تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 172 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 172

171

164- "وإذ قالت أمة" معطوف على إذ يعدون معمول لعامله داخل في حكمه، والأمة الجماعة: أي قالت جماعة من صلحاء أهل القرية لآخرين ممن كان يجتهد في وعظ المتعدين في السبت حين أيسوا من قبولهم للموعظة، وإقلاعهم عن المعصية "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" أي مستأمل لهم بالعقوبة "أو معذبهم عذاباً شديداً" بما انتهكوا من الحرمة وفعلوا من المعصية، وقيل: إن الجماعة القائلة لم تعظون قوماً؟ هم العصاة الفاعلون للصيد في يوم السبت، قالوا ذلك للواعظين لهم حين وعظوهم. والمعنى: إذا علمتم أن الله مهلكنا كما تزعمون فلم تعظوننا "قالوا معذرة إلى ربكم" أي قال الواعظون للجماعة القائلين لهم لم تعظون، وهم طائفة من صلحاء القرية على الوجه الأول، أو الفاعلين على الوجه الثاني "معذرة إلى ربكم" قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف "معذرة" بالنصب، وهي قراءة حفص عن عاصم، وقرأ الباقون بالرفع. قال الكسائي: ونصبه على وجهين: أحدهما على المصدر، والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة: أي لأجل المعذرة. والرفع على تقدير مبتدأ: أي موعظتنا معذرة إلى الله حتى لا يؤاخذنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين أوجبهما علينا، ولرجاء أن يتعظوا فيتقوا ويقلعوا عما هم فيه من المعصية. قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق: فرقة عصت وصادت وكانت نحو سبعين ألفاً، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تعص، وفرقة اعتزلت ونهت ولم تعص، فقالت الطائفة التي لم تنه ولم تعص للفرقة الناهية "لم تعظون قوماً" يريدون الفرقة العاصية "الله مهلكهم أو معذبهم" قالوا ذلك على غلبة الظن لما جرت به عادة الله من إهلاك العصاة أو تعذيبهم من دون استئصال بالهلاك، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله ولعلهم يتقون ولو كانوا فرقتين فقط ناهية غير عاصية، وعاصية لقال: لعلكم تتقون.
قوله: 165- "فلما نسوا ما ذكروا به" أي لما ترك العصاة من أهل القرية ما ذكرهم به الصالحون الناهون عن المنكر ترك الناسي للشيء المعرض عنه كلية الإعراض "أنجينا الذين ينهون عن السوء" أي الذين فعلوا النهي، ولم يتركوه "وأخذنا الذين ظلموا" وهم العصاة المعتدون في السبت "بعذاب بئيس" أي شديد من بؤس الشيء يبؤس بأساً إذا اشتد، وفيه إحدى عشرة قراءة للسبعة وغيرهم "بما كانوا يفسقون" أي بسبب فسقهم والجار والمجرور متعلق بأخذنا.
166- " فلما عتوا عن ما نهوا عنه " أي تجاوزوا الحد في معصية الله سبحانه تمرداً وتكبراً "قلنا لهم كونوا قردة" أي أمرناهم أمراً كونياً لا أمراً قولياً: أي مسخناهم قردة، قيل: إنه سبحانه عذبهم أولاً بسبب المعصية فلما لم يقلعوا مسخهم قردة، وقيل إن قوله: " فلما عتوا عن ما نهوا عنه " تكرير لقوله: "فلما نسوا ما ذكروا به" للتأكيد والتقرير، وأن المسخ هو العذاب البيس، والخاسئ الصاغر الذليل أو المباعد المطرود، يقال: خسأته فخسئ: أي باعدته فتباعد. واعلم أن ظاهر النظم القرآني هو أنه لم ينج من العذاب إلا الفرقة الناهية التي لم تعص لقوله: "أنجينا الذين ينهون عن السوء" وأنه لم يعذب بالمسخ إلا الطائفة العاصية لقوله: "فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين" فإن كانت الطوائف منهم ثلاثاً كما تقدم فالطائفة التي لم تنه ولم تعص يحتمل أنها ممسوخة مع الطائفة العاصية لأنها قد ظلمت نفسها بالسكوت عن النهي وعتت عما نهاها الله عنه من ترك النهي عن المنكر، ويحتمل أنها لم تمسخ لأنها وإن كانت ظالمة لنفسها عاتية عن أمر ربها ونهيه لكنها لم تظلم نفسها بهذه المعصية الخاصة، وهي صيد الحوت في يوم السبت، ولا عتت عن نهيه لها عن الصيد، وأما إذا كانت الطائفة الثالثة ناهية كالطائفة الثانية، وإنما جعلت طائفة مستقلة لكونها قد جرت المقاولة بينها وبين الطائفة الأخرى من الناهين المعتزلين فهما في الحقيقة طائفة واحدة لاجتماعهما في النهي والاعتزال والنجاة من المسخ. وقد أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال موسى: يا رب أجد أمة أناجيلهم في قلوبهم، قال: تلك أمة تكون بعدك: أمة أحمد، قال: يا رب أجد أمة يعطون صدقات أموالهم ثم ترجع فيهم فيأكلون، قال: تلك بعدك: أمة أحمد، قال: يا رب اجعلني من أمة أحمد، فأنزل الله كهيئة المرضاة لموسى "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "ومن قوم موسى أمة" الآية، قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا إثني عشر سبطاً، تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: "وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً" ووعد الآخرة عيسى ابن مريم. قال ابن عباس ساروا في السرب سنة ونصفاً. أقول: ومثل هذا الخبر العجيب والنبأ الغريب محتاج إلى تصحيح النقل. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، ولتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، فأما اليهود فإن الله يقول: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" فهذه التي تنجو، وأما النصارى فإن الله يقول: "منهم أمة مقتصدة" فهذه التي تنجو، وأما نحن فيقول: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" فهذه التي تنجو من هذه الأمة. وقد قدمنا أن زيادة كلها في النار لم تصح لا مرفوعة ولا موقوفة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "فانبجست" قال: فانفجرت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس، وهو يقرأ هذه الآية "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" قال: يا عكرمة هل تدري أي قرية هذه؟ قلت: لا، قال: هي أيلة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري قال: هي طبرية. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "إذ يعدون في السبت" قال: يظلمون. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "شرعاً" يقول: من كل مكان. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: ظاهرة على الماء. وأخرج ابن المنذر عنه قال: واردة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة يقال لها: أيلة، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم فكانت تأتيهم يوم سبتهم شرعاً في ساحل البحر فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها، فمكثوا كذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم فنهتهم طائفة فلم يزدادوا إلا غياً. فقالت طائفة من النهاة يعلمون أن هؤلاء قوم حق عليهم العذاب "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" وكانوا أشد غضباً من الطائفة الأخرى وكل قد كانوا ينهون، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا: "لم تعظون" والذين قالوا: "معذرة إلى ربكم" وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أنهم ثلاث فرق: فرقة العصاة، وفرقة الناهون، وفرقة القائلون لم تعظون، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم، فأصبح الذين نهوا ذات غداة في مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم، وقد باتوا من ليلتهم وغلقوا عليهم دورهم، فجعلوا يقولون إن للناس لشأناً فانظروا ما شأنهم؟ فاطلعوا في دورهم فإذا القوم قد مسخوا يعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس فذكر القصة، وفي آخرها أنه قال: فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها. قال عكرمة: فقلت: جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم، وقالوا: "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" قال: فأمر بي فكسيت ثوبين غليظين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أيضاً قال: نجا الناهون وهلك الفاعلون، ولا أدري ما صنع بالساكتين. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عنه قال: والله لأن أكون علمت أن القوم الذين قالوا: "لم تعظون قوماً" نجوا من الذين نهوا عن السوء أحب إلي مما عدل به. وفي لفظ: من حمر النعم. ولكن أخاف أن تكون العقوبة نزلت بهم جميعاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: قال ابن عباس: ما أدري أنجا الذين قالوا: "لم تعظون قوماً الله مهلكهم" أم لا؟ قال: فما زلت أبصره حتى عرف أنهم قد نجوا فكساني حلة. وأخرج عبد بن حميد عن ليث بن أبي سليم قال: مسخوا حجارة الذين قالوا: "لم تعظون قوماً الله مهلكهم". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله: " بعذاب بئيس " قال: أليم وجيع.
قوله: 167- "وإذ تأذن ربك" معطوف على ما قبله: أي واسألهم وقت تأذن ربك وتأذن تفعل من الإيذان، وهو الإعلام. قال أبو علي الفارسي: آذن بالمد أعلم، وأذن بالتشديد نادى. وقال قوم: كلاهما بمعنى أعلم كما يقال: أيقن وتيقن. والمعنى في الآية: واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك "ليبعثن عليهم" قيل: وفي هذا الفعل معنى القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بما يجاب به القسم حيث قال: "ليبعثن عليهم" أي ليرسلن عليهم ويسلطن كقوله: "بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد" "إلى يوم القيامة" غاية لسومهم سوء العذاب ممن يبعثه الله عليهم وقد كانوا أقماهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل، وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية في كل قطر من أقطار الأرض في الذلة المضروبة عليهم والعذاب والصغار، يسلمون الجزية بحقن دمائهم ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار. ومعنى "يسومهم" يذيقهم، وقد تقدم بيان أصل معناه، ثم علل ذلك بقوله: "إن ربك لسريع العقاب" يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء "وإنه لغفور رحيم" أي كثير الغفران والرحمة.
168- "وقطعناهم في الأرض" أي فرقناهم في جوانبها، أو شتتنا أمرهم فلم تجتمع لهم كلمة، و "أمماً" منتصب على الحال أو مفعول ثان لقطعنا على تضمينه معنى صيرنا، وجملة "منهم الصالحون" بدل من أمماً، قيل: هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدل، وقيل: هم الذين سكنوا وراء الصين كما تقدم بيانه قبل هذا "ومنهم دون ذلك" أي دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح، ومحل "دون ذلك" الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: ومنهم أناس دون ذلك، والمراد بهؤلاء هم من لم يؤمن، بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به. قال النحاس "دون" منصوب على الظرف ولا نعلم أحداً رفعه "وبلوناهم بالحسنات والسيئات" أي امتحناهم بالخير والشر رجاء أن يرجعوا مما هم من الكفر والمعاصي.
