سورة الأنفال | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 186 من المصحف
ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيراً ذكر من هو على ضد ذلك منهم فقال: 71- "وإن يريدوا خيانتك" بما قالوه لك بألسنتهم من أنهم قد آمنوا بك وصدقوك ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة، بل هو مماكرة ومخادعة، فليس ذلك بمستبعد منهم فإنهم قد فعلوا ما هو أعظم منه، وهو أنهم خانوا الله من قبل أن تظفر بهم، فكفروا به وقاتلوا رسوله "فأمكن منهم" بأن نصرك عليهم في يوم بدر فقتلت منهم من قتلت وأسرت من أسرت "والله عليم" بما في ضمائرهم "حكيم" في أفعاله بهم. وقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة قالت:" لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص وبعثت فيه بقلادة. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق رقة مباشرة وقال:إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وقال العباس: إني كنت مسلماً يا رسول الله، قال: الله أعلم بإسلامك، فإن تكن كما تقول فالله يجزيك، فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو، قال: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال: فأين المال الذي دفنت أنت وأم الفضل؟، فقلت لها: إن أصبت فهذا المال لبني؟ فقال: والله يا رسول الله إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها، فاحسب لي ما أصبتم مني عشرون أوقية من مال كان معي، قال:لا أفعل، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ونزلت: "قل لمن في أيديكم من الأسرى" الآية، فأعطاني مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله". وأخرج ابن سعد والحاكم وصححه عن أبي موسى "أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ثمانين ألفاً، فما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه، فنشر على حصير، وجاء الناس فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، وما كان يومئذ عدد ولا وزن، فجاء العباس فقال: يا رسول الله إني أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر أعطني من هذا المال، فقال: خذ، فحثا في خميصته ثم ذهب ينصرف فلم يستطع، فرفع رأسه وقال: يا رسول الله ارفع علي، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب وهو يقول: أما أحد اللذين وعد الله فقد أنجزنا وما ندري ما يصنع في الأخرى " قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم " فهذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع في المغفرة". والروايات في هذا الباب كثيرة. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في الأسارى يوم بدر منهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عنه في قوله: "وإن يريدوا خيانتك" إن كان قولهم كذباً "فقد خانوا الله من قبل" فقد كفروا وقاتلوك " فأمكن " ـك الله "منهم".
ختم الله سبحانه هذه السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به، وسمى سبحانه المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم، لأنهم هجروا أوطانهم وفارقوها طلباً لما عند الله، وإجابة لداعيه "والذين آووا ونصروا" هم الأنصار والإشارة بقوله: "أولئك" إشارة إلى الموصول الأول والآخر، وهو مبتدأ وخبره الجملة المذكورة بعده، ويجوز أن يكون "بعضهم" بدلاً من اسم الإشارة، والخبر "أولياء بعض" أي بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث. وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ". قوله: "والذين آمنوا" مبتدأ، وخبره "ما لكم من ولايتهم من شيء". قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة "من ولايتهم" بكسر الواو. وقرأ الباقون بفتحها: أي ما لكم من نصرتهم وإعانتهم، أو من ميراثهم، ولو كانوا من قراباتكم لعدم وقوع الهجرة منهم "حتى يهاجروا" فيكون لهم ما كان للطائفة الأولى الجامعين بين الإيمان والهجرة "وإن استنصروكم" أي هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا إذا طلبوا منكم النصرة لهم على المشركين "فعليكم النصر" أي فواجب عليكم النصر "إلا" أن يستنصروكم "على قوم بينكم وبينهم ميثاق" فلا تنصروهم ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم حتى تنقضي مدته. قال الزجاج: ويجوز فعليكم النصر بالنصب على الإغراء.
قوله: 73- "والذين كفروا" مبتدأ خبره "بعضهم أولياء بعض" أي بعضهم ينصر بعضاً ويتولاه في أموره، أو يرثه إذا مات، وفيه تعريض للمسلمين بأنهم لا يناصرون الكفار ولا يتولونهم. قوله: "إلا تفعلوه" الضمير يرجع إلى ما أمروا به قبل هذا من موالاة المؤمنين ومناصرتهم على التفصيل المذكور، وترك موالاة الكافرين "تكن فتنة في الأرض" أي تقع فتنة إن لم تفعلوا ذلك "وفساد كبير" أي مفسدة كبيرة في الدين والدنيا.
