سورة البقرة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 13 من المصحف
وقوله: 84- "لا تسفكون" الكلام فيه كالكلام في لا تعبدون وقد سبق. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء، وهي لغة. وقرأ أبو نهيك بضم الياء وتشديد الفاء وفتح السين والسفك: الصب، وقد تقدم، والمراد أنه لا يفعل ذلك بعضهم ببعض. والدار: المنزل الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال. وقال الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم يكن فيه أبنية، وقيل: سميت داراً لدورها على سكانها، كما يسمى الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه. وقوله: "ثم أقررتم" من الإقرار: أي حصل منكم الاعتراف بهذا الميثاق المأخوذ عليكم في حال شهادتكم على أنفسكم بذلك، قيل: الشهادة هنا بالقلوب وقيل هي بمعنى الحضور: أي أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك، وكان الله سبحانه قد أخذ في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه.
وقوله: 85- "ثم أنتم هؤلاء" أي أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية، وقيل: إن هؤلاء منصوب بإضمار أعني، ويمكن أن يقال: منصوب بالذم أو الاختصاص: أي أذم أو أخص. وقال القتيبي: إن التقدير يا هؤلاء قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز. وقال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين أي ثم أنتم الذين تقتلون. وقيل: هؤلاء مبتدأ وأنتم خبر مقدم وقرأ الزهري: تقتلون مشدداً، فمن جعل قوله: "أنتم هؤلاء" مبتدأ وخبراً جعل قوله: "تقتلون" بياناً لأن معنى قوله: "أنتم هؤلاء" أنهم على حالة كحالة أسلافهم من نقض الميثاق. ومن جعل هؤلاء منادى أو منصوباً بما ذكرنا جعل الخبر تقتلون وما بعده. وقوله: "تظاهرون" بالتشديد، وأصله تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء لقربها منها في المخرج، وهي قراءة أهل مكة. وقرأ أهل الكوفة تظاهرون مخففاً بحذف التاء الثانية، لدلالة الأولى عليها. وأصل المظاهرة المعاونة، مشتقة من الظهر لأن بعضهم يقوي بعضاً فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر: تظاهرتم من كل أوب ووجهة على واحد لا زلتم قرن واحد ومنه قوله تعالى: "وكان الكافر على ربه ظهيراً" وقوله: "والملائكة بعد ذلك ظهير". وأسارى حال. قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم فهو أسارى، وما جاء مستأسراً فهو الأسرى. ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو. وإنما هذا كما تقول سكارى وسكرى. وقد قرأ حمزة أسرى. وقرأ الباقون أسارى والأسرى جمع أسير كالقتلى جمع قتيل والجرحى جمع جريح. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسارى. وقال الزجاج: يقال: أسارى كما يقال سكارى. وقال ابن فارس: يقال في جمع أسير أسرى وأسارى انتهى. فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر ما ثبت في التنزيل. وقرأ به الجمهور، والأسير مشتق من السير، وهو القيد الذي يشد به المحمل، فسمي أسيراً لأنه يشد وثاقه، والعرب تقول: قد أسرقته: أي شده، ثم سمي كل أخيذ أسيراً وإن لم يؤخذ. وقوله: "تفادوهم" جواب الشرط، وهي قراءة حمزة ونافع والكسائي، وقرأ الباقون تفدوهم. والفداء: هو ما يوجد من الأسير ليفك به أسره، يقال: فداه وفاداه: إذا أعطاه فداءه. قال الشاعر: قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعاً وقوله: "وهو محرم عليكم إخراجهم" الضمير للشأن وقيل: مبهم تفسره الجملة التي بعده، وزعم الفراء أن هذا الضمير عماد، واعترض عليه بأن العماد لا يكون في أول الكلام. "إخراجهم" مرتفع بقوله: "محرم" ساد مسد الخبر، وقيل: بل مرتفع بالابتداء ومحرم خبره. قال المفسرون: كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك. بقوله: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض". والخزي: الهوان. قال الجوهري: والخزي بالكسر يخزي خزياً: إذا ذل وهان، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعين اليهود موفراً، فصاروا في خزي عظيم بما ألصق بهم من الذل والمهانة بالقتل والأسر وضرب الجزية والجلاء، وإنما ردهم الله يوم القيامة إلى أشد العذاب لأنهم جاءوا بذنب شديد ومعصية فظيعة. وقد قرأ الجمهور يردون بالياء التحتية. وقرأ الحسن بالفوقية على الخطاب. وقد تقدم تفسير قوله: "وما الله بغافل عما يعملون".
