تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 17 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 17

016

وقوله: 107- "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير" يفيد أن النسخ من مقدوراته، وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية، وهكذا قوله: "ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض" أي له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمة والأشخاص وهذا صنع من لا ولي لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص التي تعبدهم بها وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال. وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن عدي وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " وفي إسناده الحجاج الجزري ينظر فيه. وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال: "قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقرآن بها، فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها مما نسخ أو نسي فالهوا عنها" وفي إسناده سليمان ابن الأرقم وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: " ما ننسخ من آية أو ننسها " يقول: ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها "نأت بخير منها أو مثلها" يقول: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: " ننسها " نؤخرها. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله: "ما ننسخ من آية" قال: نثبت خطها ونبدل حكمها " أو ننسها " قال: نؤخرها. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله: "نأت بخير منها أو مثلها" يقول: فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف وأبو ذر الهروي في فضائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: "أن رجلاً كانت معه سورة، فقام من الليل فقام بها فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأ بها فلم يقدر عليها، وقام آخر فلم يقدر عليها، فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا عنده فأخبروه، فقال: إنها نسخت البارحة" وقد روي نحوه عنه من وجه آخر. وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة (أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) ثم نسخ، وهكذا ثبت في مسلم وغيره عن أبي موسى قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني حفظت منها ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوفه إلا التراب) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات، أولها: "سبح لله ما في السموات" فأنسيناها، غير أني حفظت منها " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون "فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة، ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر.
108- "أم" هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل: أي بل تريدون، وفي هذا توبيخ وتقريع، والكاف في قوله: "كما سئل" في موضع نصب نعت لمصدر محذوف: أي سؤالاً مصل ما سئل موسى من قبل حيث سألوه أن يريهم الله جهرة، وسألوا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتي الله والملائكة قبيلاً. وقوله: "سواء" هو الوسط من كل شيء قاله أبو عبيدة، ومنه قوله تعالى: "في سواء الجحيم" ومنه قول حسان يرثي النبي صلى الله عليه وسلم: يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد وقال الفراء: السواء القصد: أي ذهب عن قصد الطريق وسمعته: أي طريق طاعة الله.
وقوله تعالى: 109- "ود كثير من أهل الكتاب" فيه إخبار المسلمين بحرص اليهود على فتنتهم وردهم عن الإسلام والتشكيك عليهم في دينهم. وقوله: "لو يردونكم" في محل نصب على أنه مفعول للفعل المذكور. وقوله: "من عند أنفسهم" يحتمل أن يتعلق بقوله "ود" أي ودوا ذلك من عند أنفسهم، ويحتمل أن يتعلق بقوله: "حسداً" أي حسداً ناشئاً من عند أنفسهم، وهو علة لقوله: "ود". والعفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس، صفحت عن فلان: إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صفحاً: إذا أعرضت عنه، وفيه الترغيب في ذلك والإرشاد إليه- وقد نسخ ذلك بالأمر بالقتال، قاله أبو عبيدة. وقوله: "حتى يأتي الله بأمره" هو غاية ما أمر الله سبحانه به من العفو والصفح: أي افعلوا ذلك إلى أن يأتي إليكم الأمر من الله سبحانه في شأنهم بما يختاره ويشاءه، وما قد قضى به في سابق عمله، وهو قتل من قتل منهم، وإجلاء من أجلي، وضرب الجزية على من ضربت عليه، وإسلام من أسلم.
وقوله: 110- "وأقيموا الصلاة" حث من الله سبحانه لهم على الاشتغال بما ينفعهم ويعود عليهم بالمصلحة، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وتقديم الخير الذي يثابون عليه حتى يمكن الله لهم وينصرهم على المخالفين لهم. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بكتاب ينزل علينا من السماء نقرأه أو فجر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك "أم تريدون أن تسألوا رسولكم" -إلى قوله- "سواء السبيل" وكان حيي بن أخطب من أشد اليهود حسداً للعرب إذ خصهم الله ورسوله، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما "ود كثير من أهل الكتاب" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي قال: سألت العرب محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: قال رجل: لو كانت كفارتنا كفارات بني إسرائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أعطاكم الله خير، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزايا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزايا في الآخرة. وقد أعطاكم الله خيراً من ذلك قال: "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن"، فأنزل الله: "أم تريدون أن تسألوا رسولكم" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال: نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم، فأبوا ورجعوا، فأنزل الله "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" أن يريهم الله جهرة. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان" قال: يتبدل الشدة بالرخاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فقد ضل سواء السبيل" قال: عدل عن السبيل. وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن كعب بن مالك قال: كان اليهود والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وأنزل الله "ود كثير من أهل الكتاب" وفي الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " وقال : "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم" الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله: "من عند أنفسهم" قال: من قبل أنفسهم "من بعد ما تبين لهم الحق" يقول: إن محمداً رسول الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "فاعفوا واصفحوا" وقوله: "وأعرض عن المشركين" نحو هذا في العفو عن المشركين قال: نسخ ذلك كله بقوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" الآية، وقوله: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ". وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "وما تقدموا لأنفسكم من خير" يعني من الأعمال من الخير في الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "تجدوه عند الله" قال: تجدوا ثوابه.
قوله: 111- "هوداً" قال الفراء: يجوز أن يكون هوداً بمعنى يهودياً، وأن يكون جمع هائد. وقال الأخفش: إن الضمير المفرد في كان هو باعتبار لفظ من، والجمع في قوله: هوداً باعتبار معنى من، قيل: في هذا الكلام حذف، وأصله: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً. هكذا قال كثير من المفسرين، وسبقهم إلى ذلك بعض السلف. وظاهر النظم القرآني أن طائفتي اليهود والنصارى وقع منهم هذا القول وأنهم يختصون بذلك دون غيرهم، ووجه القول بأن في الكلام حذفاً ما هو معلوم من أن كل طائفة من هاتين الطائفتين تضلل الأخرى ولتنفي عنها أنها على شيء من الدين فضلاً عن دخول الجنة كما في هذا الموضع، فإنه قد حكى الله عن اليهود أنها قالت: ليست النصارى على شيء، وقالت: النصارى ليست اليهود على شيء والأماني قد تقدم تفسيرها، والإشارة بقوله تلك إلى ما تقدم لهم من الأماني التي آخرها أنه لا يدخل الجنة غيرهم. وقيل: إن الإشارة إلى هذه الأمنية الآخرة، والتقدير أمثال تلك الأمنية أمانيهم على حذف المضاف ليطابق أمانيهم، قوله: "هاتوا" أصله هاتيوا حذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ويقال للمفرد المذكر هات وللمؤنث هاتي، وهو صوت بمعنى أحضر. والبرهان: الدليل الذي يحصل عنده اليقين. قال ابن جرير: طلب الدليل هنا يقتضي إثبات النظر ويرد على من ينفيه. وقوله: "إن كنتم صادقين" أي في تلك الأماني المجردة والدعاوى الباطلة.
ثم رد عليهم فقال: 112- "بلى من أسلم" وهو إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة: أي ليس كما يقولون بل يدخلها من أسلم وجهه الله. ومعنى أسلم: استسلم، وقيل: أخلص. وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان ولأنه موضع الحواس الظاهرة، وفيه يظهر العز والذل، وقيل: إن العرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء، وأن المعنى هنا الوجه وغيره، وقيل: والمراد بالوجه هنا المقصد: أي من أخلص مقصده وقوله: "وهو محسن" في محل نصب على الحال، والضمير في قوله: "وجهه"، "وله" باعتبار لفظ من، وفي قوله: "عليهم" باعتبار معناها. وقوله: "من" إن كانت الموصولة فهي فاعل لفعل محذوف أي بلى يدخلها من أسلم. وقوله: "فله" معطوف على من أسلم وإن كانت من شرطية فقوله: فله هو الجزاء، ومجموع الشرط والجزاء رد على أهل الكتاب وإبطال لتلك الدعوى.