تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 112 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 112

111

24- "قالوا" أي بنو إسرائيل لموسى "إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها" وكان هذا القول منهم فشلاً وجبناً أو عناداً وجرأة على الله وعلى رسوله "فاذهب أنت وربك فقاتلا" قالوا هذا جهلاً بالله عز وجل وبصفاته وكفراً بما يجب له، أو استهانة بالله ورسوله، وقيل أرادوا بالذهاب الإرادة والقصد، وقيل أرادوا بالرب هارون، وكان أكبر من موسى، وكان موسى يطيعه "إنا هاهنا قاعدون" أي لا نبرح هاهنا لا نتقدم معك ولا نتأخر عن هذا الموضع، وقيل أرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر.
25- "قال" موسى "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي" يحتمل أن يعطف وأخي على نفسي، وأن يعطف على الضمير في "إني" أي إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه، قال هذا تحسراً وتحزناً واستجلاباً للنصر من الله عز وجل "فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين" أي افصل بيننا: يعني نفسه وأخاه وبين القوم الفاسقين وميزنا عن جملتهم ولا تلحقنا بهم في العقوبة، وقيل المعنى: فاقض بيننا وبينهم، وقيل إنما أراد في الآخرة. وقرأ عبيد بن عمير "فافرق" بكسر الراء.
26- "قال فإنها" أي الأرض المقدسة "محرمة عليهم" أي على هؤلاء العصاة بسبب امتناعهم من قتال الجبارين "أربعين سنة" ظرف للتحريم: أي أنه محرم عليهم دخولها هذه المدة لا زيادة عليه، فلا يخالف هذا التحريم ما تقدم من قوله: "التي كتب الله لكم" فإنها مكتوبة لمن بقي منهم بعد هذه المدة، وقيل إنه لم يدخلها أحد ممن قال: "إنا لن ندخلها" فيكون توقيت التحريم بهذه المدة باعتبار ذراريهم، وقيل إن "أربعين سنة" ظرف لقوله: "يتيهون في الأرض" أي يتيهون هذا المقدار فيكون التحريم مطلقاً. والموقت: هو التيه، وهو في اللغة الحيرة، يقال منه: تاه يتيه تيهاً أو توهاً إذا تحير، فالمعنى: يتحيرون في الأرض، قيل إن هذه الأرض التي تاهوا فيها كانت صغيرة نحو ستة فراسخ كانوا يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وكانوا سيارة مستمرين على ذلك لا قرار لهم. واختلف أهل العلم هل كان معهم موسى وهارون أم لا؟ فقيل لم يكونا معهم، لأن التيه عقوبة، وقيل كانا معهم لكن سهل الله عليهما ذلك كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيمز وقد قيل كيف يقع هذا لجماعة من العقلاء في مثل هذه الأرض اليسيرة في هذه المدة الطويلة؟ قال أبو علي: يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا إلى المكان الذي ابتدأوا منه، وقد يكون بغير ذلك من الأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارقة للعادة. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وجعلكم ملوكاً" قال: ملكهم الخدم، وكانوا أول من ملك الخدم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار سمي ملكاً. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه في الآية قال: الزوجة والخادم والبيت. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضاً في قوله: "وجعلكم ملوكاً" قال: المرأة والخدم "وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" قال: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً". وأخرج ابن جرير والزبير بن بكار في الموقفيات عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له بيت وخادم فهو ملك". وأخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوجة ومسكن وخادم". وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأله رجل: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ قال: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: إن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "وجعلكم ملوكاً" قال: جعل لهم أزواجاً وخدماً وبيوتاً "وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين" قال: المن والسلوى والحجر والغمام. وأخرج ابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال: المن والسلوى والحجر والغمام، وقد ثبت في الحديث الصحيح: "من أصبح منكم معافى في جسده آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "ادخلوا الأرض المقدسة" قال: الطور وما حوله. وأخرج عنه أيضاً قال: هي أريحاء. وأخرج ابن عساكر عن معاذ بن جبل قال: هي ما بين العريش إلى الفرات. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: هي الشام. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: "التي كتب الله لكم" قال: التي أمركم الله بها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: أمر القوم بها كما أمرنا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين، فسار بمن معه حتى نزل قريباً من المدينة وهي أريحاء، فبعث إليهم اثني عشر عيناً من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة فرأوا أمراً عظيماً من هيئتهم وجسمهم وعظمهم، فدخلوا حائطاً لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعهم، فكلما أصاب واحداً منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة حتى التقط الإثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا اذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال: اكتموا عنا، فجعل الرجل يخبر أباه وصديقه ويقول: اكتم عني، فأشيع ذلك في عسكرهم ولم يكتم منهم إلا رجلان يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهما اللذان أنزل الله فيهما "قال رجلان من الذين يخافون". وقد روي نحو هذا مما يتضمن المبالغة في وصف هؤلاء وعظم أجسامهم، ولا فائدة في بسط ذلك فغالبه من أكاذيب القصاص كما قدمنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فافرق" يقول: اقض. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه يقول: افصل بيننا وبينهم. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "فإنها محرمة عليهم" قال: أبداً، وفي قوله: "يتيهون في الأرض" قال: أربعين سنة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تاهوا أربعين سنة، فهلك موسى وهارون في التيه، وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها وهو الذي قيل له اليوم يوم جمعة، فهموا بافتتاحها فدنت الشمس للغروب، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا، فنادى الشمس إني مأمور وأنت مأمورة فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم يرد مثله قط، فقربوه إلى النار فلم تأت، فقال فيكم الغلول، فدعا رؤوس الأسباط وهم إثنا عشر رجلاً فبايعهم والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: الغلول عندك فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ، فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلتها. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن.
ووجه اتصال هذا بما قبله التنبيه من الله على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود هو كظلم ابن آدم لأخيه، فالداء قديم، والشر أصيل. وقد اختلف أهل العلم في ابني آدم المذكورين هل هما لصلبه أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأول. وذهب الحسن والضحاك إلى الثاني، وقالا: إنهما كانا من بني إسرائيل فضرب بهما المثل في إبانة حسد اليهود، وكانت بينهما خصومة فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل. قال ابن عطية: وهذا وهم كيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب؟ قال الجمهور من الصحابة فمن بعدهم: واسمهما قابيل وهابيل، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل، لأنه كان صاحب زرع واختارها من أردأ زرعه، حتى إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها، وكان قربان هابيل كبشاً لأنه كان صاحب غنم أخذه من أجود غنمه، فتقبل قربان هابيل فرفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدى به الذبيح عليه السلام، كذا قال جماعة من السلف، ولم يتقبل قربان قابيل، فحسده وقال: لأقتلنك. وقيل سبب هذا القربان أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى، إلا شيثاً عليه السلام فإنها ولدته منفرداً، وكان آدم عليه السلام يزوج الذكر من هذا البطن بالأنثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته التي ولدت معه، فولدت مع قابيل أخت جميلة واسمها إقليما، ومع هابيل أخت ليست كذلك واسمها ليوذا فلما أراد آدم تزويجها قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على القربان وأن يتزوجها من يقبل قربانه. 27- قوله: "بالحق" متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر "واتل" أي تلاوة متلبسة بالحق، أو صفة لنبأ: أي نبأ متلبساً بالحق، والمراد بأحدهما هابيل وبالآخر قابيل، و "قال لأقتلنك" استئناف بياني كأنه فماذا قال الذي لم يتقبل قربانه؟ وقوله: "قال إنما يتقبل الله من المتقين" استئناف كالأول كأنه قيل: فماذا قال الذي تقبل قربانه؟ وإنما للحصر: أي إنما يتقبل الله القربان من المتقين لا من غيرهم، وكأنه يقول لأخيه: إنما أتيت من قبل نفسك لا من قبلي، فإن عدم تقبل قربانك بسبب عدم تقواك.
قوله: 28- "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني" أي لئن قصدت قتلي، واللام هي الموطئة، و "ما أنا بباسط" جواب القسم ساد مسد جواب الشرط، وهذا استسلام للقتل من هابيل، كما ورد في الحديث: "إذا كانت الفتنة فكن كخير ابني آدم، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية". قال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفاً وأن لا يمتنع ممن يريد قتله. قال القرطبي: قال علماؤنا: وذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعاً، وفي وجوب ذلك عليه خلاف. والأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة وكف اليد عند الشبهة على ما بيناه في كتاب التذكرة، انتهى كلام القرطبي. وحديث أبي ذر المشار إليه هو عند مسلم وأهل السنن إلا النسائي، وفيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك، قال: فإن لم أترك، قال: فأت من أنت منهم فكن فيهم، قال: فآخذ سلاحي؟ قال: إذن تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك". وفي معناه أحاديث عن جماعة من الصحابة سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى.
