تفسير الطبري تفسير الصفحة 13 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 13
014
012
 الآية : 84
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مّن دِيَارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }
قال أبو جعفر: قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ فـي الـمعنى والإعراب نظير قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثَاقَ بَنِـي إسْرائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّهَ. وأما سفك الدم, فإنه صبه وإراقته.
فإن قال قائل: وما معنى قوله: لا تَسْفِكونَ دِماءَكُمْ وَلا تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ؟ وقال: أَوَ كان القوم يقتلون أنفسهم, ويخرجونها من ديارها, فنهوا عن ذلك؟ قـيـل: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما ظننتَ, ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا, فكان فـي قتل الرجل منهم الرجلَ قتلُ نفسه, إذْ كانت ملّتهما بـمنزلة رجل واحد, كما قال علـيه الصلاة والسلام: «إنّـمَا الـمُؤْمِنُونَ فِـي تَرَاحُمِهمْ وَتَعَاطُفِهِمْ بَـيْنَهُمْ بـمَنْزِلَةِ الـجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سائرُ الـجَسَدِ بِـالـحُمّى وَالسّهَرِ».
وقد يجوز أن يكون معنى قوله: لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ أي لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم, فـيقاد به قصاصا, فـيكون بذلك قاتلاً نفسه لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استـحقت به القتل, فأضيف بذلك إلـيه قتل ولـيّ الـمقتول إياه قصاصا بولـيه, كما يقال للرجل يركب فعلاً من الأفعال يستـحقّ به العقوبة فـيعاقب العقوبة: أنت جنـيت هذا علـى نفسك.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك:
1076ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله وَإذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا, وَلاَ تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ونفسُك يا ابن آدم أهل ملّتك.
1077ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: وَإذْ أَخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ يقول: لا يقتل بعضكم بعضا, وَلاَ تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن قتادة فـي قوله: لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ يقول: لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق وَلا تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ.
يعنـي بقوله: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ بـالـميثاق الذي أخذنا علـيكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ. كما:
1078ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ يقول: أقررتـم بهذا الـميثاق.
وحدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع مثله.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ.
اختلف أهل التأويـل فـيـمن خوطب بقوله وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ.
فقال بعضهم: ذلك خطاب من الله تعالـى ذكره للـيهود الذين كانوا بـين ظهرانَـيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إلـيه مؤنبـا لهم علـى تضيـيع أحكام ما فـي أيديهم من التوراة التـي كانوا يقرّون بحكمها, فقال الله تعالـى لهم: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ يعنـي بذلك إقرار أوائلكم وسلفكم وأنْتُـمُ تَشْهَدُونَ علـى إقراركم بأخذ الـميثاق علـيهم, بأن لا يسفكوا دماءهم, ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم, ويصدقون بأن ذلك حقّ من ميثاقـي علـيهم. ومـمن حكي معنى هذا القول عنه ابن عبـاس.
1079ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس, قال: وَإذْ أخَذْنا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُـمْ وأنْتُـمُ تَشْهَدُونَ أن هذا حق من ميثاقـي علـيكم.
وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم, ولكنه تعالـى ذكره أخرج الـخبر بذلك عنهم مخرج الـمخاطبة علـى النـحو الذي وصفنا فـي سائر الاَيات التـي هي نظائرها التـي قد بـينا تأويـلها فـيـما مضى. وتأولوا قوله وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ علـى معنى: وأنتـم شهود. ذكر من قال ذلك:
1080ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية قوله: وأنتُـمْ تَشْهَدُونَ يقول وأنتـم شهود.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي تأويـل ذلك بـالصواب عندي أن يكون قوله: وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ خبرا عن أسلافهم, وداخلاً فـيه الـمخاطبون منهم الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما كان قوله: وَإذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ خبرا عن أسلافهم وإن كان خطابـا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالـى أخذ ميثاق الذين كانوا علـى عهد رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم من بنـي إسرائيـل علـى سبـيـل ما قد بـينه لنا فـي كتابه, فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة مثل الذي ألزم منه من كان علـى عهد موسى منهم. ثم أنّب الذين خاطبهم بهذه الاَيات علـى نقضهم ونقض سلفهم ذلك الـميثاق, وتكذيبهم ما وكدوا علـى أنفسهم له بـالوفـاء من العهود, بقوله: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ فإذْ كان خارجا علـى وجه الـخطاب للذين كانوا علـى عهد نبـينا صلى الله عليه وسلم منهم, فإنه معنـيّ به كل من واثق بـالـميثاق منهم علـى عهد موسى ومن بعده, وكل من شهد منهم بتصديق ما فـي التوراة لأن الله جل ثناؤه لـم يخصص بقوله: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ وما أشبه ذلك من الاَي بعضهم دون بعض والآية مـحتـملة أن يكون أريد بها جميعهم. فإذْ كان ذلك كذلك فلـيس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض. وكذلك حكم الآية التـي بعدها, أعنـي قوله: ثُمّ أنْتُـمُ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ الآية لأنه قد ذكر لها أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم.
الآية : 85
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{ثُمّ أَنْتُمْ هَـَؤُلآءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مّنْكُمْ مّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىَ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَىَ أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ }
قال أبو جعفر: ويتـجه فـي قوله: ثُمّ أنْتُـمْ هَؤُلاَءِ وجهان: أحدهما أن يكون أريد به: ثم أنتـم يا هؤلاء, فترك «يا» استغناء بدلالة الكلام علـيه, كما قال: يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذا وتأويـله: يا يوسف أعرض عن هذا. فـيكون معنى الكلام حينئذ: ثم أنتـم يا معشر يهود بنـي إسرائيـل بعد إقراركم بـالـميثاق الذي أخذته علـيكم لا تسفكون دماءكم ولا تـخرجون أنفسكم من دياركم, ثم أقررتـم بعد شهادتكم علـى أنفسكم بأن ذلك حق لـي علـيكم لازم لكم الوفـاء لـي به تقتلون أنفسكم وتـخرجون فريقا منكم من ديارهم متعاونـين علـيهم فـي إخراجكم إياهم بـالإثم والعدوان. والتعاون: هو التظاهر وإنـما قـيـل: للتعاون التظاهر, لتقوية بعضهم ظهر بعض, فهو تفـاعل من الظهر, وهو مساندة بعضهم ظهره إلـى ظهر بعض. والوجه الاَخر أن يكون معناه: ثم أنتـم قومٌ تقتلون أنفسكم فـيرجع إلـى الـخبر عن «أنتـم», وقد اعترض بـينهم وبـين الـخبر عنهم بهؤلاء, كما تقول العرب: أنا ذا أقوم, وأنا هذا أجلس, وإذْ قـيـل: أنا هذا أجلس كان صحيحا جائزا, كذلك أنت ذاك تقوم.
