تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 62 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 62

061

قوله 90- "ثم ازدادوا كفراً". قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن: نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته "ثم ازدادوا كفراً" بإقامتهم على كفرهم، وقيل: ازدادوا كفراً بالذنوب التي اكتسبوها، ورجحه ابن جرير الطبري وجعلها في اليهود خاصة. وقد استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى "لن تقبل توبتهم" مع كون التوبة مقبولة كما في الآية الأولى، وكما في قوله تعالى "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده" وغير ذلك، فقيل: المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت. قال النحاس: وهذا قول حسن كما قال تعالى "وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن" وبه قال الحسن وقتادة وعطاء ومنه الحديث "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، وقيل: المعنى لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا، لأن الكفر أحبط، وقيل لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر، والأولى أن يحمل عدم قبولهم التوبة في هذه الآية على من مات كافراً غير تائب فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة، وتكون الآية المذكورة بعد هذه الآية.
وهي قوله "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار" في حكم البيان لها. قوله "ملء الأرض ذهباً" الملء بالكسر مقدار ما يملأ الشيء، والملء بالفتح مصدر ملأت الشيء، وذهباً تمييز، قاله الفراء وغيره. وقال الكسائي: نصب على إضمار من ذهب. كقوله "أو عدل ذلك صياماً" أي من صيام. وقرأ الأعمش ذهب بالرفع على أنه بدل من ملء، والواو في قوله "ولو افتدى به" قيل: هي مقحمة زائدة، والمعنى لو افتدى به، وقيل: فيه حمل على الغني كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً، وقيل: هو عطف على مقدر: أي لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تصدق به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب: أي بمثله. وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال:" كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد والحق بالمشركين، ثم ندم فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ فنزلت: "كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم" إلى قوله: "غفور رحيم" فأرسل إليه قومه فأسلم". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد نحوه، وقال: هو الحارث بن سويد. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن السدي نحوه، وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس نحوه أيضاً وقد روي عن جماعة نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم". قال: هم أهل الكتاب من اليهود عرفوا محمداً ثم كفروا به. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وذكر نحو ما تقدم عنه. وأخرج البزار عن ابن عباس: أن قوماً أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا " قال السيوطي: هذا خطأ من البزار. وأخرج ابن جرير عن الحسن في الآية قال: اليهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: هم اليهود كفروا بالإنجيل وعيسى ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في الآية قال: إنما نزلت في اليهود والنصارى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً بذنوب أذنبوها، ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم، ولو كانوا على الهدى قبلت توبتهم، ولكنهم على الضلالة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله "ثم ازدادوا كفراً" قال: نموا على كفرهم. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "ثم ازدادوا كفراً" قال: ماتوا وهم كفار "لن تقبل توبتهم" قال: إذا تاب عند موته لم تقبل توبته. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله "لن تقبل توبتهم" قال: تابعوا من الذنوب ولم يتوبوا من الأصل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله "وماتوا وهم كفار" قال: هو كل كافر. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به فيقول: نعم، فيقال له: لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك، فذلك قوله تعالى: "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفارً" الآية".
هذا كلام مستأنف خطاب المؤمنين عقب ذكر ما لا ينفع الكفار. قوله "لن تنالوا البر" يقال: نالني من فلان معروف ينالني: أي وصل إلي، والنوال: العطاء من قولك نولته تنويلاً أعطيته. والبر: العمل الصالح وقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون والسدي: هو الجنة، فمعنى الآية، لن تنالوا العمل الصالح أو الجنة: أي تصلوا إلى ذلك وتبلغوا إليه حتى تنفقوا مما تحبون: أي حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها، و 92- "من" تبعضية، ويؤيده قراءة ابن مسعود حتى ينفقوا بعض ما تحبون وقيل: بيانية "وما" موصولة أو موصوفة، والمراد النفقة في سبيل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات، وقيل: المراد الزكاة المفروضة. وقوله "من شيء" بيان لقوله "ما تنفقوا" أي: ما تنفقوا من أي شيء سواء كان طيباً أو خبيثاً "فإن الله به عليم" وما شرطية جازمة. وقوله "فإن الله به عليم" تعليل لجواب الشرط واقع موقعه. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس "أن أبا طلحة لما نزلت هذه الآية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بير حاء، وإنها صدقة" الحديث. وقد روي بألفاظ. وأخرج عبد بن حميد والبزار عن ابن عمر قال: حضرتني هذه الآية "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئاً أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت: هي حرة لوجه الله فلو أني أعوذ في شيء جعلته لله لنكحتها فأنكحتها نافعاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلي أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء، فدعا بها عمر فقال: إن الله يقول "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" فأعتقها عمر. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم: إنها لما نزلت الآية جاء زيد بن حارثة بفرس له يقال له سبل لم يكن له مال أحب إليه منها، فقال: هي صدقة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله تعالى "لن تنالوا البر" قال: الجنة. وأخرج ابن جرير عن عمرو بن ميمون والسدي مثله. وأخرج ابن المنذر عن مسروق مثله.
