تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 147 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 147

146

اختلف في انتصاب 143- "ثمانية" على ماذا؟ فقال الكسائي: بفعل مضمر، أي وأنشأ ثمانية أزواج. وقال الأخفش سعيد: هو منصوب على البدل من حمولة وفرشاً، وقال الأخفش علي بن سليمان: هو منصوب بكلوا، أي كلوا لحم ثمانية أزواج، وقيل: منصوب على أنه بدل من ما في مما رزقكم الله والزوج خلاف الفرد، يقال: زوج أو فرد، كما يقال: شفع أو وتر، فقوله: "ثمانية أزواج" يعني ثمانية أفراد وإنما سمي الفرد زوجاً في هذه الآية لأن كل واحد من الذكر والأنثى زوج بالنسبة إلى الآخر، ويقع لفظ الزوج على الواحد، فيقال: هما زوج وهو زوج، ويقول: اشتريت زوجي حمام: أي ذكراً وأنثى. والحاصل أن الواحد إذا كان منفرداً سواء كان ذكراً أو أنثى، قيل له: فرد، وإن كان الذكر مع أنثى من جنسه قيل لهما زوج، ولكل واحد على انفراده منهما زوج، ويقال لهما أيضاً: زوجان، ومنه قوله تعالى: "فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى". قوله: " من الضأن اثنين " بدل من ثمانية منتصب بناصبه على حسب الخلاف السابق، والضأن ذوات الصوف من الغنم، وهو جمع ضائن، ويقال للأنثى: ضائنة، والجمع ضوائن، وقيل: هو جمع لا واحد له، وقيل في جمعه: ضئين كعبد وعبيد. وقرأ طلحة بن مصرف الضأن بفتح الهمزة، وقرأ الباقون بسكونها. وقرأ أبان بن عثمان: " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين " رفعاً بالابتداء. "ومن المعز اثنين" معطوف على ما قبله مشارك له في حكمه. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وابن كثير وأهل البصرة بفتح العين من المعز. وقرأ الباقون بسكونها. قال النحاس: الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان، والمعز من الغنم خلاف الضأن، وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار، وهو اسم جنس، وواحد المعز ماعز، مثل صحب وصاحب، وركب وراكب، وتجر وتاجر، والأنثى ماعزة. والمراد من هذه الآية: أن الله سبحانه بين حال الأنعام وتفاصيلها إلى الأقسام المذكورة توضيحاً للامتنان بها على عباده، ودفعاً لما كانت الجاهلية تزعمه من تحليل بعضها وتحريم بعضها تقولاً على الله سبحانه وافتراء عليه، والهمزة في "قل آلذكرين حرم أم الأنثيين" للإنكار، والمراد بالذكرين: الكبش والتيس، وبالأنثيين: النعجة والمعز، وانتصاب الذكرين بحرم، والأنثيين معطوف عليه منصوب بناصبه. والمعنى: الإنكار على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها، وقولهم: "ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا" أي قل لهم إن كان حرم الذكور فكل ذكر حرام، وإن كان حرم الإناث فكل أنثى حرام، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني من الضأن والمعز فكل مولود حرام ذكراً كان أو أنثى وكلها مولود، فيستلزم أن كلها حرام. قوله: "نبئوني بعلم إن كنتم صادقين" أي أخبروني بعلم لا بجهل إن كنتم صادقين. والمراد من هذا التبكيت وإلزام الحجة لأنه يعلم أنه لا علم عندهم.
وهكذا الكلام في قوله: 144- "ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين" إلى آخره. قوله: "أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا" أم هي المنقطعة، والاستفهام للإنكار، وهي بمعنى بل والهمزة: أي بل أكنتم شهداء حاضرين مشاهدين إذ وصاكم الله بهذا التحريم. والمراد التبكيت وإلزام الحجة كما سلف قبله. قوله: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً" أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً فحرم شيئاً لم يحرمه الله ونسب ذلك إليه افتراء عليه كما فعله كبراء المشركين، واللام في "ليضل الناس بغير علم" للعلة: أي لأجل أن يضل الناس بجهل وهو متعلق بافترى "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" على العموم، وهؤلاء المذكورون في السياق داخلون في ذلك دخولاً أولياً، وينبغي أن ينظر في وجه تقديم المعز والضأن على الإبل والبقر مع كون الإبل والبقر أكثر نفعاً وأكبر أجساماً وأعود فائدة، لا سيما في الحمولة والفرش اللذين وقع الإبدال منهما على ما هو الوجه الأوضح في إعراب ثمانية. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس قال: الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز. وليت شعري ما فائدة نقل هذا الكلام عن ابن عباس من مثل هؤلاء الأئمة، فإنها لا تتعلق به فائدة، وكون الأزواج الثمانية هي المذكورة هو هكذا في الآية مصرحاً به تصريحاً لا لبس فيه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: الذكر والأنثى زوجان. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "ثمانية أزواج" قال: في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة والسائبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم قال: الجاموس والبختي من الأزواج الثمانية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: "ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين" قال: فهذه أربعة "قل آلذكرين حرم أم الأنثيين" يقول: لم أحرم شيئاً من ذلك "أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين" يعني هل تشتمل الرحم إلى على ذكر أو أنثى فلم يحرمون بعضاً ويحلون بعضاً؟ "نبئوني بعلم إن كنتم صادقين" يقول: كلها حلال: يعني ما تقدم ذكره مما حرمه أهل الجاهلية.
أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرماً غير هذه المذكورات، فدل ذلك على انحصار المحرمات فيها لولا أنها مكية، وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب ونحو ذلك. وبالجملة فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات كما يدل عليه السياق ويفيد الاستثناء، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات، وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء. وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية، وروي ذلك عن مالك وهو قول ساقط، ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرهما مما نزل بعدها من القرآن، وإهمال ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله بعد نزول هذه الآية بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه. قوله: "محرماً" صفة لموصوف محذوف: أي طعاماً محرماً "على" أي "طاعم يطعمه" من المطاعم، وفي "يطعمه" زيادة تأكيد وتقرير لما قبله "إلا أن يكون ميتة" أي ذلك الشيء أو ذلك الطعام أو العين أو الجثة أو النفس. وقرئ يكون بالتحتية والفوقية، وقرئ ميتة بالرفع على أن يكون تامة. والدم المسفوح: الجاري، وغير المسفوح معفو عنه كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح، ومنه الكبد والطحال، وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم. وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا. قوله: "أو لحم خنزير" ظاهر تخصيص اللحم أنه لا يحرم الانتفاع منه بما عدا اللحم، والضمير في "فإنه" راجع إلى اللحم أو إلى الخنزير. والرجس: النجس، وقد تقدم تحقيقه. قوله: "أو فسقاً" عطف على لحم خنزير، و "أهل به لغير الله" صفة فسق: أي ذبح على الأصنام، وسمي فسقاً لتوغله في باب الفسق، قيل: ويجوز أن يكون "فسقاً" مفعولاً له لأهل: أي أهل به لغير الله فسقاً على عطف أهل على يكون، وهو تكلف لا حاجة إليه "فمن اضطر غير باغ ولا عاد" قد تقدم تفسيره في سورة البقرة فلا نعيده "فإن ربك غفور رحيم" أي كثير المغفرة والرحمة فلا يؤاخذ المضطر بما دعت إليه ضرورته. وقد أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويحلون أشياء، فنزلت: "قل لا أجد" الآية. وأخرج عبد بن حميد أبو داود وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تعذراً، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، ما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلا هذه الآية: "قل لا أجد" إلى آخرها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه أنه تلا هذه الآية فقال: ما خلا هذا فهو حلال. وأخرج البخاري وأبو داود وابن المنذر وأبو الشيخ عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد: إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ: "قل لا أجد" الآية. وأقول: وإن أبى ذلك البحر فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ليس شيء من الدواب حرام إلا ما حرم الله في كتابه: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " الآية. وأخرج سعيد بن منصور وأبو داود وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر: أنه سئل عن أكل القنفذ، فقرأ: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " الآية، فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول:" ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال:خبيثة من الخبائث، فقال ابن عمر: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة: أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير تلت: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما " الآية. وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس: أن شاة لسودة بنت زمعة ماتت فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة: تعني الشاة، قال: فلولا أخذتم مسكها؟ قالت: يا رسول الله أنأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة " وأنتم لا تطعمونه، وإنما تدبغونه حتى تستنفعوا به، فأرسلت إليها فسلختها ثم دبغته، فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها. ومثل هذا حديث شاة ميمونة، وهو في الصحيح. ومثله حديث: "إنما حرم من الميتة أكلها" وهو أيضاً في الصحيح. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "أو دماً مسفوحاً" قال: مهراقاً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا أودجوا الدابة وأخذوا الدم فأكلوه، قال: هو دم مسفوح. وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي: أنه سئل عن لحم الفيل والأسد فتلا " قل لا أجد في ما أوحي إلي " الآية. والأحاديث الواردة بتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير والحمر الأهلية ونحوها مستوفاة في كتب الحديث.
