تفسير الطبري تفسير الصفحة 186 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 186
187
185
 الآية : 70
القول في تأويل قوله تعالى: {يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لّمَن فِيَ أَيْدِيكُمْ مّنَ الأسْرَىَ إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبيّ قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ إنْ يَعْلَمِ الله في قُلُوبِكُمْ خَيْرا يقول: إن يعلم الله في قلوبكم إسلاما يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء. وَيَغْفِرْ لَكُمْ يقول: ويصفح لكم عن عقوبة جرمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبيّ الله وأصحابه وكفركم بالله. وَاللّهُ غَفُورٌ لذنوب عباده إذا تابوا, رَحِيمٌ بهم أن يعاقبهم عليها بعد التوبة. وذُكر أن العباس بن عبد المطلب كان يقول: فيّ نزلت هذه الاَية. ذكر من قال ذلك:
12750ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا ابن إدريس, عن ابن إسحاق, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: قال العباس: فيّ نزلت: ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ, فأخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسلامي, وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذ مني فأبى, فأبدلني الله بها عشرين عبدا كلهم تاجر, مالي في يديه.
وقد حدثنا بهذا الحديث ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: قال محمد, ثني الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس, عن جابر بن عبد الله بن رئاب, قال: كان العباس بن عبد المطلب يقول: فيّ والله نزلت حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي. ثم ذكر نحو حديث ابن وكيع.
12751ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى... الاَية, قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لمّا قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا, وقد توضأ لصلاة الظهر, فما أعطى يومئذ شاكيا ولا حرم سائلاً وما صلى يومئذ حتى فرّقه, وأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي, فأخذ. قال: وكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة.
12752ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: يا أيّها النّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى... الاَية, وكان العباس أسر يوم بدر, فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب, فقال العباس حين نزلت هذه الاَية: لقد أعطاني الله خصلتين ما أحبّ أن لي بهما الدنيا: أني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية, فآتاني أربعين عبدا وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله.
12753ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: يا أيّها النّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى... إلى قوله: وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني بذلك من أسر يوم بدر, يقول: إن عملتم بطاعتي ونصحتم لرسولي, آتيتكم خيرا مما أخذ منكم وغفرت لكم.
12754ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: يا أيّها النّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى عباس وأصحابه, قال: قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به, ونشهد أنك لرسول الله, لننصحنّ لك على قومنا فنزل: إنْ يَعْلِمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ إيمانا وتصديقا, يخلف لكم خيرا مما أصيب منكم, وَيَغْفِرْ لَكُمْ الشرك الذي كنتم عليه. قال: فكان العباس يقول: ما أحبّ أن هذه الاَية لم تنزل فينا وأن لي الدنيا, لقد قال: يُؤْتِكُمْ خَيْرا مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مئة ضعف, وقال: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وأرجو أن يكون قد غفر لي.
12755ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: يا أيّها النّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى... الاَية, يعني العباس وأصحابه أسروا يوم بدر, يقول الله: إن عملتم بطاعتي ونصحتم لي ولرسولي أعطيتكم خيرا مما أُخذ منكم وغفرت لكم. وكان العباس بن عبد المطلب يقول: لقد أعطانا الله خصلتين ما شيء هو أفضل منهما: عشرين عبدا. وأما الثانية: فنحن في موعود الصادق, ننتظر المغفرة من الله سبحانه.
الآية : 71
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يرد هؤلاء الأسارى الذين في أيديكم خيانتك: أي الغدر بك والمكر والخداع, بإظهارهم لك بالقول خلاف ما في نفوسهم, فَقَدْ خَانُوا الله مِنْ قَبْلُ يقول: فقد خالفوا أمر الله ممن قبل وقعة بدر, وأمكن منهم ببدر المؤمنين. والله عَلِيمٌ بما يقولون بألسنتهم ويضمرونه في نفوسهم, حَكِيمٌ في تدبيرهم وتدبير أمور خلقه سواهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12756ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: وَإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ يعني: العباس وأصحابه في قولهم: آمنا بما جئت به, ونشهد أنك رسول الله, لننصحن لك على قومنا يقول: إن كان قولهم خيانة فقد خانوا الله من قبل, فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ يقول: قد كفروا وقاتلوك, فأمكنك الله منهم.