قوله 93- "كل الطعام" أي المطعوم، والحل مصدر يستوي فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وهو الحلال وإسرائيل هو يعقوب كما تقدم تحقيقه. ومعنى الآية: أن كل المطعومات كانت حلالاً لبني يعقوب، لم يحرم عليهم شيء منها إلا ما حرم إسرائيل على نفسه. وسيأتي بيان ما هو الذي حرمه على نفسه، وهذا الاستثناء متصل من اسم كان. وقوله "من قبل أن تنزل التوراة" متعلق بقوله "كان حلاً" أي: أن كل المطعومات كانت حلالاً "من قبل أن تنزل التوراة" أي: كان ما عدا المستثنى حلالاً لهم "من قبل أن تنزل التوراة" مشتملة على تحريم ما حرمه عليهم لظلمهم، وفيه رد على اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم من أن سبب ما حرمه الله عليهم هو ظلمهم وبغيهم كما في قوله "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" الآية. وقوله "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما" إلى قوله "ذلك جزيناهم ببغيهم" وقالوا: إنها مرحمة على من قبلهم من الأنبياء، يريدون بذلك تكذيب ما قصه الله على نبينا صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز، ثم أمره الله سبحانه بأن يحاجهم بكتابهم ويجعل بينه وبينهم حكماً ما أنزله الله عليهم لا ما أنزله عليه فقال " قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " حتى تعلموا صدق ما قصه الله في القرآن من أنه لم يحرم على بني إسرائيل شيء من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه. وفي هذا من الإنصاف للخصوم ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه.
ثم قال 94- "فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك" أي: من بعد إحضار التوراة وتلاوتها "فأولئك هم الظالمون" أي: المفرطون في الظلم المتبالغون فيه فإنه لا أظلم ممن حوكم إلى كتابه وما يعتقده شرعاً صحيحاً.
ثم جادل من بعد ذلك مفترياً على الله الكذب، ثم لما كان ما يفترونه من الكذب بعد قيام الحجة عليهم بكتابهم باطلاً مدفوعاً، وكان ما قصه الله سبحانه في القرآن وصدقته التوراة صحيحاً صادقاً، وكان ثبوت هذا الصدق بالبرهان الذي لا يستطيع الخصم دفعه، أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينادي بصدق الله بعد أن سجل عليهم الكذب، فقال 95- "قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم" أي: ملة الإسلام التي أنا عليها، وقد تقدم بيان معنى الحنيف، وكأنه قال لهم: إذا تبين لكم صدقي وصدق ما جئت به فادخلوا في ديني، فإن من جملة ما أنزل الله علي "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه". وقد أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس "أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يسكن البدو فاشتكى عرق النساء فلم يجد شيئاً يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها فلذلك حرمها، قالوا: صدقت" وذكر الحديث. وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال: العرق أجده عرق النساء، فكان يبيت له زق يعني صياح، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل لحماً فيه عرق، فحرمته اليهود. وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس من قوله ما أخرجه الترمذي سابقاً عنه مرفوعاً. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول: الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما كان على الظهر. واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم " قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " وكذبوا ليس في التوارة.