ثم بين سبحانه حكماً آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله والمؤمنين الذين أووا من هاجر إليهم ونصروهم وهم الأنصار، فقال: 74- "أولئك هم المؤمنون حقاً" أي الكاملون في الإيمان، وليس في هذا تكرير لما قبله فإنه وارد في الثناء على هؤلاء، والأول وارد في إيجاب الموالاة والنصرة، ثم أخبر سبحانه أن "لهم" منه "مغفرة" لذنوبهم في الآخرة "و" لهم في الدنيا "رزق كريم" خالص عن الكدر طيب مستلذ.
ثم أخبر سبحانه بأن من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المجاهدين الأولين والأنصار فهو من جملتهم: أي من جملة المهاجرين الأولين والأنصار في استحقاق ما استحقوه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم، ثم بين سبحانه بأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض من غيرهم ممن لم يكن بينه وبينهم رحم في الميراث، والمراد بهم القرابات فيتناول كل قرابة، وقيل المراد بهم هنا العصبات، قالوا: ومنه قول العرب: وصلتك رحم فإنهم لا يريدون قرابة الأم. قالوا: ومنه قول قتيلة: ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحــام هناك تشقق ولا يخفاك أنه ليس في هذا ما يمنع من إطلاقه على غير العصبات، وقد استدل بهذه الآية من أثبت ميراث ذوي الأرحام، وهم من ليس بعصبة ولا ذي سهم على حسب اصطلاح أهل علم المواريث، والخلاف في ذلك معروف مقرر في مواطنه، وقد قيل: إن هذه الآية ناسخه للميراث بالموالاة والنصرة عند من فسر ما تقدم من قوله: "بعضهم أولياء بعض" وما بعده بالتوارث، وأما من فسرها بالنصرة والمعونة فيجعل هذه الآية إخباراً منه سبحانه وتعالى بأن القرابات 75- " بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ أو في القرآن، ويدخل في هذه الأولوية الميراث دخولاً أولياً لوجود سببه، أعني القرابة "إن الله بكل شيء عليم" لا يخفى عليه شيء من الأشياء كائناً ما كان، ومن جملة ذلك ما تضمنته هذه الآيات. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "إن الذين آمنوا وهاجروا" الآية قال: إن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل، منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه، وفي قوله: "والذين آووا ونصروا" قال: آووا ونصروا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة وشهروا السيوف على من كذب وجحد، فهذان مؤمنان جعل الله بعضهم أولياء بعض، وفي قوله: "والذين آمنوا ولم يهاجروا" قال: كانوا يتوارثون بينهم إذا توفي المؤمن المهاجر بالولاية في الدين، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر، فبرأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم، وهي الولاية التي قال: "ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق" كان حقاً على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قوتلوا إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق، فلا نصر لهم عليهم إلا على العدو الذي لا ميثاق لهم، ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحق كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين آمنوا "والذين آمنوا ولم يهاجروا" فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيباً مفروضاً لقوله: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " الآية، وفي رواية لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " أولئك بعضهم أولياء بعض " قال: يعني في الميراث جعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء" ما لكم من ميراثهم من شيء "حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين" يعني إن استنصر الأعراب المسلمون المهاجرين والأنصار على عدو لهم فعليهم أن ينصروهم إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، فكانوا يعملون على ذلك حتى أنزل الله هذه الآية: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " فنسخت الآية التي قبلها، وصارت المواريث لذوي الأرحام. وأخرج أبو عبيد وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في هذه الآيات قال: كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن، ولا يرث الأعرابي المهاجر، فنسختها هذه الآية: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه أيضاً قال: قال رجل من المسلمين: لنورثن ذوي القربى منا من المشركين، فنزلت: " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهاجرون بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة". وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافراً، ولا كافراً مسلماً، ثم قرأ: "والذين كفروا بعضهم أولياء بعض" الآية". وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن الزبير بن العوام قال: أنزل الله فينا خاصة معشر قريش: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان. فواخيناهم ووارثناهم فآخونا، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخى عمر فلاناً، وآخى عثمان بن عفان رجلاً من بني زريق بن سعد الزرقي، قال الزبير: وآخيت أنا كعب بن مالك، ووارثونا ووارثناهم فلما كان يوم أحد قيل لي: قد قتل أخوك كعب بن مالك، فجئته فانتقلته فوجدت السلاح قد ثقلته فيما يرى، فوالله يا بني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار فرجعنا إلى مواريثنا. وأخرج أبو داود الطيالسي والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض، حتى نزلت هذه الآية: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 186
185ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيراً ذكر من هو على ضد ذلك منهم فقال: 71- "وإن يريدوا خيانتك" بما قالوه لك بألسنتهم من أنهم قد آمنوا بك وصدقوك ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة، بل هو مماكرة ومخادعة، فليس ذلك بمستبعد منهم فإنهم قد فعلوا ما هو أعظم منه، وهو أنهم خانوا الله من قبل أن تظفر بهم، فكفروا به وقاتلوا رسوله "فأمكن منهم" بأن نصرك عليهم في يوم بدر فقتلت منهم من قتلت وأسرت من أسرت "والله عليم" بما في ضمائرهم "حكيم" في أفعاله بهم. وقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة قالت:" لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص وبعثت فيه بقلادة. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق رقة مباشرة وقال:إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وقال العباس: إني كنت مسلماً يا رسول الله، قال: الله أعلم بإسلامك، فإن تكن كما تقول فالله يجزيك، فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو، قال: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال: فأين المال الذي دفنت أنت وأم الفضل؟، فقلت لها: إن أصبت فهذا المال لبني؟ فقال: والله يا رسول الله إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها، فاحسب لي ما أصبتم مني عشرون أوقية من مال كان معي، قال:لا أفعل، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ونزلت: "قل لمن في أيديكم من الأسرى" الآية، فأعطاني مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله". وأخرج ابن سعد والحاكم وصححه عن أبي موسى "أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ثمانين ألفاً، فما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه، فنشر على حصير، وجاء الناس فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، وما كان يومئذ عدد ولا وزن، فجاء العباس فقال: يا رسول الله إني أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر أعطني من هذا المال، فقال: خذ، فحثا في خميصته ثم ذهب ينصرف فلم يستطع، فرفع رأسه وقال: يا رسول الله ارفع علي، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب وهو يقول: أما أحد اللذين وعد الله فقد أنجزنا وما ندري ما يصنع في الأخرى " قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم " فهذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع في المغفرة". والروايات في هذا الباب كثيرة. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في الأسارى يوم بدر منهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عنه في قوله: "وإن يريدوا خيانتك" إن كان قولهم كذباً "فقد خانوا الله من قبل" فقد كفروا وقاتلوك " فأمكن " ـك الله "منهم".
ختم الله سبحانه هذه السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به، وسمى سبحانه المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم، لأنهم هجروا أوطانهم وفارقوها طلباً لما عند الله، وإجابة لداعيه "والذين آووا ونصروا" هم الأنصار والإشارة بقوله: "أولئك" إشارة إلى الموصول الأول والآخر، وهو مبتدأ وخبره الجملة المذكورة بعده، ويجوز أن يكون "بعضهم" بدلاً من اسم الإشارة، والخبر "أولياء بعض" أي بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث. وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ". قوله: "والذين آمنوا" مبتدأ، وخبره "ما لكم من ولايتهم من شيء". قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة "من ولايتهم" بكسر الواو. وقرأ الباقون بفتحها: أي ما لكم من نصرتهم وإعانتهم، أو من ميراثهم، ولو كانوا من قراباتكم لعدم وقوع الهجرة منهم "حتى يهاجروا" فيكون لهم ما كان للطائفة الأولى الجامعين بين الإيمان والهجرة "وإن استنصروكم" أي هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا إذا طلبوا منكم النصرة لهم على المشركين "فعليكم النصر" أي فواجب عليكم النصر "إلا" أن يستنصروكم "على قوم بينكم وبينهم ميثاق" فلا تنصروهم ولا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين أولئك القوم حتى تنقضي مدته. قال الزجاج: ويجوز فعليكم النصر بالنصب على الإغراء.
قوله: 73- "والذين كفروا" مبتدأ خبره "بعضهم أولياء بعض" أي بعضهم ينصر بعضاً ويتولاه في أموره، أو يرثه إذا مات، وفيه تعريض للمسلمين بأنهم لا يناصرون الكفار ولا يتولونهم. قوله: "إلا تفعلوه" الضمير يرجع إلى ما أمروا به قبل هذا من موالاة المؤمنين ومناصرتهم على التفصيل المذكور، وترك موالاة الكافرين "تكن فتنة في الأرض" أي تقع فتنة إن لم تفعلوا ذلك "وفساد كبير" أي مفسدة كبيرة في الدين والدنيا.
