تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 216 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 216

215

وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء بقوله: 63- "الذين آمنوا وكانوا يتقون" أي يؤمنون بما يجب الإيمان به، ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من معاصي الله سبحانه، والمراد بنفي الخوف عنهم أنهم لا يخافون أبداً كما يخاف غيرهم، لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم، وانتهوا عن المعاصي التي نهاهم عنها، فهم على ثقة من أنفسهم وحسن ظن بربهم، وكذلك لا يحزنون على فوت مطلب من المطالب، لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله وقدره فيسلمون للقضاء والقدر، ويريحون قلوبهم عن الهم والكدر، فصدورهم منشرحة، وجوارحهم نشطة، وقلوبهم مسرورة، ومحل الموصول النصب على أنه بدل من أولياء أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره لهم البشرى، فيكون غير متصل بما قبله، أو النصب أيضاً على المدح أو على أنه وصف لأولياء.
قوله: 64- "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" تفسير لمعنى كونهم أولياء الله: أي لهم البشرى من الله ما داموا في الحياة بما يوحيه إلى أنبيائه، وينزله في كتبه، من كون حال المؤمنين عنده هو إدخالهم الجنة ورضوانه عنهم، كما وقع كثير من البشارات للمؤمنين في القرآن الكريم، وكذلك ما يحصل لهم من الرؤيا الصالحة، وما يتفضل الله به عليهم من إجابة دعائهم، وما يشاهدونه من التبشير لهم عند حضور آجالهم بتنزل الملائكة عليهم قائلين لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة، وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة لهم مبشرين بالفوز بالنعيم والسلامة من العذاب. والبشرى مصدر أريد به المبشر به، والظرفان في محل نصب على الحال: أي حال كونهم في الدنيا وحال كونهم في الآخرة، ومعنى: "لا تبديل لكلمات الله" لا تغيير لأقواله على العموم، فيدخل فيها ما وعد به عباده الصالحين دخولاً أولياً، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى المذكور قبله من كونهم مبشرين بالبشارتين في الدارين "هو الفوز العظيم" الذي لا يقادر قدره ولا يماثله غيره، والجملتان: أعني "لا تبديل لكلمات الله" و "ذلك هو الفوز العظيم" اعتراض في آخر الكلام عند من يجوزه، وفائدتهما تحقيق المبشر به وتعظيم شأنه، أو الأولى اعتراضية، والثانية تذييلية. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق" قال: هم أهل الشرك كانوا يحلون من الأنعام والحرث ما شاءوا ويحرمون ما شاءوا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن في قوله: "إذ تفيضون فيه" قال: إذ تفعلون. وأخرج الفريابي وابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "وما يعزب عن ربك" قال: لا يغيب عنه وزن ذرة "ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين". قال: هو الكتاب الذي عند الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "ألا إن أولياء الله" قيل: من هم يا رب؟ قال: هم الذين آمنوا وكانوا يتقون. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: هم الذين إذا رؤوا ذكر الله. وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً قال: هم الذين إذا رؤوا يذكر الله لرؤيتهم. وأخرج عنه ابن المبارك والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه مرفوعاً مثله. وأخرجه ابن المبارك وابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير مرفوعاً وهو مرسل. وروي نحوه من طرق أخرى مرفوعاً وموقوفاً. وأخرج أحمد والحكيم والترمذي عن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاء من الله، وإن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم". وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباده المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون البرآء العنت". وأخرج الحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خياركم من ذكركم الله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، ورغبكم في الآخرة عمله". وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً نحوه. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعاً: "إن لله عباداً ليسوا بالأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منهم، فجثا أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا؟ قال: قوم من أفناء الناس من نزاع القبائل، تصافوا في الله وتحابوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم، يخاف الناس ولا يخافون، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وأخرج أبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. قال ابن كثير: وإسناده جيد. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: "ألا إن أولياء الله" الآية فقال: الذين يتحابون في الله". وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً مثله. وقد ورد في فضل المتحابين في الله أحاديث ليس فيها أنهم المرادون بالآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عطاء بن يسار" عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن معنى قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا" فقال: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزل علي: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له، فهي بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة الجنة"، وفي إسناده هذا الرجل المجهول. وأخرج أبو داود الطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي وابن ماجه والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا" قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أوترى له". وأخرج أحمد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي "عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا" قال: الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فمن رأى ذلك فليخبر بها" الحديث. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة "عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: هي في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له، وفي الآخرة الجنة". وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ وابن مردويه وابن منده من طريق أبي جعفر عن جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر البشرى في الحياة الدنيا بالرؤيا الحبيبة، وفي الآخرة ببشارة المؤمن عند الموت": إن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك. وأخرج ابن مردويه عنه مرفوعاً مثل حديث جابر. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً الشطر الأول من حديث جابر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن عباس مثله. وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الرؤيا الصالحة من المبشرات وأنها جزء من أجزاء النبوة، ولكنها لم تقيد لتفسير هذه الآية. وقد روي أن المراد بالبشرى في الآية هي قوله: "وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً". أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وأخرج ابن المنذر عنه من طريق مقسم أنها قوله: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا". وأخرج ابن جرير والحاكم والبيهقي عن نافع قال: خطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير بدل كتاب الله، فقال ابن عمر: لا تستطيع ذلك أنت ولا ابن الزبير، لا تبديل لكلمات الله.
قوله: 65- "ولا يحزنك قولهم" نهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن من قول الكفار المتضمن للطعن عليه وتكذيبه والقدح في دينه، والمقصود التسلية له والتبشير. ثم استأنف سبحانه الكلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معللاً لما ذكره من النهي لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن العزة لله جميعاً" أي الغلبة والقهر له في مملكته وسلطانه ليست لأحد من عباده، وإذا كان ذلك كله له فكيف يقدرون عليك حتى تحزن لأقوالهم الكاذبة وهم لا يملكون من الغلبة شيئاً. وقرئ يحزنك من أحزنه. وقرئ أن العزة بفتح الهمزة على معنى لأن العزة لله، ولا ينافي ما في هذه الآية من جعل العز جميعها لله تعالى قوله سبحانه: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" لأن كل عزة بالله فهي كلها لله، ومنه قوله: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي" "إنا لننصر رسلنا".
66- "ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض" ومن جملتهم هؤلاء المشركون المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا في ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، فكيف يستطيعون أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يأذن الله به وغلب العقلاء على غيرهم لكونهم أشرف. وفي الآية نعي على عباد البشر والملائكة والجمادات، لأنهم عبدوا المملوك وتركوا المالك، وذلك مخالف لما يوجبه العقل، ولهذا عقبه بقوله: "وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء" والمعنى: أنهم وإن سموا معبوداتهم شركاء لله فليست شركاء له على الحقيقة، لأن ذلك محال "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وما في وما يتبع نافية وشركاء مفعول يتبع، وعلى هذا يكون مفعول يدعون محذوفاً، والأصل وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، شركاء في الحقيقة: إنما هي أسماء لا مسميات لها، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن يكون المذكور مفعول يدعون، وحذف مفعول يتبع لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، ويكون على هذا الوجه شركاء منصوباً بـ يدعون، والكلام خارج مخرج التوبيخ لهم والإزراء عليهم. ويجوز أن تكون ما موصولة معطوفة على من في السموات: أي لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، والمعنى: أن الله مالك لمعبوداتهم لكونها من جملة من في السموات ومن في الأرض.ثم زاد سبحانه في تأكيد الرد عليهم والدفع لأقوالهم فقال : " إن يتبعون إلا الظن " أي ما يتبعون يقينا إنما يتبعون ظنا ، والظن لا يغني من الحق شيئا " إن هم إلا يخرصون " أي يقدرون أنهم شركاء تقديرا باطلا وكذبا بحتا ، وقد تقدمت هذه الآية في الأنعام .
ثم ذكر سبحانه طرفاً من آثار قدرته مع الامتنان على عباده ببعض نعمه قال: 67- "هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً" أي جعل لعباده الزمان منقسماً إلى قسمين: أحدهما: مظلم وهو الليل لأجل يسكن العباد فيه عن الحركة والتعب ويريحون أنفسهم عن الكد والكسب، والآخر: مبصر لأجل يسعون فيه بما يعود على نفعهم وتوفير معايشهم، ويحصلون ما يحتاجون إليه في وقت مضيء منير، لا يخفى عليهم فيه كبير ولا حقير، وجعله سبحانه للنهار مبصراً مجاز. والمعنى: أنه مبصر صاحبه كقولهم: نهاره صائم، والإشارة بقوله: "إن في ذلك" إلى الجعل المذكور "لآيات" عجيبة كثيرة "لقوم يسمعون" أي يسمعون ما يتلى عليهم من الآيات التنزيلية المنبهة على الآيات التكوينية مما ذكره الله سبحانه هاهنا منها ومن غيرها مما لم يذكره، فعند السماع منهم لذلك يتفكرون ويعتبرون، فيكون ذلك من أعظم أسباب الإيمان.
قوله: 68- "قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني" هذا نوع آخر من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها، وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولداً، فرد ذلك عليهم بقوله: "سبحانه هو الغني" فتنزه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين، وبين أنه غني عن ذلك وأن الولد إنما يطلب للحاجة، والغني المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها، وإذا انتفت الحاجة انتفى الولد، وأيضاً إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض ليقوم الولد مقامه، والأزلي القديم لا يفتقر إلى ذلك. وقد تقدم تفسير الآية في البقرة. ثم بالغ في الرد عليهم بما هو كالبرهان، فقال: "له ما في السموات وما في الأرض"، وإذا كان الكل له وفي ملكه فلا يصح أن يكون شيء مما فيهما ولداً له للمنافاة بين الملك والبنوة والأبوة. ثم زيف دعواهم الباطلة وبين أنها بلا دليل فقال: "إن عندكم من سلطان بهذا" أي ما عندكم من حجة وبرهان بهذا القول الذي تم لونه، و من في "من سلطان" زائدة للتأكيد، والجار والمجرور في "بهذا" متعلق إما بسلطان لأنه بمعنى الحجة والبرهان، أو متعلق بما عندكم لما فيه من معنى الاستقرار. ثم وبخهم على هذا القول العاطل عن الدليل الباطل عند العقلاء فقال: "أتقولون على الله ما لا تعلمون"، ويستفاد من هذا أن كل قول لا دليل عليه ليس هو من العلم في شيء، بل من الجهل المحض.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً يدل على أن ما قالوه كذب، وأن من كذب على الله لا يفلح فقال: 69- "قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون" أي كل مفتر هذا شأنه، ويدخل فيه هؤلاء دخولاً أولياً. وذكر الكذب مع الافتراء للتأكيد كما سبق في مواضع من الكتاب العزيز. والمعنى: أن هؤلاء الذين يكذبون على ربهم لا يفوزون بمطلب من المطالب.
70- "متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون" ثم بين سبحانه أن هذا الافتراء وإن فاز صاحبه بشيء من المطالب العاجلة فهو متاع قليل في الدنيا، ثم يتعقبه الموت والرجوع إلى الله، فيعذب المفتري عذاباً مؤبداً. فيكون متاع خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة لبيان أن ما يحصل للمفتري بافترائه ليس بفائدة يعتد بها، بل هو متاع يسير في الدنيا يتعقبه العذاب الشديد بسبب الكفر الحاصل بأسباب من جملتها الكذب على الله. وقال الأخفش: إن التقدير لهم متاع في الدنيا، فيكون المحذوف على هذا هو الخبر. وقال الكسائي: التقدير ذلك متاع أو هو متاع، فيكون المحذوف على هذا هو المبتدأ. وقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال في قوله تعالى: "ولا يحزنك" لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله وأقاموا على كفرهم كبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه من الله فيما يعاتبه "ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعاً هو السميع العليم" يسمع ما يقولون ويعلمه، فلو شاء بعزته لانتصر منهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "والنهار مبصراً" قال: منيراً. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في قوله: "إن عندكم من سلطان بهذا" يقول: ما عندكم سلطان بهذا.
