تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 217 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 217

216

قوله: 73- "فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك" أي استمروا على تكذيبه وأصروا على ذلك، وليس المراد أنهم أحدثوا تكذيبه بعد أن لم يكن، والمراد بمن معه من قد أجابه وصار على دينه، والخلائف جمع خليفة، والمعنى: أنه سبحانه جعلهم خلفاء يسكنون الأرض التي كانت للمهلكين بالغرق ويخلفونهم فيها "وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا" من الكفار المعاندين لنوح الذين لم يؤمنوا به أغرقهم الله بالطوفان "فانظر كيف كان عاقبة المنذرين" فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد للمشركين وتهويل عليهم.
74- "ثم بعثنا من بعده" أي من بعد نوح "رسلاً" كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب " فجاؤوهم بالبينات " أي بالمعجزات وبما أرسلهم الله به من الشرائع التي شرعها الله لقوم كل نبي "فما كانوا ليؤمنوا" أي فما أحدثوا الإيمان بل استمروا على الكفر وأصروا عليه. والمعنى: أنه ما صح ولا استقام لقوم من أولئك الأقوام الذين أرسل الله إليهم رسله أن يؤمنوا في وقت من الأوقات "بما كذبوا به من قبل" أي من قبل تكذيبهم الواقع منهم عند مجيء الرسل إليهم. والمعنى: أن كل قوم من العالم لم يؤمنوا عند أن أرسل الله إليهم الرسول المبعوث إليهم على الخصوص بما كانوا مكذبين به من قبل مجيئه إليهم، لأنهم كانوا غير مؤمنين بل مكذبين بالدين ولو كانوا مؤمنين لم يبعث إليهم رسولاً، وهذا مبني على أن الضمير في "فما كانوا ليؤمنوا" وفي "بما كذبوا" راجع إلى القوم المذكورين في قوله: "إلى قومهم" وقيل: ضمير كذبوا راجع إلى قوم نوح: أي فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح من قبل أن يأتي هؤلاء الأقوام الذين جاءوا من بعدهم "وجاءتهم رسلهم بالبينات" وقيل: إن الباء في "بما كذبوا به من قبل" للسببية: أي فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بسبب ما اعتادوه من تكذيب الحق من قبل مجيئهم، وفيه نظر. وقيل المعنى. "بما كذبوا به من قبل": أي في عالم الذر فإن فيهم من كذب بقلبه، وإن آمنوا ظاهرا. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل إنه لقوم بأعيانهم "كذلك نطبع على قلوب المعتدين" أي مثل ذلك الطبع العظيم نطبع على قلوب المتجاوزين للحد المعهود في الكفر. وقد تقدم تفسير هذا في غير موضع. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الأعرج في قوله: "فأجمعوا أمركم وشركاءكم" يقول: فأحكموا أمركم وادعوا شركاءكم. وأخرج أيضاً عن الحسن في الآية: أي فليجمعوا أمرهم معكم. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: "ثم لا يكن أمركم عليكم غمة" قال: لا يكبر عليكم أمركم "ثم اقضوا" ما أنتم قاضون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "ثم اقضوا" قال: انهضوا "إلي ولا تنظرون" يقول: ولا تؤخرون.
قوله: 75- "ثم بعثنا من بعدهم" معطوف على قوله: "ثم بعثنا من بعده رسلاً" والضمير في من بعدهم راجع إلى الرسل المتقدم ذكرهم، وخص موسى وهارون بالذكر مع دخولهما تحت الرسل لمزيد شرفهما وخطر شأن ما جرى بينهما وبين فرعون، والمراد بالملأ الأشراف، والمراد بالآيات: المعجزات، وهي التسع المذكورة في الكتاب العزيز "فاستكبروا" عن قبولها ولم يتواضعوا لها ويذعنوا لما اشتملت عليه من المعجزات الموجبة لتصديق ما جاء بها "وكانوا قوماً مجرمين" أي كانوا ذوي إجرام عظام وآثام كبيرة، فبسبب ذلك اجترأوا على ردها، لأن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق وإبصار الصواب، قيل: وهذه الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها.
قوله: 76- "فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين" أي فلما جاء فرعون وملأه الحق من عند الله وهو المعجزات لم يؤمنوا بها بل حملوها على السحر مكابرة منهم.
فرد عليهم موسى قائلاً: 77- "أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا" قيل في الكلام حذف، والتقدير: أتقولون للحق سحر فلا تقولوا ذلك، ثم استأنف إنكار آخر من جهة نفسه فقال: "أسحر هذا" فحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني، والملجئ إلى هذا أنهم لم يستفهموه عن السحر حتى يحكي ما قالوه بقوله: "أسحر هذا" بل هم قاطعون بأنه سحر، لأنهم قالوا "إن هذا لسحر مبين" فحينئذ لا يكون قوله: "أسحر هذا" من قولهم، وقال الأخفش: هو من قولهم، وفيه نظر لما قدمنا، وقيل معنى "أتقولون" أتعيبون الحق وتطعنون فيه وكان عليكم أن تذعنوا له، ثم قال: أسحر هذا منكراً لما قالوه، وقيل إن مفعول "أتقولون" محذوف، وهو ما دل عليه قولهم: "إن هذا لسحر" والتقدير: أتقولون ما تقولون، يعني قولهم إن هذا لسحر مبين ثم قيل أسحر هذا، وعلى هذا التقدير والتقدير الأول فتكون جملة "أسحر هذا" مستأنفة من جهة موسى عليه السلام، والاستفهام للتقريع والتوبيخ بعد الجملة الأولى المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ماذا قال لهم موسى لما قالوا "إن هذا لسحر مبين" فقيل: قال "أتقولون للحق لما جاءكم"، على طريقة الاستفهام الإنكاري، والمعنى: أتقولون للحق لما جاءكم إن هذا لسحر مبين، وهو أبعد شيء من السحر. ثم أنكر عليهم وقرعهم ووبخهم فقال: "أسحر هذا" فجاء موسى عليه السلام بإنكار بعد إنكار وتوبيخ بعد توبيخ وتجهيل بعد تجهيل، وجملة "ولا يفلح الساحرون" في محل نصب على الحال: أي أتقولون للحق إنه سحر، والحال أنه لا يفلح الساحرون فلا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير ولا ينجون من مكروه، فكيف يقع في هذا من هو مرسل من عند الله، وقد أيده بالمعجزات والبراهين الواضحة؟
وجملة 78- "قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا" مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قالوا بعد أن قال لهم موسى ما قال؟ وفي هذا ما يدل على أنهم انقطعوا عن الدليل وعجزوا عن إبراز الحجة، ولم يجحدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم، بل لجأوا إلى ما يلجأ إليه أهل الجهل والبلادة، وهو الاحتجاج بما كان عليهم آباؤهم من الكفر، وضموا إلى ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم وسبب مكابرتهم للحق وجحودهم للآيات البينة، وهو الرياسة الدنيوية التي خافوا عليها وظنوا أنها ستذهب عنهم إن آمنوا، وكم بقي على الباطل، وهو يعلم أنه باطل بهذه الذريعة من طوائف هذا العالم في سابق الدهر ولا حقه، فمنهم من حبسه ذلك عن الخروج من الكفر، ومنهم من حبسه عن الخروج إلى السنة من البدعة، وإلى الرواية الصحيحة من الرأي البحت، يقال لفته لفتاً: إذا صرفه عن الشيء ولواه عنه، ومنه قال الشاعر: تلفت نحو الحي حتى رأيتني وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا أي تريد أن تصرفنا عن الشيء الذي وجدنا عليه آباءنا، وهو عبادة الأصنام، والمراد بالكبرياء الملك. قال الزجاج: سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وقيل سمي بذلك لأن الملك يتكبر. والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين: التمسك بالتقليد للآباء والحرص على الرياسة الدنيوية، لأنهم إذا أجابوا النبي وصدقوه صارت مقاليد أمر أمته إليه ولم يبق للملك رئاسة تامة، لأن التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك لهم بالسياسات والعادات، ثم قالوا: "وما نحن لكما بمؤمنين" تصريحاً منهم بالتكذيب وقطعاً للطمع في إيمانهم، وقد أفرد الخطاب لموسى في قولهم: أجئتنا لتلفتنا، ثم جمعوا بينه وبين هارون في الخطاب في قولهم: "وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين" ووجه ذلك أنهم أسندوا المجيء والصرف عن طريق آبائهم إلى موسى، لكونه المقصود بالرسالة المبلغ عن الله ما شرعه لهم، وجمعوا بينهما في الضميرين الآخرين، لأن الكبرياء شامل لهما في زعمهم ولكون ترك الإيمان بموسى يستلزم ترك الإيمان بهارون.
وقد مرت القصة في الأعراف قوله: 79- "وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم" قال: هكذا لما رأى اليد البيضاء والعصا، لأنه اعتقد أنهما من السحر، فأمر قومه بأن يأتوه بكل ساحر عليم، هكذا قرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش " سحار ". وقرأ الباقون "ساحر" وقد تقدم الكلام على هذا في الأعراف. والسحار صيغة مبالغة: أي كثير السحر كثير العلم بعمله وأنواعه.