تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 155 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 155

154

قوله: 38- "قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم" القائل هو الله عز وجل، و في بمعنى مع: أي مع أمم، وقيل: هي على بابها، والمعنى: ادخلوا في جملتهم، وقيل: هو قول مالك خازن النار، والمراد بالأمم التي قد خلت من قبلهم من الجن والإنس هم الكفار من الطائفتين من الأمم الماضية "كلما دخلت أمة" من الأمم الماضية "لعنت أختها" أي الأمة الأخرى التي سبقتها إلى النار، وجعلت أختاً لها باعتبار الدين، أو الضلالة، أو الكون في النار "حتى إذا اداركوا فيها" أي تداركوا، والتدارك: التلاحق والتتابع والاجتماع في النار. وقرأ الأعمش تداركوا على الأصل من دون إدغام. وقرأ ابن مسعود (حتى إذا أدركوا) أي أدرك بعضهم بعضاً. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بقطع ألف الوصل، فكأنه سكت على إذا للتذكر، فلما طال سكوته قطع ألف الوصل كالمبتدئ بها، وهو مثل قول الشاعر: يا نفس صبراً كل حي لاقى وكل اثنـــين إلى افتـــراق "قالت أخراهم لأولاهم": أي أخراهم دخولاً لأولاهم دخولاً، وقيل "أخراهم": أي سفلتهم وأتباعهم "لأولاهم" لرؤسائهم وكبارهم وهذا أول كما يدل عليه "ربنا هؤلاء أضلونا" فإن المضلين هم الرؤساء. ويجوز أن يراد أنهم أضلوهم لأنهم تبعوهم واقتدوا بدينهم من بعدهم، فيصح الوجه الأول، لأن أخراهم تبعت دين أولاهم قوله: "فآتهم عذاباً ضعفاً من النار" الضعف الزائد على مثله مرة أو مرات، ومثله قوله تعالى: "ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً" وقيل: الضعف هنا الأفاعي والحيات، وجملة "قال لكل ضعف" استئنافية جواباً لسؤال مقدر، والمعنى لكل طائفة منكم ضعف من العذاب: أي الطائفة الأولى، والطائفة الأخرى "ولكن لا تعلمون" بما لكل نوع من العذاب.
39- "وقالت أولاهم لأخراهم" أي قال السابقون للاحقين، أو المتبوعون للتابعين "فما كان لكم علينا من فضل" بل نحن سواء في الكفر بالله واستحقاق عذابه "فذوقوا" عذاب النار كما ذقناه "بما كنتم تكسبون" من معاصي الله والكفر به. وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب وابن النجار عن أبي الدرداء قال: تذاكرنا زيادة العمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: من وصل رحمه أنسئ في أجله فقال: إنه ليس بزائد في عمره، قال الله تعالى: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" ولكن الرجل يكون له الذرية الصالحة، فيدعون الله من بعده فيبلغه ذلك، فذلك الذي ينسأ في أجله. وفي لفظ: فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر. وهذا الحديث ينبغي أن يكشف عن إسناده فقيه نكارة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما بخلافه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان الحسن يقول: ما أحمق هؤلاء القوم يقولون: اللهم أطل عمره، والله يقول: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ابن جرير وابن المنذر من طريق الزهري عن ابن المسيب قال: لما طعن عمر قال كعب: لو دعا الله لأخر في أجله، فقيل له: أليس قد قال الله: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" فقال كعب: وقد قال الله: "وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب". وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب" قال: ما قدر لهم من خير وشر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: من الأعمال من عمل خيراً جزي به ومن عمل شراً جزي به. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضاً قال: نصيبهم من الشقاوة والسعادة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: ما سبق من الكتاب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في الآية قال: رزقه وأجله وعمله. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي صالح في الآية قال: من العذاب. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: "قد خلت" قال: قد مضت "كلما دخلت أمة لعنت أختها" قال: كلما دخل أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك، يعلن المشركون المشركين، واليهود اليهود، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس، تلعن الآخرة الأولى "حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم" الذين كانوا في آخر الزمان "لأولاهم" الذين شرعوا لهم ذلك الدين "ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف" الأولى والآخرة "وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل" وقد ضللتم كما ضللنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "عذاباً ضعفاً" قال: مضاعفاً "قال لكل ضعف" قال: مضاعف، وفي قوله: "فما كان لكم علينا من فضل" قال: تخفيف من العذاب.
قوله: 40- "لا تفتح لهم أبواب السماء". قرأ ابن عباس وحمزة والكسائي بفتح التحتية لكون تأنيث الجمع غير حقيقي فجاز تذكيره. وقرأ الباقون بالفوقية على التأنيث. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي تفتح بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد، والمعنى: أنها لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا، وقد دل على هذا المعنى وأنه المراد من الآية ما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الملائكة إذا انتهوا بروح الكافر إلى السماء الدنيا يستفتحون فلا تفتح لهم أبواب السماء، وقيل: لا تفتح أبواب السماء لأدعيتهم إذا دعوا قاله مجاهد والنخعي، وقيل لأعمالهم: أي لا تقبل، بل ترد عليهم فيضرب بها في وجوههم، وقيل المعنى: أنها لا تفتح لهم أبواب الجنة يدخلونها، لأن الجنة في السماء، فيكون على هذا القول العطف لجملة "ولا يدخلون الجنة" من عطف التفسير، ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال، ولا ينافيه ورود ما ورد من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه، فإن ذلك لا يدل على فتحها لغيره مما يدخل تحت عموم الآية. قوله: "ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط" أي أن هؤلاء الكفار المكذبين المستكبرين لا يدخلون الجنة بحال من الأحوال، ولهذا علقه بالمستحيل، فقال: "حتى يلج الجمل في سم الخياط" وهو لا يلج أبداً، وخص الجمل بالذكر لكونه يضرب به المثل في كبر الذات، وخص سم الخياط، وهو ثقب الإبرة بالذكر لكونه غاية في الضيق، والجمل الذكر من الإبل والجمع جمال وأجمال وجمالات، وإنما سمي جملاً إذا أربع. وقرأ ابن عباس الجمل بضم الجيم وفتح الميم مشددة، وهو حبل السفينة الذي يقال له: القلس وهو حبال مجموعة قاله ثعلب، وقيل: الحبل الغليظ من القنب، وقيل: الحبل الذي يصعد به في النخل. وقرأ سعيد بن جبير الجمل بضم الجيم وتخفيف الميم. وهو القلس أيضاً. وقرأ أبو السماك الجمل بضم الجيم وسكون الميم. وقرئ أيضاً بضمهما. وقرأ عبد الله بن مسعود: حتى يلج الجمل الأصغر في سم الخياط وقرئ "في سم" بالحركات الثلاث، والسم: كل ثقب لطيف، ومنه ثقب الإبرة، والخياط ما يخاط به، يقال: خياط ومخيط "وكذلك نجزي المجرمين" أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين: أي جنس من أجرم وقد تقدم تحقيقه.
والمهاد: الفراش، والغواش جمع غاشية: أي نيران تغشاهم من فوقهم كالأغطية 41- "وكذلك نجزي الظالمين" أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من اتصف بصفة الظلم.
قوله: 42- "لا نكلف نفساً إلا وسعها" أي لا نكلف العباد إلا بما يدخل تحت وسعهم ويقدون عليه، ولا نكلفهم ما لا يدخل تحت وسعهم، وهذه الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر، ومثله "لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها". وقرأ الأعمش تكلف بالفوقية ورفع نفس، والإشارة بقوله: "أولئك" إلى الموصول، وخبره "أصحاب الجنة" والجملة خبر الموصول، وجملة "هم فيها خالدون" في محل نصب على الحال.
قوله: 43- "ونزعنا ما في صدورهم من غل" هذا من جملة ما ينعم الله به على أهل الجنة أن ينزع الله ما في قلوبهم من الغل على بعضهم حتى تصفو قلوبهم ويود بعضهم بعضاً، فإن الغل لو بقي في صدورهم كما كان في الدنيا لكان في ذلك تنغيص لنعيم الجنة، لأن المتشاحنين لا يطيب لأحدهم عيش مع وجود الآخر. والغل: الحقد الكامن في الصدور، وقل نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل المنازل "وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا" أي لهذا الجزاء العظيم، وهو الخلود في الجنة ونزع الغل من صدورهم، والهداية هذه لهذا هي الهداية لسببه من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا "وما كنا لنهتدي". قرأ ابن عامر بإسقاط الواو، وقرأ الباقون بإثباتها، وما كنا نطيق أن نهتدي بهذا الأمر لولا هداية الله لنا، والجملة مستأنفة أو حالية، وجواب لولا محذوف يدل عليه ما قبله: أي لولا هداية الله لنا ما كنا لنهتدي. قوله: "لقد جاءت رسل ربنا بالحق" اللام لام القسم، قالوا: هذا لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الجزاء العظيم اغتباطاً بما صاروا فيه بسبب ما تقدم منهم من تصديق الرسل وظهور صدق ما أخبروهم به في الدنيا من أن جزاء الإيمان والعمل الصالح هو هذا الذي صاروا فيه. قوله: "ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون" أي وقع النداء لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقيل لهم: تلكم الجنة أورثتموها: أي ورثتم منازلها بعملكم. قال في الكشاف: بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقوله المبطلة انتهى. أقول: يا مسكين هذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" والتصريح بسبب لا يستلزم نفي سبب آخر، ولولا التفضل من الله سبحانه وتعالى على العامل بإقداره على العمل لم يكن عمل أصلاً، فلو لم يكن التفضل إلا بهذا الإقدار لكان القائلون به محقة لا مبطلة، وفي التنزيل: "ذلك الفضل من الله" وفيه "فسيدخلهم في رحمة منه وفضل". وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا تفتح لهم أبواب السماء" يعني لا يصعد إلى الله من عملهم شيء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال: لا تفتح لهم لعمل ولا لدعاء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضاً في الآية قال: لا تفتح لأرواحهم، وهي تفتح لأرواح المؤمنين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً "حتى يلج الجمل" قال: ذو القوائم "في سم الخياط" قال: في خرت الإبرة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الكبير وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله: "حتى يلج الجمل" قال: زوج الناقة. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ الجمل بضم الجيم وتشديد الميم وقال: هو الحبل الغليظ أو هو من حبال السفن. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر أنه سئل عن سم الخياط فقال: الجمل في ثقب الإبرة. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: المهاد الفراش، والغواش اللحف. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب مثله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية: "ونزعنا ما في صدورهم من غل". وأخرج النسائي وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول لو هدانا الله فيكون حسرة عليهم، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول لولا أن هدانا الله فهذا شكرهم". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون" قال: نودوا أن صحوا فلا تسقموا، وانعموا فلا تبأسوا، وشبوا فلا تهرموا، واخلدوا فلا تموتوا.
مناداة أصحاب الجنة لأصحاب النار لم تكن لقصد الإخبار لهم بما نادوهم به، بل لقصد تبكيتهم وإيقاع الحسرة في قلوبهم، و 44- "أن قد وجدنا" هو نفس النداء: أي إنا قد وصلنا إلى ما وعدنا الله به من النعيم فهل وصلتم إلى ما وعدكم الله به من العذاب الأليم، والاستفهام هو للتقريع والتوبيخ، وحذف مفعول وعد الثاني لكون الوعد لم يكن لهم بخصوصهم، بل لكل الناس كالبعث والحساب والعقاب، وقيل: حذف لإسقاط الكفار عن رتبة التشريف بالخطاب عند الوعد "قالوا نعم" أي وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً. وقرأ الأعمش والكسائي "نعم" بكسر العين. قال مكي: من قال: نعم بكسر العين فكأنه أراد أن يفرق بين نعم التي جواب وبين نعم التي هي اسم للبقر والغنم والإبل. والمؤذن: المنادي، أي فنادى مناد بينهم: أي بين الفريقين، قيل: هو من الملائكة "أن لعنة الله على الظالمين" قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي والبزي بتشديد "أن" وهو الأصل. وقرأ الباقون بالتخفيف على أنها المخففة من الثقيلة أو المفسرة. وقرأ الأعمش بكسر همزة إن على إضمار القول.