12757ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ... الاَية. قال: ذكر لنا أن رجلاً كتب لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم, ثم عمد فنافق, فلحق بالمشركين بمكة, ثم قال: ما كان محمد يكتب إلا ما شئتُ فلما سمع ذلك رجل من الأنصار, نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا عبد الله بن سعد بن أبي سرح, ومقيس بن صُبابة, وابن خطل, وامرأة كانت تدعو على النبيّ صلى الله عليه وسلم كل صباح. فجاء عثمان بابن أبي سرح, وكان رضيعه أو أخاه من الرضاعة, فقال: يا رسول الله هذا فلان أقبل تائبا نادما, فأعرض نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. فلم سمع به الأنصاريّ أقبل متقلدا سيفه, فأطاف به, وجعل ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يومىء إليه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم يده فبايعه, فقال: «أَمَا والله لقد تَلَوّمْتُكَ فيه لتُوفي نَذْرَكَ», فقال: يا نبيّ الله إني هبتك, فلولا أومضت إليّ فقال: «إنّه لا يَنْبَغي لِنَبيّ أنْ يُومِضَ».
12758ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: وَإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ فَأمْكَنْ مِنْهُمْ يقول: قد كفروا بالله ونقضوا عهده, فأمكن منهم ببدر.
الآية : 72
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَواْ وّنَصَرُوَاْ أُوْلَـَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مّن وَلاَيَتِهِم مّن شَيْءٍ حَتّىَ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصْرُ إِلاّ عَلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله. وَهاجَرُوا يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم, يعني: تركوهم وخرجوا عنهم, وهجرهم قومُهم وعشيرتهم. وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول: بالغوا في إتعاب نفوسهم وإنصابها في حرب أعداء الله من الكفار في سبيل الله, يقول في دين الله الذي جعله طريقا إلى رحمته والنجاة من عذابه. وَالّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا يقول: والذين آووا رسول الله والمهاجرين معه يعني أنهم جعلوا لهم مأوى يأوون إليه, وهو المثوى والمسكن, يقول: أسكنوهم وجعلوا لهم من منازلهم مساكن, إذ أخرجهم قومهم من منازلهم ونَصَرُوا يقول: ونصروهم على أعدائهم وأعداء الله من المشركين. أُولئكَ بعضُهمْ أوْلياءُ بَعْضٍ يقول: هاتان الفرقتان, يعني المهاجرين والأنصار, بعضهم أنصار بعض, وأعوان على من سواهم من المشركين, وأيديهم واحدة على من كفر بالله, وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار. وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض, وأن الله ورّث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام, وأن الله نسخ ذلك بعد بقوله: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ. ذكر من قال ذلك:
12759ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آووْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ يعني في الميراث. جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام, قال الله: وَالّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا يقول: ما لكم من ميراثهم من شيء, وكانوا يعملون بذلك, حتى أنزل الله هذه الاَية: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ في الميراث, فنسخت التي قلبها, وصار الميراث لذوي الأرحام.
12760ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول: لا هجرة بعد الفتح, إنما هو الشهادة بعد ذلك وَالّذِينَ آووْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ... إلى قوله: حتى يُهاجِرُوا وذلك أن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل. منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة, خرج إلى قوم مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم, وآوَوْا وَنَصَرُوا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة, وشهروا السيوف على من كذب وجحد, فهذان مؤمنان جعل الله بعضهم أولياء بعض, فكانوا يتوارثون بينهم إذا توفي المؤمن المهاجر ورثه الأنصاريّ بالولاية في الدين, وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر. فبرأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم, وهي الولاية التي قال الله: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا وكان حقّا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قاتلوا إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم ميثاق, فلا نصر لهم عليهم إلا على العدو الذين لا ميثاق لهم. ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحق كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين هاجروا والذين آمنوا ولم يهاجروا, فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبا مفروضا بقوله: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ, وبقوله: وَالمُؤمِنُونَ والمُؤمِناتُ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ.