هذا شروع في بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إن بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لكونه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة فرد الله ذلك عليهم بقوله 96- "إن أول بيت وضع للناس" الآية، فقوله "وضع" صفة لبيت وخبر إن قوله "للذي ببكة" فنبه تعالى بكونه أول متعبد على أنه أفضل من غيره، وقد اختلف في الباني له في الابتداء، فقيل الملائكة، وقيل آدم، وقيل إبراهيم ويجمع بين ذلك بأول من بناه الملائكة ثم جدده آدم، ثم إبراهيم. وبكة علم للبلد الحرام وكذا مكة وهما لغتان، وقيل: إن بكة اسم لموضع البيت، ومكة اسم للبلد الحرام، وقيل: بكة للمسجد، ومكة للحرم كله، قيل: سميت بكة لازدحام الناس في الطواف، يقال بك القوم: ازدحموا، وقيل البك: دق العنق، سميت بذلك لأنها كانت تدق أعناق الجبابرة. وأما تسميتها بمكة، فقيل: سميت بذلك لقلة مائها وقيل: لأنها تمك المخ من العظم بما ينال ساكنها من المشقة، ومنه مككت العظم: إذا أخرجت ما فيه، ومك الفصيل ضرع أمه، وامتكه: إذا امتصه، وقيل: سميت بذلك لأنها تمك من ظلم فيها: أي تهلكه. قوله: "مباركاً" حال من الضمير في وضع، أو من متعلق الظرف لأن التقدير للذي استقر ببكة مباركاً والبركة: كثرة الخير الحاصل لمن يستقر فيه أو يقصده، أي: الثواب المتضاعف. والآيات البينات والواضحات: منها الصفا والمروة، ومنها أثر القدم في الصخرة الصماء، ومنها أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن، وإن كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذا عم البيت كان الخصب في جميع البلدان، ومنها انحراف الطيور عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان، ومنها هلاك من يقصده من الجبابرة وغير ذلك.
وقوله "مقام إبراهيم" بدل من آيات قاله محمد بن يزيد المبرد. وقال في الكشاف: غنه عطف بيان. وقال الأخفش: إنه مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير منها مقام إبراهيم، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أي: هي مقام إبراهيم وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات وهي جمع بالمقام وهو فرد. وأجاب بأن المقام جعل وحده بمنزلة آيات لقوة شأنه أو بأنه مشتمل على آيات. قال: ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله، لأن الاثنين نوع من الجمع. قوله "ومن دخله كان آمناً" جملة مستأنفة لبيان حكم من أحكام الحرم وهو أن من دخله كان آمناً، وبه استدل من قال: إن من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه حد من الحدود فإنه لا يقام عليه الحد حتى يخرج منه، وهو قول أبي حنيفة ومن تابعه، وخالفه الجمهور فقالوا: تقام عليه الحدود في الحرم. وقد قال جماعة: إن الآية خبر في معنى الأمر: أي ومن دخله فأمنوه كقوله "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال" أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. قوله "ولله على الناس حج البيت" اللام في قوله "لله" هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف "على" فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب، كما إذا قال القائل لفلان علي كذا، فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد. وقوله "من استطاع إليه سبيلاً" في محل جر على أنه بدل بعض من الناس. وبه قال أكثر النحويين. وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بحج. والتقدير: أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، وقيل: إن من حرف شرط، والجزاء محذوف: أي من استطاع إليه سبيلاً فعليه الحج. وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي؟ فقيل: الزاد والراحلة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم وهو الحق. قال مالك: إن الرجل إذا وثق بقوته لزمه الحج وإن لم يكن له زاد وراحلة إذا كان يقدر على التكسب، وبه قال عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة. وقال الضحاك: إن كان شاباً قوياً صحيحاً وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه، ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولاً أولياً أن تكون الطريق إلى الحج آمنة، بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زاداً غيره، أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة، لأن الله سبحانه يقول "من استطاع إليه سبيلاً" وهذا الخائف على نفسه أو ماله لم يستطع إليه سبيلاً بلا شك ولا شبهة. وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه ولا يجحف بزاد الحج، فقال الشافعي: لا يعطي حبة، ويسقط عنه فرض الحج ووافقه جماعة وخالفه آخرون. والظاهر أن من تمكن من الزاد والراحلة وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها ولو بمصانعة بعض الظلمة لدفع شيء من المال يتمكن به الحاج ولا ينقص من زاده ولا يجحف به، فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال، ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما تتوقف عليه الاستطاعة، فلو وجد الرجل زاداً وراحلة ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلاً وهذا لا بد منه، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون، ولعل وجه قول الشافعي إنه سقط الحج أن أخذ هذا المكس منكر فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر، وأنه بذلك غير مستطيع. ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب، فلو كان زمناً بحيث لا يقدر على المشي ولا على الركوب فهذا وإن وجد الزاد والراحلة فهو لم يستطع السبيل. قوله "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين" قيل: إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه، وقيل المعنى: ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجباً، وقيل: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر. وفي قوله "فإن الله غني عن العالمين" من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة وخذلانه وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ويرجف له قلبه، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم، وهو تعالى شأنه وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله "إن أول بيت" الآية، قال: كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة". وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، قال: "خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان إذ كان عرشه على الماء زبدة بيضاء، وكانت الأرض تحته كأنها حشفة فدحيت الأرض من تحته". وأخرج نحوه ابن المنذر عن أبي هريرة. وأخرج ابن المنذر والأزرقي عن ابن جريج قال: بلغنا أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء، ولأنه في الأرض المقدسة، فقال المسلمون: بل الكعبة أعظم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت "إن أول بيت" الآية إلى قوله "فيه آيات بينات مقام إبراهيم" وليس ذلك في بيت المقدس "ومن دخله كان آمناً" وليس ذلك في بيت المقدس "ولله على الناس حج البيت" وليس ذلك في بيت المقدس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن الزبير قال: إنما سميت بكة لأن الناس يجيئون إليها من كل جانب حجاجاً. وروى سعيد بن منصور وابن جرير والبيهقي عن مجاهد: إنما سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها: أي يزدحمون. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل ابن حبان في قوله "مباركاً" قال: جعل فيه الخير والبركة "وهدى للعالمين" يعني: بالهدى قبلتهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس "فيه آيات بينات" فمنهن مقام إبراهيم والمشعر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله "فيه آيات بينات" قال: مقام إبراهيم "ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت". وأخرج الأزرقي عن زيد بن أسلم نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله "ومن دخله كان آمناً" قال: كان هذا في الجاهلية، كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يطلب، فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، من سرق فيه تقطع، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد، ومن قتل فيه قتل. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والأزرقي عن عمر بن الخطاب قال: لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ومن دخله كان آمناً" قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى فإذا خرج أخذ بذنبه. وقد روي عنه هذا المعنى من طرق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال: لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أعرض له. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال: لو وجدت قاتل أبي في الحرم ما هجته. وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي شريح العدوي قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح فقال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما اذن لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها أمس". وأخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله "من استطاع إليه سبيلاً" فقيل: ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة". وأخرج الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر مرفوعاً: أنه قام رجل فقال: ما السبيل؟ فقال: الزاد والراحلة. وأخرج الدارقطني والبيهقي في سننهما من طريق الحسن عن أمه عن عائشة قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السبيل إلى الحج؟ قال: الزاد والراحلة". وأخرج الدارقطني في سننه عن ابن مسعود مرفوعاً مثله. وأخرج الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً مثله. وأخرج الدارقطني عن جابر مرفوعاً مثله. وقد روي هذا الحديث من طرق أقل أحواله أن يكون حسناً لغيره فلا يضره ما وقع من الكلام على بعض طرقه كما هو معروف. وأخرج الدارقطني عن علي مرفوعاً في الآية: "أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تجد ظهر بعير". وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عمر بن الخطاب في قوله "من استطاع إليه سبيلاً" قال: الزاد والراحلة. وأخرجا عن ابن عباس مثله. وأخرجه عنه مرفوعاً ابن ماجه والطبراني وابن مردويه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عنه قال: السبيل أن يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عنه قال "سبيلاً" من وجد إليه سعة ولم يحل بينه وبينه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن الزبير قال: الاستطاعة القوة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن النخعي قال: إن المحرم للمرأة من السبيل الذي قال الله. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي للمرأة أن تسافر بغير ذي محرم. واختلفت الأحاديث في قدر المدة، ففي لفظ ثلاثة أيام، وفي لفظ يوم وليلة، وفي لفظ بريد. وقد وردت أحاديث في تشديد الوعيد على من ملك زاداً وراحلة ولم يحج. فأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج بيت الله فلا عليه بأن يموت يهودياً أو نصرانياً". وذلك بأن الله يقول "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين". وفي إسناده هلال الخراساني أبو هاشم. قال البخاري: منكر الحديث. وقيل: مجهول. وقال ابن عدي: هذا الحديث ليس بمحظوظ وفي إسناده أيضاً الحارث الأعور وفيه ضعف. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في كتاب الإيمان وأبو يعلى والبيهقي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً". وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سابط مرفوعاً مرسلاً مثله. وأخرج سعيد بن منصور، قال السيوطي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين. وأخرج الإسماعيلي عنه يقول: "من أطاق الحج ولم يحج فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً" قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده: وهذا إسناد صحيح. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة عنه نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر "من مات وهو موسر ولم يحج جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب كافر". وأخرج سعيد بن منصور عنه "من وجد إلى الحج سبيلاً سنة ثم سنة ثم سنة ثم مات ولم يحج لم يصل عليه ولا يدرى مات يهودياً أو نصرانياً". وأخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب قال: لو ترك الناس الحج لقتالتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ومن كفر فإن الله غني" قال: من زعم أنه ليس بفرض عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية قال: من كفر بالحج فلم ير حجه براً ولا تركه مأثماً. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عكرمة قال:" لما نزلت "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً" قالت اليهود: فنحن مسلمون، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله فرض على المسلمين حج البيت، فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا، قال الله "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك قال: "لما نزلت آية الحج "ولله على الناس حج البيت" الآية، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال: إن الله فرض عليكم الحج فحجوا البيت فلم يقبله إلا المسلمون، وكفرت به خمس ملل، قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله، فأنزل الله "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"". وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في سننه عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي داود نفيع قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولله على الناس حج البيت" الآية فقام رجل من هذيل فقال: يا رسول الله من تركه كفر؟ فقال: من تركه لا يخاف عقوبته، ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك". وأخرج ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح في الآية قال: من كفر بالبيت. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقول الله "ومن كفر" قال: من كفر بالله واليوم الآخر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد مثله من قوله. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه سئل عن ذلك، فقرأ "إن أول بيت وضع للناس" إلى قوله "سبيلاً" ثم قال "ومن كفر" بهذه الآيات. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود في الآية قال "ومن كفر" فلم يؤمن به: فهو الكافر.
قوله 98- "قل يا أهل الكتاب" خطاب لليهود والنصارى، والاستفهام في قوله "لم تكفرون" للإنكار والتوبيخ. وقوله "والله شهيد على ما تعملون" جملة حالية مؤكدة للتوبيخ والإنكار، وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في شهيد يفيد مزيد التشديد والتهويل.
والاستفهام في قوله 99- "لم تصدون" يفيد ما أفاده الاستفهام الأول. وقرأ الحسن "تصدون" من أصد، وهما لغتان: مثل صد اللحم وأصد: إذا تغير وأنتن، وسبيل الله دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو دين الإسلام، والعوج: الميل والزيغ، يقال: عوج بالكسر إذا كان في الدين والقول والعمل، وبالفتح في الأجسام كالجدار ونحوه، روي ذلك عن أبي عبيدة وغيره، ومحل قوله "يبغونها عوجاً" النصب على الحال. والمعنى: تطلبون لها اعوجاجاً وميلاً عن القصد والاستقامة بإبهامكم على الناس بأنها كذلك تثقيفاً لتحريفكم وتقويماً لدعاويكم الباطلة. وقوله "وأنتم شهداء" جملة حالية: أي كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، وأن فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد "وأنتم شهداء" أي: عقلاء، وقيل: المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم مقبولون عندهم، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم؟ ثم توعدهم سبحانه بقوله "وما الله بغافل عما تعملون".
ثم خاطب سبحانه المؤمنين محذراً لهم عن طاعة اليهود والنصارى مبيناً لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بعد إيمانهم كافرين، وسيأتي بيان سبب نزول الآية. 100- " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ".