تفسير الطبري تفسير الصفحة 155 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 155
156
154
 الآية : 38
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُواْ فِيَ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مّن الْجِنّ وَالإِنْسِ فِي النّارِ كُلّمَا دَخَلَتْ أُمّةٌ لّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتّىَ إِذَا ادّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاُولاَهُمْ رَبّنَا هَـَؤُلآءِ أَضَلّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مّنَ النّارِ قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَـَكِن لاّ تَعْلَمُونَ }.
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قيله لهؤلاء المفترين عليه المكذّبين آياته يوم القيامة, يقول تعالى ذكره: قال لهم حين وردوا عليه يوم القيامة: ادخلوا أيها المفترون على ربكم المكذّبون رسله في جماعات من ضربائكم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ يقول: قد سلفت من قبلكم من الجنّ والإنس في النار. ومعنى ذلك: ادخلوا في أمم هي في النار قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس. وإنما يعني بالأمم: الأحزاب وأهل الملل الكافرة. كَلّمَا دَخَلَتْ أُمّةٌ لَعَنَتْ أخْتَها يقول جلّ ثناؤه: كلما دخلت النار جماعة من أهل ملة لعنت أختها, يقول: شتمت الجماعةُ الأخرى من أهل ملتها تبرّيا منها. وإنما عني بالأخت: الأخوّة في الدين والملة وقيل أختها ولم يقل أخاها, لأنه عني بها أمة وجماعة أخرى, كأنه قيل: كلما دخلت أمة لعنت أمة أخرى من أهل ملتها ودينها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11406ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: كُلّما دَخَلَتْ أُمّةٌ لَعَنَتْ أخْتَها يقول: كلما دخلت أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك الدنيا يلعن المشركون المشركين واليهود اليهود والنصارى النصارى والصابئون الصابئين والمجوس المجوس, تلعن الاَخرةُ الأولى.
القول في تأويل قوله تعالى: حتى إذَا ادّارَكُوا فِيها جَمِيعا.
يقول تعالى ذكره: حتى إذا تداركت الأمم في النار جميعا, يعني: اجتمعت فيها, يقال: قد ادّاركوا وتداركوا: إذا اجتمعوا, يقول: اجتمع فيها الأوّلون من أهل الملل الكافرة والاَخرون منهم.
القول في تأويل قوله تعالى: قَالتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبنا هَؤُلاءِ أضَلّونا فَآتِهِمْ عَذَابا ضِعْفا مِنَ النّارِ قالَ لِكُلَ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ.
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن محاورة الأحزاب من أهل الملل الكافرة في النار يوم القيامة, يقول الله تعالى ذكره: فإذا اجتمع أهل الملل الكافرة في النار فادّاركوا, قالت أخرى أهل كلّ ملة دخلت النار الذين كانوا في الدنيا بعد أولى منهم تقدمتها وكانت لها سلفا وإماما في الضلالة والكفر لأولاها الذين كانوا قبلهم في الدنيا: ربنا هؤلاء أضلونا عن سبيلك ودعوْنا إلى عبادة غيرك وزيّنُوا لنا طاعة الشيطان, فآتهم اليوم من عذابك الضعف على عذابنا. كما:
11407ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: قالت أخراهم الذين كانوا في آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين: رَبّنا هَؤلاءِ أضَلّونا فَآتِهِمْ عَذَابا ضِعْفا مِنَ النّارِ.
وأما قوله: قالَ لِكُلَ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمونَ فإنه خبر من الله عن جوابه لهم, يقول: قال الله للذين يدعونه فيقولون: ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار لكلكم, أوّلكم وآخركم وتابعوكم ومتبعوكم ضعف, يقول: مكررٌ عليه العذاب. وضعف الشيء: مثله مرّة: وكان مجاهد يقول في ذلك, ما:
11408ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: عَذَابا ضِعْفا مِنَ النّارِ قالَ لِكلّ ضِعْفٌ.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11409ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال الله: لِكُلَ ضِعْفٌ للأولى وللاَخرة ضعف.
11410ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, قال: ثني غير واحد, عن السديّ, عن مرّة, عن عبد الله: ضِعْفا مِنَ النّارِ قال: أفاعي.
حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان, عن السديّ, عن مرّة, عن عبد الله: فآتهم عَذَابا ضِعْفا مِنَ النّارِ قال: حيات وأفاعي.
وقيل: إن الضعف في كلام العرب ما كان ضعفين والمضاعف ما كان أكثر من ذلك.
وقوله: وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ يقول: ولكنكم يا معشر أهل النار, لا تعلمون ما قدر ما أعدّ الله لكم من العذاب, فلذلك تسأل الضعف منه الأمة الكافرة الأخرى لأختها الأولى.
الآية : 39
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لاُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه: وقالت أولى كلّ أمة وملة سبقت في الدنيا لأخراها الذين جاءوا من بعدهم وحدثوا بعد زمانهم فيها, فسلكوا سبيلهم واستنوا سنتهم: فَمَا كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وقد علمتم ما حلّ بنا من عقوبة الله بمعصيتنا إياه وكفرنا به, وجاءتنا وجاءتكم بذلك الرسل والنّذر, هل انتهيتم إلى طاعة الله, وارتدعتم عن غوايتكم وضلالتكم؟ فانقضت حجة القوم وخصموا ولم يطيقوا جوابا بأن يقولوا فُضّلنا عليكم أنا اعتبرنا بكم فآمنا بالله وصدّقنا رسله, قال الله لجميعهم: فذوقوا جميعكم أيها الكفرة عذاب جهنم, بما كنتم في الدنيا تكسبون من الاَثام والمعاصي, وتجترحون من الذنوب والأجرام
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11411ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا المعتمر, قال: سمعت عمران, عن أبي مجلز: وَقالَتْ أُولاهم لاِخْرَاهُمْ فَمَا كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ قال: يقول: فما فضلكم علينا, وقد بين لكم ما صنع بنا وحُذرتم.
11412ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَقالَتْ أُولاهُمْ لاِخْرَاهُمْ فَمَا كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فقد ضللتم كما ضللنا.
وكان مجاهد يقول في هذا بما:
11413ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: فَمَا كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ قال: من التخفيف من العذاب.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: فَمَا كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْل قال: من تخفيف.
وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد قول لا معنى له, لأن قول القائلين: فما كان لكم علينا من فضل, لمن قالوا ذلك إنما هو توبيخ منهم على ما سلف منهم قبل تلك الحال, يدلّ على ذلك دخول «كان» في الكلام, ولو كان ذلك منهم توبيخا لهم على قيلهم الذي قالول لربهم: آتهم عذابا ضعفا من النار, لكان التوبيخ أن يقال: فما لكم علينا من فضل في تخفيف العذاب عنكم وقد نالكم من العذاب ما قد نالنا. ولم يقل: فما كان لكم علينا من فضل.
الآية : 40
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّىَ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ }.
يقول تعالى ذكره: إن الذين كذّبوا بحججنا وأدلتنا فلم يصدّقوا بها ولم يتبعوا رسلنا, واسْتَكْبَرُوا عَنْها يقول: وتكبروا عن التصديق بها وأنفوا من اتباعها والانقياد لها تكبرا, لا تفتح لهم لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبواب السماء, ولا يصعد لهم في حياتهم إلى الله قول ولا عمل, لأن أعمالهم خبيثة. وإنما يرفع الكلم الطيب والعمل الصالح, كما قال جلّ ثناؤه: إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطّيّبُ وَالعَمَلَ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ فقال بعضهم: معناه: لا تفتح لأرواح هؤلاء الكفار أبواب السماء. ذكر من قال ذلك:
11414ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يعلى, عن أبي سنان, عن الضحاك, عن ابن عباس: لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال: عنى بها الكفار أن السماء لا تفتح لأرواحهم وتفتح لأرواح المؤمنين.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن أبي سنان, عن الضحاك, قال: قال ابن عباس: تفتح السماء لروح المؤمن, ولا تفتح لروح الكافر.
11415ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال: إن الكافر إذا أخذ روحه ضربته ملائكة الأرض حتى يرتفع إلى السماء, فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء فهبط, فضربته ملائكة الأرض فارتفع, فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء الدنيا, فهبط إلى أسفل الأرضين وإذا كان مؤمنا أخذ روحه, وفُتح له أبواب السماء, فلا يمرّ بملك إلاّ حياه وسلم عليه حتى ينتهي إلى الله, فيعطيه حاجته, ثم يقول الله: ردّوا روح عبدي فيه إلى الأرض, فإني قضيت من التراب خلقه, وإلى التراب يعود, ومنه يخرج.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاء إلى الله. ذكر من قال ذلك:
11416ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله, عن سفيان, عن ليث, عن عطاء, عن ابن عباس: لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ: لا يصعد لهم قول ولا عمل.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: إنّ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتّحُ لَهُم أبْوَابُ السّماءِ يعني: لا يصعد إلى الله من عملهم شيء.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ يقول: لا تفتح لخير يعملون.
11417ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال: لا يصعد لهم كلام ولا عمل.
11418ـ حدثنا مطر بن محمد الضبي, قال: حدثنا عبد الله بن داود, قال: حدثنا شريك, عن منصور, عن إبراهيم, في قوله: لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال: لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء.
11419ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن سالم, عن سعيد: لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال: لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء.
حدثني المثنى, قال: حدثنا الحماني, قال: حدثنا شريك, عن سعيد: لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال: لا يرفع لهم عمل صالح ولا دعاء.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم ولا لأعمالهم. ذكر من قال ذلك:
11420ـ حدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ قال: لأرواحهم ولا لأعمالهم.
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا في تأويل ذلك ما اخترنا من القول لعموم خبر الله جلّ ثناؤه أن أبواب السماء لا تفتح لهم, ولم يخصص الخبر بأنه يفتح لهم في شيء, فذلك على ما عمه خبر الله تعالى بأنها لا تفتح لهم في شيء مع تأييد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلنا في ذلك. وذلك ما:
11421ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن الأعمش, عن المنهال, عن زاذان, عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر, وأنه يصعد بها إلى السماء, قال: «فَيَصْعَدُونَ بِها فَلا يَمُرّونَ على مَلإٍ مِنَ المَلائِكَةِ إلاّ قالوا: ما هَذَا الرّوحُ الخَبِيثُ, فَيَقُولُونَ: فُلانٌ, بأقْبَحِ أسْمائِهِ التي كان يُدعَى بهَا فِي الدّنْيا. حتى يَنْتَهُوا بِها إلى السّماءِ, فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَلا يُفْتَحُ لَهُ». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُفَتّح لَهُمْ أبْوَابُ السّماء وَلا يَدْخُلُونَ الجَنّةَ حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ.
11422ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن, عن ابن أبي ذئب, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «المَيّتُ تَحْضُرُهُ المَلائِكَةُ, فإذَا كانَ الرّجُلُ الصّالِحُ قالُوا اخْرُجِي أيّتُها النّفْسُ الطّيّبَةُ كانَتْ في الجَسَدِ الطّيّبِ, اخْرُجِي حَمِيدَةً, وأبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحانٍ وَرَبَ غيرِ غَضْبانَ قال: فَيَقُولُونَ ذلكَ حتى يُعْرَجَ بِها إلى السّماءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا, فَيُقالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فُلانٌ, فَيُقال: مَرْحَبا بالنّفْسِ الطّيّبَةِ التي كانَتْ في الجَسَدِ الطّيّبِ, ادْخُلِي حَمِيدَةً, وأبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحان وَربَ غيرِ غَضْبانَ فَيُقالُ لهَا ذلك حتى تَنْتَهِيَ إلى السّماءِ التي فِيها اللّهُ. وَإذَا كان الرّجُلُ السّوءُ قال: اخْرُجِي أيّتُها النّفْسُ الخَبِيثَةُ كانَت في الجَسَدِ الخَبِيثِ, اخْرِجِي ذَمِيمَةً, وَأبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسّاقٍ وآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أزْوَاجٌ فَيَقُولُونَ ذلكَ حتى تَخْرُجَ ثُمّ يُعْرَجُ بِها إلى السّماءِ, فَيُسْتَفْتَحُ لَها, فَيُقالُ: من هَذَا؟ فَيَقُولُون: فُلانٌ, فَيَقُولُونَ: لا مَرْحَبا بالنّفْسِ الخَبِيثَةِ كانَتْ فِي الجَسَدِ الخَبِيثِ, ارجِعِي ذَمِيمَةً فإنّهُ لا تُفْتَحُ لكِ أبْوابُ السّماءِ فَتُرسَلُ بينَ السماءِ والأرضِ فَتَصِيرُ إلى القَبْرِ».
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا ابن أبي فديك, قال: ثني ابن أبي ذئب, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن سعيد بن يسار, عن أبي هريرة, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الكوفة: «لا يُفْتَحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ» بالياء من يفتح وتخفيف التاء منها, بمعنى: لا يفتح لهم جميعها بمرّة واحدة وفتحة واحدة. وقرأ ذلك بعض المدنيين وبعض الكوفيين: لا تُفَتّحُ بالتاء وتشديد التاء الثانية, بمعنى: لا يفتح لهم باب بعد باب وشيء بعد شيء.
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك عندي من القول أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى, وذلك أن أرواح الكفار لا تفتح لها ولا لأعمالهم الخبيثة أبواب السماء بمرّة واحدة ولا مرّة بعد مرّة وباب بعد باب, فكلا المعنيين في ذلك صحيح, وكذلك الياء والتاء في يفتح وتفتح, لأن الياء بناء على فعل الواحد للتوحيد والتاء, لأن الأبواب جماعة, فيخبر عنها خبر الجماعة.
القول في تأويل قوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الجَنّةَ حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ وكذلكَ نَجْزِي المُجْرِمين.
يقول جلّ ثناؤه: ولا يدخل هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها الجنة التي أعدّها الله لأوليائه المؤمنين أبدا, كما لا يلج الجمل فِي سَمّ الخياط أبدا, وذلك ثقب الإبرة. وكلّ ثقب في عين أو أنف أو غير ذلك, فإن العرب تسميه سَمّا وتجمعه سُموما وسِماما, والسّمام في جمع السّمّ القاتل أشهر وأفصح من السموم, وهو في جمع السّمّ الذي هو بمعنى الثقب أفصح, وكلاهما في العرب مستفيض, وقد يقال لواحد السّموم التي هي الثقوب: سَمّ وسُمّ بفتح السين وضمها, ومن السّمّ الذي بمعنى الثقب قول الفرزدق:
فَنَفّسْتُ عَنْ سَمّيْهِ حتى تَنَفّساوَقُلْتُ لهُ لا تَخْشَ شَيْئا وَرَائِيا
يعني بسَمّيه: ثقَبي أنفه. وأما الخِياط: فإنه المِخْيَط وهي الإبرة, قيل لها: خِيَاط ومخيط, كما قيل: قِنَاع ومِقْنَع, وإزار ومِئْزَر, وقِرَام ومِقْرَم, ولحاف ومِلْحَف. وأما القرّاء من جميع الأمصار, فإنها قرأت قوله: فِي سَمّ الخِياطِ بفتح السين, وأجمعت على قراءة «الجَمَل» بفتح الجيم والميم وتخفيف ذلك. وأما ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير, فإنه حُكي عنهم أنهم كانوا يقرءون ذلك: «الجُمّل» بضم الجيم وتشديد الميم, على اختلاف في ذلك عن سعيد وابن عباس.
فأما الذين قرءوه بالفتح من الحرفين والتخفيف, فإنهم وجهوا تأويله إلى الجمل المعروف وكذلك فسروه. ذكر من قال ذلك:
11423ـ حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي, قال: حدثنا فضيل بن عياض, عن مغيرة, عن إبراهيم, عن عبد الله في قوله: حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخياطِ قال: الجمل: ابن الناقة, أو زوج الناقة.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن أبي حصين, عن إبراهيم, عن عبد الله: حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخِياطِ قال: الجمل: زوج الناقة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي حصين, عن إبراهيم, عن عبد الله, مثله.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن مهدي, عن هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم, عن عبد الله, قال: الجمل: زوج الناقة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم, عن عبد الله مثله.
11424ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا قرة, قال: سمعت الحسن يقول: الجمل الذي يقوم في المربد.
11425ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ قال: حتى يدخل البعير في خرق الإبرة.
11426ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن مهدي, عن هشيم, عن عباد بن راشد, عن الحسن, قال: هو الجمل. فلما أكثروا عليه, قال: هو الأشتر.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيم, عن عباد بن راشد, عن الحسن, مثله.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا حماد, عن يحيى, قال: كان الحسن يقرؤها: حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ قال: فذهب بعضهم يستفهمه, قال: أشتر أشتر.
11427ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو النعمان عارم, قال: حدثنا حماد بن زيد, عن شعيب بن الحَبْحاب, عن أبي العالية: حتى يَلِجَ الجَمَلُ قال: الجمل: الذي له أربع قوائم.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوريّ, عن أبي حصين, أو حصين, عن إبراهيم, عن ابن مسعود في قوله: حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ قال: زوج الناقة, يعني الجمل.
11428ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك: أنه كان يقرأ: الجَمَلُ وهو الذي له أربع قوائم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو تميلة, عن عبيد, عن الضحاك: حتى يَلِجَ الجَمَلُ الذي له أربع قوائم.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا زيد بن الحباب, عن قرة, عن الحسن: حتى يَلِجَ الجَمَلُ قال: الذي بالمربد.
11429ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: «حتى يَلجَ الجَمَلُ الأصْفَرُ».
11430ـ حدثنا نصر بن عليّ, قال: حدثنا يحيى بن سليم, قال: حدثنا عبد الكريم بن أبي المخارق, عن الحسن, في قوله: حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ قال: الجمل: ابن الناقة, أو بعل الناقة.
وأما الذين خالفوا هذه القراءة فإنهم اختلفوا, فرُوي عن ابن عباس في ذلك روايتان: إحداهما الموافقة لهذه القراءة وهذا التأويل. ذكر الرواية بذلك عنه:
11431ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس: حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ والجمل: ذو القوائم. وذكر أن ابن مسعود قال ذلك.
11432ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ: هو الجمل العظيم لا يدخل في خرق الإبرة من أجل أنه أعظم منها. والرواية الأخرى ما:
11433ـ حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي, قال: حدثنا فضيل بن عياض, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس: في قوله: «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ» قال: هو قَلْس السفينة.
11434ـ حدثني عبد الأعلى بن واصل, قال: حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل, عن خالد بن عبد الله الواسطي, عن حنظلة السدوسيّ, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه كان يقرأ: «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ» يعني: الحبل الغليظ. فذكرت ذلك للحسن, فقال: حتى يَلِجَ الجَمَلُ قال عبد الأعلى. قال أبو غسان, قال خالد: يعني البعير.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أسامة, عن فضيل, عن مغيرة, عن مجاهد, عن ابن عباس أنه قرأ: «الجُمّل» مثقلة, وقال: هو حبل السفينة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن مهدي, عن هشيم, عن مغيرة, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: «الجُمّل»: حبال السفن.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا يحيى بن آدم, عن ابن المبارك, عن حنظلة, عن عكرمة, عن ابن عباس: «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ» قال: الحبل الغليظ.
: حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن مجاهد, عن ابن عباس: «حتى يَلِجَ الجُمّلُ في سَمّ الخياطِ» قال: هو الحبل الذي يكون على السفينة.
واختلف عن سعيد بن جبير أيضا في ذلك, فرُوي عنه روايتان إحداهما مثل الذي ذكرنا عن ابن عباس بضمّ الجيم وتثقيل الميم. ذكر الرواية بذلك عنه:
11435ـ حدثنا عمران بن موسى القزّار, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد, قال: حدثنا حسين المعلم, عن أبي بشر عن سعيد بن جبير, أنه قرأها: «حتى يَلِجَ الجُمّلُ» يعني: قلوس السفن, يعني الحبال الغلاظ.
والأخرى منهما بضم الجيم وتخفيف الميم. ذكر الرواية بذلك عنه:
11436ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا عمرو, عن سالم بن عجلان الأفطس, قال: قرأت على أبي: «حتى يَلِجَ الجُمّلُ» فقال: «حتى يَلِجَ الجُمَلُ» خفيفة: هو حبل السفينة, هكذا أقرأنيها سعيد بن جبير.
وأما عكرمة, فإنه كان يقرأ ذلك: الجُمّل بضمّ الجيم وتشديد الميم, وبتأوّله كما:
11437ـ حدثني ابن وكيع, قال: حدثنا أبو تُمَيلة, عن عيسى بن عبيدة, قال: سمعت عكرمة يقرأ «الجُمّلُ» مثقلة, ويقول: هو الحبل الذي يصعد به إلى النخل.
حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا كعب بن فَرّوخ, قال: حدثنا قتادة, عن عكرمة, في قوله: «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ» قال: الحبل الغليظ في خرق الإبرة.
11438ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياط» قال: حبل السفينة في سَمّ الخياط.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عبد الله بن كثير: سمعت مجاهدا يقول: الحبل من حبال السفن.
وكأن من قرأ ذلك بتخفيف الميم وضمّ الجيم على ما ذكرنا عن سعيد بن جبير على مثال الصّرَد والجُعَل وجهه إلى جماع جملة من الحبال جمعت جُمَلاً, كما تجمع الظلمة ظُلَما والخربة خُرَبا.
وكان بعض أهل العربية ينكر التشديد في الميم, ويقول: إنما أراد الراوي الجُمَل بالتخفيف, فلم يفهم ذلك منه, فشدّده.
وحُدثت عن الفراء, عن الكسائي أنه قال: الذي رواه عن ابن عباس كان أعجميّا. وأما من شدّد الميم وضمّ الجيم, فإنه وجهه إلى أنه اسم واحد: وهو الحبل أو الخيط الغليظ.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار وهو: حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخياطِ بفتح الجيم والميم من «الجمل» وتخفيفها, وفتح السين من «السّمّ», لأنها القراءة المستفيضة في قرّاء الأمصار, وغير جائز مخالفة ما جاءت به الحجة متفقة عليه من القرّاء, وكذلك ذلك في فتح السين في قوله: سَمّ الخِياطِ.
وإذ كان الصواب من القراءة ذلك, فتأويل الكلام: ولا يدخلون الجنة حتى يلج, والولوج: الدخول من قولهم: وَلَجَ فلان الدار يَلِجُ وُلُوجا, بمعنى: دخل الجمل في سَمّ الإبرة وهو ثقبها. وكذلكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ يقول وكذلك نثيب الذين أجرموا في الدنيا ما استحقوا به من الله العذاب الأليم في الاَخرة.
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله: سَمّ الخياط قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11439ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو أسامة وابن مهدي وسويد الكلبي, عن حماد بن زيد, عن يحيى بن عتيق, قال: سألت الحسن, عن قوله: حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخياطِ قال: ثقب الإبرة.
11440ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا كعب بن فَرّوخ, قال: حدثنا قتادة, عن عكرمة: في سَمّ الخياطِ قال: ثقب الإبرة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن, مثله.
11441ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: في سَمّ الخياط قال: جحر الإبرة.
11442ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس: في سَمّ الخياطِ يقول: جحر الإبرة.
11443ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: ثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: في سَمّ الخياطِ قال: في ثَقبه.
الآية : 41
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُمْ مّن جَهَنّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ }.
يقول جلّ ثناؤه: لهؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها مِنْ جَهَنّم مِهادٌ وهو ما امتهدوه مما يقعد عليه ويضطجع كالفراش الذي يُفرش والبساط الذي يُبسط. وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وهو جمع غاشية, وذلك ما غشاهم فغطاهم من فوقهم.
وإنما معنى الكلام: لهم من جهنم مهاد, من تحتهم فرش ومن فوقهم منها لُحُف, وإنهم بين ذلك.
وبنحو ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11444ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب: لَهُمْ مِنْ جَهَنّمَ مِهادٌ قال: الفراش, وَمِنْ فَوْقِهِمْ غوَاشٍ قال: اللحف.
11445ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, عن أبي روق, عن الضحاك: لَهُمْ مِنْ جَهَنّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ قال: المهاد: الفرش, والغواشي: اللحف.
11446ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: لَهُمْ مِن جَهَنّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ أما المِهاد لهم: كهيئة الفراش, والغواشي: تتغشاهم من فوقهم.
وأما قوله وكَذلكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ: فإنه يقول: وكذلك نثيب ونكافىء من ظلم نفسه فأكسبها من غضب الله ما لا قبل لها به بكفره بربه وتكذيبه أنبياءه.
الآية : 42
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
يقول جلّ ثناؤه: والذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به من وحي الله وتنزيله وشرائع دينه, وعملوا ما أمرهم الله به فأطاعوه وتجنبوا ما نهاهم عنه. لا نُكَلّفُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها يقول: لا نكلف نفسا من الأعمال إلاّ ما يسعها فلا تَحْرَجَ فيه أولَئِكَ يقول: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات, أصْحَابُ الجَنّةِ يقول: هم أهل الجنة الذين هم أهلها دون غيرهم ممن كفر بالله, وعمل بسيئاتهم فيها خالِدُونَ يقول: هم في الجنة ماكثون, دائم فيها مكثهم لا يخرجون منها ولا يُسْلَبون نعيمهم.
الآية : 43
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي هَدَانَا لِهَـَذَا وَمَا كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلآ أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ وَنُودُوَاْ أَن تِلْكُمُ الْجَنّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وصف صفتهم وأخبر أنهم أصحاب الجنة, ما فيها من حقد وغل وعداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض, فجعلهم في الجنة إذْ أدخلَهموها على سرر متقابلين, لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خصّ الله به بعضهم وفضله من كرامته عليه, تجري من تحتهم أنهار الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11447ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ قال: العداوة.
11448ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن سعيد بن بشير, عن قتادة: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورهِمْ مِنْ غِلّ قال: هي الإحِنُ.
11449ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا ابن المبارك, عن ابن عيينة, عن إسرائيل أبي موسى, عن الحسن, عن عليّ, قال: فينا والله أهل بدر نزلت: وَنَزَعْنا ما فِي صُدورِهِمْ مِنْ غِلّ إخْوَانا على سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ.
حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن إسرائيل, قال: سمعته يقول: قال عليّ عليه السلام: فينا والله أهل بدر نزلت: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ إخْوَانا على سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ.
11450ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: قال عليّ رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ رضوان الله عليهم.
11451ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَنَزَعْنا ما فِي صُدورِهِمْ مِنْ غِلّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنهَارُ قال: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة, فبلغوا, وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان, فشربوا من إحداهما, فينزع ما في صدورهم من غلّ, فهو الشراب الطهور. واغتسلوا من الأخرى, فجرت عليهم نضرة النعيم, فلم يشعثوا ولم يتسخوا بعدها أبدا.
11452ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, عن الجريري, عن أبي نضرة, قال: يحبس أهل الجنة دون الجنة حتى يُقْضَى لبعضهم من بعض, حتى يدخلوا الجنة حين يدخلونها ولا يطلب أحد منهم أحدا بقلامة ظفر ظلَمها إياه ويحبس أهل النار دون النار حتى يقضى لبعضهم من بعض, فيدخلون النار حين يدخلونها ولا يطلب أحد منهم أحدا بقلامة ظفر ظلمها إياه.
القول في تأويل قوله تعالى: وَقَالوُا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانا لِهَذَا وَما كُنّا لنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ.
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات حين أدخلوا الجنة, ورأوا ما أكرمهم الله به من كرامته, وما صُرف عنهم من العذاب المهين الذي ابتلي به أهل النار بكفرهم بربهم وتكذيبهم رسله: الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانا لِهَذَا يقول: الحمد لله الذي وفّقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله وصرف عذابه عنا. وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ يقول: وما كنا لنرشد لذلك لولا أن أرشدنا الله له ووفقنا بمنه وطَوْله. كما:
11453ـ حدثنا أبو هشام الرفاعي, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال: حدثنا الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلّ أهْلِ النّارِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ الجَنّةِ, فَيَقُولُونَ لَوْ هَدَانا اللّهُ, فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً. وكُلّ أهْلِ الجَنّةِ يَرَى مَنْزِلَهُ مِنَ النّارِ, فَيَقُولُونَ لَولا أنْ هَدَانا اللّهُ. فَهَذَا شُكْرُهُمْ».
11454ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت أبا إسحاق يحدّث عن عاصم بن ضمرة, عن عليّ, قال: ذكر عمر لشيء لا أحفظه, ثم ذكر الجنة, فقال: يدخلون فإذا شجرة يخرج من تَحْت ساقها عينان, قال: فيغتسلون من إحداهما, فتجري عليهم نضرة النعيم, فلا تشعَث أشعارهم ولا تغبر أبشارهم, ويشربون من الأخرى, فيخرج كلّ قذى وقذر, أو شيء في بطونهم. قال: ثم يفتح لهم باب الجنة, فيقال لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادْخُلُوها خالِدِينَ قال: فتستقبلهم الوِلدان, فيحُفّون بهم كما تحفّ الولدان بالحميم إذا جاء من غيبته. ثم يأتون فيبشرون أزواجهم, فيسمونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم, فيقلن: أنت رأيته؟ قال: فيستخفهنّ الفرح, قال: فيجئن حتى يقفن على أسكفّة الباب. قال: فيجيئون فيدخلون, فإذا أُسّ بيوتهم بجندل اللؤلؤ, وإذا صروح صفر وخضر وحمر ومن كلّ لون, وسرر مرفوعة, وأكواب موضوعة, ونمارق مصفوفة, وزرابيّ مبثوثة, فلولا أن الله قدرها لالتُمعت أبصارهم مما يرون فيها. فيعانقون الأزواج, ويقعدون على السرر, ويقولون: الحَمْدُ لِلّه الّذِي هَدَانا لِهَذَا وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانا اللّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ... الاَية.
القول في تأويل قوله تعالى: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبّنا بالحَقّ وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُموها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنهم يقولون عند دخولهم الجنة ورؤيتهم كرامة الله التي أكرمهم بها, وهو أن أعداء الله في النار: والله لقد جاءتنا في الدنيا وهؤلاء الذين في النار رسل ربنا بالحقّ من الأخبار, عن وعد الله أهل طاعته والإيمان به وبرسله ووعيده أهل معاصيه والكفر به.
وأما قوله: وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فإن معناه: ونادى مناد هؤلاء الذين وصف الله صفتهم وأخبر عما أعدّ لهم من كرامته, أنْ يا هؤلاء هذه تلكم الجنة التي كانت رسلي في الدنيا تخبركم عنها, أورثكموها الله عن الذين كذّبوا رسله, لتصديقكم إياهم وطاعتكم ربكم. وذلك هو معنى قوله: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
11455ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال: ليس من كافر ولا مؤمن إلاّ وله في الجنة والنار منزل. فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, ودخلوا منازلهم, رُفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم: هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله, ثم يقال: يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم.
11456ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمر بن سعد أبو داود الحفري, عن سعيد بن بكر, عن سفيان الثوريّ, عن أبي إسحاق, عن الأغرّ: وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أُورِثْتُمُوها بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال: نودوا أن صحّوا فلا تسقموا واخلدوا فلا تموتوا وانعموا فلا تبأسوا
11457ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن الأغرّ, عن أبي سعيد: وَنُودُوا أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ... الاَية, قال: ينادي مناد: إن لكم أت تصحوا فلا تسقموا أبدا.
واختلف أهل العربية في «أن» التي مع «تلكم», فقال بعض نحويي البصرة: هي «أنّ» الثقيلة خففت, وأضمر فيها, ولا يستقيم أن نجعلها الخفيفة لأن بعدها اسما, والخفيفة لا تليها الأسماء, وقد قال الشاعر:
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد قدْ عَلِمُواأنْ هالكٌ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
وقال آخر:
أُكاشِرُهُ وأعْلَمُ أنْ كِلاناعَلى ما ساءَ صَاحِبَهُ حَرِيصُ
قال: فمعناه: أنه كلانا قال, ويكون كقوله: أنْ قَدْ وَجَدْنا في موضع «أي», وقوله: أنْ أقِيمُوا. وَلا تَكُونُ «أن» التي تعمل في الأفعال, لأنك تقول: غاظني أن قام, وأن ذهب, فتقع على الأفعال وإن كانت لا تعمل فيها, وفي كتاب الله: وَانْطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أنِ امْشُوا أي امشوا. وأنكر ذلك من قوله هذا بعض أهل الكوفة, فقال: غير جائز أن يكون مع «أن» في هذا الموضع «هاء» مضمرة, لأن من قوله هذا بعض أهل الكوفة, فقال: غير جائز أن يكون مع «أن» في هذا الموضع «هاء» مضمرة, لأن «أن» دخلت في الكلام لتقي ما بعدها, قال: و «أن» هذه التي مع «تلكم», هي الدائرة التي يقع فيها ما ضارع الحكاية, وليس بلفظ الحكاية, نحو: ناديت أنك قائم, وأن زيد قائم, وأن قمت, فتلي كلّ الكلام, وجعلت «أن» وقاية, لأن النداء يقع على ما بعده, وسلم ما بعد «أن» كما سلم ما بعد القول, ألا ترى أنك تقول: قلت: زيد قائم, وقلت: قام, فتليها ما شئت من الكلام؟ فلما كان النداء بمعنى الظنّ وما أشبهه من القول سلم «ما» بعد «أن», ودخلت «أن» وقاية. قال: وأما «أي» فإنها لا تكون على أن لا يكون: أي جواب الكلام, وأن تكفي من الاسم