12761ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: الثلاث الاَيات خواتيم الأنفال فيهنّ ذكر ما كان من ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مهاجري المسلمين وبين الأنصار في الميراث, ثم نسخ ذلك آخرها: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
12762ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا... إلى قوله: بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قال: بلغنا أنها كانت في الميراث لا يتوارث المؤمنون الذين هاجروا والمؤمنون الذين لم يهاجروا, قال: ثم نزل بعد: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فتوارثوا ولم يهاجروا. قال ابن جريج, قال مجاهد: خواتيم الأنفال الثلاث الاَيات فيهنّ ذكر ما كان والي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين المسلمين وبين الأنصار في الميراث, ثم نسخ ذلك آخرها: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ.
12763ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آووْا وَنَصَرُوا... إلى قوله: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا قال: لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة, والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئا, فنسخ ذلك بعد ذلك قول الله: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجِرِينَ إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا أي من أهل الشرك. فأجيزت الوصية, ولا ميراث لهم, وصارت المواريث بالملل, والمسلمون يرث بعضهم بعضا من المهاجرين والمؤمنين, ولا يرث أهل ملتين.
12764ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسن, عن يزيد, عن عكرمة والحسن, قالا: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ... إلى قوله: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا كان الأعرابي لا يرث المهاجر ولا يرثه المهاجر, فنسخها فقال: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
12765ـ حدثني محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آووْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ فِي الميراث, وَالّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يُهاجِرُوا وهؤلاء الأعراب, ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ في الميراث, وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ يقول بأنهم مسلمون, فَعَلَيْكُمُ النّصْرُ إلاّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ. وَالّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ في الميراث, وَالّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ الذين توارثوا على الهجرة في كتاب الله, ثم نسختها الفرائض والمواريث, فتوارث الأعراب والمهاجرون.
القول في تأويل قوله تعالى: وَالّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصْرُ إلاّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
يعني بقوله تعالى ذكره: والّذِينَ آمَنُوا الذين صدقوا بالله ورسوله, ولَمْ يُهاجِرُوا قومهم الكفار, ولم يفارقوا دار الكفر إلى دار الإسلام. ما لَكُمْ أيها المؤمنون بالله ورسوله المهاجرون قومهم المشركين وأرضَ الحرب, مِنْ وَلايَتِهِمْ يعني: من نصرتهم وميراثهم. وقد ذكرت قول بعض من قال: معنى الولاية ههنا الميراث, وسأذكر إن شاء الله من حضرني ذكره بعد. مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا قومهم ودورهم من دار الحرب إلى دار الإسلام. وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ يقول: إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا في الدين, يعني بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين, فعليكم أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار النصر, إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم ميثاق, يعني عهد قد وثق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه. وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يقول: والله بما تعملون فيما أمركم ونهاكم من ولاية بعضكم بعضا أيها المهاجرون والأنصار, وترك ولاية من آمن ولم يهاجر, ونصرتكم إياهم عند استنصاركم في الدين, وغير ذلك من فرائض الله التي فرضها عليكم. بَصِيرٌ يراه ويبصره, فلا يخفى عليه من ذلك ولا من غيره شيء.
12766ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا قال: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة, وآخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهم, فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة, وكان الرجل يسلم ولا يهاجر لا يرث أخاه, فنسخ ذلك قوله: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجِرِينَ.
12767ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام, فقال: «تُقيمُ الصّلاةَ, وتُؤْتي الزّكَاةَ, وتَحجّ البَيْتَ, وتَصُومُ رَمَضَانَ, وأنّكَ لا ترى نَارَ مُشْرِكٍ إلاّ وأنْتَ حَرْبٌ».
12768ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ يعني: إن استنصركم الأعراب المسلمون أيها المهاجرون والأنصار على عدوّهم فعليكم أن تنصروهم. إلاّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ.
