تفسير الطبري تفسير الصفحة 145 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 145
146
144
 الآية : 132
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمّا عَمِلُواْ وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ولكلّ عامل في طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله, يبلغه الله إياها, ويثيبه بها, إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا. وَما رَبّكَ بغافلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ يقول جلّ ثناؤه: وكلّ ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك يحصيها ويثبتها لهم عنده ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.
الآية : 133
القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَبّكَ الْغَنِيّ ذُو الرّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ }.
يقول جلّ ثناؤه: وربك يا محمد الذي أمر عباده بما أمرهم به ونهاهم عما نهاهم عنه وأثابهم على الطاعة وعاقبهم على المعصية, الغنّى عن عباده, الذين أمرهم بما أمر ونهاهم عما نهى, وعن أعمالهم وعبادتهم إياه, وهم المحتاجون إليه, لأنه بيده حياتهم ومماتهم وأرزاقهم وأقواتهم ونفعهم وضرّهم, يقول عز ذكره: فلم أخلقهم يا محمد ولم آمرهم بما أمرتهم به وأنههم عما نهيتهم عنه, لحاجة لي إليهم ولا إلى أعمالهم, ولكن لأتفضّل عليهم برحمتي وأثيبهم على إحسانهم إن أحسنوا, فإني ذو الرأفة والرحمة.
وأما قوله: إنْ يَشأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ فإنه يقول: إن يشأ ربك يا محمد الذي خلق خلقه لغير حاجة منه إليهم وإلى طاعتهم إياه يُذْهِبْكُمْ يقول: يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم وَيْسَتخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشَاءُ يقول: ويأت بخلق غيركم, وأمم سواكم يخلفونكم في الأرض من بعدكم, يعني: من بعد فنائكم وهلاككم. كمَا أنْشَأكُمْ مِنْ ذُرّيّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلقٍ آخرين كانوا قبلكم. ومعنى «مِنْ» في هذا الموضع: التعقيب, كما يقال في الكلام أعطيتك من دينارك ثوبا, بمعنى: مكان الدينار ثوبا, لا أن الثوب من الدينار بعض, كذلك الذين خوطبوا بقوله: كمَا أنْشأَكُمْ لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين, ولكن معنى ذلك ما ذكرنا من أنهم أنشئوا مكان خَلْقٍ خَلْفَ قوم آخرين قد هلكوا قبلهم. والذرية من قول القائل: ذرأ الله الخلق, بمعنى خلقهم فهو يذرؤهم, ثم ترك الهمزة فقيل: ذرا الله, ثم أخرج الفُعّيلة بغير همز على مثال العُلّية. وقد رُوى عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ: «مِنْ ذَرِيئَةِ قَوْمِ آخَرِينَ» على مثال فَعِيلَة. وعن آخر أنه كان يقرأ: «وَمِنْ ذُرْيَةِ» على مثال عُلْيَة. والقراءة التي عليها القرّاء في الأمصار: ذُرّيّة بضمّ الذال وتشديد الياء على مثال عُلّية. وقد بيّنا اشتقاق ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته ههنا. وأصل الإنشاء: الإحداث, يقال: قد أنشأ فلان يحدّث القوم, بمعنى: ابتدأ وأخذ فيه.
الآية : 134
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ مَا تُوعَدُونَ لاَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ }.
يقول تعالى ذكره للمشركين به: أيها العادلون بالله الأوثان والأصنام, إن الذي يوعدكم به ربكم من عقابه على إصراركم على كفركم واقع بكم وَما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ, يقول: لن تعجزوا ربكم هربا منه في الأرض فتفوتوه, لأنكم حيث كنتم في قبضته, وهو عليكم وعلى عقوبتكم بمعصيتكم إياه قادر, يقول: فاحذروه, وأنيبوا إلى طاعته قبل نزول البلاء بكم.
الآية : 135
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىَ مَكَانَتِكُمْ إِنّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لقومك من قريش, الذين يجعلون مع الله إلها آخر: اعْمَلُوا على مَكانَتِكُمْ يقول: اعملوا على حيالكم وناحيتكم. كما:
10888ـ حدثني عليّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: يا قَوْمِ اعْمَلُوا على مَكانَتِكُمْ يعني على ناحيتكم.
يقال منه: هو يعمل على مكانته ومكينته. وقرأ ذلك بعض الكوفيين: «على مَكاناتِكُمْ» على جمع المكانة. والذي عليه قرّاء الأمصار: على مَكانَتِكُمْ على التوحيد. إنّي عامِلٌ يقول جلّ ثناؤه لنبيه: قل لهم: اعملوا ما أنتم عاملون, فإني عامل ما أنا عامله مما أمرني به ربي. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يقول: فسوف تعلمون عند نزول نقمة الله بكم, أينا كان المحقّ في عمله والمصيب سبيل الرشاد, أنا أم أنتم؟ وقوله تعالى ذكره لنبيه: قل لقومك يا قَوْمِ اعْمَلُوا على مَكانَتِكُمْ أمر منه له بوعيدهم وتهديدهم, لا إطلاق لهم في عمل ما أرادوا من معاصي الله.
القول في تأويل قوله تعالى: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ إنّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ فسوف تعلمون أيها الكفرة بالله عند معاينتكم العذاب, من الذي تكون له عاقبة الداء منا ومنكم, يقول: من الذي قعب دنياه ما هو خير له منها أو شرّ منها بما قدّم فيها من صالح أعماله أو سيئها. ثم ابتدأ الخبر جلّ ثناؤه فقال: إنّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمونَ يقول: إنه لا ينجح ولا يفوز بحاجته عند الله من عمل بخلاف ما أمره الله به من العمل في الدنيا, وذلك معنى ظلم الظالم في هذا الموضع. وفي «مَنْ» التي في قوله: مَنْ تكُونُ له وجهان من الإعراب: الرفع على الابتداء, والنصب بقوله: تَعْلَمُونَ لإعمال العلم فيه والرفع فيه أجود, لأن معناه: فسوف تعلمون أينا له عاقبة الدار, فالابتداء في أن من أصحّ وأفصح من إعمال العلم فيه.
الآية : 136
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـَذَا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىَ اللّهِ وَمَا كَانَ للّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىَ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام لربهم ممّا ذَرَأَ خالقهم, يعني: مما خلق من الحرث والأنعام, يقال منه: ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذَرْأً وَذَرْوا: إذا خلقهم. نصيبا: يعني قسما وجزءا.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة النصيب الذي جعلوا لله والذي جعلوه لشركائهم من الأوثان والشيطان, فقال بعضهم: كان ذلك جزءا من حروثهم وأنعامهم يقرّرونه لهذا, وجزءا لهذا. ذكر من قال ذلك:
10889ـ حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد, قال: حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن عكرمة عن ابن عباس: فَمَا كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إلى الله... الاَية, قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حُزَما جعلوا منها لله سهما وسهما لاَلهتهم, وكان إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لاَلهتهم إلى الذي جعلوه لله ردّوه إلى الذي جعلوه لاَلهتهم وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لاَلهتم أقرّوه ولم يردّوه, فذلك قوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ.
10890ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, في قوله: وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا فقالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكائِنا قال: جعلوا لله من ثمراتهم ومالهم نصيبا وللشيطان والأوثان نصيبا, فإن سقط من ثمرة ما جعلوا لله في نصيب الشيطان تركوه, وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله التقطوه وحفظوه وردّوه إلى نصيب الشيطان. وإن انفجر من سَقْي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه وإن انفجر من سَقْي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدوه, فهذا ما جعلوا من الحروث وسقي الماء. وأما ما جعلوا للشيطان من الأنعام, فهو قول الله: ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَجَعَلُوا لِلّهَ مِمّا ذَرأَ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا فَقالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ... الاَية, وذلك أن أعداء الله كانوا إذا احترثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة, جعلوا لله منها جزءا وللوثَن جزءا, فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه, فإن سقط منه شيء فيما سمى لله ردّوه إلى ما جعلوا للوثن, وإن سبقهم الماء إلى الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله, جعلوا ذلك للوثن, وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوا لله فاختلط بالذي جعلوا للوثن, قالوا: هذا فقير, ولم يردّوه إلى ما جعلوا لله. وإن سبقهم الماء الذي جعلوا لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن. وكانوا يُحَرّمون من أنعامهم: البحيرة, والسائبة, والوصيلة, والحام, فيجعلونه للأوثان, ويزعمون أنهم يحرّمونه لله, فقال الله في ذلك: وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرأَ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا... الاَية.
10891ـ حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا قال: يسمون لله جزءا من الحرث ولشركائهم وأوثانهم جزءا. فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه, وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردّوه وقالوا: الله عن هذا غنيّ. والأنعام: السائبة والبحيرة التي سَمّوْا.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
10892ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا... الاَية, عمد ناس من أهل الضلالة, فجزّءوا من حروثهم ومواشيهم جزءا لله وجزءا لشركائهم. وكانوا إذا خالط شيء مما جزّءوا لله فيما جزّءوا لشركائهم خلوه, فإذا خالط شيء مما جزّءوا لشركائهم فيما جزّءوا لله ردّوه على شركائهم. وكانوا إذا أصابتهم السّنة استعانوا بما جزّءوا لله وأقرّوا ما جزءوا لشركائهم, قال الله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا قال: كانوا يجزئون من أموالهم شيئا, فيقولون: هذا لله, وهذا للأصنام التي يعبدون. فإذا ذهب مما جعلوا لشركائهم فخالط ما جعلوا لله ردّوه, وإن ذهب مما جعلوه لله فخالط شيئا مما جعلوه لشركائهم تركوه. وإن أصابتهم سنة, أكلوا ما جعلوا لله وتركوا ما جعلوا لشركائهم, فقال الله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ.
10893ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَجلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْث والأنْعامِ نَصِيبا... إلى: يَحْكُمُونَ قال: كانوا يقسمون من أموالهم قسما فيجعلونه لله, ويزرعون زرعا فيجعلونه لله, ويجعلون لاَلتهم مثل ذلك, فما خرج للاَلهة أنفقوه عليها, وما خرج لله تصدّقوا به. فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم وكثر الذي لله, قالوا: ليس بدّ لاَلهتنا من نفقة وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتم وإذا أجدب الذي لله وكثر الذي لاَلهتهم, قالوا: لو شاء أزكى الذي له فلا يردّون عليه شيئا مما للاَلهة. قال الله: لو كانوا صادقين فيما قسموا لبئس إذًا ما حكموا أن يأخذوا مني ولا يعطوني. فذلك حين يقول: ساءَ ما يَحْكُمُونَ...
وقال آخرون: النصيب الذي كانوا يجعلونه لله فكان يصل منه إلى شركائهم أنهم كانوا لا يأكلون ما ذبحوا لله حتى يسموا الاَلهة, وكانوا ما ذبحوه للاَلهة يأكلونه ولا يسمون الله عليه. ذكر من قال ذلك:
10894ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا... حتى بلغ: وَما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكائِهِمْ قال: كلّ شيء جعلوه لله من ذِبْح يذبحونه لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الاَلهة, وما كان للاَلهة لم يذكروا اسم الله معه. وقرأ الاَية حتى بلغ: ساءَ ما يَحْكُمُونَ.
وأولى التأويلين بالاَية, ما قال ابن عباس, ومن قال بمثل قوله في ذلك لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أنهم جعلوا لله من حرثهم وأنعامهم قسما مقدّرا, فقالوا: هذا لله, وجعلوا مثله لشركائهم, وهم أوثانهم بإجماع من أهل التأويل عليه, فقالوا: هذا لشركائنا وإن نصيب شركائهم لا يصل منه إلى الله, بمعنى: لا يصل إلى نصيب الله, وما كان لله وصل إلى نصيب شركائهم. فلو كان وصول ذلك بالتسمية وترك التسمية, كان أعيان ما أخبر الله عنه أنهم لم يصل جائزا أن تكون قد وصلت, وما أخبر عنه أنه قد وصل لم يصل, وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر الكلام لأن الذبيحتين تذبح إحداهما لله والأخرى للاَلهة, جائز أن تكون لحومهما قد اختلطت وخلطوهما, إذ كان المكروه عندهم تسمية الله على ما كان مذبوحا للاَلهة دون اختلاط الأعيان واتصال بعضها ببعض.
وأما قوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ فإنه خبر من الله جلّ ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم. يقول جلّ ثناؤه: وقد أساءوا في حكمهم إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم ولم يعطوني من نصيب شركائهم. وإنما عنى بذلك تعالى ذكره الخبر عن جهلهم وضلالتهم وذهابهم عن سبيل الحقّ بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى ما لا يضرّهم ولا ينفعهم, حتى فضلوه في إقسامهم عند أنفسهم بالقسم عليه.
