سورة الأنعام | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 149 من المصحف
152- "ولا تقربوا مال اليتيم" أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه إلا بـ الخصلة "التي هي أحسن" من غيرها، وهي ما فيه صلاحه وحفظه وتنميته، فيشمل كل وجه من الوجوه التي فيها نفع لليتيم وزيادة في ماله، وقيل: المراد بالتي هي أحسن التجارة "حتى يبلغ أشده" أي إلى غاية هي أن يبلغ اليتيم أشده، فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله، كما قال تعالى: "فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم". واختلف أهل العلم في الأشد، فقال أهل المدينة: بلوغه وإيناس رشده. وقال أبو حنيفة: خمس وعشرون سنة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو البلوغ. وقيل: إنه انتهاء الكهولة، ومنه قول سحيم الرباحي: أخو الخمسين مجتمع أشدى وبحديثي مداورة الشــؤون والأولى في تحقيق بلوغ الأشد أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكاً مسلك العقلاء، لا مسلك أهل السفه والتبذير، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" فجعل بلوغ النكاح، وهو بلوغ سن التكليف مقيداً بإيناس الرشد، ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا، والأشد واحد لا جمع له، وقيل: واحده شد كفلس وأفلس وأصله من شد النهار: أي ارتفع. وقال سيبويه: واحده شدة. قال الجوهري: وهو حسن في المعنى، لأنه يقال: بلغ الكلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل. قوله: "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط" أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء "لا نكلف نفساً إلا وسعها" أي إلا طاقتها في كل تكليف من التكاليف، ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن، فلا يخاطب المتولي بهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان "وإذا قلتم فاعدلوا" أي إذا قلتم بقول في خبر أو شهادة أو جرح أو تعديل فاعدلوا فيه وتحروا الصواب، ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد، ولا تميلوا إلى صديق ولا على عدو، بل سووا بين الناس فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به، والضمير في "ولو كان" راجع إلى ما يفيده "وإذا قلتم" فإنه لا بد للقول من مقول فيه، أو مقول له: أي ولو كان المقول فيه، أو المقول له "ذا قربى" أي صاحب قرابة لكم. وقيل إن المعنى: ولو كان الحق على مثل قراباتكم والأول أولى، ومثل هذه الآية قوله: "ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين". قوله: "وبعهد الله أوفوا" أي أوفوا بكل عهد عهده الله إليكم، ومن جملة ما عهده إليكم ما تلاه عليكم رسوله بأمره في هذا المقام، ويجوز أن يراد به كل عهد ولو كان بين المخلوقين، لأن الله سبحانه لما أمر بالوفاء به في كثير من الآيات القرآنية كان ذلك مسوغاً لإضافته إليه، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى ما تقدم ذكره "وصاكم به" أمركم به أمراً مؤكداً "لعلكم تذكرون" فتتعظون بذلك.
قوله: 153- "وأن هذا صراطي مستقيماً" أن في موضع نصب: أي واتل أن هذا صراطي قاله الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضاً: أي وصاكم به، وبأن هذا. وقال الخليل وسيبويه: إن التقدير ولأن هذا صراطي مستقيماً كما في قوله سبحانه: "وأن المساجد لله". وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: " وأن هذا " بكسر الهمزة على الاستئناف، والتقدير: الذي ذكر في هذه الآيات صراطي. وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب " وأن هذا صراطي " بالتخفيف على تقدير ضمير الشأن. وقرأ الأعمش " هذا صراطي " وفي مصحف عبد الله بن مسعود (وهذا صراط ربكم) وفي مصحف أبي (وهذا صراط ربك) والصراط: الطريق، وهو طريق دين الإسلام، ونصب مستقيماً على الحال، والمستقيم المستوى الذي لا اعوجاج فيه، ثم أمرهم باتباعه ونهاهم عن اتباع سائر السبل: الأديان المتباينة طرقها "فتفرق بكم" أي تميل بكم "عن سبيله" أي عن سبيل الله المستقيم الذي هو دين الإسلام. قال ابن عطية: وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد، والإشارة بـ "ذلكم" إلى ما تقدم وهو مبتدأ وخبره "وصاكم به" أي أكد عليكم الوصية به "لعلكم تتقون" ما نهاكم عنه. وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا "قل تعالوا" إلى ثلاث آيات، ثم قال: فمن وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه". وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن المنذر عن كعب الأحبار قال: أول ما أنزل في التوراة عشر آيات، وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" إلى آخرها. وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: سمع كعب رجلاً يقرأ " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " فقال كعب: والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" إلى آخر الآيات انتهى. قلت: هي الوصايا العشر التي في التوراة، وأولها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك إله آخر غيري. ومنها: أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشته بيت قريبك، ولا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك فلعل مراد كعب الأحبار هذا، ولليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم، وأهل الإنجيل في أول إنجيلهم. وهي مكتوبة في لوحين، وقد تركنا منها ما يتعلق بالسبت. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق" قال: من خشية الفاقة، قال: وكان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة الفاقة عليها والسبي "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" قال: سرها وعلانيتها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق" قال: خشية الفقر "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساً في السر ويستقبحونه في العلانية فحرم الله الزنا في السر والعلانية. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وأن هذا صراطي مستقيماً" قال: اعلموا أن السبيل سبيل واحد جماعة الهدى ومصيره الجنة، وأن إبليس اشترع سبلاً متفرقة جماعة الضلالة ومصيرها النار. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله". وأخرج أحمد وابن ماجه وابن مردويه من حديث جابر نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود أن رجلاً سأله: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمداً صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه الجنة، وعن يمينه جواد وعن شماله جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولا تتبعوا السبل" قال: الضلالات.
هذا الكلام مسوق لتقرير التوصية التي وصى الله عباده بها، وقد استشكل العطف بثم مع كون قصة موسى وإيتائه الكتاب قبل المعطوف عليه، وهو ما تقدم من قوله: "ذلكم وصاكم به" فقيل: إن ثم هاهنا بمعنى الواو، وقيل تقدير الكلام: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المعنى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ثم أتل إيتاء موسى الكتاب، وقيل: إن التوصية المعطوف عليها قديمة لم يزل كل نبي يوصي بها أمته، وقيل: إن ثم للتراخي في الإخبار كما تقول: بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت بالأمس أعجب. قوله: 154- "تماماً" مفعول لأجله أو مصدر، و "على الذي أحسن" قرئ بالرفع وهي قراءة يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق، فيكون رفع أحسن على تقدير مبتدأ: أي على الذي هو أحسن، ومنه ما حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً. وقرأ الباقون بالنصب على أنه فعل ماض عند البصريين، وأجاز الفراء والكسائي أن يكون اسماً نعتاً للذي، وهذا محال عند البصريين لأنه نعت للاسم قبل أن يتم، والمعنى عندهم تماماً على من أحسن قبوله والقيام به كائناً من كان، ويؤيد هذا أن ابن مسعود قرأ: (تماماً على الذين أحسنوا) وقال الحسن: كان فيهم محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتاب تماماً على المحسنين، وقيل المعنى: أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما علمه الله قبل نزول التوراة عليه، وقيل المعنى: تماماً على الذي أحسن به الله عز وجل إلى موسى من الرسالة وغيرها، وقيل: تماماً على إحسان موسى بطاعة الله عز وجل قاله الفراء. قوله: "وتفصيلاً لكل شيء" معطوف على تماماً: أي ولأجل تفصيل كل شيء وكذا "هدى ورحمة" معطوفتان عليه: أي وللهدى والرحمة، والضمير في لعلهم راجع إلى بني إسرائيل المدلول عليه بذكر موسى، والباء في "بلقاء" متعلقة بيؤمنون.
قوله: 155- "وهذا كتاب أنزلناه مبارك" الإشارة إلى القرآن، واسم الإشارة مبتدأ وخبره كتاب، وأنزلناه صفة لكتاب ومبارك صفة أخرى له، وتقديم صفة الإنزال لكون الإنكار متعلقاً بها، والمبارك كثير البركة لما هو مشتمل عليه من المنافع الدنيوية والدينية "فاتبعوه" فإنه لما كان من عند الله وكان مشتملاً على البركة، كان اتباعه متحتماً عليكم "واتقوا" مخالفته والتكذيب بما فيه "لعلكم" إن قبلتموه ولم تخالفوه "ترحمون" برحمة الله سبحانه.
وأن في 156- "أن تقولوا" في موضع نصب. قال الكوفيون: لئلا تقولوا. وقال البصريون: كراهة أن تقولوا. وقال الفراء والكسائي: المعنى فاتقوا أن تقولوا يا أهل مكة "إنما أنزل الكتاب": أي التوراة والإنجيل "على طائفتين من قبلنا" وهم اليهود والنصارى ولم ينزل علينا كتاب "وإن كنا عن دراستهم" أي عن تلاوة كتبهم بلغاتهم "لغافلين" أي لا ندري ما فيها، ومرادهم إثبات نزول الكتابين مع الاعتذار عن اتباع ما فيهما بعدم الدراية منهم والغفلة عن معناهما.
قوله: 157- "أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب" معطوف على "تقولوا" أي أو أن تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على الطائفتين من قبلنا "لكنا أهدى منهم" إلى الحق الذي طلبه الله، فإن هذه المقالة والمعذرة منهم مندفعة بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم وإنزال القرآن عليه، ولهذا قال: "فقد جاءكم بينة من ربكم" أي كتاب أنزله الله على نبيكم، وهو منكم يا معشر العرب، فلا تعتذروا بالأعذار الباطلة وتعللوا أنفسكم بالعلل الساقطة، فقد أسفر الصبح لذي عينين "وهدى ورحمة" معطوف على "بينة" أي جاءكم البينة الواضحة والهدى الذي يهتدي به كل من له رغبة في الاهتداء، ورحمة من الله يدخل فيها كل من يطلبها ويريد حصولها، ولكنكم ظلمتم أنفسكم بالتكذيب بآيات الله والصدوف عنها: أي الانصراف عنها، وصرف من أراد الإقبال إليها "فمن أظلم ممن كذب بآيات الله" التي هي رحمة وهدى للناس "وصدف عنها" فضل بانصرافه عنها، وأضل بصرف غيره عن الإقبال إليها "سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب" أي العذاب السيء بـ سبب "ما كانوا يصدفون" وقيل معنى صدف: أعرض، ويصدفون يعرضون، وهو مقارب لمعنى الصرف، وقد تقدم تحقيق معنى هذا اللفظ، والاستفهام في فمن أظلم للإنكار: أي إنكار أن يكون أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها مع ما يفيده ذلك من التبكيت لهم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "تماماً على الذي أحسن" قال: على المؤمنين المحسنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صخر "تماماً على الذي أحسن" قال: تماماً لما كان قد أحسن الله. وأخرج أيضاً عن ابن زيد قال: تماماً لنعمته عليهم وإحسانه إليهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله "وهذا كتاب" قال: هو القرآن الذي أنزله الله على محمد "فاتبعوه واتقوا" يقول: فاتبعوا ما أحل الله فيه واتقوا ما حرم. وأخرج هؤلاء عن مجاهد في قوله: "على طائفتين من قبلنا" قال: اليهود والنصارى، خاف أن تقوله قريش. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هم اليهود والنصارى "وإن كنا عن دراستهم" قال: تلاوتهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "لكنا أهدى منهم" قال: هذا قول كفار العرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فقد جاءكم بينة من ربكم" يقول: قد جاءتكم بينة لسان عربي مبين حين لم يعرفوا دراسة الطائفتين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "صدف عنها" قال: أعرض عنها. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك في قوله: "يصدفون" قال: يعرضون.
