تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 145 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 145

144

132- "ولكل درجات مما عملوا" أي لكل من الجن والإنس درجات متفاوته مما عملوا فنجازيهم بأعمالهم، كم قال في آية أخرى: "ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون"، وفيه دليل على أن المطيع من الجن في الجنة، والعاصي في النار "وما ربك بغافل عما يعملون" من أعمال الخير والشر، والغفلة ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره. قرأ ابن عامر "تعملون" بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية. وقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً" قال: يولي الله بعض الظالمين بعضاً في الدنيا يتبع بعضهم بعضاً في النار. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن زيد في الآية مثل ما حكينا عنه قريباً. وأخرج أبو الشيخ عن الأعمش في تفسير الآية قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الزمان أمر عليهم شرارهم. وأخرج الحاكم في التاريخ والبيهقي في الشعب من طريق يحيى بن هاشم حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كما تكونون كذلك يؤمر عليكم". قال البيهقي: هذا منقطع ويحيى ضعيف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "رسل منكم" قال: ليس في الجن رسل، وإنما الرسل في الإنس، والنذارة في الجن، وقرأ: " فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ". وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة أيضاً عن الضحاك قال: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضاً عن ليث بن أبي سليم قال: مسلمو الجن لا يدخلون الجنة ولا النار، وذلك أن الله أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد ولده. وأخرج أبو الشيخ في العظمة أيضاً عن ابن عباس قال: الخلق أربعة فخلق في الجنة كلهم، وخلق في النار كلهم، وخلقان في الجنة والنار، فأما الذين في الجنة كلهم فالملائكة، وأما الذين في النار كلهم فالشياطين، وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجن، لهم الثواب وعليهم العقاب.
قوله: 133- "وربك الغني" أي عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم ومع كونه غنياً عنهم، فهو ذو رحمة بهم لا يكون غناه عنهم مانعاً من رحمته لهم، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه، وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطول "إن يشأ يذهبكم" أيها العباد العصاة فيستأصلكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك "ويستخلف من بعد" إهلاكـ " بعدكم ما يشاء " من خلقه ممن هو أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منكم "كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين" الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية: أي ويستخلف استخلافاً مثل إنشائكم من ذرية قوم آخرين، قيل: هم أهل سفينة نوح، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم ولا استخلف غيرهم رحمة لهم ولطفاً بهم.
134- " إنما توعدون " من البعث والمجازاة "لآت" لا محالة فإن الله لا يخلف الميعاد "وما أنتم بمعجزين" أي بفائتين عن ما هو نازل بكم، وواقع عليكم: يقال أعجزني فلان: أي فاتني وغلبني.
قوله: 135- "قل يا قوم اعملوا على مكانتكم" المكانة: الطريقة، أي اثبتوا على ما أنتم عليه، فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم، إني ثابت على ما أنا عليه "فسوف تعلمون" من هو على الحق ومن هو على الباطل، وهذا وعيد شديد، فلا يرد ما يقال كيف يأمرهم بالثبات على الكفر؟ و "عاقبة الدار" هي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها: أي من له النصر في دار الدنيا، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة. وقال الزجاج: معنى مكانتكم: تمكنكم في الدنيا، أي اعملوا على تمكنكم من أمركم، وقيل: على ناحيتكم، وقيل: على موضعكم. قرأ حمزة والكسائي "من يكون" بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. والضمير في " إنه لا يفلح الظالمون " للشأ،: أي لا يفلح من اتصف بصفة الظلم، وهو تعريض لهم بعدم فلاحهم لكونهم المتصفين بالظلم.
قوله: 136- "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً" هذا بيان نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وتأثيرهم لآلهتهم على الله سبحانه: أي جعلوا لله سبحانه مما خلق من حرثهم ونتاج دوابهم نصيباً ولآلهتهم نصيباً من ذلك يصرفونه في سدنتها والقائمين بخدمتها، فإذا ذهب ما لآلهتهم بانفاقه في ذلك عوضوا عنه ما جعلوه لله، وقالوا: الله غني عن ذلك، والزعم الكذب. قرأ يحيى بن وثاب والسلمي والأعمش والكسائي: "بزعمهم" بضم الزاي، وقرأ الباقون بفتحها، وهما لغتان "فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله" أي إلى المصارف التي شرع الله الصرف فيها كالصدقة وصلة الرحم، وقري الضيف "وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم" أي يجعلونه لآلهتهم وينفقونه في مصالحها "ساء ما يحكمون" أي ساء الحكم حكمهم في إيثار آلهتهم على الله سبحانه، وقيل معنى الآية: أنهم كانوا إذا ذبحوا ما جعلوه لله ذكروا عليه اسم أصنامهم، وإذا ذبحوا ما لأصنامهم لم يذكروا عليه اسم الله، فهذا معنى الوصول إلى الله، والوصول إلى شركائهم، وقد قدمنا الكلام في ذرأ.