وكذلك تفسير 86- "أولئك الذين اشتروا" وقوله: "فلا يخفف" إخبار من الله سبحانه بأن اليهود لا يزالون في عذاب موفر لازم لهم بالجزية والصغار والذلة والمهانة، فلا يخفف عنهم ذلك أبداً ما داموا، ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم، ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدوهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل" قال يؤنبهم: أي ميثاقكم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وقولوا للناس حسناً" قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وروى البيهقي في الشعب عن علي في قوله: "وقولوا للناس حسناً" قال: يعني الناس كلهم، ومثله روى عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم توليتم" قال: أي تركتم ذلك كله. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: معناه أعرضتتم عن طاعتي إلا قليلاً منكم وهم الذين اخترتهم لطاعتي. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "لا تسفكون دماءكم" لا يقتل بعضكم بعضاً "ولا تخرجون أنفسكم من دياركم" لا يخرج بعضكم بعضاً من الديار "ثم أقررتم" بهذا الميثاق "وأنتم تشهدون" وأنتم شهود. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم أقررتم" أن هذا حق من ميثاقي عليكم "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم" أي أهل الشرك حتى تسفكوا دماءكم معهم " وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " قال: تخرجونهم من ديارهم معهم "تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان" فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت معهم بنو قينقاع مع الخزرج والنضير وقريظة مع الأوس وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يسافكوا دماءهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم" وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم "وهو محرم عليكم" في كتابكم لإخراجهم "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفراً بذلك. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة" قال: استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة.
87- "الكتاب": التوراة، والتقفية: الإتباع والإرداف، مأخوذة من القفا وهو مؤخر العنق، تقول: استقفيته: إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر لأنها تتلو سائر الكلام. والمراد أن الله سبحانه أرسل على أثره رسلاً جعلهم تابعين له وهم أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعده. و"البينات" الأدلة التي ذكرها الله في آل عمران والمائدة. والتأييد: التقوية. وقرأ مجاهد وابن محيصن " وأيدناه " بالمد وهما لغتان. وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة: أي الروح المقدسة. والقدس: الطهارة، والمقدس: المطهر- وقيل: هو جبريل أيد الله به عيسى، ومنه قول حسان: وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس به خفاء قال النحاس: وسمي جبريل روحاً وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة- وقيل: القدس هو الله عز وجل، وروحه جبريل، وقيل: المراد بروح القدس: الإسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى، وقيل: المراد به الإنجيل، وقيل: المراد به الروح المنفوخ فيه، أيده الله به لما فيه من القوة. وقوله: "بما لا تهوى أنفسكم" أي بما لا يوافقها ويلائمها، وأصل الهوى: الميل إلى الشيء. قال الجوهري: وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. وبخهم الله سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ فقال: "أفكلما جاءكم رسول" منكم "بما لا" يوافق ما تهوونه استكبرتم عن إجابته احتقاراً للرسل واستبعاداً للرسالة، والفاء في قوله: أفكلما للعطف على مقدر أي آتيناكم يا بني إسرائيل من الأنبياء ما آتيناكم أفكلما جاءكم رسول. وفريقاً منصوب بالفعل الذي بعده والفاء للتفصيل، ومن الفريق المكذبين عيسى ومحمد، ومن الفريق المقتولين يحيى وزكريا.