12769ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس يوم توفي على أربع منازل: مؤمن مهاجر, والأنصار, وأعرابي مؤمن لم يهاجر إن استنصره النبيّ صلى الله عليه وسلم نصره وإن تركه فهو إذن له وإن استنصر النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدين كان حقّا عليه أن ينصره, فذلك قوله: وَإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النّصْرُ. والرابعة: التابعون بإحسان.
12770ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا... إلى آخر السورة, قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وترك الناس على أربع منازل: مؤمن مهاجر, ومسلم أعرابي, والذين آووا ونصروا, والتابعون بإحسان.
الآية : 73
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }.
يقول تعالى ذكره: وَالّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله, بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ يقول: بعضهم أعوان بعض وأنصاره, وأحقّ به من المؤمنين بالله ورسوله. وقد ذكرنا قول من قال: عنى بيان أن بعضهم أحقّ بميراث بعض من قرابتهم من المؤمنين, وسنذكر بقية من حضرنا ذكره.
12771ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن السديّ, عن أبي مالك, قال: قال رجل: نورّث أرحامنا من المشركين فنزلت: وَالّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ... الاَية.
12772ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ إلاَ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ نزلت في مواريث مشركي أهل العهد.
12773ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَالّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا... إلى قوله: وَفَسادٌ كَبِيرٌ قال: كان المؤمن المهاجر, والمؤمن الذي ليس بمهاجر لا يتوارثان وإن كانا أخوين مؤمنين. قال: وذلك لأن هذا الدين كان بهذا البلد قليلاً حتى كان يوم الفتح فلما كان يوم الفتح وانقطعت الهجرة توارثوا حيثما كانوا بالأرحام, وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ». وقرأ: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ.
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الكفار بعضهم أنصار بعض وإنه لا يكون مؤمنا من كان مقيما بدار الحرب ولم يهاجر. ذكر من قال ذلك:
12774ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ قال: كان ينزل الرجل بين المسلمين والمشركين فيقول: إن ظهر هؤلاء كنت معهم, وإن ظهر هؤلاء كنت معهم. فأبى الله عليهم ذلك, وأنزل الله في ذلك فلا تراءى نار مسلم ونار مشرك إلا صاحب جزية مقرّا بالخراج.
12775ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: حضّ الله المؤمنين على التواصل, فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم, وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض.
وأما قوله: إلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله, فقال بعضهم: معناه: إلا تفعلوا أيها المؤمنون ما أمرتم به من موارثة المهاجرين منكم بعضهم من بعض بالهجرة والأنصار بالإيمان دون أقربائهم من أعراب المسلمين ودون الكفار تَكُنْ فِتْنَةٌ يقول: يحدث بلاءً في الأرض بسبب ذلك, وَفَسادٌ كَبِيرٌ يعني: ومعاصي الله. ذكر من قال ذلك:
12776ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ إلا تفعلوا هذا تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون, تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. قال: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الإيمان إلا بالهجرة, ولا يجعلونهم منهم إلا بالهجرة.
12777ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ يعني في الميراث. إلا تَفْعَلُوهُ يقول: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به. تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ.
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا تناصروا أيها المؤمنون في الدين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. ذكر من قال ذلك:
12778ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: جعل المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم, وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض, ثم قال: إلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن. ثم رد المواريث إلى الأرحام.
12779ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جريج, قوله: إلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ قال: إلا تعاونوا وتناصروا في الدين, تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل قوله: وَالّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ قول من قال: معناه: أن بعضهم أنصار بعض دون المؤمنين, وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقام في دار الحرب وترك الهجرة لأن المعروف في كلام العرب من معنى الوليّ أنه النصير والمعين أو ابن العم والنسيب. فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه إلا بمعنى أنه يليه في القيام بإرثه من بعده, وذلك معنى بعيد وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر, أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك, فبّين أن أولى التأويلين بقوله: إلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ تأويل من قال: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين تكن فتنة في الأرض, إذ كان متبدأ الاَية من قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بالحثّ على الموالاة على الدين والتناصر جاء, وكذلك الواجب أن يكون خاتمتها به.
