٰتٌ بَيِّـنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ * قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأيَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ كَـٰفِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَـٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مّسْتَقِيمٍ }
، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ صرّح في هذه الآية ، أنه غني عن خلقه ، وأن كفر من كفر منهم لا يضره شيئًا ، وبيّن هذا المعنى في مواضع متعددة ، كقوله عن نبيّه موسى : {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} ، وقوله : {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ} ، وقوله : {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ} ، وقوله : {قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَـٰنَهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ} ، إلى غير ذلك من الآيات ،.
فاللَّه تبارك وتعالىٰ يأمر الخلق وينهاهم ؛ لا لأنه تضره معصيتهم ولا تنفعه طاعتهم ، بل نفع طاعتهم لهم وضرر معصيتهم عليهم ، كما قال تعالىٰ : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَ} ، وقال : {مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَ} ، وقال : {خَبِيرٍ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ} . وثبت في « صحيح مسلم » عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فيما يرويه عن ربه أنه قال : « يا عبادي ، لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا ، يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا » الحديث .
تنبيــه
: قوله تعالىٰ : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ} ، بعد قوله : {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيل} ، يدلّ على أن من لم يحج كافر ، واللَّه غني عنه . وفي المراد بقوله : {وَمَن كَفَرَ} ، أوجه للعلماء . الأول : أن المراد بقوله : {وَمَن كَفَرَ} أي : ومن جحد فريضة الحج ، فقد كفر واللَّه غني عنه ، وبه قال : ابن عباس ومجاهد وغير واحد قاله ابن كثير . ويدل لهذا الوجه ما روي عن عكرمة ومجاهد من أنهما قالا لما نزلت : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} ، قالت اليهود : فنحن مسلمون .
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « إن اللَّه فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ، فقالوا : لم يكتب علينا ، وأبوا أن يحجوا » . قال اللَّه تعالىٰ : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ} .
الوجه الثاني : أن المراد بقوله : {وَمَن كَفَرَ} ، أي : ومن لم يحجّ على سبيل التغليظ البالغ في الزجر عن ترك الحج مع الاستطاعة كقوله المقداد الثابت في « الصحيحين » حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب : « لا تقتله ، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال » .
الوجه الثالث : حمل الآية على ظاهرها وأن من لم يحج مع الاستطاعة فقد كفر .
وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من ملك زادًا وراحلة ولم يحج بيت اللَّه فلا يضره ، مات يهوديًا ، أو نصرانيًا ؛ وذلك بأن اللَّه قال : {وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ} » .
روى هذا الحديث الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، كما نقله عنهم ابن كثير وهو حديث ضعيف ضعفه غير واحد بأن في إسناده هلال بن عبد اللَّه مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي ، وهلال هذا . قال الترمذي : مجهول ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وفي إسناده أيضًا الحارث الذي رواه عن عليّ رضي اللَّه عنه . قال الترمذي : إنه يضعف في الحديث . وقال ابن عدي : هذا الحديث ليس بمحفوظ . انتهى بالمعنى من ابن كثير .
وقال ابن حجر : في « الكافي الشاف ، في تخريج أحاديث الكشاف»: في هذا الحديث أخرجه الترمذي من رواية هلال بن عبد اللَّه الباهلي ، حدّثنا إبو أسحٰق ، عن الحارث ، عن علي رفعه : « من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت اللَّه ولم يحجّ ، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا » .
وقال : غريب وفي إسناده مقال ، وهلال بن عبد اللَّه مجهول ، والحٰرث يضعف ، وأخرجه البزار من هذا الوجه ، وقال : لا نعلمه عن علي إلا من هذا الوجه ، وأخرجه ابن عدي ، والعقيلي في ترجمة هلال ، ونقلاً عن البخاري أنه منكر الحديث .
وقال البيهقي في « الشعب » : تفرد به هلال وله شاهد من حديث أبي أمامة ، أخرجه الدارمي بلفظ : « من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة ، أو سلطان جائر ، أو مرض حابس ، فمات فليمت إن شاء يهوديًا ، أو إن شاء نصرانيًا » ، أخرجه من رواية شريك ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عبد الرحمٰن بن سابط عنه ، ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي في « الشعب » ، وأخرجه ابن أبي شيبة ، عن أبي الأحوص ، عن ليث ، عن عبد الرحمٰن مرسلاً لم يذكر أبا أمامة وأورده ابن الجوزي في « الموضوعات » من طريق ابن عدي ، وابن عدي وأورده في « الكامل » في ترجمة أبي المهزوم يزيد بن سفيان عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه ، ونقل عن القلاس أنه كذب أبا المهزوم ، وهذا من غلط ابن الجوزي في تصرفه ؛ لأن الطريق إلى أبي أمامة ليس فيها من اتهم بالكذب .
وقد صحّ عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أنه قال : من أطاق الحج فلم يحج فسواء مات يهوديًا أو نصرانيًا ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ .