تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 78 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 78

 {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَٰلِدَٰنِ وَٱلاٌّقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَٰلِدَٰنِ وَٱلاٌّقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَـٰفاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }، لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَٰلِدَٰنِ وَٱلاٌّقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَٰلِدَٰنِ وَٱلاٌّقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً لم يبيّن هنا قدر هذا النصيب الذي هو للرجال والنساء مما ترك الوالدان والأقربون ، ولكنه بيّنه في آيات المواريث كقوله : {يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ} ، وقوله في خاتمة هذه السورة الكريمة : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ} .
{يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِىۤ أَوْلَـٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلاٍّنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلاًّبَوَيْهِ لِكُلِّ وَٰحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاٌّمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلاٌّمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
، يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِىۤ أَوْلَـٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلاٍّنْثَيَيْنِ لم يبيّن هنا حكمة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث مع أنهما سواء في القرابة . ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر وهو قوله تعالىٰ : {ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ} ؛ لأن القائم على غيره المنفق ماله عليه مترقب للنقص دائمًا ، والمقوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائمًا ، والحكمة في إيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة جبرًا لنقصة المترقبة ظاهرة جدًا .
{فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ} ، صرّح تعالىٰ في هذه الآية الكريمة بأن البنات إن كن ثلاثًا فصاعدًا ، فلهن الثلثان وقوله : {فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ} يوهم أن الاثنتين ليستا كذلك ، وصرّح بأن الواحدة لها النصف ، ويفهم منه أن الاثنتين ليستا كذلك أيضًا ، وعليه ففي دلالة الآية على قدر ميراث البنتين إجمال .
وقد أشار تعالىٰ في موضعين إلى أن هذا الظرف لا مفهوم مخالفة له ، وأن للبنتين الثلثين أيضًا .
الأول قوله تعالىٰ : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلاْنْثَيَيْنِ} ، إذ الذكر يرث مع الواحدة الثلثين بلا نزاع ، فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة ، وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ لأن الثلثين ليسا بحظ لهما أصلاً ، لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع ، إذ ما من صورة يجتمع فيها الابنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان ، فتعين أن تكون صورة انفرادهما عن الذكر . واعتراض بعضهم هذا الاستدلال بلزوم الدور قائلاً : إن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة تتوقف على معرفة حظ الأنثيين ؛ لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثتين ، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور ساقط ؛ لأن المستخرج هو الحظ المعين للأنثيين وهو الثلثان ، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقًا ، فلا دور لانفكاك الجهة ، واعترضه بعضهم أيضًا بأن للابن مع البنتين النصف ، فيدل على أن فرضهما النصف ، ويؤيد الأول أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إن انفردتا عنه ، استحقتا أكثر من ذلك ؛ لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف ، بعدما كانت معه تأخذ الثلث ، ويزيده إيضاحًا أن البنت تأخذ مع الابن الذكر الثلث بلا نزاع ، فلأن تأخذه مع الابنة الأنثى أولى .
فبهذا يظهر أنه جلّ وعلا ، أشار إلى ميراث البنتين بقوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلاْنْثَيَيْنِ} ، كما بيّنا ، ثم ذكر حكم الجماعة من البنات ، وحكم الواحدة منهنّ بقوله : {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنّصْفُ} ، ومما يزيده إيضاحًا ، أنه تعالىٰ فرعه عليه بالفاء في قوله : {فَإِن كُنَّ} ، إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها كما هو ظاهر .
الموضع الثاني : هو قوله تعالىٰ في الأختين : {فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} ؛ لأن البنت أمس رحمًا ، وأقوى سببًا في الميراث من الأخت بلا نزاع .
فإذا صرح تعالىٰ : بأن للأختين الثلثين ، علم أن البنتين كذلك من باب أولى ، وأكثر العلماء على أن فحوى الخطاب ، أعني : مفهوم الموافقة الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق ، من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل القياس ، خلافًا للشافعي وقوم ، كما علم في الأصول فاللَّه تبارك وتعالىٰ لمّا بيّن أن للأختين الثلثين ، أفهم بذلك أن البنتين كذلك من باب أولى .
وكذلك لما صرح أن لما زاد على الاثنتين من البنات الثلثين فقط ، ولم يذكر حكم ما زاد على الاثنتين من الأخوات ، أفهم أيضًا من باب أولى أنه ليس لما زاد من الأخوات غير الثلثين ؛ لأنه لما لم يعط للبنات علم أنه لا تستحقه الأخوات ، فالمسكوت عنه في الأمرين أولى بالحكم من المنطوق به ، وهو دليل على أنه قصد أخذه منه ، ويزيد ما ذكرنا إيضاحًا ما أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، عن جابر رضي اللَّه عنه ، قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول اللَّه ، هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أُحد ، وإن عمهما أخذ مالهما ، ولم يدع لهما مالاً ، ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال صلى الله عليه وسلم : « يقضي اللَّه تعالىٰ في ذلك » ، فنزلت آية الميراث فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عمهما ، فقال : « اعط ابنتي سعد الثلثين ، واعط أمهما الثمن ، وما بقي فهو لك » .
وما روى عن ابن عباس ، رضي اللَّه عنهما ، من أنه قال : للبنتين النصف ؛ لأن اللَّه تعالىٰ ، قال : {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، فصرح بأن الثلثين إنما هما لما فوق الاثنتين فيه أمور .
الأول : أنه مردود بمثله ؛ لأن اللَّه قال أيضًا : {وَإِن كَانَتْ وٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنّصْفُ} ، فصرح بأن النصف للواحدة جاعلاً كونها واحدة شرطًا معلقًا عليه فرض النصف .
وقد تقرر في الأصول أن المفاهيم إذا تعارضت قدم الأقوى منها ، ومعلوم أن مفهوم الشرط أقوى من مفهوم الظرف ؛ لأن مفهوم الشرط لم يقدم عليه من المفاهيم ، إلا ما قال فيه بعض العلماء : إنه منطوق لا مفهوم وهو النفي والإثبات ، وإنما من صيغ الحصر والغاية ، وغير هذا يقدم عليه مفهوم الشرط ، قال في « مراقي السعود » مبينًا مراتب مفهوم المخالفة : أعلاه لا يرشد إلا العلما فما لمنطوق بضعف انتمى
فالشرط فالوصف الذي يناسب فمطلق الوصف الذي يقارب
فعدد ثمت تقديم يلي وهو حجة على النهج الجلي