وقد زعم بعض البصريـين أن قوله «هؤلاء» فـي قوله: ثُمّ أنْتُـمْ هَؤُلاءِ تنبـيه وتوكيد ل«أنتـم», وزعم أن «أنتـم» وإن كانت كناية أسماء جماع الـمخاطبـين, فإنـما جاز أن يؤكدوا ب«هؤلاء» و«أولاء», لأنها كناية عن الـمخاطبـين, كما قال خُفـاف بن ندبة:
أقُولُ لَهُ وَالرّمْـحُ يَأْطِرُ مَتْنُهُتَبَـيّنْ خُفـافـا إنّنِـي أنا ذَلِكا
يريد: أنا هذا. وكما قال جل ثناؤه: حتـى إذَا كُنْتُـمْ فـي الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ.
ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بهذه الآية نـحو اختلافهم فـيـمن عنـي بقوله: وأنْتُـمْ تَشْهَدونَ. ذكر اختلاف الـمختلفـين فـي ذلك:
1081ـ حدثنا مـحمد بن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبـير, عن ابن عبـاس, قال: ثُمّ أنْتُـمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وتُـخْرِجُونَ فَرِيقا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَـيْهِمْ بإِلاثْمِ والعُدْوَانِ إلـى أهل الشرك حتـى تسفكوا دماءهم معهم, وتـخرجوهم من ديارهم معهم. فقال: أنّبهم الله (علـى ذلك) من فعلهم, وقد حرّم علـيهم فـي التوراة سفك دمائهم, وافترض علـيهم فـيها فداء أسراهم فكانوا فريقـين طائفة منهم من بنـي قـينقاع حلفـاء الـخزرج والنضير وقريظة حلفـاء الأوس, فكانوا إذا كانت بـين الأوس والـخزرج حرب خرجت بنو قـينقاع مع الـخزرج, وخرجت النضير وقريظة مع الأوس, يظاهر كل من الفريقـين حلفـاءه علـى إخوانه حتـى يتسافكوا دماءهم بـينهم وبأيديهم التوراة يعرفون منها ما علـيهم وما لهم, والأوس والـخزرج أهل شِرْكٍ يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا نارا, ولا بعثا, ولا قـيامة, ولا كتابـا, ولا حراما, ولا حلالاً فإذا وضعت الـحرب أوزارها افتدوا أسراهم, تصديقا لـما فـي التوراة وأخذا به بعضهم من بعض: يفتدي بنو قـينقاع ما كان من أسراهم فـي أيدي الأوس, وتفتدي النضير وقريظة ما كان فـي أيدي الـخزرج منهم, ويُطِلّون ما أصابوا من الدماء وقتلوا من قتلوا منهم فـيـما بـينهم مظاهرا لأهل الشرك علـيهم. يقول الله تعالـى ذكره حين أنّبهم بذلك: أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أي تفـادونه بحكم التوراة وتقتلونه وفـي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من ذلك, ولا يظاهر علـيه من يشرك بـالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عَرضَ من عَرضَ الدنـيا. ففـي ذلك من فعلهم مع الأوس والـخزرج فـيـما بلغنـي نزلت هذه القصة.
1082ـ وحدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنـي عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دماءَكُمْ وَلا تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارَكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُـمْ وَأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ قال: إن الله أخذ علـى بنـي إسرائيـل فـي التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا, وأيّـما عبد أو أمة وجدتـموه من بنـي إسرائيـل فـاشتروه بـما قام ثمنه فأعتقوه. فكانت قريظة حلفـاء الأوس, والنضير حلفـاء الـخزرج, فكانوا يقتتلون فـي حرب سُمَيْر, فتقاتل بنو قريظة مع حلفـائها النضير وحلفـاءَها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفـاءها فـيغلبونهم, فـيخرّبون بـيوتهم ويخرجونهم منها, فإذا أسر الرجل من الفريقـين كلـيهما جمعوا له حتـى يفدوه, فتعيرهم العرب بذلك, ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرّم علـينا قتالهم, قالوا: فلـم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستـحيـي أن تستذلّ حلفـاؤنا. فذلك حين عيرهم جل وعز فقال: ثُمّ أنْتُـمْ هَولاء تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وَتُـخْرِجُونَ فَرَيقا مِنْكُمْ مِنْ ديارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَـيْهِمْ بِـالإثم وَالعُدْوَانَ.
1083ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: كانت قريظة والنضير أخوين, وكانوا بهذه الـمثابة, وكان الكتاب بأيديهم. وكانت الأوس والـخزرج أخوين فـافترقا, وافترقت قريظة والنضير, فكانت النضير مع الـخزرج, وكانت قريظة مع الأوس. فـاقتتلوا, وكان بعضهم يقتل بعضا, فقال الله جل ثناؤه: ثُمّ أنّتُـمْ هَولاء تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وَتُـخْرجُونَ فَريقا مِنْكُمْ مِنْ دِيارهِمْ الآية. وقال آخرون بـما:
1084ـ حدثنـي به الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية قال: كان فـي بنـي إسرائيـل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم, وقد أخذ علـيهم الـميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم.
وأما العدوان فهو الفعلان من التعدي, يقال منه: عدا فلان فـي كذا عدوا وعدوانا, واعتدى يعتدي اعتداءً, وذلك إذا جاوز حدّه ظلـما وبغيا.