والغلف جمع أغلف، المراد به هنا: الذي عليه غشاوة وتمنع من وصول الكلام إليه، ومنه غلفت السيف: أي جعلت له غلافاً. قال في الكشاف: هو مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقوله: "قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه" وقيل: إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر: أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك، وقد وعينا علماً كثيراً، فرد الله عليهم ما قالوه فقال: 88- "بل لعنهم الله بكفرهم" وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد، ومنه قول الشماخ: ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين أي كالرجل المطرود. والمعنى: أبعدهم الله من رحمته، و"قليلاً" نعت لمصدر محذوف: أي إيماناً قليلاً "ما يؤمنون" وما زائدة، وصف إيمانهم بالقلة لأنهم الذين قص الله علينا من عنادهم وعجرفتهم وشدة لجاجهم، وبعدهم عن إجابة الرسل ما قصه، ومن جملة ذلك أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. وقال معمر: المعنى لا يؤمنون إلا قليلاً مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وعلى هذا يكون قليلاً منصوباً بنزع الخافض. وقال الواقدي معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً. قال الكسائي: تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل أي لا تنبت شيئاً. وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله: "ولقد آتينا موسى الكتاب" يعني به التوراة جملة واحدة مفصلة محكمة "وقفينا من بعده بالرسل" يعني رسولاً يدعى أشمويل بن بابل، ورسولاً يدعى منشابيل، ورسولاً يدعى شعياء، ورسولاً يدعى حزقيل، ورسولاً يدعى أرمياء وهو الخضر، ورسولاً يدعى داود وهو أبو سليمان ورسولاً يدعى المسيح عيسى ابن مريم، فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله وانتخبهم من الأمة بعد موسى فأخذنا عليهم ميثاقاً غليظاً أن يؤدوا إلى أمتهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم وصفة أمته. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات" قال: هي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير، وإبراء الأسقام. والخبر بكثير من الغيوب، وما ورد عليهم من التوراة والإنجيل الذي أحدث الله إليه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "وأيدناه" قال: قويناه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: روح من القدس الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: القدس: الله تعالى. وأخرج عن الربيع بن أنس مثله. وأخرج عن ابن عباس قال: القدس الطهر. وأخرج عن السدي قال: القدس البركة. وأخرج عن إسماعيل بن أبي خالد أن روح القدس جبريل. وأخرج عن ابن مسعود مثله. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: روح القدس جبريل. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أيد حسان بروح القدس". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "فريقاً" قال: طائفة. وأخرج عن ابن عباس قال: إنما سمي القلب لتقلبه. وأخرج الطبراني في الأوسط عنه أنه كان يقرأ "قلوبنا غلف" مثقلة: أي كيف نتعلم وقلوبنا غلف للحكمة: أي أوعية للحكمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وقالوا: قلوبنا غلف" مملوءة علماً لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "قلوبنا غلف" قال: في غطاء، وروى ابن إسحاق وابن جرير عنه أنه قال: في أكنة. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: هي القلوب المطبوع عليها. وأخرج وكيع عن عكرمة وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: هي التي لا تفقه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وابن جرير عن حذيفة قال: القلوب أربعة: قلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح فذلك قلب المنافق وقلب أجرد فيه مثل السراج فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدها ما طيب، ومثل المنافق كمثل قرحة يمدها القيح والدم. وأخرج أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهي، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه". وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي مثله سواء موقوفاً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: "فقليلاً ما يؤمنون" قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 13
012وقوله: 84- "لا تسفكون" الكلام فيه كالكلام في لا تعبدون وقد سبق. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء، وهي لغة. وقرأ أبو نهيك بضم الياء وتشديد الفاء وفتح السين والسفك: الصب، وقد تقدم، والمراد أنه لا يفعل ذلك بعضهم ببعض. والدار: المنزل الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال. وقال الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم يكن فيه أبنية، وقيل: سميت داراً لدورها على سكانها، كما يسمى الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه. وقوله: "ثم أقررتم" من الإقرار: أي حصل منكم الاعتراف بهذا الميثاق المأخوذ عليكم في حال شهادتكم على أنفسكم بذلك، قيل: الشهادة هنا بالقلوب وقيل هي بمعنى الحضور: أي أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك، وكان الله سبحانه قد أخذ في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا ينفيه ولا يسترقه.
