تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 81 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 81

 {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ وَبَنَـٰتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّـٰتُكُمْ وَخَـٰلَـٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلاٌّخِ وَبَنَاتُ ٱلاٍّخْتِ وَأُمَّهَـٰتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَـٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ ٱللَّـٰتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱللَّـٰتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلاٍّخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }
، وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ يفهم منه أن حليلة دعيه الذي تبناه لا تحرم عليه ، وهذا المفهوم صرّح به تعالىٰ في قوله : {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَـٰكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَر} ، وقوله : {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوٰهِكُمْ} ، وقوله : {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} .
أما تحريم منكوحة الابن من الرضاع فهو مأخوذ من دليل خارج وهو تصريحه صلى الله عليه وسلم بأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، والعلم عند اللَّه تعالىٰ .
{وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ اعلم أولاً أن لفظ المحصنات أطلق في القرءان ثلاثة إطلاقات :
الأول : المحصنات العفائف ، ومنه قوله تعالىٰ : {مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ} ، أي عفائف غير زانيات .
الثاني : المحصنات الحراير ، ومنه قوله تعالىٰ : {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ} ، أي على الإماء نصف ما على الحرائر من الجلد .
الثالث : أن يراد بالإحصان التزوج ، ومنه على التحقيق قوله تعالىٰ : {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـٰحِشَةٍ} الآية ، أي : فإذا تزوجن . وقول من قال من العلماء : إن المراد بالإحصان في قوله : {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ، الإسلام خلاف الظاهر من سياق الآية ؛ لأن سياق الآية في الفتيات المؤمنات حيث قال : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْل} .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصّه : والأظهر واللَّه أعلم أن المراد بالإحصان ها هنا التزويج ؛ لأن سياق الآية يدلّ عليه حيث يقول سبحانه وتعالىٰ : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ}، واللَّه أعلم . والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ، أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره . اهـ محل الغرض منه بلفظه .
فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالىٰ : {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ} ، أوجه من التفسير هي أقوال للعلماء ، والقرءان يفهم منه ترجيح واحد معيّن منها .
قال بعض العلماء : المراد بالمحصنات هنا أعم من العفائف والحرائر والمتزوجات ، أي حرّمت عليكم جميع النساء إلا ما ملكت أيمانكم بعقد صحيح أو ملك شرعي بالرق ، فمعنى الآية على هذا القول تحريم النساء كلهن إلا بنكاح صحيح أو تَسَرٍّ شرعي ، وإلى هذا القول ذهب سعيد بن جبير وعطاء والسدي ، وحكي عن بعض الصحابة واختاره مالك في «الموطأ».
وقال بعض العلماء : المراد بالمحصنات في الآية الحرائر ، وعليه فالمعنى وحرمت عليكم الحرائر غير الأربع ، وأحلّ لكم ما ملكت أيمانكم من الإماء ، وعليه فالاستثناء منقطع .
وقال بعض العلماء : المراد بالمحصنات : المتزوجات ، وعليه فمعنى الآية وحرّمت عليكم المتزوجات ؛ لأن ذات الزوج لا تحل لغيره إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار ، فإن السبي يرفع حكم الزوجية الأولى في الكفر وهذا القول هو الصحيح ، وهو الذي يدلّ القرءان لصحته ؛ لأن القول الأول فيه حمل ملك اليمين على ما يشمل ملك النكاح ، وملك اليمين لم يرد في القرءان إلا بمعنى الملك بالرق ، كقوله : {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُم مّن فَتَيَـٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ}، وقوله : {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء ٱللَّهُ عَلَيْكَ} ، وقوله : {وَٱلصَّـٰحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ} ، وقوله : {وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ} ، في الموضعين ، فجعل ملك اليمين قسمًا آخر غير الزوجية . وقوله : {وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـٰبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ} ، فهذه الآيات تدل على أن المراد بما ملكت أيمانكم الإماء دون المنكوحات كما هو ظاهر ، وكذلك الوجه الثاني غير ظاهر ؛ لأن المعنى عليه : وحرّمت عليكم الحرائر إلا ما ملكت أيمانكم ، وهذا خلاف الظاهر من معنى لفظ الآية كما ترى .
وصرّح ابن القيم ، بأن هذا القول مردود لفظًا ومعنى ، فظهر أن سياق الآية يدلّ على المعنى الذي اخترنا ، كما دلّت عليه الآيات الأخر التي ذكرنا ، ويؤيده سبب النزول ؛ لأن سبب نزولها كما أخرجه مسلم في «صحيحه» والإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال : أصبنا سبيًا من سبي أوطاس ولهنّ أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ} ، فاستحللنا فروجهن .
وروى الطبراني عن ابن عباس أنها نزلت في سبايا خيبر ، ونظير هذا التفسير الصحيح
قول الفرزدق : وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق

تنبيــه
فإن قيل : عموم قوله تعالىٰ : {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ} ، لا يختص بالمسبيات ، بل ظاهر هذا العموم أن كل أمة متزوجة إذا ملكها رجل آخر فهي تحل له بملك اليمين ويرتفع حكم الزوجية بذلك الملك ، والآية وإن نزلت في خصوص المسبيات كما ذكرنا ، فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، فالجواب : أن جماعة من السلف قالوا بظاهر هذا العموم فحكموا بأن بيع الأمة مثلاً يكون طلاقًا لها من زوجها أخذًا بعموم هذه الآية ، ويروى هذا القول عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وأُبي بن كعب ، وجابر بن عبد اللَّه ، وسعيد بن المسيِّب ، والحسن ومعمر ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره ، ولكن التحقيق في هذه المسألة هو ما ذكرنا من اختصاص هذا الحكم بالمسبيات دون غيرها من المملوكات بسبب آخر غير السبي ، كالبيع مثلاً وليس من تخصيص العام بصورة سببه . وأوضح دليل في ذلك قصة بريرة المشهورة مع زوجها مغيث .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية بعد ذكره أقوال الجماعة التي ذكرنا في أن البيع طلاق ، ما نصه : وقد خالفهم الجمهور قديمًا وحديثًا ، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقًا لها ؛ لأن المشتري نائب عن البائع ، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة ، وباعها مسلوبة عنه ، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في «الصحيحين» وغيرهما ، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ، بل خيّرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة ، فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ، ما خيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما خيّرها دلّ على بقاء النكاح ، وأن المراد من الآية المسبيات فقط ، واللَّه أعلم . اهـ ـ منه لفظه .
فإن قيل : إن كان المشتري امرأة لم ينفسخ النكاح ؛ لأنها لا تملك الاستمتاع ببضع الأمة ، بخلاف الرجل ، وملك اليمين أقوى من ملك النكاح ، كما قال بهذا جماعة ، ولا يرد على هذا القول حديث بريرة ، فالجواب هو ما حرره ابن القيّم ، وهو أنها إن لم تملك الاستمتاع ببضع أمتها ، فهي تملك المعاوضة عليه وتزويجها وأخذ مهرها ، وذلك كملك الرجل وإن لم تستمتع بالبضع ، فإذا حققت ذلك ، علمت أن التحقيق في معنى الآية وحرمت عليكم {ٱلْمُحْصَنَـٰتِ} أي المتزوجات ، {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ} بالسبي من الكفار ، فلا منع في وطئهن بملك اليمين بعد الاستبراء ، لانهدام الزوجية الأولى بالسبي كما قررنا ، وكانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي اللَّه عنها متزوجة برجل اسمه مسافع ، فسبيت في غزوة بني المصطلق وقصتها معروفة . قال ناظم قرة الأبصار في جويرية رضي اطللَّه عنها : وقد سباها في غزاة المصطلق من بعلها مسافع بالمنزلق

ومراده بالمنزلق السيف ، ثم إن العلماء اختلفوا في السبي ، هل يبطل حكم الزوجية الأولى مطلقًا ولو سبي الزوج معها ، وهو ظاهر الآية أو لا يبطله إلا إذا سبيت وحدها دونه ؟ فإن سبي معها فحكم الزوجية باق ، وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب أحمد والعلم عند اللَّه تعالىٰ .
{فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، يعني : كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فاعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك ، وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب اللَّه كقوله تعالىٰ :
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ} ، فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملاً ، هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله : {فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} ، وقوله : {وَءاتُواْ ٱلنّسَاء صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً} ، وقوله : {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئً} . فالآية في عقد النكاح ، لا في نكاح المتعة كما قال به من لا يعلم معناها ، فإن قيل التعبير بلفظ الأجور يدل على أن المقصود الأجرة في نكاح المتعة ؛ لأن الصداق لا يسمى أجرًا ، فالجواب أن القرءان جاء في تسمية الصداق أجرًا في موضع لا نزاع فيه ؛ لأن الصداق لما كان في مقابلة الاستمتاع بالزوجة كما صرّح به تعالىٰ في قوله : {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} ، صار له شبه قوي بأثمان المنافع فسمي أجرًا ، وذلك الموضع هو قوله تعالىٰ : {فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، أي : مهورهن بلا نزاع ، ومثله قوله تعالىٰ : {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}. أي : مهورهن فاتّضح أن الآية في النكاح لا في نكاح المتعة ، فإن قيل : كان ابن عباس وأُبي بن كعب ، وسعيد بن جبير ، والسدي يقرأون: {فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} إلى أجل مسمى ، وهذا يدلّ على أن الآية في نكاح المتعة ، فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قولهم إلى أجل مسمى لم يثبت قرءانًا ؛ لإجماع الصحابة على عدم كتبه في المصاحف العثمانية ، وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرءان ، ولم يثبت كونه قرءانًا لا يستدل به على شىء ؛ لأنه باطل من أصله ؛ لأنه لما لم ينقله إلا على أنه قرءان فبطل كونه قرءانًا ظهر بطلانه من أصله .
الثاني : أنا لو مشينا على أنه يحتج به ، كالاحتجاج بخبر الآحاد كما قال به قوم ، أو على أنه تفسير منهم للآية بذلك ، فهو معارض بأقوى منه ؛ لأن جمهور العلماء على خلافه ؛ ولأن الأحاديث الصحيحة الصريحة قاطعة بكثرة بتحريم نكاح المتعة ، وصرح صلى الله عليه وسلم بأن ذلك التحريم دائم إلى يوم القيامة ، كما ثبت في « صحيح» مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني رضي اللَّه عنه أنه غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة .
فقال : « يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع في النساء ، وإن اللَّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهنّ شىء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا » .
وفي رواية لمسلم في حجة الوداع : ولا تعارض في ذلك ؛ لإمكان أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك يوم فتح مكة ، وفي حجة الوداع أيضًا والجمع واجب إذا أمكن ، كما تقرر في علم الأصول وعلوم الحديث .
الثالث : أّنا لو سلمنا تسليمًا جدليًا أن الآية تدلّ على إباحة نكاح المتعة فإن إباحتها منسوخة كما صح نسخ ذلك في الأحاديث المتفق عليها عنه صلى الله عليه وسلم ، وقد نسخ ذلك مرتين الأولى يوم خيبر كما ثبت في الصحيح ، والآخرة يوم فتح مكة ، كما ثبت في الصحيح أيضًا .
وقال بعض العلماء : نسخت مرة واحدة يوم الفتح ، والذي وقع في خيبر تحريم لحوم الحمر الأهلية فقط ، فظن بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف أيضًا لتحريم المتعة .
واختار هذا القول ابن القيم ، ولكن بعض الروايات الصحيحة ، صريحة في تحريم المتعة يوم خيبر أيضًا ، فالظاهر أنها حرمت مرتين كما جزم به غير واحد ، وصحت الرواية به . واللَّه تعالىٰ أعلم . الرابع : أنه تعالىٰ صرّح بأنه يجب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية في قوله تعالىٰ : {إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ} ، في الموضعين ، ثم صرّح بأن المبتغى وراء ذلك من العادين بقوله : {فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَاء ذٰلِكَ} .
ومعلوم أن المستمتع بها ليست مملوكة ولا زوجة ، فمبتغيها إذن من العادين بنص القرءان ، أما كونها غير مملوكة فواضح، وأمّاكونها غير زوجة فلانتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث ، والعدّة ، والطلاق ، والنفقة ، ولو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق ووجبت لها النفقة ، كما هو ظاهر ، فهذه الآية التي هي : {وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَاء ذٰلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ} ، صريحة في منع الاستمتاع بالنساء الذي نسخ . وسياق الآية التي نحن بصددها يدلّ دلالة واضحة على أن الآية في عقد النكاح كما بينّا لا في نكاح المتعة ، لأنه تعالىٰ ذكر المحرمات التي لا يجوز نكاحها ، بقوله تعالىٰ : {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ وَبَنَـٰتُكُمْ} الخ ...
ثم بيّن أن غير تلك المحرمات حلال بالنكاح بقوله : {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ} ، ثمّ بيّن أن من نكحتم منهن واستمتعتم بها يلزمكم أن تعطوها مهرها ، مرتبًا لذلك بالفاء على النكاح بقوله : {فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} ، كما بينّاه واضحًا والعلم عند اللَّه تعالىٰ .