ثم بين سبحانه حكماً آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله والمؤمنين الذين أووا من هاجر إليهم ونصروهم وهم الأنصار، فقال: 74- "أولئك هم المؤمنون حقاً" أي الكاملون في الإيمان، وليس في هذا تكرير لما قبله فإنه وارد في الثناء على هؤلاء، والأول وارد في إيجاب الموالاة والنصرة، ثم أخبر سبحانه أن "لهم" منه "مغفرة" لذنوبهم في الآخرة "و" لهم في الدنيا "رزق كريم" خالص عن الكدر طيب مستلذ.
ثم أخبر سبحانه بأن من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المجاهدين الأولين والأنصار فهو من جملتهم: أي من جملة المهاجرين الأولين والأنصار في استحقاق ما استحقوه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم، ثم بين سبحانه بأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض من غيرهم ممن لم يكن بينه وبينهم رحم في الميراث، والمراد بهم القرابات فيتناول كل قرابة، وقيل المراد بهم هنا العصبات، قالوا: ومنه قول العرب: وصلتك رحم فإنهم لا يريدون قرابة الأم. قالوا: ومنه قول قتيلة: ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحــام هناك تشقق ولا يخفاك أنه ليس في هذا ما يمنع من إطلاقه على غير العصبات، وقد استدل بهذه الآية من أثبت ميراث ذوي الأرحام، وهم من ليس بعصبة ولا ذي سهم على حسب اصطلاح أهل علم المواريث، والخلاف في ذلك معروف مقرر في مواطنه، وقد قيل: إن هذه الآية ناسخه للميراث بالموالاة والنصرة عند من فسر ما تقدم من قوله: "بعضهم أولياء بعض" وما بعده بالتوارث، وأما من فسرها بالنصرة والمعونة فيجعل هذه الآية إخباراً منه سبحانه وتعالى بأن القرابات 75- " بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ أو في القرآن، ويدخل في هذه الأولوية الميراث دخولاً أولياً لوجود سببه، أعني القرابة "إن الله بكل شيء عليم" لا يخفى عليه شيء من الأشياء كائناً ما كان، ومن جملة ذلك ما تضمنته هذه الآيات. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "إن الذين آمنوا وهاجروا" الآية قال: إن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل، منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه، وفي قوله: "والذين آووا ونصروا" قال: آووا ونصروا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة وشهروا السيوف على من كذب وجحد، فهذان مؤمنان جعل الله بعضهم أولياء بعض، وفي قوله: "والذين آمنوا ولم يهاجروا" قال: كانوا يتوارثون بينهم إذا توفي المؤمن المهاجر بالولاية في الدين، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر، فبرأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم، وهي الولاية التي قال: "ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق" كان حقاً على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قوتلوا إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق، فلا نصر لهم عليهم إلا على العدو الذي لا ميثاق لهم، ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحق كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين آمنوا "والذين آمنوا ولم يهاجروا" فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيباً مفروضاً لقوله: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " الآية، وفي رواية لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " أولئك بعضهم أولياء بعض " قال: يعني في الميراث جعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء" ما لكم من ميراثهم من شيء "حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين" يعني إن استنصر الأعراب المسلمون المهاجرين والأنصار على عدو لهم فعليهم أن ينصروهم إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، فكانوا يعملون على ذلك حتى أنزل الله هذه الآية: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " فنسخت الآية التي قبلها، وصارت المواريث لذوي الأرحام. وأخرج أبو عبيد وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في هذه الآيات قال: كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن، ولا يرث الأعرابي المهاجر، فنسختها هذه الآية: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه أيضاً قال: قال رجل من المسلمين: لنورثن ذوي القربى منا من المشركين، فنزلت: " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهاجرون بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة". وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافراً، ولا كافراً مسلماً، ثم قرأ: "والذين كفروا بعضهم أولياء بعض" الآية". وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن الزبير بن العوام قال: أنزل الله فينا خاصة معشر قريش: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان. فواخيناهم ووارثناهم فآخونا، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخى عمر فلاناً، وآخى عثمان بن عفان رجلاً من بني زريق بن سعد الزرقي، قال الزبير: وآخيت أنا كعب بن مالك، ووارثونا ووارثناهم فلما كان يوم أحد قيل لي: قد قتل أخوك كعب بن مالك، فجئته فانتقلته فوجدت السلاح قد ثقلته فيما يرى، فوالله يا بني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار فرجعنا إلى مواريثنا. وأخرج أبو داود الطيالسي والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض، حتى نزلت هذه الآية: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب.
الصفحة رقم 186 من المصحف تحميل و استماع mp3