وقد اختلف القراء فـي قراءة: تَظَاهَرُونَ فقرأها بعضهم: تظاهرون, علـى مثال «تفـاعلون» فحذف التاء الزائدة وهي التاء الاَخرة. وقرأها آخرون: «تظّاهرون», فشدّد بتأويـل «تتظاهرون», غير أنهم أدغموا التاء الثانـية فـي الظاء لتقارب مخرجيهما فصيّروهما ظاء مشددة. وهاتان القراءتان وإن اختلفت ألفـاظهما فإنهما متفقتا الـمعنى, فسواء بأي ذلك قرأ القارىء لأنهما جميعا لغتان معروفتان وقراءتان مستفـيضتان فـي أمصار الإسلام بـمعنى واحد لـيس فـي إحداهما معنى تستـحق به اختـيارها علـى الأخرى إلا أن يختار مختار تظاهرون الـمشددة طلبـا منه تتـمة الكلـمة.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإِنْ يَأتُوكُمْ أسارَى تُفـادُوهُمْ وَهُوَ مُـحَرّمٌ عَلَـيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ أفَتُؤمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أسارَى تُفـادُوهُمْ الـيهود يوبخهم بذلك, ويعرّفهم به قبـيح أفعالهم التـي كانوا يفعلونها. فقال لهم: ثم أنتـم بعد إقراركم بـالـميثاق الذي أخذته علـيكم أن لا تسفكوا دماءكم ولا تـخرجوا أنفسكم من دياركم تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ يعنـي به يقتل بعضُكم بعضا, وأنتـم مع قتلكم من تقتلون منكم إذا وجدتـم الأسير منكم فـي أيدي غيركم من أعدائكم تَفْدُونه ويخرج بعضكم بعضا من دياره. وقَتْلُكم إياهم وإخراجُكُموهم من ديارهم حرام علـيكم وتَرْكُهم أسرى فـي أيدي عدوّكم, فكيف تستـجيزون قتلهم ولا تستـجيزون ترك فدائهم من عدوّهم؟ أم كيف لا تستـجيزون ترك فدائهم وتستـجيزون قتلهم؟ وهم جميعا فـي اللازم لكم من الـحكم فـيهم سواء لأن الذي حرّمت علـيكم من قتلهم وإخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت علـيكم من تركهم أسرى فـي أيدي عدوّهم أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْض الكِتاب الذي فرضت علـيكم فـيه فرائضي وبـينت لكم فـيه حدودي وأخذت علـيه بـالعمل بـما فـيه ميثاقـي فتصدّقون به, فتفـادون أسراكم من أيدي عدوّكم وتَكْفُرُونَ ببعضه فتـجحدونه فتقتلون من حرّمت علـيكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم, وتـخرجونهم من ديارهم؟ وقد علـمتـم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقـي. كما:
1085ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: «ثُمّ أنْتُـمْ هَولاء تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وَتُـخْرِجُونَ فَرِيقا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَـيْهِمْ بِـالإثْمِ والعُدْوَانِ وَإِنْ يأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَـادُوهم وَهُوَ مُـحَرّمٌ عَلَـيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ أفتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» فـادين والله إن فداءهم لإيـمان وإن إخراجهم لكفر, فكانوا يخرجونهم من ديارهم, وإذا رأوهم أسارى فـي أيدي عدوّهم افْتَكّوهم.
1086ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عن عكرمة, عن ابن عبـاس: «وَإِنْ يَأتُوكُمْ أُسارَى تَفْدُوهُمْ» قد علـمتـم أن ذلكم علـيكم فـي دينكم, وَهُوَ مـحرّمٌ علـيكُم فـي كتابكم إخراجهُم أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أتفـادونهم مؤمنـين بذلك, وتـخرجونهم كفرا بذلك؟
1087ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: «وَإِنْ يأتُوكُمْ أسَارَى تَفْدُوهُمْ» يقول: إن وجدته فـي يد غيرك فديته وأنت تقتله بـيدك؟
1088ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, قال: قال أبو جعفر: كان قتادة يقول فـي قوله: أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فكان إخراجهم كفرا وفداؤهم إيـمانا.
1089ـ حدثنا الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية فـي قوله: ثُمّ أنتُـمْ هَولاَءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ الآية, قال: كان فـي بنـي إسرائيـل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم, وقد أخذ علـيهم الـميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسم من ديارهم, وأخذ علـيهم الـميثاق إن أسر بعضهم أن يفـادوهم. فأخرجوهم من ديارهم ثم فـادوهم. فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض آمنوا بـالفداء ففدوا, وكفروا بـالإخراج من الديار فأخرجوا.
1090ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, قال: حدثنا الربـيع بن أنس, قال: أخبرنـي أبو العالـية: أن عبد الله بن سلام مرّ علـى رأس الـجالوت بـالكوفة وهو يفـادي من النساء من لـم يقع علـيه العرب ولا يفـادي من وقع علـيه العرب, فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك فـي كتابك أنْ فـادوهنّ كلهن.
1091ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنـي حجاج, عن ابن جريج: أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ قال: كفرهم القتل والإخراج, وإيـمانهم الفداء. قال ابن جريج: يقول: إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتـخرجونهم من ديارهم. وأما إذا أسروا تفدونهم؟ وبلغنـي أن عمر بن الـخطاب قال فـي قصة بنـي إسرائيـل: إن بنـي إسرائيـل قد مضوا وإنكم أنتـم تُعْنَون بهذا الـحديث.
واختلف القراء فـي قراءة قوله: «وَإنْ يأتُوكُمْ أسارَى تَفْدوهُمْ» فقرأه بعضهم: «أسرى تفدوهم», وبعضهم: «أسارى تفـادوهم», وبعضهم: «أسارى تفدوهم», وبعضهم: «أسرى تفـادوهم».
قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك: «وإن يأتوكم أسرى», فإنه أراد جمع الأسير, إذْ كان علـى «فعيـل» علـى مثال جمع أسماء ذوي العاهات التـي يأتـي واحدها علـى تقدير فعيـل, إذْ كان الأسر شبـيه الـمعنى فـي الأذى والـمكروه الداخـل علـى الأسير ببعض معانـي العاهات وألـحق جمع الـمستلـحق به بجمع ما وصفنا, فقـيـل أسير وأَسْرى, كما قـيـل مريض ومَرْضَى وكَسِير وكَسْرى, وجريح وجَرْحى.