أي لما أقمنا عليهم الحجة وأنزلنا الكتاب على رسولنا المرسل إليهم، فلم ينفعهم ذلك ولم يرجعوا به عن غوايتهم فما بقي بعد هذا إلا أنهم 158- "ينظرون" أي ينتظرون "أن تأتيهم الملائكة" أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم، وعند ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل "أو يأتي ربك" يا محمد كما اقترحوه بقولهم: "لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا" وقيل معناه: أو يأتي أمر ربك بإهلاكهم، وقيل المعنى: أو يأتي كل آيات ربك بدليل قوله: "أو يأتي بعض آيات ربك" وقيل: هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيراً كقوله "واسأل القرية" وقوله: "وأشربوا في قلوبهم العجل" أي حب العجل، وقيل: إتيان الله مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه كقوله: "وجاء ربك والملك صفاً صفاً". قوله: "يوم يأتي بعض آيات ربك". قرأ ابن عمر وابن الزبير "يوم تأتي" بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية. قال المبرد: التأنيث على المجاورة لمؤنث لا على الأصل ومنه قول جرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وقرأ ابن سيرين: لا تنفع بالفوقية. قال أبو حاتم: إن هذا غلط عن ابن سيرين. وقد قال الناس في هذا شيء دقيق من النحو ذكره نفطويه، وذلك أن الإيمان والنفس كل واحد منهما مشتمل على الآخر، فأنث الإيمان إذ هو من النفس. قال النحاس: وفيه وجه آخر وهو أن يؤنث الإيمان، لأنه مصدر كما يذكر المصدر المؤنث مثل "فمن جاءه موعظة من ربه". معنى "يوم يأتي بعض آيات ربك" يوم يأتي الآيات التي اقترحوها، وهي التي تضطرهم إلى الإيمان "لا ينفع نفساً إيمانها" أو ما هو أعم من ذلك فيدخل فيه ما ينتظرونه، وقيل: هي الآيات التي هي علامات القيامة المذكورة في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي التي إذا جاءت لا ينفع نفساً إيمانها. قوله: "لم تكن آمنت من قبل" أي من قبل إتيان بعض الآيات، فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعض الآيات فإيمانها ينفعها، وجملة "لم تكن آمنت من قبل" في محل نصب على أنها صفة نفساً. قوله: "أو كسبت في إيمانها خيراً" معطوف على "آمنت" والمعنى: أنه لا ينفع نفساً إيمانها عند حضور الآيات متصفة بأ،ها لم تكن آمنت من قبل، أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيراً، فحصل من هذا أنه لا ينفع إلا الجمع بين الإيمان من قبل مجيء بعض الآيات مع كسب الخير في الإيمان، فمن آمن من قبل فقط ولم يكسب خيراً في إيمانه أو كسب خيراً ولم يؤمن فإن ذلك غير نافعه، وهذا التركيب هو كقولك: لا أعطي رجلاً اليوم أتاني لم يأتني بالأمس أو لم يمدحني في إتيانه إلي بالأمس، فإن المستفاد من هذا أنه لا يستحق العطاء إلا رجل أتاه بالأمس ومدحه في إتيانه إليه بالأمس، ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم: انتظروا ما تريدون إتيانه إنا منتظرون له، وهذا تهديد شديد ووعيد عظيم، وهو يقوي ما قيل في تفسير "يوم يأتي بعض آيات ربك" أنها الآيات التي اقترحوها من إتيان الملائكة وإتيان العذاب لهم من قبل الله كما تقدم بيانه. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة" قال: عند الموت "أو يأتي ربك" قال: يوم القيامة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في تفسير الآية مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل "أو يأتي ربك" قال: يوم القيامة في ظلل من الغمام. وأخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يوم يأتي بعض آيات ربك" قال: طلوع الشمس من مغربها. قال الترمذي: غريب. ورواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي سعيد موقوفاً. وأخرجه الطبراني وابن عدي وابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعاً. وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حماد والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً. فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه فهو واجب التقديم له متحتم الأخذ به، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها، ثم قرأ الآية". وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي ذر مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "أو كسبت في إيمانها خيراً" يقول: كسبت في تصديقها عملاً صالحاً هؤلاء أهل القبلة وإن كانت مصدقة لم تعمل قبل ذلك خيراً فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها، وإن عملت قبل الآية خيراً، ثم عملت بعد الآية خيراً قبل منها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله: "أو كسبت في إيمانها خيراً" قال: يعني المسلم الذي لم يعمل في إيمانه خيراً وكان قبل الآية مقيماً على الكبائر. والآيات التي هي علامات القيامة قد وردت الأحاديث المتكاثرة في بيانها وتعدادها، وهي مذكورة في كتب السنة.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 149
148152- "ولا تقربوا مال اليتيم" أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه إلا بـ الخصلة "التي هي أحسن" من غيرها، وهي ما فيه صلاحه وحفظه وتنميته، فيشمل كل وجه من الوجوه التي فيها نفع لليتيم وزيادة في ماله، وقيل: المراد بالتي هي أحسن التجارة "حتى يبلغ أشده" أي إلى غاية هي أن يبلغ اليتيم أشده، فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله، كما قال تعالى: "فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم". واختلف أهل العلم في الأشد، فقال أهل المدينة: بلوغه وإيناس رشده. وقال أبو حنيفة: خمس وعشرون سنة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو البلوغ. وقيل: إنه انتهاء الكهولة، ومنه قول سحيم الرباحي: أخو الخمسين مجتمع أشدى وبحديثي مداورة الشــؤون والأولى في تحقيق بلوغ الأشد أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكاً مسلك العقلاء، لا مسلك أهل السفه والتبذير، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" فجعل بلوغ النكاح، وهو بلوغ سن التكليف مقيداً بإيناس الرشد، ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا، والأشد واحد لا جمع له، وقيل: واحده شد كفلس وأفلس وأصله من شد النهار: أي ارتفع. وقال سيبويه: واحده شدة. قال الجوهري: وهو حسن في المعنى، لأنه يقال: بلغ الكلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل. قوله: "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط" أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء "لا نكلف نفساً إلا وسعها" أي إلا طاقتها في كل تكليف من التكاليف، ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن، فلا يخاطب المتولي بهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان "وإذا قلتم فاعدلوا" أي إذا قلتم بقول في خبر أو شهادة أو جرح أو تعديل فاعدلوا فيه وتحروا الصواب، ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد، ولا تميلوا إلى صديق ولا على عدو، بل سووا بين الناس فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به، والضمير في "ولو كان" راجع إلى ما يفيده "وإذا قلتم" فإنه لا بد للقول من مقول فيه، أو مقول له: أي ولو كان المقول فيه، أو المقول له "ذا قربى" أي صاحب قرابة لكم. وقيل إن المعنى: ولو كان الحق على مثل قراباتكم والأول أولى، ومثل هذه الآية قوله: "ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين". قوله: "وبعهد الله أوفوا" أي أوفوا بكل عهد عهده الله إليكم، ومن جملة ما عهده إليكم ما تلاه عليكم رسوله بأمره في هذا المقام، ويجوز أن يراد به كل عهد ولو كان بين المخلوقين، لأن الله سبحانه لما أمر بالوفاء به في كثير من الآيات القرآنية كان ذلك مسوغاً لإضافته إليه، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى ما تقدم ذكره "وصاكم به" أمركم به أمراً مؤكداً "لعلكم تذكرون" فتتعظون بذلك.
قوله: 153- "وأن هذا صراطي مستقيماً" أن في موضع نصب: أي واتل أن هذا صراطي قاله الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضاً: أي وصاكم به، وبأن هذا. وقال الخليل وسيبويه: إن التقدير ولأن هذا صراطي مستقيماً كما في قوله سبحانه: "وأن المساجد لله". وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: " وأن هذا " بكسر الهمزة على الاستئناف، والتقدير: الذي ذكر في هذه الآيات صراطي. وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب " وأن هذا صراطي " بالتخفيف على تقدير ضمير الشأن. وقرأ الأعمش " هذا صراطي " وفي مصحف عبد الله بن مسعود (وهذا صراط ربكم) وفي مصحف أبي (وهذا صراط ربك) والصراط: الطريق، وهو طريق دين الإسلام، ونصب مستقيماً على الحال، والمستقيم المستوى الذي لا اعوجاج فيه، ثم أمرهم باتباعه ونهاهم عن اتباع سائر السبل: الأديان المتباينة طرقها "فتفرق بكم" أي تميل بكم "عن سبيله" أي عن سبيل الله المستقيم الذي هو دين الإسلام. قال ابن عطية: وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد، والإشارة بـ "ذلكم" إلى ما تقدم وهو مبتدأ وخبره "وصاكم به" أي أكد عليكم الوصية به "لعلكم تتقون" ما نهاكم عنه. وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا "قل تعالوا" إلى ثلاث آيات، ثم قال: فمن وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه". وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن المنذر عن كعب الأحبار قال: أول ما أنزل في التوراة عشر آيات، وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" إلى آخرها. وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: سمع كعب رجلاً يقرأ " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " فقال كعب: والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" إلى آخر الآيات انتهى. قلت: هي الوصايا العشر التي في التوراة، وأولها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك إله آخر غيري. ومنها: أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشته بيت قريبك، ولا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك فلعل مراد كعب الأحبار هذا، ولليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم، وأهل الإنجيل في أول إنجيلهم. وهي مكتوبة في لوحين، وقد تركنا منها ما يتعلق بالسبت. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق" قال: من خشية الفاقة، قال: وكان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة الفاقة عليها والسبي "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" قال: سرها وعلانيتها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق" قال: خشية الفقر "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساً في السر ويستقبحونه في العلانية فحرم الله الزنا في السر والعلانية. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "وأن هذا صراطي مستقيماً" قال: اعلموا أن السبيل سبيل واحد جماعة الهدى ومصيره الجنة، وأن إبليس اشترع سبلاً متفرقة جماعة الضلالة ومصيرها النار. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله". وأخرج أحمد وابن ماجه وابن مردويه من حديث جابر نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود أن رجلاً سأله: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمداً صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه الجنة، وعن يمينه جواد وعن شماله جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولا تتبعوا السبل" قال: الضلالات.
هذا الكلام مسوق لتقرير التوصية التي وصى الله عباده بها، وقد استشكل العطف بثم مع كون قصة موسى وإيتائه الكتاب قبل المعطوف عليه، وهو ما تقدم من قوله: "ذلكم وصاكم به" فقيل: إن ثم هاهنا بمعنى الواو، وقيل تقدير الكلام: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المعنى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ثم أتل إيتاء موسى الكتاب، وقيل: إن التوصية المعطوف عليها قديمة لم يزل كل نبي يوصي بها أمته، وقيل: إن ثم للتراخي في الإخبار كما تقول: بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت بالأمس أعجب. قوله: 154- "تماماً" مفعول لأجله أو مصدر، و "على الذي أحسن" قرئ بالرفع وهي قراءة يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق، فيكون رفع أحسن على تقدير مبتدأ: أي على الذي هو أحسن، ومنه ما حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً. وقرأ الباقون بالنصب على أنه فعل ماض عند البصريين، وأجاز الفراء والكسائي أن يكون اسماً نعتاً للذي، وهذا محال عند البصريين لأنه نعت للاسم قبل أن يتم، والمعنى عندهم تماماً على من أحسن قبوله والقيام به كائناً من كان، ويؤيد هذا أن ابن مسعود قرأ: (تماماً على الذين أحسنوا) وقال الحسن: كان فيهم محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتاب تماماً على المحسنين، وقيل المعنى: أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما علمه الله قبل نزول التوراة عليه، وقيل المعنى: تماماً على الذي أحسن به الله عز وجل إلى موسى من الرسالة وغيرها، وقيل: تماماً على إحسان موسى بطاعة الله عز وجل قاله الفراء. قوله: "وتفصيلاً لكل شيء" معطوف على تماماً: أي ولأجل تفصيل كل شيء وكذا "هدى ورحمة" معطوفتان عليه: أي وللهدى والرحمة، والضمير في لعلهم راجع إلى بني إسرائيل المدلول عليه بذكر موسى، والباء في "بلقاء" متعلقة بيؤمنون.
قوله: 155- "وهذا كتاب أنزلناه مبارك" الإشارة إلى القرآن، واسم الإشارة مبتدأ وخبره كتاب، وأنزلناه صفة لكتاب ومبارك صفة أخرى له، وتقديم صفة الإنزال لكون الإنكار متعلقاً بها، والمبارك كثير البركة لما هو مشتمل عليه من المنافع الدنيوية والدينية "فاتبعوه" فإنه لما كان من عند الله وكان مشتملاً على البركة، كان اتباعه متحتماً عليكم "واتقوا" مخالفته والتكذيب بما فيه "لعلكم" إن قبلتموه ولم تخالفوه "ترحمون" برحمة الله سبحانه.
وأن في 156- "أن تقولوا" في موضع نصب. قال الكوفيون: لئلا تقولوا. وقال البصريون: كراهة أن تقولوا. وقال الفراء والكسائي: المعنى فاتقوا أن تقولوا يا أهل مكة "إنما أنزل الكتاب": أي التوراة والإنجيل "على طائفتين من قبلنا" وهم اليهود والنصارى ولم ينزل علينا كتاب "وإن كنا عن دراستهم" أي عن تلاوة كتبهم بلغاتهم "لغافلين" أي لا ندري ما فيها، ومرادهم إثبات نزول الكتابين مع الاعتذار عن اتباع ما فيهما بعدم الدراية منهم والغفلة عن معناهما.
قوله: 157- "أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب" معطوف على "تقولوا" أي أو أن تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على الطائفتين من قبلنا "لكنا أهدى منهم" إلى الحق الذي طلبه الله، فإن هذه المقالة والمعذرة منهم مندفعة بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم وإنزال القرآن عليه، ولهذا قال: "فقد جاءكم بينة من ربكم" أي كتاب أنزله الله على نبيكم، وهو منكم يا معشر العرب، فلا تعتذروا بالأعذار الباطلة وتعللوا أنفسكم بالعلل الساقطة، فقد أسفر الصبح لذي عينين "وهدى ورحمة" معطوف على "بينة" أي جاءكم البينة الواضحة والهدى الذي يهتدي به كل من له رغبة في الاهتداء، ورحمة من الله يدخل فيها كل من يطلبها ويريد حصولها، ولكنكم ظلمتم أنفسكم بالتكذيب بآيات الله والصدوف عنها: أي الانصراف عنها، وصرف من أراد الإقبال إليها "فمن أظلم ممن كذب بآيات الله" التي هي رحمة وهدى للناس "وصدف عنها" فضل بانصرافه عنها، وأضل بصرف غيره عن الإقبال إليها "سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب" أي العذاب السيء بـ سبب "ما كانوا يصدفون" وقيل معنى صدف: أعرض، ويصدفون يعرضون، وهو مقارب لمعنى الصرف، وقد تقدم تحقيق معنى هذا اللفظ، والاستفهام في فمن أظلم للإنكار: أي إنكار أن يكون أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها مع ما يفيده ذلك من التبكيت لهم. وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "تماماً على الذي أحسن" قال: على المؤمنين المحسنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صخر "تماماً على الذي أحسن" قال: تماماً لما كان قد أحسن الله. وأخرج أيضاً عن ابن زيد قال: تماماً لنعمته عليهم وإحسانه إليهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله "وهذا كتاب" قال: هو القرآن الذي أنزله الله على محمد "فاتبعوه واتقوا" يقول: فاتبعوا ما أحل الله فيه واتقوا ما حرم. وأخرج هؤلاء عن مجاهد في قوله: "على طائفتين من قبلنا" قال: اليهود والنصارى، خاف أن تقوله قريش. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هم اليهود والنصارى "وإن كنا عن دراستهم" قال: تلاوتهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "لكنا أهدى منهم" قال: هذا قول كفار العرب. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فقد جاءكم بينة من ربكم" يقول: قد جاءتكم بينة لسان عربي مبين حين لم يعرفوا دراسة الطائفتين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "صدف عنها" قال: أعرض عنها. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك في قوله: "يصدفون" قال: يعرضون.