وقوله: 85- "ثم أنتم هؤلاء" أي أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية، وقيل: إن هؤلاء منصوب بإضمار أعني، ويمكن أن يقال: منصوب بالذم أو الاختصاص: أي أذم أو أخص. وقال القتيبي: إن التقدير يا هؤلاء قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز. وقال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين أي ثم أنتم الذين تقتلون. وقيل: هؤلاء مبتدأ وأنتم خبر مقدم وقرأ الزهري: تقتلون مشدداً، فمن جعل قوله: "أنتم هؤلاء" مبتدأ وخبراً جعل قوله: "تقتلون" بياناً لأن معنى قوله: "أنتم هؤلاء" أنهم على حالة كحالة أسلافهم من نقض الميثاق. ومن جعل هؤلاء منادى أو منصوباً بما ذكرنا جعل الخبر تقتلون وما بعده. وقوله: "تظاهرون" بالتشديد، وأصله تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء لقربها منها في المخرج، وهي قراءة أهل مكة. وقرأ أهل الكوفة تظاهرون مخففاً بحذف التاء الثانية، لدلالة الأولى عليها. وأصل المظاهرة المعاونة، مشتقة من الظهر لأن بعضهم يقوي بعضاً فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر: تظاهرتم من كل أوب ووجهة على واحد لا زلتم قرن واحد ومنه قوله تعالى: "وكان الكافر على ربه ظهيراً" وقوله: "والملائكة بعد ذلك ظهير". وأسارى حال. قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم فهو أسارى، وما جاء مستأسراً فهو الأسرى. ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو. وإنما هذا كما تقول سكارى وسكرى. وقد قرأ حمزة أسرى. وقرأ الباقون أسارى والأسرى جمع أسير كالقتلى جمع قتيل والجرحى جمع جريح. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسارى. وقال الزجاج: يقال: أسارى كما يقال سكارى. وقال ابن فارس: يقال في جمع أسير أسرى وأسارى انتهى. فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر ما ثبت في التنزيل. وقرأ به الجمهور، والأسير مشتق من السير، وهو القيد الذي يشد به المحمل، فسمي أسيراً لأنه يشد وثاقه، والعرب تقول: قد أسرقته: أي شده، ثم سمي كل أخيذ أسيراً وإن لم يؤخذ. وقوله: "تفادوهم" جواب الشرط، وهي قراءة حمزة ونافع والكسائي، وقرأ الباقون تفدوهم. والفداء: هو ما يوجد من الأسير ليفك به أسره، يقال: فداه وفاداه: إذا أعطاه فداءه. قال الشاعر: قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعاً وقوله: "وهو محرم عليكم إخراجهم" الضمير للشأن وقيل: مبهم تفسره الجملة التي بعده، وزعم الفراء أن هذا الضمير عماد، واعترض عليه بأن العماد لا يكون في أول الكلام. "إخراجهم" مرتفع بقوله: "محرم" ساد مسد الخبر، وقيل: بل مرتفع بالابتداء ومحرم خبره. قال المفسرون: كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك. بقوله: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض". والخزي: الهوان. قال الجوهري: والخزي بالكسر يخزي خزياً: إذا ذل وهان، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعين اليهود موفراً، فصاروا في خزي عظيم بما ألصق بهم من الذل والمهانة بالقتل والأسر وضرب الجزية والجلاء، وإنما ردهم الله يوم القيامة إلى أشد العذاب لأنهم جاءوا بذنب شديد ومعصية فظيعة. وقد قرأ الجمهور يردون بالياء التحتية. وقرأ الحسن بالفوقية على الخطاب. وقد تقدم تفسير قوله: "وما الله بغافل عما يعملون".
وكذلك تفسير 86- "أولئك الذين اشتروا" وقوله: "فلا يخفف" إخبار من الله سبحانه بأن اليهود لا يزالون في عذاب موفر لازم لهم بالجزية والصغار والذلة والمهانة، فلا يخفف عنهم ذلك أبداً ما داموا، ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم، ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدوهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل" قال يؤنبهم: أي ميثاقكم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وقولوا للناس حسناً" قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وروى البيهقي في الشعب عن علي في قوله: "وقولوا للناس حسناً" قال: يعني الناس كلهم، ومثله روى عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم توليتم" قال: أي تركتم ذلك كله. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: معناه أعرضتتم عن طاعتي إلا قليلاً منكم وهم الذين اخترتهم لطاعتي. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "لا تسفكون دماءكم" لا يقتل بعضكم بعضاً "ولا تخرجون أنفسكم من دياركم" لا يخرج بعضكم بعضاً من الديار "ثم أقررتم" بهذا الميثاق "وأنتم تشهدون" وأنتم شهود. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ثم أقررتم" أن هذا حق من ميثاقي عليكم "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم" أي أهل الشرك حتى تسفكوا دماءكم معهم " وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " قال: تخرجونهم من ديارهم معهم "تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان" فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت معهم بنو قينقاع مع الخزرج والنضير وقريظة مع الأوس وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يسافكوا دماءهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم" وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم "وهو محرم عليكم" في كتابكم لإخراجهم "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض" أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفراً بذلك. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: "أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة" قال: استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة.