الآية : 137
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وكما زيّن شركاء هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام لهم ما زينّوا لهم, من تصييرهم لربهم من أموالهم قسما بزعمهم, وتركهم ما وصل من القسم الذي جعلوه لله إلى قسم شركائهم قسمهم, وردّهم ما وصل من القسم الذي جعلوه لشركائهم إلى قسم نصيب الله إلى قسم شركائهم, كَذَلِكَ زَيّنَ لكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ من الشياطين, فحسنوا لهم وأد البنات, لِيُرْدُوهُمْ يقول: ليهلكوهم, وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ فعلوا ذلك بهم ليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس, فيضلوا ويهلكوا بفعلهم ما حرّم عليهم الله. ولو شاء الله أن لا يفعلوا ما كانوا يفعلون من قتلهم لم يفعلوه, بأن كان يهديهم للحقّ ويوفّقهم للسداد, فكانوا لا يقتلونهم, ولكن الله خذلهم عن الرشاد فقتلوا أولادهم وأطاعوا الشياطين التي أغوتهم. يقول الله لنبيه متوعدا لهم على عظيم فريتهم على ربهم فيما كانوا يقولون في الأنصباء التي يقسمونها هذا لله وهذا لشركائنا وفي قتلهم أولادهم: ذرهم يا محمد وما يفترون وما يتقوّلون عليّ من الكذب والزور, فإني لهم بالمرصاد, ومن وراء العذاب والعقاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
10895ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: وكذلكَ زَيّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ: زينّوا لهم, من قتل أولادهم.
10896ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خيفة العَيْلة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.
10897ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وكذلكَ زَيّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ... الاَية, قال: شركاؤهم زينوا لهم ذلك. وَلَوْ شاءَ رَبّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ.
10898ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: وكذلكَ زَيّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ قال: شياطينهم التي عبدوها, زينوا لهم قتل أولادهم.
10899ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وكذلكَ زَيّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ليُرْدُوهُمْ أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات.
وأما لِيُرْدُوهُمْ: فيهلكوهم. وأما لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ فيخلطوا عليهم دينهم.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته قرّاء الحجاز والعراق: وكَذَلِكَ زَيّنَ بفتح الزاي من «زَيّن» لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ بنصب القتل, شُرَكاؤُهُمْ بالرفع. بمعنى أن شركاء هؤلاء المشركين الذين زينوا لهم قتل أولادهم, فيرفعون الشركاء بفعلهم, وينصبون القتل لأنه مفعول به. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الشام: «وكذلكَ زُيّنَ» بضم الزاي «لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ» بالرفع «أوْلادَهُمْ» بالنصب «شُرَكائِهِمْ» بالخفض, بمعنى: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم. ففرقوا بين الخافض والمخفوض بما عمل فيه من الاسم, وذلك في كلام العرب قبيح غير فصيح. وقد رُوِى عن بعض أهل الحجاز بيت من الشعر يؤيد قراءة من قرأ بما ذكرتُ من قراءة أهل الشام, رأيت رواة الشعر وأهل العلم بالعربية من أهل العراق ينكرونه, وذلك قول قائلهم:
فَزَجَجْتُهُ مُتَمَكّنازَجّ القَلُوصَ أبي مَزَادَهْ
والقراءة التي لا أستجيز غيرها: وكذلكَ زَيّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكيِنَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤهُمْ بفتح الزاي من «زيّن» ونصب «القتل» بوقوع «زيّن» عليه وخفض «أولادهم» بإضافة «القتل» إليهم, ورفع «الشركاء» بفعلهم لأنهم هم الذين زينوا للمشركين قتل أولادهم على ما ذكرت من التأويل.
وإنما قلت: لا أستجيز القراءة بغيرها لإجماع الحجة من القرّاء عليه, وأن تأويل أهل التأويل بذلك ورد, ففي ذلك أوضح البيان على فساد ما خالفها من القراءة. ولولا أن تأويل جميع أهل التأويل بذلك ورد ثم قرأ قارىء: «وكذلكَ زُيّنَ لِكَثير مِنَ المُشْرِكينَ قَتْلُ أوْلادِهِمْ شُرَكائِهمْ» بضم الزاي من «زيّن» ورفع «القتل» وخفض «الأولاد» «والشركاء», على أن «الشركاء» مخفوضون بالردّ على «الأولاد» بأن «الأولاد» شركاء آبائهم في النسب والميراث كان جائزا. ولو قرأه كذلك قارىء, غير أنه رفع «الشركاء» وخفض «الأولاد» كما يقال: ضُرِب عبد الله أخوك, فيظهر الفاعل بعد أن جرى الخبر بما لم يسمّ فاعله, كان ذلك صحيحا في العربية جائزا