تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 148 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 148

147

والضمير في 147- "كذبوك" لليهود: أي فإن كذبك اليهود فيما وصفت من تحريم الله عليهم تلك الأشياء "فقل ربكم ذو رحمة واسعة" ومن رحمته حلمه عنكم وعدم معاجلته لكم بالعقوبة في الدنيا، وهو وإن أمهلكم ورحمكم فـ "لا يرد بأسه عن القوم المجرمين" إذا أنزله بهم واستحقوا المعاجلة بالعقوبة، وقيل المراد: لا يرد بأسه في الآخرة عن القوم المجرمين. والأول أولى، فإنه سبحانه قد عاجلهم بعقوبات منها تحريم الطيبات عليهم في الدنيا، وقيل: الضمير يعود إلى المشركين الذين قسموا الأنعام إلى تلك الأقسام وحللوا بعضها وحرموا بعضها، وقيل المراد: أنه ذو رحمة للمطيعين "ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين" ولا ملجئ لهذا. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كل ذي ظفر" قال: هو الذي ليس بمنفرج الأصابع، يعني ليس بمشقوق الأصابع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عنه "كل ذي ظفر" قال: البعير والنعامة. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: هو كل شيء لم تنفرج قوائمه من البهائم، وما انفرج أكلته اليهود، قال: انفرجت قوائم الدجاج والعصافير فيهود تأكله، ولم ينفرج خف البعير ولا النعامة، ولا قائمة الوزينة فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزينة، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته كذلك، ولا تأكل حمار الوحش. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما" يعني ما علق بالظهر من الشحم "أو الحوايا" هي المبعر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي صالح في قوله: "إلا ما حملت ظهورهما" قال: الألية "أو الحوايا" قال: المبعر "أو ما اختلط بعظم" قال: الشحم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أو الحوايا" قال: المباعر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الضحاك "أو الحوايا" قال: المرائض والمباعر. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس "أو ما اختلط بعظم" قال: الألية اختلط شحم الألية بالعصعص فهو حلال وكل شحم القوائم والجنب والرأس والعين والأذن يقولون قد اختلط ذلك بعظم فهو حلال لهم، إنما حرم عليهم الثرب وشحم الكلية وكل شيء كان كذلك ليس في عظم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فإن كذبوك" قال: اليهود. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كانت اليهود يقولون: إن ما حرمه إسرائيل فنحن نحرمه، فذلك قوله: "فإن كذبوك" الآية.
أخبر الله عن المشركين أنهم سيقولون هذه المقالة، وهم كفار قريش أو جميع المشركين، يريدون أنه لو شاء الله عدم شركهم ما أشركوا هم ولا آباؤهم ولا حرموا شيئاً من الأنعام كالبحيرة ونحوها، وظنوا أن هذا القول يخلصهم عن الحجة التي ألزمهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما فعلوه حق، ولو لم يكن حقاً لأرسل الله إلى آبائهم الذين ماتوا على الشرك، وعلى تحريم ما لم يحرمه الله رسلاً يأمرونهم بترك الشرك وبترك التحريم لما لم يحرمه الله، والتحليل لما لم يحلله 148- "كذلك كذب الذين من قبلهم" أي مثل ما كذب هؤلاء كذب من قبلهم من المشركين أنبياء الله "حتى ذاقوا بأسنا" أي استمروا على التكذيب حتى ذاقوا بأسنا الذي أنزلناه بهم، ثم أمره الله أن يقول لهم: "هل عندكم من علم فتخرجوه لنا" أي هل عندكم دليل صحيح بعد من العلم النافع فتخرجوه إلينا لننظر فيه ونتدبره، والمقصود من هذا التبكيت لهم، لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجة ويقوم به البرهان ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم، وأنهم إنما يتبعون الظنون: أي ما يتبعون إلا الظن الذي هو محل الخطأ ومكان الجهل "وإن أنتم إلا تخرصون" أي تتوهمون مجرد توهم فقط كما يتوهم الخارص، وقد سبق تحقيقه.
ثم أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أن لله الحجة البالغة على الناس: أي التي تنقطع عندها معاذيرهم وتبطل شبههم وظنونهم وتوهماتهم. والمراد بها الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، وما جاءوا به من المعجزات 149- "فلو شاء" هدايتكم جميعاً "لهداكم أجمعين" ولكنه لم يشأ ذلك، ومثله قوله تعالى: "ولو شاء الله ما أشركوا" وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله. ومثله كثير.