قوله: 29- " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار " هذا تعليل لامتناعه من المقاتلة بعد التعليل الأول وهو "إني أخاف الله رب العالمين". اختلف المفسرون في المعنى فقيل: أراد هابيل إني أريد أن تبوء بالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك، وبإثمك الذي تحملته بسبب قتلي، وقيل المراد بإثمي الذي يختص بي بسبب سيأتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي وتبوء بإثمك في قتلي. وهذا يوافق معناه معنى ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم، فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه"، ومثله قوله تعالى: "وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم" وقيل المعنى: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى: "وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم" أي أن لا تميد بكم. وقوله: "يبين الله لكم أن تضلوا" أي أن لا تضلوا. وقال أكثر العلماء: إن المعنى " إني أريد أن تبوء بإثمي " أي بإثم قتلك لي: "وإثمك" الذي قد صار عليك بذنوبك من قبل قتلي. قال الثعلبي: هذا قول عامة المفسرين وقيل هو على وجه الإنكار: أي أو إني أريد على وجه الإنكار كقوله تعالى: "وتلك نعمة" أي أو تلك نعمة. قاله القشيري، ووجهه، بأن إرادة القتل معصية. وسئل أبو الحسن بن كيسان كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار؟ فقال: وقعت الإرادة بعدما بسط يده إليه بالقتل، وهذا بعيد جداً، وكذلك الذي قبله. وأصل باء رجع إلى المباءة، وهي المنزل -وباءوا بغضب من الله- أي رجعوا.
قوله: 30- "فطوعت له نفسه قتل أخيه" أي سهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع يده سهل عليه، يقال تطوع الشيء: أي سهل وانقاد وطوعه فلان له: أي سهله. قال الهروي: طوعت وطاوعت واحد، يقال طاع له كذا: إذا أتاه طوعاً، وفي ذكر تطويع نفسه له بعدما تقدم من قول قابيل: "لأقتلنك" وقول هابيل: "لتقتلني" دليل على أن التطويع لم يكن قد حصل له عند تلك المقاولة. قوله: "فقتله". قال ابن جرير ومجاهد وغيرهما: روي أنه جهل كيف يقتل أخاه فجاءه إبليس بطائر أو حيوان غيره، فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل، وقيل غير ذلك مما يحتاج إلى تصحيح الرواية.
قوله: 31- " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوآة أخيه " قيل إنه لما قتل أخاه لم يدر كيف يواريه لكونه أول ميت مات من بني آدم، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثا عليه، فلما رآه قابيل " قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوآة أخي " فواراه، والضمير المستكن في "ليريه" للغراب، وقيل لله سبحانه، و "كيف" في محل نصب على الحال من ضمير "يواري" والجملة ثاني مفعولي يريه. والمراد بالسوأة هنا ذاته كلها لكونها ميتة، و "قال" استئناف جواب سؤال مقدر من سوق الكلام، كأنه قيل: فماذا قال عند أن شاهد الغراب يفعل ذلك؟ و "يا ويلتى" كلمة تحسر وتحزن، والألف بدل من ياء المتكلم كأنه دعا ويلته بأن تحضر في ذلك الوقت، والويلة الهلكة، والكلام خارج مخرج التعجب منه من عدم اهتدائه لمواراة أخيه كما اهتدى الغراب إلى ذلك "فأواري" بالنصب على أنه جواب الاستفهام، وقرئ بالسكون على تقدير فأنا أواري "فأصبح من النادمين" على قتله، وقيل لم يكن ندمه ندم توبة بل ندم لفقده، لا على قتله، وقيل غير ذلك. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال: "نهى أن تنكح المرأة أخاها توأمها، وأن ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي، فقال: لا، أنا أحق بأختي، فقربا قرباناً، فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض، وصاحب الحرث بصبرة من طعام فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع". قال ابن كثير في تفسيره: إسناده جيد، وكذا قال السيوطي في الدر المنثور. وأخرج ابن جرير عنه قال: كان من شأن بني آدم أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قرباناً ثم ذكرا ما قرباه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: "لئن بسطت إلي يدك" قال: كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلاً تركه ولا يمتنع منه. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يقول: إني أريد أن تكون عليك خطيئتك ودمي فتبوء بهما جميعاً. وأخرج ابن جرير عنه "بإثمي" قال: بقتلك إياي "وإثمك"، قال: بما كان منك قبل ذلك. وأخرج عن قتادة والضحاك مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "فطوعت له نفسه قتل أخيه" قال: شجعته على قتل أخيه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: زينت له نفسه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "فطوعت له نفسه قتل أخيه" فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات، فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثا عليه، فلما رآه "قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب". وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل". وقد روي في صفة قتله لأخيه روايات الله أعلم بصحتها.