تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 80 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 80

 {وَٱللَـٰتِى يَأْتِينَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ فَأاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً * إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَـٰلَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَـٰتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ ٱلاٌّنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً * وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَـٰقاً غَلِيظاً }
، فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً لم يبيّن هنا هل جعل لهن سبيلاً أو لا ؟ ولكنه بيّن في مواضع أُخر أنه جعل لهن السبيل بالحد كقوله في البكر : {تَذَكَّرُونَ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَ} ، وقوله في الثيب : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من اللَّه واللَّه عزيز حكيم ) ؛ لأن هذه الآية باقية الحكم كما صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وأرضاه وإن كانت منسوخة التلاوة .
وروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن حكم الرجم مأخوذ أيضًا من آية أخرى محكمة غير منسوخة التلاوة ، وهي قوله تعالىٰ : {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَـٰبِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم} ، فإنها نزلت في اليهودي واليهودية اللذين زنيا وهما محصنان ورجمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذمه تعالىٰ في هذا الكتاب للمعرض عما في التوراة من رجم الزاني المحصن ، دليل قرءَاني واضح على بقاء حكم الرجم ، ويوضح ما ذكرنا من أنه تعالىٰ جعل لهن السبيل بالحد ، قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : « خذوا عني ، قد جعل اللَّه لهن سبيلاً » الحديث .
{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَـٰحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً }
، وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ نهى اللَّه تعالىٰ في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب ، ولم يبيّن ما المراد بنكاح الأب هل هو العقد أو الوطء ، ولكنّه بيّن في موضع آخر أن اسم النكاح يطلق على العقد وحده ، وإن لم يحصل مسيس وذلك في قوله تعالىٰ : {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} ، فصرح بأنه نكاح وأنه لا مسيس فيه .
وقد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه ، وإن لم يمسها الأب ، وكذلك عقد الابن محرّم على الأب إجماعًا ، وإن لم يمسها وقد أطلق تعالىٰ النكاح في آية أخرى مريدًا به الجماع بعد العقد ، وذلك في قوله : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ؛ لأن المراد بالنكاح هنا ليس مجرد العقد ، بل لا بد معه من الوطء ، كما قال صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي : « لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » ، يعني الجماع ولا عبرة بما يروى من المخالفة عن سعيد بن المسيِّب ؛ لوضوح النص الصريح الصحيح في عين المسألة .
ومن هنا قال بعض العلماء لفظ النكاح مشترك بين العقد والجماع ، وقال بعضهم هو حقيقة في الجماع مجاز في العقد ؛ لأنه سببه وقال بعضهم بالعكس .
تنبيــه
قال بعض العلماء : إن لفظة {مَ} من قوله : {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} ، مصدرية وعليه فقوله من النساء متعلق بقوله : {تَنكِحُو} ، لا بقوله نكح ، وتقرير المعنى على هذا القول ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم ، أي : لا تفعلوا ما كان يفعله آباؤكم من النكاح الفاسد ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، والذي يظهر وجزم به غير واحد من المحققين أن {مَ} موصولة واقعة على النساء التي نكحها الآباء ، كقوله تعالىٰ : {فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء} ، وقد قدمنا وجه ذلك ؛ لأنهم كانوا ينكحون نساء آبائهم كما يدل له سبب النزول ، فقد نقل ابن كثير عن أبي حاتم أن سبب نزولها أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت خطب ابنه امرأته ، فاستأذنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فقال : « ارجعي إلى بيتك » ، فنزلت : {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} .
قال مقيّده عفا اللَّه عنه : نكاح زوجات الآباء كان معروفًا عند العرب ، وممن فعل ذلك أبو قيس بن الأسلت المذكور ، فقد تزوج أم عبيد اللَّه وكانت تحت الأسلت إبيه ، وتزوج الأسود بن خلف ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وكانت تحت أبيه خلف ، وتزوج صفوان بن أمية فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد ، وكانت تحت أبيه أمية ، كما نقله ابن جرير عن عكرمة قائلاً إنه سبب نزول الآية ، وتزوج عمرو بن أمية زوجة أبيه بعده ، فولدت له مسافرًا وأبا معيط ، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره ، فكانوا إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما ، وتزوج منظور بن زبان بن سيار الفزاري زوجة أبيه مليكة بنت خارجة ، كما نقله القرطبي وغيره ومليكة هذه هي التي قال فيها منظور المذكور بعد أن فسخ نكاحها منه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه : ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهر إذا منعت مني مليكة والخمر
فإن تك قد أمست بعيدًا مزارها فحيّ ابنة المري ما طلع الفجر

وأشار إلى تزويج منظور هذا زوجة أبيه ناظم عمود النسب ،
بقوله في ذكر مشاهير فزارة : منظور الناكح مقتًا وحلف خمسين ما له على منع وقف

وقوله : وحلف إلخ .
قال شارحه : إن معناه أن عمر بن الخطاب حلفه خمسين يمينًا بعد العصر في المسجد أنه لم يبلغه نسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من نكاح أزواج الآباء ، وذكر السهيلي وغيره أن كنانة بن خزيمة تزوج زوجة أبيه خزيمة فولدت له النضر بن كنانة ، قال : وقد قال صلى الله عليه وسلم : « ولدت من نكاح لا من سفاح » ، فدلّ على أن ذلك كان سائغًا لهم .
قال ابن كثير وفيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر ، وأشار إلى تضعيف ما ذكره السهيلي ناظم عمود النسب بقوله : وهند بنت مر أم حارثة شخيصة وأم عنز ثالثة
برة أختها عليها خلفا كنانة خزيمة وضعفا
أختهما عاتكة ونسلها عذرة التي الهوى يقتلها

وذكر شارحه أن الذي ضعف ذلك هو السهيلي نفسه ، خلافًا لظاهر كلام ابن كثير ومعنى الأبيات أن هند بنت مر أخت تميم بن مر بن أدبن طابخة بن إلياس هي أم ثلاثة من أولاد وائل بن قاسط وهم الحٰرث وشخيص وعنز ، وأن أختها برة بنت مر كانت زوجة خزيمة بن مدركة ، فتزوجها بعد ابنه كنانة ، وأن ذلك مضعف ، وأن أختهما عاتكة بنت مر هي أم عذرة أبي القبيلة المشهورة بأن الهوى يقتلها ، وقد كان من مختلقات العرب في الجاهلية إرث الأقارب أزواج أقاربهم ، كان الرجل منهم إذا مات وألقى ابنه أو أخوه مثلاً ثوبًا على زوجته ورثها وصار أحق بها من نفسها ، إن شاء نكحها بلا مهر وإن شاء أنكحها غيره وأخذ مهرها ، وإن شاء عضلها حتى تفتدي منه ، إلى أن نهاهم اللَّه عن ذلك بقوله : {أَلِيماً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْه} ، وأشار إلى هذا ناظم عمود النسب بقوله : القول فيما اختلفوا واخترقوا ولم يقد إليه إلا النزق

ثم شرع يعدد مختلقاتهم ، إلى أن قال : وأن من ألقى على زوج أبيه ونحوه بعد التوى ثوبًا يريه
أولى بها من نفسها إن شاء نكح أو أنكح أو أساء
بالعضل كي يرثها أو تفتدى ومهرها في النكحتين للردى

وأظهر الأقوال في قوله تعالىٰ : {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ، أن الاستثناء منقطع ، أي لكن ما مضى من ارتكاب هذا الفعل قبل التحريم فهو معفو عنه كما تقدم ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ .