تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 171 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 171

170

160- " وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا " الضمير يرجع إلى قوم موسى المتقدم ذكرهم: لا إلى هؤلاء الأمة منهم الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، والمعنى: صيرناهم قطعاً متفرقة وميزنا بعضهم من بعض، وهذا من جملة ما قصه الله علينا من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل والمعنى: أنه ميز بعضهم من بعض حتى صاروا أسباطاً كل سبط معروف على انفراده، لكل سبط نقيب كما في قوله تعالى: " وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " وقد تقدم. وقوله: "اثنتي عشرة" هو ثاني مفعولي قطعنا لتضمنه معنى التصيير، وأسباطاً تمييز له أو بدل منه، أو "أمماً" نعت للأسباط أو بدل منه، والأسباط جمع سبط: وهو ولد الولد، صاروا اثنتي عشرة أمة من إثني عشر ولداً، وأراد بالأسباط القبائل، ولهذا أنث العدد كما في قول الشاعر: وإن قريشاً كلها عشر أبطن وأنت بريء من قبائلها العشر أراد بالبطن القبيلة، وقد تقدم تحقيق معنى الأسباط في البقرة، وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ "قطعناهم" مخففاً، وسماهم أمماً، لأن كل سبط كان جماعة كثيرة العدد: وكانوا مختلفي الآراء يؤم بعضهم غير ما يؤمه الآخر "وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه" أي وقت استسقائهم له لما أصابهم العطش في التيه "أن اضرب بعصاك الحجر" تفسير لفعل الإيحاء "فانبجست" عطف على مقدر يدل عليه السياق: أي فضرب فانبجست، والانبجاس: الانفجار، أي فانفجرت "منه اثنتا عشرة عيناً" بعدد الأسباط لكل سبط عين يشربون منها "قد علم كل أناس مشربهم" أي كل سبط منهم العين المختصة به التي يشرب منها، وقد تقدم في البقرة ما فيه كفاية مغنية عن الإعادة "وظللنا عليهم الغمام" أي جعلناه ظللاً عليهم في التيه يسير بسيرهم ويقيم بإقامتهم "وأنزلنا عليهم المن والسلوى" أي الترنجبين والسماني كما تقدم تحقيقه في البقرة "كلوا من طيبات ما رزقناكم" أي وقلنا لهم: كلوا من المستلذات التي رزقناكم "وما ظلمونا" بما وقع منهم من المخالفة وكفران النعم وعدم تقريرها حق قدرها "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" أي كان ظلمهم مختصاً بهم مقصوراً عليهم لا يجاوزهم إلى غيرهم.
161- "وإذ قيل لهم" أي واذكر وقت قيل لهم هذا القول وهو "اسكنوا هذه القرية" أي بيت المقدس أو أريحاء، وقيل غير ذلك مما تقدم بيانه "وكلوا منها" أي من المأكولات الموجودة فيها "حيث شئتم" أي في أي مكان شئتم من أمكنتها لا مانع لكم من الأكل فيه "وقولوا حطة" قد تقدم تفسيرها في البقرة "وادخلوا الباب" أي باب القرية المتقدمة حال كونكم "سجداً" أمروا بأن يجمعوا بين قولهم حطة وبين الدخول ساجدين، فلا يقال: كيف قدم الأمر بالقول هنا على الدخول وأخره في البقرة؟ وقد تقدم بيان معنى السجود الذي أمروا به "نغفر لكم خطيئاتكم" جواب الأمر. وقرئ " خطيئاتكم " ثم وعدهم بقوله: "سنزيد المحسنين" أي سنزيدهم على المغفرة للخطايا بما يتفضل به عليهم من النعم، والجملة استئنافية جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا لهم بعد المغفرة؟
162- "فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم" قد تقدم بيان ذلك في البقرة "فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء" أي عذاباً كائناً منها "بما كانوا يظلمون" أي بسبب ظلمهم.
قوله: 163- "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" معطوف على عامل إذ المقدر: أي اذكر إذ قيل لهم واسألهم، وهذا سؤال تقريع وتوبيخ، والمراد من سؤال القرية: سؤال أهلها: أي اسألهم عن هذا الحادث الذي حدث لهم فيها المخالف لما أمرهم الله به. وفي ضمن هذا السؤال فائدة جليلة، وهي تعريف اليهود بأن ذلك مما يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن اطلاعه لا يكون إلا بإخبار له من الله سبحانه، فيكون دليلاً على صدقه. واختلف أهل التفسير في هذه القرية: أي قرية هي؟ فقيل أيلة، وقيل طبرية، وقيل مدين، وقيل إيليا، وقيل قرية من قرى ساحل الشام التي كانت حاضرة البحر: أي التي كانت بقرب البحر، يقال كنت بحضرة الدار: أي بقربها. والمعنى: سل يا محمد هؤلاء اليهود الموجودين عن قصة أهل القرية المذكورة. قرئ واسألهم وقرئ سلهم "إذ يعدون" أي وقت يعدون وهو ظرف لمحذوف دل عليه الكلام لأن السؤال هو عن حالهم وقصتهم وقت يعدون، وقيل: إنه ظرف لكانت أو لحاضرة. وقرئ يعدون بضم الياء وكسر العين وتشديد الدال من الإعداء للآلة. وقرأ الجمهور يعدون بفتح الياء وسكون العين وضم الدال مخففة: أي يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت الذي نهوا عن الاصطياد فيه، وقرئ يعدون بفتح الياء والعين وضم الدال مشددة بمعنى يعتدون، أدغمت التاء في الدال. والسبت هو اليوم المعروف وأصله السكون، يقال: سبت إذا سكن وسبت اليهود تركوا العمل في سبتهم، والجمع أسبت، وسبوت، وأسبات وقرأ ابن السميفع في الأسبات على الجمع "إذ تأتيهم حيتانهم" ظرف ليعدون. والحيتان: جمع حوت وأضيفت إليهم لمزيد اختصاص لهم بما كان منها على هذه الصفة من الإتيان يوم السبت دون ما عداه، و "يوم سبتهم" ظرف لتأتيهم. وقرئ يوم أسباتهم و "شرعاً" حال، وهو جمع شارع: أي ظاهرة على الماء، وقيل رافعة رؤوسها، وقيل إنها كانت تشرع على أبوابها كالكباش البيض. قال في الكشاف: يقال: شرع علينا فلان إذا دنا منا وأشرف علينا، وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا انتهى "ويوم لا يسبتون لا تأتيهم" أي لا يفعلون السبت، وذلك عند خروج يوم السبت لا تأتيهم الحيتان، كما كانت تأتيهم في يوم السبت "كذلك نبلوهم" أي مثل ذلك البلاء العظيم نبلوهم بسبب فسقهم والابتلاء الامتحان والاختبار.