قوله: 137- "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم" أي ومثل ذلك التزيين الذي زينه الشيطان لهم في قسمة أموالهم بين الله وبين شركائهم زين لهم قتل أولادهم. قال الفراء والزجاج: شركاؤهم هاهنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان، وقيل: كان الرجل يحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور لينحرن أحدهم كما فعله عبد المطلب. قرأ الجمهور "زين" بالبناء للفاعل ونصب "قتل" على أنه مفعول زين وجر أولاد بإضافة قتل إليه، ورفع شركاؤهم على أنه فاعل زين، وقرأ الحسن بضم الزاي ورفع قتل، وخفض أولاد، ورفع شركاؤهم على أن قتل هو نائب الفاعل، ورفع شركاؤهم بتقدير يجعل يرجعه: أي زينه شركاؤهم، ومثله قول الشاعر: لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط ما تطيح الطوائح أي يبكيه ضارع. وقرأ ابن عامر وأهل الشام بضم الزاي، ورفع قتل، ونصب أولاد، وخفض شركائهم على أن قتل مضاف إلى شركائهم، ومعموله أولادهم، ففيه الفصل بين المصدر وما هو مضاف إليه بالمفعول، ومثله في الفصل بين المصدر وما أضيف إليه قول الشاعر: تمر على ما تستمر وقد شفت علائل عبد القيس منها صدورها بجر صدورها، والتقدير: شفت عبد القيس علائل صدورها. قال النحاس: إن هذه القراءة لا تجوز في كلام ولا في شعر، وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الشعر لاتساعهم في الظروف، وهو أي الفصل بالمفعول به في الشعر بعيد، فإجازته في القرآن أبعد. وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي: إن قراءة ابن عامر هذه لا تجوز في العربية وهي زلة عالم، وإذا زل العالم لم يجز اتباعه ورد قوله إلى الإجماع، وإنما أجازوا في الضرورة للشاعر أن يفرق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف كقول الشاعر: كما خط الكتاب بكف يوماً يهودي يقارب أو يــزيل وقول الآخر: لله در اليوم من لامها وقال قوم ممن انتصر لهذه القراءة: إنها إذا ثبتت بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي فصيحة لا قبيحة. قالوا: وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان رضي الله عنه شركائهم بالياء. وأقول: دعوى التواتر باطلة بإجماع القراء المعتبرين كما بينا ذلك في رسالة مستقلة، فمن قرأ بما يخالف الوجه النحوي فقراءته رد عليه، ولا يصح الاستدلال لصحة هذه القراءة بما ورد من الفصل في النظم كما قدمنا، وكقول الشاعر: فزججتـــــها بمزجــــة زج القلوص أبى مزاده فإن ضرورة الشعر لا يقاس عليها، وفي الآية قراءة رابعة وهي جر الأولاد والشركاء، ووجه ذلك أن الشركاء بدل من الأولاد لكونهم شركاؤهم في النسب والميراث. قوله: "ليردوهم" اللام لام كي: أي لكي يردوهم، من الإرداء وهو الإهلال "وليلبسوا عليهم دينهم" معطوف على ما قبله: أي فعلوا ذلك التزيين لإهلاكهم ولخلط دينهم عليهم "ولو شاء الله ما فعلوه" أي لو شاء الله عدم فعلهم ما فعلوه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وإذا كان ذلك بمشيئة الله "فذرهم وما يفترون" فدعهم وافتراءهم فذلك لا يضرك. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبان بن عثمان قال: الذرية الأصل، والذرية النسل. وأخرجا أيضاً عن ابن عباس "وما أنتم بمعجزين" قال: بسابقين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "على مكانتكم" قال: على ناحيتكم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه أيضاً في قوله: "وجعلوا لله" الآية. قال: جعلوا لله من ثمارهم ومائهم نصيباً وللشيطان والأوثان نصيباً، فإن سقط من ثمره ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن سقط مما جعلوه للشياطين في نصيب الله ردوه إلى نصيب الشيطان، وإن انفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله نزحوه، فهذا ما جعلوا لله من الحرث وسقي الماء، وأما وأما ما جعلوه للشيطان من الأنعام فهو قول الله: "ما جعل الله من بحيرة" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عنه نحوه من طريق أخرى. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: جعلوا لله مما ذرأ من الحرث جزءاً ولشركائهم جزءاً، فما ذهب به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه وقالوا الله عن هذا غني، وما ذهب به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه. والأنعام التي سموا لله: البحيرة والسائبة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم" قال: شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خوف العيلة.
هذا بيان نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم. والحجر بكسر أوله وسكون ثانيه في قراءة الجمهور. وقرأ أبان بن عثمان حجر بضم الحاء والجيم، وقرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وإسكان الجيم، وقرأ ابن عباس وابن الزبير حرج بتقديم الراء على الجيم، وكذا هو في مصحف أبي، وهو من الحرج، يقال: فلان يتحرج: أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه. والحجر على اختلاف القراءات فيه هو مصدر بمعنى اسم المفعول: أي محجور، وأصله المنع، فمعنى الآية: هذه أنعام وحرث ممنوعة، يعنون أنها لأصنامهم لا يطعمها إلا من يشاءون بزعمهم وهم خدام الأصنام. والقسم الثاني قولهم: 138- "وأنعام حرمت ظهورها" وهي البحيرة والسائبة والحام، وقيل: إن هذا القسم الثاني مما جعلوه لآلهتهم أيضاً. والقسم الثاني "أنعام لا يذكرون اسم الله عليها" وهي ما ذبحوا لآلهتهم فإنهم يذبحونها باسم أصنامهم لا باسم الله. وقيل: إن المراد لا يحجون عليها افتراء على الله: أي للافتراء عليه "سيجزيهم بما كانوا يفترون" أي بافترائهم أو بالذي يفترونه، ويجوز أن يكون افتراء منتصباً على أنه مصدر: أي افتروا افتراء، أو حال: أي مفترين، وانتصابه على العلة أظهر.