وقال صاحب « جمع الجوامع » ما نصه : مسألة الغاية قيل : منطوق والحق مفهوم يتلوه الشرط ، فالصفة المناسبة ، فمطلق الصفة غير العدد ، فالعدد ، فتقديم المعمول إلخ .
وبهذا تعلم أن مفهوم الشرط في قوله : {وَإِن كَانَتْ وٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنّصْفُ} ، أقوى من مفهوم الظرف في قوله : {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ} .
الثاني : دلالة الآيات المتقدمة على أن للبنتين الثلثين .
الثالث : تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث جابر المذكور آنفًا .
الرابع : أنه روي عن ابن عباس الرجوع عن ذلك .
قال الألوسي في « تفسيره » ما نصه : وفي « شرح الينبوع » نقلاً عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في « شرح فرائض الوسيط » : صح رجوع ابن عباس ، رضي اللَّه عنهما ، عن ذلك فصار إجماعًا .ا هـ منه بلفظه . تنبيهــان
الأول : ما ذكره بعض العلماء وجزم به الألوسي في « تفسيره » من أن المفهوم في قوله : {وَإِن كَانَتْ وٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنّصْفُ} ، مفهوم عدد غلط . والتحقيق هو ما ذكرنا من أنه مفهوم شرط ، وهو أقوى من مفهوم العدد بدرجات كما رأيت فيما تقدم .
قال في « نشر البنود على مراقي السعود » في شرح قوله : وهو ظرف علة وعدد ومنه شرط غاية تعتمد

ما نصه : والمراد بمفهوم الشرط ما فهم من تعليق حكم على شىء بأداة شرط كإن وإذا ، وقال في شرح هذا البيت أيضًا قبل هذا ما نصه : ومنها الشرط نحو : {وَإِن كُنَّ أُوْلَـٰتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ} ، مفهوم انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط ، أي : فغير أولات حمل لا يجب الإنفاق عليهن ونحو من تطهر صحت صلاته .اهـ منه بلفظه .
فكذلك قوله : {وَإِن كَانَتْ وٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنّصْفُ} ، علق فيه فرض النصف على شرط هو كون البنت واحدة ، ومفهومه أنه إن انتفى الشرط الذي هو كونها واحدة انتفى المشروط الذي هو فرض النصف كما هو ظاهر ، فإن قيل : كذلك المفهوم في قوله : {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ} ؛ لتعليقه بالشرط فالجواب من وجهين :
الأول : أن حقيقة الشرط كونهن نساء . وقوله فوق اثنتين وصف زائد ، وكونها واحدة هو نفس الشرط لا وصف زائد ، وقد عرفت تقديم مفهوم الشرط على مفهوم الصفة ظرفًا كانت أو غيره .
الثاني : أنا لو سلمنا جدليًا أنه مفهوم شرط لتساقط المفهومان لاستوائهما ويطلب الدليل من خارج ، وقد ذكرنا الأدلة على كون البنتين ترثان الثلثين كما تقدم .
الثاني : إن قيل : فما الفائدة في لفظة {فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ} إذا كانت الاثنتان كذلك ؟ فالجواب من وجهين :
الأول : هو ما ذكرنا من أن حكم الاثنتين أخذ من قوله قبله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلاْنْثَيَيْنِ} ، كما تقدم وإذن قوله : {فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ} ، تنصيص على حكم الثلاث فصاعدًا كما تقدم .
الثاني : أن لفظة فوق ذكرت لإفادة أن البنات لا يزدن على الثلثين ولو بلغ عددهن ما بلغ .
وأما ادعاء أن لفظة فوق زائدة وادعاء أن فوق اثنتين معناه اثنتان فما فوقهما فكله ظاهر السقوط كما ترى ، والقرءَان ينزه عن مثله وإن قال به جماعة من أهل العلم .