الآية : 74
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَواْ وّنَصَرُوَاْ أُولَـَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: وَالّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ والّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ونصروهم ونصروا دين الله, أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقّا, لا من آمن ولم يهاجر دار الشرك وأقام بين أظهر أهل الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوّهم. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يقول: لهم ستر من الله على ذنوبهم بعفوه لهم عنها, وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يقول: لهم في الجنة طعم ومشرب هنيّ كريم, لا يتغير في أجوافهم فيصير نَجْوا, ولكنه يصير رشحا كرشح المسك. وهذه الاَية تنبىء عن صحة ما قلنا أن معنى قول الله: بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ في هذه الاَية, وقوله: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إنما هو النصرة والمعونة دون الميراث لأنه جل ثناؤه عقب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده دون من لم يهاجر بقوله: وَالّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ والّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا... الاَية, ولو كان مرادا بالاَيات قبل ذلك الدلالة على حكم ميراثهم لم يكن عقيب ذلك إلا الحثّ على مضيّ الميراث على ما أمر, وفي صحة ذلك كذلك الدليل الواضح على أن لا ناسخ في هذه الاَيات لشيء ولا منسوخ.
الآية : 75
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـَئِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
يقول تعالى ذكره: والذين آمنوا بالله ورسوله من بعد تبياني ما بينت من ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضا وانقطاع ولايتهم ممن آمن ولم يهاجر حتى يهاجر وهاجروا دار الكفر إلى دار الإسلام وجاهدوا معكم أيها المؤمنون, فأولئك منكم في الولاية يجب عليكم لهم من الحقّ والنصرة في الدين والموارثة مثل الذي يجب لكم عليهم ولبعضكم على بعض. كما:
12780ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: ثم رد المواريث إلى الأرحام التي بينها فقال: وَالّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ أي في الميراث, إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: وأُلُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِيمٌ.
يقول تعالى ذكره: والمتناسبون بالأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث, إذا كانوا ممن قسم الله له منه نصيبا وحظّا من الحليف والوليّ, فِي كِتاب اللّهِ يقول: في حكم الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ والسابق من القضاء. إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول: إن الله عالم بما يصلح عباده في توريثه بعضهم من بعض في القرابة والنسب دون الحلف بالعقد, وبغير ذلك من الأمور كلها, لا يخفى عليه شيء منها.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
12781ـ حدثنا أحمد بن المقدام, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, قال: حدثنا أبي, قال: حدثنا قتادة أنه قال: كان لا يرث الأعرابي المهاجرَ حتى أنزل الله: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ.
12782ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا معاذ بن معاذ, قال: حدثنا ابن عون, عن عيسى بن الحرث, أن أخاه شريح بن الحرث كانت له سرية فولدت منه جارية, فلما شبت الجارية زوّجت, فولدت غلاما, ثم ماتت السرّية, واختصم شريح بن الحرث والغلام إلى شريح القاضي في ميراثها, فجعل شريح بن الحرث يقول: ليس له ميراث في كتاب الله. قال: فقضى شريح بالميراث للغلام. قال: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ فركب ميسرة بن يزيد إلى ابن الزبير, وأخبره بقضاء شريح وقوله, فكتب ابن الزبير إلى شريح أن ميسرة أخبرني أنك قضيت بكذا وكذا وقلت: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ وإنه ليس كذلك, إنما نزلت هذه الاَية: أن الرجل كان يعاقد الرجل يقول: ترثني وأرثك, فنزلت: وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ. فجاء بالكتاب إلى شريح, فقال شريح: أعتقها جنين بطنها وأبى أن يرجع عن قضائه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, عن ابن عون, قال: ثني عيسى بن الحرث, قال: كانت لشريح بن الحرث سرية, فذكر نحوه, إلا أنه قال في حديثه: كان الرجل يعاقد الرجل يقول: ترثني وأرثك فلما نزلت ترك ذلك.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة الأنفال