ثم أمره الله أن يقول لهؤلاء المشركين: "هلم شهداءكم" أي هاتوهم وأحضروهم، وهو اسم فعل يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والمجموع عند أهل الحجاز، وأهل نجد يقولون: هلما هلمي هلموا، فينطقون به كما ينطقون بسائر الأفعال، وبلغة أهل الحجاز نزل القرآن، ومنه قوله تعالى: "والقائلين لإخوانهم هلم إلينا" والأصل عند الخليل ها ضمت إليها لم، وقال غيره: أصلها هل زيدت عليهم الميم، وفي كتاب العين للخليل: أن أصلها هل أؤم: أي هل أقصدك، ثم كثر استعمالهم لها، وهذا أيضاً من باب التبكيت لهم حيث يأمرهم بإحضار الشهود على أن الله حرم تلك الأشياء مع علمه أن لا شهود لهم "فإن شهدوا" لهم بغير علم بل مجازفة وتعصب "فلا تشهد معهم" أي فلا تصدقهم ولا تسلم لهم فإنهم كاذبون جاهلون، وشهادتهم باطلة "ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا" أي ولا تتبع أهواءهم، فإنهم رأس المكذبين بآياتنا. قوله: "والذين لا يؤمنون بالآخرة" معطوف على الموصول: أي لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا، وأهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة "وهم بربهم يعدلون" أي يجعلون له عدلاً من مخلوقاته كالأوثان، والجملة إما في محل نصب على الحال، أو معطوفة على لا يؤمنون. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد في قوله: "سيقول الذين أشركوا" قال: هذا قول قريش إن الله حرم هذا: أي البحيرة والسائبة، والوصيلة والحام. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة " قل فلله الحجة البالغة " قال: السلطان. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قيل له: إن ناساً يقولون ليس الشر بقدر، فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: "سيقول الذين أشركوا" إلى قوله: " فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ". قال ابن عباس: والعجز والكيس من القدر. وأخرج أبو الشيخ عن علي بن زيد قال: انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية "قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "قل هلم شهداءكم" قال: أروني شهداءكم.
قوله: 151- "قل تعالوا" أي تقدموا. قال ابن الشجري: إن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعداً، فقيل له تعال: أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي. وهكذا قال الزمخشري في الكشاف: إنه من الخاص الذي صار عاماً، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه، ثم كثر واتسع فيه حتى عم. قوله: "أتل ما حرم ربكم" أتل جواب الأمر، وما موصولة في محل نصب به: أي أتل الذي حرمه ربكم عليكم. والمراد من تلاوة ما حرم الله تلاوة الآيات المشتملة عليه، ويجوز أن تكون ما مصدرية: أي أتل تحريم ربكم. والمعنى: ما اشتمل على التحريم، قيل: ويجوز أن تكون ما استفهامية أي أتل أي شيء حرم ربكم على جعل التلاوة بمعنى القول، وهو ضعيف جداً، وعليكم أن تعلق بأتل، فالمعنى: أتل عليكم الذي حرم ربكم، وإن تعلق بحرم، فالمعنى أتل الذي حرم ربكم عليكم، وهذا أولى، لأن المقام مقام بيان ما هو محرم عليكم لا مقام بيان ما هو محرم مطلقاً، وقيل: إن عليكم للإغراء ولا تعلق لها بما قبلها. والمعنى عليكم أن لا تشركوا إلى آخره: أي الزموا ذلك كقوله تعالى: "عليكم أنفسكم" وهو أضعف مما قبله، وأن في " أن لا تشركوا " مفسرة لفعل التلاوة، وقال النحاس: يجوز أن تكون في موضع نصب بدلاً من ما: أي أتل عليكم تحريم الإشراك، وقيل: يجوز أن يكون في محل رفع بتقدير مبتدأ: أي المتلو أن لا تشركوا، وشيئاً مفعول أو مصدر أي لا تشركوا به شيئاً من الأشياء، أو شيئاً من الإشراك. قوله: "وبالوالدين إحساناً" أي أحسنوا بهما إحساناً، والإحسان إليهما البر بهما، وامتثال أمرهما ونهيهما. وقد تقدم الكلام على هذا. قوله: "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق" لما ذكر حق الوالدين على الأولاد، ذكر حق الأولاد على الوالدين، وهو أن لا يقتلوهم من أجل إملاق. والإملاق الفقر، فقد كانت الجاهلية تفعل ذلك بالذكر والإناث خشية الإملاق وتفعله بالإناث خاصة خشية العار، وحكى النقاش عن مؤرج أن الإملاق الجوع بلغة الخم، وذكر منذر بن سعيد البلوطي أن الإملاق الإنفاق. يقال: أملق ماله: بمعنى أنفقه. والمعنى الأول هو الذي أطبق عليه أئمة اللغة، وأئمة التفسير هاهنا "ولا تقربوا الفواحش" أي المعاصي، ومنه " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة " وما في "ما ظهر" بدل من الفواحش، وكذا ما بطن. والمراد بما ظهر ما أعلن به منها، وما بطن: ما أسر. وقد تقدم، "ولا تقتلوا النفس" اللام في النفس للجنس، و "التي حرم الله" صفة للنفس: أي لا تقتلوا شيئاً من الأنفس التي حرمها الله "إلا بالحق" أي إلا بما يوجبه الحق، والاستثناء مفرغ: أي لا تقتلوه في حال من الأحوال إلا في حال الحق، أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، ومن الحق قتلها قصاصاً وقتلها بسبب زنا المحصن، وقتلها بسبب الردة، ونحو ذلك من الأسباب التي ورد الشرع بها، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى ما تقدم مما تلاه عليهم، وهو مبتدأ " وصاكم به " خبره: أي أمركم به، وأوجبه عليكم.