أي لما أقمنا عليهم الحجة وأنزلنا الكتاب على رسولنا المرسل إليهم، فلم ينفعهم ذلك ولم يرجعوا به عن غوايتهم فما بقي بعد هذا إلا أنهم 158- "ينظرون" أي ينتظرون "أن تأتيهم الملائكة" أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم، وعند ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل "أو يأتي ربك" يا محمد كما اقترحوه بقولهم: "لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا" وقيل معناه: أو يأتي أمر ربك بإهلاكهم، وقيل المعنى: أو يأتي كل آيات ربك بدليل قوله: "أو يأتي بعض آيات ربك" وقيل: هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيراً كقوله "واسأل القرية" وقوله: "وأشربوا في قلوبهم العجل" أي حب العجل، وقيل: إتيان الله مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه كقوله: "وجاء ربك والملك صفاً صفاً". قوله: "يوم يأتي بعض آيات ربك". قرأ ابن عمر وابن الزبير "يوم تأتي" بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية. قال المبرد: التأنيث على المجاورة لمؤنث لا على الأصل ومنه قول جرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وقرأ ابن سيرين: لا تنفع بالفوقية. قال أبو حاتم: إن هذا غلط عن ابن سيرين. وقد قال الناس في هذا شيء دقيق من النحو ذكره نفطويه، وذلك أن الإيمان والنفس كل واحد منهما مشتمل على الآخر، فأنث الإيمان إذ هو من النفس. قال النحاس: وفيه وجه آخر وهو أن يؤنث الإيمان، لأنه مصدر كما يذكر المصدر المؤنث مثل "فمن جاءه موعظة من ربه". معنى "يوم يأتي بعض آيات ربك" يوم يأتي الآيات التي اقترحوها، وهي التي تضطرهم إلى الإيمان "لا ينفع نفساً إيمانها" أو ما هو أعم من ذلك فيدخل فيه ما ينتظرونه، وقيل: هي الآيات التي هي علامات القيامة المذكورة في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي التي إذا جاءت لا ينفع نفساً إيمانها. قوله: "لم تكن آمنت من قبل" أي من قبل إتيان بعض الآيات، فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعض الآيات فإيمانها ينفعها، وجملة "لم تكن آمنت من قبل" في محل نصب على أنها صفة نفساً. قوله: "أو كسبت في إيمانها خيراً" معطوف على "آمنت" والمعنى: أنه لا ينفع نفساً إيمانها عند حضور الآيات متصفة بأ،ها لم تكن آمنت من قبل، أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيراً، فحصل من هذا أنه لا ينفع إلا الجمع بين الإيمان من قبل مجيء بعض الآيات مع كسب الخير في الإيمان، فمن آمن من قبل فقط ولم يكسب خيراً في إيمانه أو كسب خيراً ولم يؤمن فإن ذلك غير نافعه، وهذا التركيب هو كقولك: لا أعطي رجلاً اليوم أتاني لم يأتني بالأمس أو لم يمدحني في إتيانه إلي بالأمس، فإن المستفاد من هذا أنه لا يستحق العطاء إلا رجل أتاه بالأمس ومدحه في إتيانه إليه بالأمس، ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم: انتظروا ما تريدون إتيانه إنا منتظرون له، وهذا تهديد شديد ووعيد عظيم، وهو يقوي ما قيل في تفسير "يوم يأتي بعض آيات ربك" أنها الآيات التي اقترحوها من إتيان الملائكة وإتيان العذاب لهم من قبل الله كما تقدم بيانه. وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة" قال: عند الموت "أو يأتي ربك" قال: يوم القيامة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في تفسير الآية مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل "أو يأتي ربك" قال: يوم القيامة في ظلل من الغمام. وأخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يوم يأتي بعض آيات ربك" قال: طلوع الشمس من مغربها. قال الترمذي: غريب. ورواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي سعيد موقوفاً. وأخرجه الطبراني وابن عدي وابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعاً. وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حماد والطبراني عن ابن مسعود موقوفاً. فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه فهو واجب التقديم له متحتم الأخذ به، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها، ثم قرأ الآية". وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي ذر مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "أو كسبت في إيمانها خيراً" يقول: كسبت في تصديقها عملاً صالحاً هؤلاء أهل القبلة وإن كانت مصدقة لم تعمل قبل ذلك خيراً فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها، وإن عملت قبل الآية خيراً، ثم عملت بعد الآية خيراً قبل منها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله: "أو كسبت في إيمانها خيراً" قال: يعني المسلم الذي لم يعمل في إيمانه خيراً وكان قبل الآية مقيماً على الكبائر. والآيات التي هي علامات القيامة قد وردت الأحاديث المتكاثرة في بيانها وتعدادها، وهي مذكورة في كتب السنة.
الصفحة رقم 149 من المصحف تحميل و استماع mp3