قدم 146- "على الذين هادوا" على الفعل للدلالة على أن هذا التحريم مختص بهم لا يجاوزهم إلى غيرهم. والذين هادوا: اليهود، ذكر الله ما حرمه عليهم عقب ذكر ما حرمه على المسلمين. والظفر: واحد الأظفار، ويجمع أيضاً على أظافير، وزاد الفراء في جموع ظفر أظافر وأظافرة وذو الظفر ما له أصبع من دابة أو طائر، ويدخل فيه الحافر والخف والمخلب، فيتناول الإبل والبقر والغنم والأوز والبط وكل ما له مخلب من الطير، وتسمية الحافر ظفراً مجاز. والأولى حمل الظفر على ما يصدق عليه اسم الظفر في لغة العرب، لأن هذا التعميم يأباه ما سيأتي من قوله: "ومن البقر والغنم" فإن كان في لغة العرب بحيث يقال على البقر والغنم كان ذكرهما من بعد تخصيصاً حرم الله ذلك عليهم عقوبة لهم على ما وقعوا فيه من الظلم كما قال تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم". قوله: "ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما" لا غير هذه المذكورات كلحمهما، والشحوم يدخل فيها الثروب وشحم الكلية، وقيل: الثروب جمع ثرب، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش، ثم استثنى الله سبحانه من الشحوم ما حمتل ظهورهما من الشحم فإنه لم يحرمه الله عليهم، و "ما" في موضع نصب على الاستثناء "أو الحوايا" معطوف على ظهورهما أي إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا، وهي المباعر التي يجتمع البعر فيها، فما حملته من الشحم غير حرام عليهم، وواحدها حاوية، مثل ضاربة وضوارب، وقيل: الحوايا: الأمعاء التي عليها الشحوم. قوله: "أو ما اختلط بعظم" معطوف على ما في "ما حملت" كذا قال الكسائي والفراء وثعلب، وقيل: إن الحوايا وما اختلط بعظم معطوفة على الشحوم. والمعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرم ولا وجه لهذا التكلف ولا موجب له لأنه يكون المعنى إن الله حرم عليهم إحدى هذه المذكورات. والمراد بما اختلط بعظم: ما لصق بالعظام من الشحوم في جميع مواضع الحيوان، ومنه الإلية فإنها لاصقة بعجب الذنب، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى التحريم المدلول عليه بحرمنا أي ذلك التحريم جزيناهم به بسبب بغيهم. وقيل: إن الإشارة إلى الجزاء المدلول عليه بقوله: "جزيناهم" أي ذلك الجزاء جزيناهم، وهو تحريم ما حرمه الله عليهم "وإنا لصادقون" في كل ما نخبر به، ومن جملة ذلك هذا الخبر، وهو موجود عندهم في التوراة، ونصها: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وكل دابة ليست مشقوقة الحافر وكل حوت ليس فيه سفاسق أي بياض انتهى.