169- "فخلف من بعدهم خلف" المراد بهم أولاد الذين قطعهم الله في الأرض. قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد، الواحد والجمع سواء. والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غيره. وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح، وبالسكون الطالح. قال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، ومنه قول حسان بن ثابت: لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع "ورثوا الكتاب" أي التوراة من أسلافهم يقرأونها ولا يعملون بها "يأخذون عرض هذا الأدنى" أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم وقوة نهمتهم، والأدنى مأخوذ من الدنو، وهو القرب: أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى، وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشاء وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله، وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة وكتمهم لما يكتمونه منها، وقيل: إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط: أي إنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء السابق "ويقولون سيغفر لنا" أي يعللون أنفسهم بالمغفرة مع تماديهم في الضلالة وعدم رجوعهم إلى الحق، وجملة "يأخذون" يحتمل أن تكون مستأنفة لبيان حالهم أو في محل نصب على الحال، وجملة "يقولون" معطوفة عليها، والمراد بهذا الكلام: التقريع والتوبيخ لهم، وجملة " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " في محل نصب على الحال: أي يتعللون بالمغفرة، والحال أنهم إذا أتاهم عرض مثل العرض الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة ولا خائفين من التبعة، وقيل: الضمير في "يأتيهم" ليهود المدينة: أي وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه وسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم أخذوه كما أخذه أسلافهم "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب" أي التوراة "أن لا يقولوا على الله إلا الحق" والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وجملة "ودرسوا ما فيه" معطوفة على "يؤخذ" على المعنى، وقيل على "ورثوا الكتاب"، والأولى أن تكون في محل نصب على الحال بتقدير قد. والمعنى: أنهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب، والحال أن قد درسوا ما في الكتاب وعلموه فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل، وذلك أشد ذنباً وأعظم جرماً. وقيل: معنى "درسوا ما فيه" أي محوه بترك العمل به والفهم له، من قولهم درست الريح الآثار: إذا محتها "والدار الآخرة خير" من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها "للذين يتقون" اله ويجتنبون معاصيه "أفلا تعقلون" فتعلمون بهذا وتفهمونه، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره.
قوله: 170- "والذين يمسكون بالكتاب" قرأ الجمهور يمسكون بالتشديد من مسك وتمسك: أي استمسك بالكتاب وهو التوراة. وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر بالتخفيف من أمسك يمسك. وروي عن أبي بن كعب أنه قرأ مسكوا والمعنى: أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب ولا يعملون بما فيه مع كونهم قد درسوه وعرفوه وهم من تقدم ذكره، وطائفة يتمسكون بالكتاب: أي التوراة ويعملون بما فيه ويرجعون إليه في أمر دينهم فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله، والموصول مبتدأ، و "إنا لا نضيع أجر المصلحين" خبره: أي لا نضيع أجر المصلحين منهم، وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة لأنها رأس العبادات وأعظمها، فكان ذلك وجهاً لتخصيصها بالذكر، وقيل: لأنها تقام في أوقات مخصوصة، والتمسك بالكتاب مستمر فذكرت لهذا، وفيه نظر. فإن كل عبادة في الغالب تختص بوقت معين، ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على الموصول الذي قبله وهو للذين يتقون، ولكون "أفلا تعقلون" جملة معترضة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "يسومهم سوء العذاب" قال: محمد وأمته إلى يوم القيامة، وسوء العذاب: الجزية. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه قال: "سوء العذاب" الخراج، وفي قوله: "وقطعناهم" قال: هم اليهود بسطهم الله في الأرض فليس منها بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: "ليبعثن عليهم" قال: على اليهود والنصارى "إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب" فبعث الله عليهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأخذون منهم الجزية وهم صاغرون "وقطعناهم في الأرض أمماً" قال: يهود "منهم الصالحون" وهم مسلمة أهل الكتاب "ومنهم دون ذلك" قال: اليهود "وبلوناهم بالحسنات" قال: الرخاء والعافية "والسيئات" قال: البلاء والعقوبة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "وبلوناهم بالحسنات والسيئات" بالخصب والجدب. وأخرج أبو الشيخ عنه أنه سئل عن هذه الآية "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى" قال: أقوام يقبلون على الدنيا فيأكلونها ويتبعون رخص القرآن "ويقولون سيغفر لنا" ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فخلف من بعدهم خلف" قال: النصارى "يأخذون عرض هذا الأدنى" قال: ما أشرف لهم من شيء من الدنيا حلالاً أو حراماً يشتهونه أخذوه ويتمنون المغفرة، وإن يجدوا الغد مثله يأخذوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "فخلف من بعدهم خلف" الآية يقول: يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام "ويقولون سيغفر لنا". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق" فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي زيد في قوله: "ودرسوا ما فيه" قال: علموا ما في الكتاب لم يأتوه بجهالة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن في قوله: "والذين يمسكون بالكتاب" قال: هي لأهل الإيمان منهم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "والذين يمسكون بالكتاب" قال: من اليهود والنصارى.