تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 201 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 201

200

ثم عاد الله سبحانه إلى توبيخ المنافقين، فقال: 86- "وإذا أنزلت سورة" أي من القرآن، ويجوز أن يراد بعض السورة، وأن يراد تمامها، وقيل هي هذه السورة: أي سورة براءة، و أن في أن آمنوا بالله مفسرة لما في الإنزال من معنى القول، أو مصدرية حذف منها الجار: أي بأن آمنوا، وإنما قدم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان " استأذنك أولو الطول منهم " أي ذوو الفضل والسعة، من طال عليه طولاً، كذا قال ابن عباس والحسن، وقال الأصم: الرؤساء والكبراء المنظور إليهم، وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم، إذ لا عذر لهم في القعود "وقالوا ذرنا" أي اتركنا "نكن مع القاعدين" أي المتخلفين عن الغزو من المعذورين كالضعفاء والزمنى.
والخوالف: النساء اللاتي يخلفن الرجال في القعود في البيوت، جمع خالفة، وجوز بعضهم أن يكون جمع خالف، وهو من لا خير فيه 87- "وطبع على قلوبهم" وهو كقوله: "ختم الله على قلوبهم" وقد مر تفسيره "فهم لا يفقهون" شيئاً مما فيه نفعهم وضرهم، بل هم كالأنعام. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول أتى ابنه عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: إن ربي خيرني وقال: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" وسأزيد على السبعين، فقال: إنه منافق، فصلى عليه فأنزل الله: "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً" الآية، فترك الصلاة عليهم. وأخرج ابن ماجه والبزار وابن جرير وابن مردويه عن جابر قال: مات رأس المنافقين بالمدينة فأوصى أن يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكفنه في قميصه، فجاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي أوصى أن يكفن في قميصك، فصلى عليه وألبسه قميصه وقام على قبره، فأنزل الله: "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " أولو الطول " قال: أهل الغنى. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله: "رضوا بأن يكونوا مع الخوالف" قال: مع النساء. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: رضوا بأن يقعدوا كما قعدت النساء، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: الخوالف النساء.
المقصود من الاستدراك بقوله: 88- "لكن الرسول" إلى آخره الإشعار بأن تخلف هؤلاء غير ضائر، فإنه قد قام بفريضة الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية كما في قوله: "فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين". وقد تقدم بيان الجهاد بالأموال والأنفس، ثم ذكر منافع الجهاد فقال: "وأولئك لهم الخيرات" وهي جمع خير فيشمل منافع الدنيا والدين، وقيل المراد به: النساء الحسان كقوله تعالى: "فيهن خيرات حسان" ومفردة خيرة بالتشديد ثم خففت مثل هينة وهينة. وقد تقدم معنى الفلاح والمراد به هنا الفائزون بالمطلوب وتكرير اسم الإشارة لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم.
والجنات: البساتين. وقد تقدم بيان جري الأنهار من تحتها، وبيان الخلود والفوز، والإشارة بقوله: 89- "ذلك" إلى ما تقدم من الخيرات والفلاح، وإعداد الجنات الموصوفة بتلك الصفة، ووصف الفوز بكونه عظيماً يدل على أنه الفرد الكامل من أنواع الفوز. وقد أخرج القرطبي في تفسيره عن الحسن أنه قال الخيرات: هن النساء الحسان.
قرأ الأعرج والضحاك 90- "المعذرون" بالتخفيف، من أعذر، ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس. قال في الصحاح: وكان ابن عباس يقرأ: "وجاء المعذرون" مخففة من أعذر، ويقول: والله هكذا أنزلت. قال النحاس: إلا أن مدارها على الكلبي، وهي من أعذر: إذا بالغ في العذر، ومنه من أنذر فقد أعذر أي بالغ في العذر. وقرأ الجمهور المعذرون بالتشديد ففيه وجهان، أحدهما أن يكون أصله المعتذرون فأدغمت التاء في الذال، وهم الذين لهم عذر، ومنه قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر فالمعذرون على هذا: هم المحقون في اعتذارهم. وقد روي هذا عن الفراء والزجاج ابن الأنباري، وقيل هو من عذر، وهو الذي يعتذر ولا عذر له، يقال عذر في الأمر: إذا قصر واعتذر بما ليس بعذر، ذكره الجوهري وصاحب الكشاف، فالمعذرون على هذا: هم المبطلون، لأنهم اعتذروا بأعذار باطلة لا أصل لها. وروي عن الأخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيدة أنه يجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع. والمعنى: أنه جاء هؤلاء من الأعراب بما جاءوا به من الأعذار بحق أو بباطل على كلا التفسيرين لأجل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخلف عن الغزو، وطائفة أخرى لم يعتذروا، بل قعدوا عن الغزو لغير عذر، وهم منافقو الأعراب الذين كذبوا الله ورسوله ولم يؤمنوا ولا صدقوا، ثم توعدهم الله سبحانه، فقال: "سيصيب الذين كفروا منهم" أي من الأعراب، وهم الذين اعتذروا بالأعذار الباطلة، والذين لم يعتذروا، بل كذبوا الله ورسوله "عذاب أليم" أي كثير الأليم فيصدق على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "وجاء المعذرون من الأعراب" أي أهل العذر منهم. وروى ابن أبي حاتم عنه نحو ذلك. وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عنه أيضاً أنه كان يقول: لعن الله المعذرين ويقرأ بالتشديد كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد: هو المظهر للعذر اعتلالاً من غير حقيقة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن إسحاق في قوله: "وجاء المعذرون من الأعراب" قال: ذكر لي أنهم نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا، منهم خفاف بن إيماء، وقيل لهم: رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيئ على أهالينا ومواشينا.
لما ذكر سبحانه المعذرون ذكر بعدهم أهل الأعذار الصحيحة المسقطة للغزو، وبدأ بالعذر في أصل الخلقة، فقال: 91- "ليس على الضعفاء" وهم أرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج ونحو ذلك، ثم ذكر العذر العارض فقال: "ولا على المرضى" والمراد بالمرض: كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعاً، وقيل إنه يدخل في المرض الأعمى والأعرج ونحوهما. ثم ذكر العذر الراجع إلى المال لا إلى البدن فقال: "ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون" أي ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد، فنفى سبحانه عن هؤلاء الحرج، وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم مقيداً بقوله: "إذا نصحوا لله ورسوله" وأصل النصح إخلاص العمل من الغش، ومنه التوبة النصوح. قال نفطويه نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول: أي أخلصه له، والنصح لله: الإيمان به والعمل بشريعته، وترك ما يخالفها كائناً ما كان، ويدخل تحته دخولاً أولياً نصح عباده، ومحبة المجاهدين في سبيله وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد، وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه، ونصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم: التصديق بنبوته وبما جاء به، وطاعته في كل ما يأمر به أو ينهى عنه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، ومحبته وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم" قال: الدين النصيحة ثلاثاً قالوا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" وجملة "ما على المحسنين من سبيل" مقررة لمضمون ما سبق: أي ليس على المعذورين الناصحين من سبيل: أي طريق عقاب ومؤاخذة، ومن مزيدة للتأكيد، وعلى هذا فيكون لفظ "المحسنين" موضوعاً في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقاً، أو يكون المراد: ما على جنس المحسنين من سبيل وهؤلاء المذكورون سابقاً من جملتهم، فتكون الجملة تعليلية، وجملة "والله غفور رحيم" تذييلية، وفي معى هذه الآية قوله تعالى: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، وقوله: "ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج"، وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذرهم الله عنه مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد، وأصله في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: حبسهم العذر". وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر.
ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه" والعطف على جملة "ما على المحسنين" أي ولا على الذين إذا ما أتوك إلى آخره من سبيل، ويجوز أن تكون عطفاً على الضعفاء: أي ولا على إذا ما أتوك إلى آخره حرج. والمعنى: أن من جملة المعذورين هؤلاء الذين أتوك لتحملهم على ما يركبون عليه في الغزو فلم تجد ذلك الذي طلبوه منك. قيل: وجملة "لا أجد ما أحملكم عليه" في محل نصب على الحال من الكاف في أتوك بإضمار قد: أي إذا ما أتوك قائلاً لا أجد، وقيل هي بدل من أتوك، وقيل جملة معترضة بين الشرط والجزاء، والأول أولى. وقوله: "تولوا" جواب إذا، وجملة "وأعينهم تفيض من الدمع" في محل نصب على الحال: أي تولوا عنك لما قلت لهم لا أجد ما أحملكم عليه حال كونهم باكين، و "حزناً" منصوب على المصدرية، أو على العلية، أو الحالية، و " أن لا يجدوا " مفعول له، وناصبه "حزناً". وقال الفراء: أن لا بمعنى ليس: أي حزناً أن ليس يجدوا، وقيل المعنى: حزناً على أن لا يجدوا، وقيل المعنى: حزناً أنهم لا يجدون ما ينفقون لا عند أنفسهم ولا عندك.
ثم ذكر الله سبحانه من عليه السبيل من المتخلفين فقال: 93- "إنما السبيل" أي طريق العقوبة المؤاخذة "على الذين يستأذنونك" في التخلف عن الغزو، "و" الحال أنـ " وهم أغنياء " أي يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به، وجملة "رضوا بأن يكونوا مع الخوالف" مستأنفة كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء. وقد تقدم تفسير الخوالف قريباً. وجملة "وطبع الله على قلوبهم" معطوفة على "رضوا" أي سبب الاستئذان مع الغنى أمران: أحدهما: الرضا بالصفقة الخاسرة، وهي أن يكونوا مع الخوالف، والثاني: الطبع من الله على قلوبهم "فهم" بسبب هذا الطبع "لا يعلمون" ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسر. وقد أخرج ابن أبي حاتم والدارقطني في الإفراد وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت براءة، فكنت أكتب ما أنزل عليه، فإني لواضع القلم عن أذني إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت: "ليس على الضعفاء" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: أنزلت هذه الآية في عابد بن عمر المزني. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزل من عند قوله: "عفا الله عنك" إلى قوله: "ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم" في المنافقين. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله: "ما على المحسنين من سبيل" قال: ما على هؤلاء من سبيل بأنهم نصحوا لله ورسوله ولم يطيقوا الجهاد، فعذرهم الله وجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين، ألم تسمع أن الله يقول: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر" فجعل الله للذين عذر من الضعفاء، وأولي الضرر، والذين لا يجدون ما ينفقون من الأجر مثل ما جعل للمجاهدين. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ما على المحسنين من سبيل "قال "والله" لأهل الإساءة "غفور رحيم" وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ولا على الذين إذا ما أتوك" الآية، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينبعثوا غازين معه، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال: والله ما أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء وعزيز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً، فأنزل الله عذرهم "ولا على الذين إذا ما أتوك" الآية. وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله بن مغفل قال: إني لا أجد الرهط الذين ذكر الله "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم" الآية. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال: هم سبعة نفر من بني عمر بن عوف سالم بن عمير، ومن بني واقف حرمي بن عمرو، ومن بني مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى، ومن بني المعلى سلمان بن صخر، ومن بني حارثة عبد الرحمن بن زيد أبو عبلة، ومن بني سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله بن عمرو المزني. وقد اتفق الرواة على بعض هؤلاء السبعة. واختلفوا في البعض ولا يأتي التطويل في ذلك بكثير فائدة. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو الشيخ عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم أن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، ثم ذكروا أسماءهم، وفيه فاستحملوا رسول الله، وكانوا أهل حاجة. قال: "لا أجد ما أحملكم عليه". وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن الحسن قال: كان معقل بن يسار من البكائين الذين قال الله: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك في قوله: "لا أجد ما أحملكم عليه" قال: الماء والزاد. وأخرج ابن المنذر عن علي بن صالح قال: حدثني مشيخة من جهينة قالوا: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان، فقالوا: ما سألناه إلا الحملان على النعال. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم بن أدهم عمن حدثه في قوله: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم" قال: ما سألوه الدواب ما سألوه إلا النعال. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن صالح في الآية قال: استحملوه النعال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "إنما السبيل على الذين يستأذنونك" قال: هي وما بعدها إلى قوله: "إن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين" في المنافقين.