وقال أبو جعفر: وأما الذين قرءوا ذلك: «أُسارى», فإنهم أخرجوه علـى مخرج جمع فُعْلان, إذ كان جمع «فعلان» الذي له «فَعْلَـى» قد يشارك جمع «فعيـل», كما قالوا سكارى وسكرى وكسالـى وكسلـى, فشبهوا أسيرا وجمعوه مرة أُسارى وأخرى أَسْرى بذلك. وكان بعضهم يزعم أن معنى الأسرى مخالف معنى الأسارى, ويزعم أن معنى الأسرى استئسار القوم بغير أسر من الـمستأسر لهم, وأن معنى الأسارى معنى مصير القوم الـمأسورين فـي أيدي الاَسرين بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة.
قال أبو جعفر: وذلك ما لا وجه له يفهم فـي لغة أحد من العرب, ولكن ذلك علـى ما وصفت من جمع الأسير مرة علـى «فَعْلـى» لـما بـينت من العلة, ومرة علـى «فُعالـى» لـما ذكرت من تشبـيههم جمعه بجمع سكران وكسلان وما أشبه ذلك.
وأولـى بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأ: «وَإِنْ يَأتُوكُمْ أَسْرَى» لأن «فُعالـى» فـي جمع «فَعِيـل» غير مستفـيض فـي كلام العرب. فإذا كان ذلك غير مستفـيض فـي كلامهم, وكان مستفـيضا فـاشيا فـيهم جمع ما كان من الصفـات التـي بـمعنى الاَلام والزمانة واحدة علـى تقدير «فعيـل» علـى «فَعْلـى» كالذي وصفنا قبل, وكان أحد ذلك الأسير كان الواجب أن يـلـحق بنظائره وأشكاله فـيجمع جمعها دون غيرها مـمن خالفها.
وأما من قرأ: تُفـادُوهُمْ فإنه أراد أنكم تفدونهم من أسرهم, ويفدى منكم الذين أسروهم ففـادوكم بهم أسراكم منهم.
وأما من قرأ ذلك: «تَفْدُوهُمْ» فإنه أراد أنكم يا معشر الـيهود إن أتاكم الذين أخرجتـموهم منكم من ديارهم أسرى فديتـموهم فـاستنقذتـموهم. وهذه القراءة أعجب إلـيّ من الأولـى, أعنـي: «أسرى تفدوهم» لأن الذي علـى الـيهود فـي دينهم فداء أسراهم بكل حال فَدَى الاَسرون أسراهم منهم أم لـم يفدوهم.
وأما قوله: وَهُوَ مُـحَرّمٌ عَلَـيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ فإن فـي قوله: وَهُوَ وجهين من التأويـل أحدهما: أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره, كأنه قال: وتـخرجون فريقا منكم من ديارهم, وإخراجهم مـحرّم علـيكم. ثم كرّر الإخراج الذي بعد وهو مـحرم علـيكم تكريرا علـى «هو», لـما حال بـين «الإخراج» و«هو» كلام. والتأويـل الثانـي: أن يكون عمادا لـما كانت الواو التـي مع «هو» تقتضي اسما يـلـيها دون الفعل, فلـما قدم الفعل قبل الاسم الذي تقتضيه الواو أن يـلـيها أولِـيَتْ «هو» لأنه اسم, كما تقول: أتـيتك وهو قائم أبوك, بـمعنى: وأبوك قائم, إذْ كانت الواو تقتضي اسما فعمدت ب«هو», إذ سبق الفعل الاسم لـيصلـح الكلام كما قال الشاعر:
فأبْلِغْ أبـا يَحيى إذَا ما لَقِـيتَهُعلـى العِيسِ فِـي آبـاطِها عَرَقٌ يَبْسُ
بأنّ السّلامَى الّذِي بِضَرِيّةٍأمِيرَ الـحِمَى قدْ بَـاعَ حَقّـي بنـي عَبْسِ
بِثَوْبٍ وَدِينارٍ وَشاةٍ ودِرْهَمٍفَهْل هُوَ مَرْفُوعٌ بِـما هَهُنَا رأسُ
فأولـيت «هل» لطلبها الاسم العماد.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِـي الـحَيَاةِ الدّنْـيَا.
يعنـي بقوله جل ثناؤه: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ فلـيس لـمن قتل منكم قتـيلاً فكفر بقتله إياه بنقض عهد الله الذي حكم به علـيه فـي التوراة, وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا علـيهم أعداءهم من أهل الشرك ظلـما وعدوانا وخلافـا لـما أمره الله به فـي كتابه الذي أنزله إلـى موسى, جزاء يعنـي بـالـجزاء: الثواب وهو العوض مـما فعل من ذلك والأجر علـيه, إِلاّ خِزْيٌ فِـي الـحَيَاةِ الدّنْـيَا والـخِزْي الذلّ والصغار, يقال منه: «خَزِي» الرجل يَخْزَى خِزْيا». فِـي الـحياة الدنـيا, يعنـي فـي عاجل الدنـيا قبل الاَخرة.
ثم اختلف فـي الـخزي الذي أخزاهم الله بـما سلف من معصيتهم إياه.
فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم من أخذ القاتل بـمن قتل والقَوَد به قصاصا, والانتقام للـمظلوم من الظالـم.
وقال آخرون: بل ذلك هو أخذ الـجزية منهم ما أقاموا علـى دينهم ذلة لهم وصَغَارا.
وقال آخرون: بل ذلك الـخزي الذي جَوّزوا به فـي الدنـيا إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم النّضِيرَ من ديارهم لأوّل الـحشر, وقتل مقاتلة قريظة وسَبْـي ذراريهم فكان ذلك خزيا فـي الدنـيا, ولهم فـي الاَخرة عذاب عظيـم.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيَوْمَ القِـيَامَةِ يُرَدّونَ إِلـى أشَدّ العَذَابِ.
يعنـي بقوله: وَيَوْمَ القِـيَامَةِ يُرَدّونَ إلـى أشَدّ العَذَابِ: ويوم تقوم الساعة يردّ من يفعل ذلك منكم بعد الـخزي الذي يحلّ به فـي الدنـيا جزاءً علـى معصية الله إلـى أشدّ العذاب الذي أعدّ الله لأعدائه.
وقد قال بعضهم: معنى ذلك: وَيَوْمَ القِـيَامَةِ يُرَدّونَ إلـى أشَدّ العَذَابِ من عذاب الدنـيا. ولا معنى لقول قائل ذلك. ذلك بأن الله جل ثناؤه إنـما أخبر أنهم يردّون إلـى أشدّ معانـي العذاب ولذلك أدخـل فـيه الألف واللام, لأنه عنى به جنس العذاب كله دون نوع منه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ.
اختلف القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: «وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ» بـالـياء علـى وجه الإخبـار عنهم, فكأنهم نَـحَوْا بقراءتهم معنى «فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلكَ مِنْكُمْ إلاّ خِزْيٌ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا ويَوْمَ القِـيامَةِ يُرَدّونَ إلـى أشَدّ العَذَابِ وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ» يعنـي عما يعمله الذين أخبر الله عنهم أنه لـيس لهم جزاء علـى فعلهم إلا الـخزي فـي الـحياة الدنـيا, ومرجعهم فـي الاَخرة إلـى أشدّ العذاب.
وقرأه آخرون: وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ بـالتاء علـى وجه الـمخاطبة قال: فكأنهم نَـحَوْا بقراءتهم: أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ... وَما اللّهُ بِغافِلٍ يا معشر الـيهود عَمّا تَعْمَلُونَ أنتـم.
وأعجب القراءتـين إلـيّ قراءة من قرأ بـالـياء إتبـاعا لقوله: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلكَ مِنْكُمْ ولقوله: وَيَوْمَ القِـيامَةِ يُرَدّونَ لأن قوله: «وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ» إلـى ذلك أقرب منه إلـى قوله: أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُون بِبَعْضٍ فإتبـاعه الأقرب إلـيه أولـى من إلـحاقه بـالأبعد منه. والوجه الاَخر غير بعيد من الصواب. وتأويـل قوله: وما الله بساه عن أعمالهم الـخبـيثة, بل هو مُـحْصٍ لها وحافظها علـيهم حتـى يجازيهم بها فـي الاَخرة ويخزيهم فـي الدنـيا فـيذلهم ويفضحهم. الآية : 86
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالاَخِرَةِ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه أولئك الذين أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب فـيفـادون أسراهم من الـيهود, ويكفرون ببعض, فـيقتلون من حرّم الله علـيهم قتله من أهل ملتهم, ويخرجون من داره من حرّم الله علـيهم إخراجه من داره, نقضا لعهد الله وميثاقه فـي التوراة إلـيهم. فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين اشتروا رياسة الـحياة الدنـيا علـى الضعفـاء وأهل الـجهل والغبـاء من أهل ملتهم, وابتاعوا الـمآكل الـخسيسة الرديئة فـيها, بـالإيـمان الذي كان يكون لهم به فـي الاَخرة لو كانوا أتوا به مكان الكفر الـخـلود فـي الـجنان. وإنـما وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم اشتروا الـحياة الدنـيا بـالاَخرة لأنهم رضوا بـالدنـيا بكفرهم بـالله فـيها عوضا من نعيـم الاَخرة الذي أعده الله للـمؤمنـين, فجعل حظوظهم من نعيـم الاَخرة بكفرهم بـالله ثمنا لـما ابتاعوه به من خسيس الدنـيا. كما:
1092ـ حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُوا الـحَياةَ الدّنْـيَا بـالاَخِرَةِ: استـحبوا قلـيـل الدنـيا علـى كثـير الاَخرة.
قال أبو جعفر: ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذْ بـاعوا حظوظهم من نعيـم الاَخرة بتركهم طاعته, وإيثارهم الكفر به والـخسيس من الدنـيا علـيه, لا حظّ لهم فـي نعيـم الاَخرة, وأن الذي لهم فـي الاَخرة العذاب غير مخفف عنهم فـيها العذاب لأن الذي يخفف عنه فـيها من العذاب هو الذي له حظ فـي نعيـمها, ولا حظ لهؤلاء لاشترائهم الذي كان فـي الدنـيا ودنـياهم بآخرتهم.
وأما قوله: وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم فـي الاَخرة أحد فـيدفع عنهم بنصرته عذاب الله, لا بقوّته ولا بشفـاعته ولا غيرهما.
الآية : 87
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ وَقَفّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }
يعنـي بقوله جل ثناؤه: آتَـيْنَا مُوسَى الكِتابَ: أنزلناه إلـيه. وقد بـينا أن معنى الإيتاء: الإعطاء فـيـما مضى قبل, والكتاب الذي آتاه الله موسى علـيه السلام هو التوراة.
وأما قوله: وَقَـفّـيْنا فإنه يعنـي: وأرْدَفْنا وأتبعنا بعضهم خـلف بعض, كما يقـفو الرجل الرجل إذا سار فـي أثره من ورائه. وأصله من القَـفَـا, يقال منه: قـفوت فلانا: إذا صرت خـلف قـفـاه, كما يقال دَبَرْته: إذا صرت فـي دبره. ويعنـي بقوله: مِنْ بَعْدِهِ: من بعد موسى. ويعنـي بـالرّسُلِ الأنبـياء, وهم جمع رسول, يقال: هو رسول وهم رسل, كما يقال: هو صبور وهم قوم صُبُر, وهو رجل شكور وهم قوم شُكُر.
وإنـما يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَقَـفّـيْنا مِنْ بَعْدِهِ بـالرّسُلِ أي أتبعنا بعضهم بعضا علـى منهاج واحد وشريعة واحدة لأن كل من بعثه الله نبـيّا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلـى زمان عيسى ابن مريـم, فإنـما بعثه يأمر بنـي إسرائيـل بإقامة التوراة والعمل بـما فـيها والدعاء إلـى ما فـيها, فلذلك قـيـل: وَقَـفّـيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بـالرّسُلِ يعنـي علـى منهاجه وشريعته, والعمل بـما كان يعمل به.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وآتَـيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ البَـيّنَاتِ.