87- "الكتاب": التوراة، والتقفية: الإتباع والإرداف، مأخوذة من القفا وهو مؤخر العنق، تقول: استقفيته: إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر لأنها تتلو سائر الكلام. والمراد أن الله سبحانه أرسل على أثره رسلاً جعلهم تابعين له وهم أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعده. و"البينات" الأدلة التي ذكرها الله في آل عمران والمائدة. والتأييد: التقوية. وقرأ مجاهد وابن محيصن " وأيدناه " بالمد وهما لغتان. وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة: أي الروح المقدسة. والقدس: الطهارة، والمقدس: المطهر- وقيل: هو جبريل أيد الله به عيسى، ومنه قول حسان: وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس به خفاء قال النحاس: وسمي جبريل روحاً وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة- وقيل: القدس هو الله عز وجل، وروحه جبريل، وقيل: المراد بروح القدس: الإسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى، وقيل: المراد به الإنجيل، وقيل: المراد به الروح المنفوخ فيه، أيده الله به لما فيه من القوة. وقوله: "بما لا تهوى أنفسكم" أي بما لا يوافقها ويلائمها، وأصل الهوى: الميل إلى الشيء. قال الجوهري: وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. وبخهم الله سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ فقال: "أفكلما جاءكم رسول" منكم "بما لا" يوافق ما تهوونه استكبرتم عن إجابته احتقاراً للرسل واستبعاداً للرسالة، والفاء في قوله: أفكلما للعطف على مقدر أي آتيناكم يا بني إسرائيل من الأنبياء ما آتيناكم أفكلما جاءكم رسول. وفريقاً منصوب بالفعل الذي بعده والفاء للتفصيل، ومن الفريق المكذبين عيسى ومحمد، ومن الفريق المقتولين يحيى وزكريا.
والغلف جمع أغلف، المراد به هنا: الذي عليه غشاوة وتمنع من وصول الكلام إليه، ومنه غلفت السيف: أي جعلت له غلافاً. قال في الكشاف: هو مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقوله: "قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه" وقيل: إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر: أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك، وقد وعينا علماً كثيراً، فرد الله عليهم ما قالوه فقال: 88- "بل لعنهم الله بكفرهم" وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد، ومنه قول الشماخ: ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين أي كالرجل المطرود. والمعنى: أبعدهم الله من رحمته، و"قليلاً" نعت لمصدر محذوف: أي إيماناً قليلاً "ما يؤمنون" وما زائدة، وصف إيمانهم بالقلة لأنهم الذين قص الله علينا من عنادهم وعجرفتهم وشدة لجاجهم، وبعدهم عن إجابة الرسل ما قصه، ومن جملة ذلك أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. وقال معمر: المعنى لا يؤمنون إلا قليلاً مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وعلى هذا يكون قليلاً منصوباً بنزع الخافض. وقال الواقدي معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً. قال الكسائي: تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل أي لا تنبت شيئاً. وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله: "ولقد آتينا موسى الكتاب" يعني به التوراة جملة واحدة مفصلة محكمة "وقفينا من بعده بالرسل" يعني رسولاً يدعى أشمويل بن بابل، ورسولاً يدعى منشابيل، ورسولاً يدعى شعياء، ورسولاً يدعى حزقيل، ورسولاً يدعى أرمياء وهو الخضر، ورسولاً يدعى داود وهو أبو سليمان ورسولاً يدعى المسيح عيسى ابن مريم، فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله وانتخبهم من الأمة بعد موسى فأخذنا عليهم ميثاقاً غليظاً أن يؤدوا إلى أمتهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم وصفة أمته. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات" قال: هي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير، وإبراء الأسقام. والخبر بكثير من الغيوب، وما ورد عليهم من التوراة والإنجيل الذي أحدث الله إليه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "وأيدناه" قال: قويناه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: روح من القدس الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: القدس: الله تعالى. وأخرج عن الربيع بن أنس مثله. وأخرج عن ابن عباس قال: القدس الطهر. وأخرج عن السدي قال: القدس البركة. وأخرج عن إسماعيل بن أبي خالد أن روح القدس جبريل. وأخرج عن ابن مسعود مثله. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: روح القدس جبريل. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أيد حسان بروح القدس". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "فريقاً" قال: طائفة. وأخرج عن ابن عباس قال: إنما سمي القلب لتقلبه. وأخرج الطبراني في الأوسط عنه أنه كان يقرأ "قلوبنا غلف" مثقلة: أي كيف نتعلم وقلوبنا غلف للحكمة: أي أوعية للحكمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وقالوا: قلوبنا غلف" مملوءة علماً لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "قلوبنا غلف" قال: في غطاء، وروى ابن إسحاق وابن جرير عنه أنه قال: في أكنة. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: هي القلوب المطبوع عليها. وأخرج وكيع عن عكرمة وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: هي التي لا تفقه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وابن جرير عن حذيفة قال: القلوب أربعة: قلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح فذلك قلب المنافق وقلب أجرد فيه مثل السراج فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدها ما طيب، ومثل المنافق كمثل قرحة يمدها القيح والدم. وأخرج أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهي، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه". وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي مثله سواء موقوفاً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: "فقليلاً ما يؤمنون" قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.
الصفحة رقم 13 من المصحف تحميل و استماع mp3