يعنـي بقوله: وآتَـيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ البَـيّنَاتِ أعطينا عيسى ابن مريـم. ويعنـي بـالبـينات التـي آتاه الله إياها ما أظهر علـى يديه من الـحجج والدلالة علـى نبوّته من إحياء الـموتـى وإبراء الأكْمةِ ونـحو ذلك من الاَيات التـي أبـانت منزلته من الله, ودلت علـى صدقه وصحة نبوّته. كما:
1093ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق, قال: حدثنا مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: وآتَـيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ البَـيّنَاتِ أي الاَيات التـي وضع علـى يديه من إحياء الـموتـى, وخـلقه من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فـيه فـيكون طائرا بإذن الله, وإبراء الأسقام, والـخبر بكثـير من الغيوب مـما يدّخرون فـي بـيوتهم, وما ردّ علـيهم من التوراة مع الإنـجيـل الذي أحدث الله إلـيه.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ.
أما معنى قوله: وأيّدْناهُ فإنه قوّيناه فأعنّاه, كما:
1094ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير عن جويبر, عن الضحاك: وأيّدْناهُ يقول: نصرناه. يقال منه: أيدك الله: أي قوّاك, وهو رجل ذو أيد وذو آدٍ, يراد: ذو قوة. ومنه قول العجاج:
مِنْ أن تَبَدّلْتُ بِآدِي آدا
يعنـي بشبـابـي قوّة الـمشيب. ومنه قول الاَخر:
إنّ القِدَاحَ إذا اجْتَـمَعْنَ فَرَامَهَابـالكَسْرِ ذُو جَلَدٍ وَبَطْشٍ أيّدِ
يعني بالأيّد القويّ. ثم اختلف فـي تأويـل قوله: بِرُوحِ القُدُسِ.
فقال بعضهم: روح القدس الذي أخبر الله تعالـى ذكره أنه أيد عيسى به هو جبريـل علـيه السلام. ذكر من قال ذلك:
1095ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: هو جبريـل.
1096ـ حدثنـي موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي قوله: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: هو جبريـل علـيه السلام.
1097ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك فـي قوله: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: روح القدس: جبريـل.
1098ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, عن الربـيع: وَأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: أيد عيسى بجبريـل وهو روح القدس.
1099ـ وقال ابن حميد: حدثنا سلـمة عن إسحاق, قال: حدثنـي عبد الله بن عبد الرحمن بن أبـي الـحسين الـمكي, عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من الـيهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح قال: «أَنْشُدُكُمْ بِـاللّهِ وَبأيّامِهِ عِنْدَ بَنِـي إِسْرَائِيـلَ هَلْ تَعْلَـمُونَ أنّهُ جِبْرِيـلُ, وَهُوَ يأتـينـي؟» قالوا: نعم.
وقال آخرون: الروح الذي أيد الله به عيسى هو الإنـجيـل. ذكر من قال ذلك:
1100ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: أيد الله عيسى بـالإنـجيـل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله, كما قال الله: وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إِلَـيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنَا.
وقال آخرون: هو الاسم الذي كان عيسى يحيـي به الـموتـى. ذكر من قال ذلك:
1101ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: هو الاسم الذي كان يحيـي عيسى به الـموتـى.
وأولـى التأويلات فـي ذلك بـالصواب قول من قال: الروح فـي هذا الـموضع جبريـل لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه أيد عيسى به, كما أخبر فـي قوله: إذْ قَالَ اللّهُ يا عِيسَى ابنَ مَرْيَـمَ اذْكُرْ نِعْمَتِـي عَلَـيْكَ وَعَلـى وَالِدَتِكَ إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدْسِ تُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وكَهْلاً وإذْ عَلّـمْتُكَ الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإنـجِيـلَ. فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الإنـجيـل لكان قوله: «إذ أيدتك بروح القدس وإذ علـمتك الكتاب والـحكمة والتوراة والإنـجيـل» تكرير قول لا معنى له. وذلك أنه علـى تأويـل قول من قال: معنى: إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ إنـما هو: إذْ أيدتك بـالإنـجيـل, وإذْ علـمتك الإنـجيـل وهو لا يكون به مؤيدا إلا وهو معلـمه. فذلك تكرير كلام واحد من غير زيادة معنى فـي أحدهما علـى الاَخر, وذلك خُـلْفٌ من الكلام, والله تعالـى ذكره يتعالـى عن أن يخاطب عبـاده بـما لا يفـيدهم به فـائدة.
وإذا كان ذلك كذلك فبـيّنٌ فساد قول من زعم أن الروح فـي هذا موضع الإنـجيـل, وإن كان جميع كتب الله التـي أوحاها إلـى رسله روحا منه لأنها تـحيا بها القلوب الـميتة, وتنتعش بها النفوس الـمولـيّة, وتهتدي بها الأحلام الضالة. وإنـما سمى الله تعالـى جبريـل روحا وأضافه إلـى القدس لأنه كان بتكوين الله له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده, فسماه بذلك روحا, وأضافه إلـى القدس والقدس: هو الطهر كما سمي عيسى ابن مريـم روحا لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده. وقد بـينا فـيـما مضى من كتابنا هذا أن معنى التقديس: التطهير, والقدس: الطهر من ذلك.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي معناه فـي هذا الـموضع نـحو اختلافهم فـي الـموضع الذي ذكرناه.
1102ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي, قال: القدس: البركة.
1103ـ حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبـي جعفر, عن أبـيه, قال: القدس: هو الربّ تعالـى ذكره.
1104ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: الله القدس, وأيّد عيسى بروحه. قال: نَعْتُ الله القدس. وقرأ قول الله جل ثناؤه: هُوَ اللّهُ الّذِي لا إلَهَ إِلاّ هُوَ الـمَلِكُ القُدّوسُ قال: القدس والقُدّوس واحد.
1105ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث, عن سعيد بن أبـي هلال بن أسامة, عن عطاء بن يسار, قال: قال: نَعْتُ الله: القدس.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أفَكُلّـما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِـمَا لاَ تَهْوَى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُـمْ فَرَيِقا كَذّبْتُـمْ وَفَرِيقا تَقْتُلُونَ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: أفَكُلّـما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِـما لا تَهْوَى أنْفُسَكُمْ الـيهود من بنـي إسرائيـل.
1106ـ حدثنـي بذلك مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد.
قال أبو جعفر: يقول الله جل ثناؤه لهم: يا معشر يهود بنـي إسرائيـل, لقد آتـينا موسى التوراة, وتابعنا من بعده بـالرسل إلـيكم, وآتـينا عيسى ابن مريـم البـينات والـحجج إذ بعثناه إلـيكم, وقوّيناه بروح القدس. وأنتـم كلـما جاءكم رسول من رسلـي بغير الذي تهواه نفوسكم استكبرتـم علـيهم تـجبرا وبغْيا استكبـارَ إمامكم إبلـيس فكذبتـم بعضا منهم, وقتلتـم بعضا, فهذا فعلكم أبدا برسلـي. وقوله: أفَكُلّـما إن كان خرج مخرج التقرير فـي الـخطاب فهو بـمعنى الـخبر.
الآية : 88
القول فـي تأويـل قوله تعالـى:
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مّا يُؤْمِنُونَ }
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك, فقرأه بعضهم: وَقَالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ مخففة اللام ساكنة, وهي قراءة عامة الأمصار فـي جميع الأقطار. وقرأه بعضهم: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ» مثقلة اللام مضمومة. فأما الذين قرءوها بسكون اللام وتـخفـيفها, فإنهم تأوّلوها أنهم قالوا قلوبنا فـي أكنة وأغطية وغُلْف. والغُلْفُ علـى قراءة هؤلاء, جمع أغلف, وهو الذي فـي غلاف وغطاء كما يقال للرجل الذي لـم يختتن: أغلف, والـمرأة غلفـاء, وكما يقال للسيف إذا كان فـي غلافه: سيف أغلف, وقوس غلفـاء, وجمعها «غُلْف», وكذلك جمع ما كان من النعوت ذكره علـى أفعل وأنثاه علـى فعلاء, يجمع علـى «فُعْل» مضمومة الأول ساكنة الثانـي, مثل أحمر وحُمر, وأصفر وصُفر, فـيكون ذلك جماعا للتأنـيث والتذكير, ولا يجوز تثقـيـل عين «فُعْل» منه إلا فـي ضرورة شعر, كما قال طَرَفة بن العبد:
أيّها الفِتْـيَانُ فِـي مَـجْلِسِنَاجَرّدوا مِنْها وِرادا وشُقُرْ
يريد: شُقْرا, لأن الشعر اضطره إلـى تـحريك ثانـيه فحركه. ومنه الـخبر الذي:
1107ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الـحكم بن بشير بن سلـمان, قال: حدثنا عمرو بن قـيس الـملائي, عن عمرو بن مرة الـجملـي, عن أبـي البختري, عن حذيفة قال: القلوب أربعة. ثم ذكرها, فقال فـيـما ذكر: وقلب أغلف: معصوب علـيه, فذلك قلب الكافر.
ذكر من قال ذلك, يعنـي أنها فـي أغطية.
1108ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, قال: حدثنـي ابن إسحاق, قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد, عن سعيد بن جبـير أو عكرمة, عن ابن عبـاس: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي فـي أكنة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: حدثنا معاوية بن صالـح, عن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس قوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي فـي غطاء.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: حدثنـي أبـي, قال: حدثنـي عمي, قال: حدثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ فهي القلوب الـمطبوع علـيها.
1109ـ حدثنـي عبـاس بن مـحمد, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جريج, أخبرنـي عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد قوله: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ علـيها غشاوة.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, قال: أخبرنـي عبد الله بن كثـير, عن مـجاهد: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ علـيها غشاوة.
1110ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري, قال: حدثنا شريك عن الأعمش قوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال: هي فـي غلف.
1111ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي لا تفقه.
1112ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: وَقَالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ قال: هو كقوله: قُلُوبُنَا فِـي أكِنّةٍ.
حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة فـي قوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال: علـيها طابع, قال هو كقوله: قُلُوبُنَا فِـي أكِنّةٍ.
1113ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربـيع, عن أبـي العالـية: قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي لا تفقه.
1114ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السدي: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال: يقولون: علـيها غلاف وهو الغطاء.
1115ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال: يقول قلبـي فـي غلاف, فلا يخـلص إلـيه مـما تقول. وقرأ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِـي أكِنّةٍ مِـمّا تَدْعُونَا إلَـيْهِ.
قال أبو جعفر: وأما الذين قرءوها: «غُلُفٌ» بتـحريك اللام وضمها, فإنهم تأوّلوها أنهم قالوا: قلوبنا غُلُف للعلـم, بـمعنى أنها أوعية. قال: والغلف علـى تأويـل هؤلاء جمع غلاف, كما يجمع الكتاب كُتُب, والـحجاب حُجُب, والشهاب شُهُب.
فمعنى الكلام علـى تأويـل قراءة من قرأ: «غُلُفٌ» بتـحريك اللام وضمها: وقالت الـيهود قلوبنا غُلُف للعلـم, وأوعية له ولغيره. ذكر من قال ذلك:
1116ـ حدثنـي عبـيد بن أسبـاط بن مـحمد, قال: حدثنا أبـي, عن فضيـل بن مرزوق, عن عطية: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ» قال: أوعية للذكر.
حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا فضيـل, عن عطية فـي قوله: «قُلُوبُنَا غُلُفٌ» قال: أوعية للعلـم.
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا فضيـل, عن عطية, مثله.
1117ـ حدثت عن الـمنـجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبـي روق, عن الضحاك, عن ابن عبـاس فـي قوله: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ قال: مـملوءة علـما لا تـحتاج إلـى مـحمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره.
والقراءة التـي لا يجوز غيرها فـي قوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ هي قراءة من قرأ «غُلْف» بتسكين اللام بـمعنى أنها فـي أغشية وأغطية لاجتـماع الـحجة من القراء وأهل التأويـل علـى صحتها, وشذوذ من شذّ عنهم بـما خالفه من قراءة ذلك بضم اللام. وقد دللنا علـى أن ما جاءت به الـحجة متفقة علـيه حجة علـى من بلغه, وما جاء به الـمنفرد فغير جائز الاعتراض به علـى ما جاءت به الـجماعة التـي تقوم بها الـحجة نقلاً وقولاً وعملاً فـي غير هذا الـموضع, فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـمكان.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ.
يعنـي جل ثناؤه بقوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ: بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم وجحودهم آيات الله وبـيناته, وما ابتعث به رسله, وتكذيبهم أنبـياءه. فأخبر تعالـى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بـما كانوا يفعلون من ذلك. وأصل اللعن: الطرد والإبعاد والإقصاء, يقال: لَعَنَ الله فلانا يـلعنُه لَعْنا وهو ملعون, ثم يصرّف مفعول فـيقال هو لَعِينٌ ومنه قول الشماخ بن ضرار:
ذَعَرْتُ بِهِ القَطا ونَفَـيْتُ عنْهُمَكَانَ الذّئْبِ كالرّجُلِ اللّعِينِ
قال أبو جعفر: فـي قول الله تعالـى ذكره: بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ تكذيبٌ منه للقائلـين من الـيهود: قُلُوبُنَا غُلْفٌ لأن قوله: بَلْ دلالة علـى جحده جل ذكره, وإنكاره ما ادّعوا من ذلك إذ كانت «بل» لا تدخـل فـي الكلام إلا نقضا لـمـجحود.
فإذا كان ذلك كذلك, فبـيّنٌ أن معنى الآية: وقالت الـيهود قلوبنا فـي أكنة مـما تدعونا إلـيه يا مـحمد. فقال الله تعالـى ذكره: ما ذلك كما زعموا, ولكن الله أقصى الـيهود وأبعدهم من رحمته وطردهم عنها وأخزاهم بجحودهم له ولرسله فقلـيلاً ما يؤمنون.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَقَلِـيلاً ما يُؤْمِنُونَ.
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: فَقَلِـيلاً مَا يُؤْمِنُونَ. فقال بعضهم: معناه: فقلـيـل منهم من يؤمن, أي لا يؤمن منهم إلا قلـيـل. ذكر من قال ذلك:
1118ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكْفْرِهِمْ فَقَلِـيلاً مَا يُؤْمِنُونَ فلعمري لَـمن رجع من أهل الشرك أكثر مـمن رجع من أهل الكتاب, إنـما آمن من أهل الكتاب رهط يسير.
1119ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: فَقَلِـيلاً ما يُؤْمِنُونَ قال: لا يؤمن منهم إلا قلـيـل.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلا بقلـيـل مـما فـي أيديهم. ذكر من قال ذلك:
1120ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو سفـيان, عن معمر, عن قتادة: فَقَلِـيلاً مَا يُؤْمِنُونَ قال: لا يؤمن منهم إلاّ قلـيـل. قال معمر: وقال غيره: لا يؤمنون إلاّ بقلـيـل مـما فـي أيديهم.
وأولـى التأويلات فـي قوله: فَقَلِـيلاً مَا يُؤْمِنُونَ بـالصواب ما نـحن مُتقنوه إن شاء الله وهو أن الله جل ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم فـي هذه الآية, ثم أخبر عنهم أنهم قلـيـلو الإيـمان بـما أنزل الله إلـى نبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم, ولذلك نصب قوله: فَقَلِـيلاً لأنه نعت للـمصدر الـمتروك ذكره, ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم فإيـمانا قلـيلاً ما يؤمنون. فقد تبـين إذا بـما بـينا فساد القول الذي روي عن قتادة فـي ذلك لأن معنى ذلك لو كان علـى ما روي من أنه يعنـي به: فلا يؤمن منهم إلا قلـيـل, أو فقلـيـل منهم من يؤمن, لكان القلـيـل مرفوعا لا منصوبـا لأنه إذا كان ذلك تأويـله كان القلـيـل حينئذٍ مرافعا «ما» وإن نصب القلـيـل, و«ما» فـي معنى «من» أو «الذي» بقـيت «ما» لا مرافع لها, وذلك غير جائز فـي لغة أحد من العرب.
فأما أهل العربـية فإنهم اختلفوا فـي معنى «ما» التـي فـي قوله: فَقَلِـيلاً مَا يُؤْمِنُونَ فقال بعضهم: هي زائدة لا معنى لها, وإنـما تأويـل الكلام: فقلـيلاً يؤمنون, كما قال جل ذكره: فَبِـمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وما أشبه ذلك. فزعم أن «ما» فـي ذلك زائدة, وأن معنى الكلام: فبرحمة من الله لنت لهم وأنشد فـي ذلك مـحتـجّا لقوله ذلك ببـيت مهلهل:
لَوْ بِأبـانَـيْنِ جاءَ يَخْطُبُهاخُضّبَ ما أنْفُ خاطِبٍ بدَمِ
ورغم أنه يعنـي: خضب أنف خاطب بدم, وأن «ما» زائدة.
وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول فـي «ما» فـي الآية, وفـي البـيت الذي أنشده, وقالوا: إنـما ذلك من الـمتكلـم علـى ابتداء الكلام بـالـخبر عن عموم جميع الأشياء, إذ كانت «ما» كلـمة تـجمع كل الأشياء ثم تـخصّ وتعمّ ما عمته بـما تذكره بعدها. وهذا القول عندنا أولـى بـالصواب لأن زيادة «ما» لا تفـيد من الكلام معنى فـي الكلام غير جائز إضافته إلـى الله جل ثناؤه. ولعل قائلاً أن يقول: هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم قلـيلاً ما يؤمنون من الإيـمان قلـيـل أو كثـير فـيقال فـيهم فقلـيلاً ما يؤمنون؟ قـيـل: إن معنى الإيـمان هو التصديق, وقد كانت الـيهود التـي أخبر الله عنها هذا الـخبر تصدّق بوحدانـية الله وبـالبعث والثواب والعقاب, وتكفر بـمـحمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته, وكل ذلك كان فرضا علـيهم الإيـمان به لأنه فـي كتبهم, ومـما جاءهم به موسى فصدّقوا ببعض هو ذلك القلـيـل من إيـمانهم, وكذّبوا ببعض فذلك هو الكثـير الذي أخبر الله عنهم أنهم يكفرون به.
وقد قال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنـين بشيء, وإنـما قـيـل: فَقَلِـيلاً ما يُؤْمِنُونَ وهم بـالـجميع كافرون, كما تقول العرب: قلّـما رأيت مثل هذا قط, وقد رُوي عنها سماعا منها: مررت ببلاد قلـما تنبت إلا الكُرّاث والبصل, يعنـي: ما تنبت غير الكرّاث والبصل, وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بـالقلة, والـمعنى فـيه نفـي جميعه