لما بالغ سبحانه في تقرير البراهين الواضحة ودفع الشبهة المنهارة، شرع في ذكر قصص الأنبياء لما في ذلك من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: 71- "واتل عليهم" أي على الكفار المعاصرين لك المعارضين لما جئت به بأقوالهم الباطلة "نبأ نوح" أي خبره، والنبأ هو الخبر الذي له خطر وشأن، والمراد: ما جرى له مع قومه الذين كفروا بما جاء به كما فعله كفار قريش وأمثاله "إذ قال لقومه" أي وقت قال لقومه، والظرف منصوب بنبأ أو بدل منه بدل اشتمال، واللام في "لقومه" لام التبليغ "يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي" أي عظم وثقل، والمقام بفتح الميم: الموضع الذي يقام فيه، وبالضم الإقامة. وقد اتفق القراء على الفتح، وكنى بالمقام على نفسه كما يقال فعلته لمكان فلان: أي لأجله، ومنه "ولمن خاف مقام ربه" أي خاف ربه، ويجوز أن يراد بالمقام المكث: أي شق عليكم مكثي بين أظهركم، ويجوز أن يراد بالمقام القيام، لأن الواعظ يقوم حال وعظه، والمعنى: إن كان كبر عليكم قيامي بالوعظ في مواطن اجتماعكم، وكبر عليكم تذكيري لكم "بآيات الله" التكوينية والتنزيلية "فعلى الله توكلت" هذه الجملة جواب الشرط، والمعنى: إني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله، فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديماً وحديثاً. ويجوز أن يريد إحداث مرتبة مخصوصة عن مراتب التوكل، ويجوز أن يكون جواب الشرط "فأجمعوا" وجملة "فعلى الله توكلت" اعتراض كقولك: إن كنت أنكرت علي شيئاً فالله حسبي. ومعنى "فأجمعوا أمركم" اعتزموا عليه، من أجمع الأمر: إذا نواه وعزم عليه. قاله الفراء: وروي عن الفراء أنه قال: أجمع الشيء: أعده. وقال مؤرج السدوسي: أجمع الأمر أفصح من أجمع عليه، وأنشد: يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوماً وأمري مجمع وقال أبو الهيثم: أجمع أمره: جعله جميعاً بعدما كان متفرقاً، وتفرقه أن تقول مرة أفعل كذا، ومرة أفعل كذا، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه: أي جعله جميعاً، فهذا هو الأصل في الإجماع، ثم صار بمعنى العزم. وقد اتفق جمهور القراء على نصب شركاءكم وقطع الهمزة من أجمعوا. وقرأ يعقوب وعاصم الجحدري بهمزة وصل في أجمعوا على أنه من جمع يجمع جمعاً. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب وشركاؤكم بالرفع. قال النحاس: وفي نصب الشركاء على قراءة الجمهور ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى وادعوا شركاءكم، قاله الكسائي والفراء: أي ادعوهم لنصرتكم، فهو على هذا منصوب بفعل مضمر. وقال محمد بن يزيد المبرد: هو معطوف على المعنى قال الشاعر: يا ليت زوجك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحا والرمح لا يتقلد به، لكنه محمول كالسيف. وقال الزجاج: المعنى مع شركائكم، فالواو على هذا واو مع. وأما على قراءة أجمعوا بهمزة وصل فالعطف ظاهر: أي أجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم. وأما توجيه قراءة الرفع، فعلى عطف الشركاء على الضمير المرفوع في أجمعوا، وحسن هذا العطف مع عدم التأكيد بمنفصل كما هو المعتبر في ذلك أن الكلام قد طال. قال النحاس وغيره: وهذه القراءة بعيدة لأنه لو كان شركاءكم مرفوعاً لرسم في المصحف بالواو، وليس ذلك موجوداً فيه. قاله المهدوي: ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء، والخبر محذوف: أي وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم، ونسبة ذلك إلى الشركاء مع كون الأصنام لا تعقل لقصد التوبيخ والتقريع لمن عبدها. وروي عن أبي قرأ: وادعوا شركاءكم بإظهار الفعل. قوله: "ثم لا يكن أمركم عليكم غمة" الغمة: التغطية من قولهم، غم الهلال: إذا استتر: أي ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً. قال طرفة: لعمرك ما أمري علي بغمة نهاري ولا ليلي علي بسرمد هكذا قال الزجاج. وقال الهيثم: معناه لا يكن أمركم عليكم مبهماً. وقيل إن الغمة: ضيق الأمر كذا روي عن أبي عبيدة. والمعنى: لا يكن أمركم عليكم بمصاحبتي والمجاملة لي ضيقاً شديداً، بل ادفعوا هذا الضيق والشدة بما شئتم وقدرتم عليه، وعلى الوجهين الأولين يكون المراد بالأمر الثاني هو الأمر الأول، وعلى الثالث يكون المراد به غيره. قوله: "ثم اقضوا إلي ولا تنظرون" أي ذلك الأمر الذي تريدونه بي، وأصل اقضوا من القضاء، وهو الإحكام. والمعنى: أحكموا ذلك الأمر. قال الأخفش والكسائي: هو مثل "وقضينا إليه ذلك الأمر" أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه، ثم لا تنظرون: أي لا تمهلون، بل عجلوا أمركم واصنعوا ما بدا لكم، وقيل معناه: ثم امضوا إلي ولا تؤخرون. قال النحاس: هذا قول صحيح في اللغة، ومنه قضى الميت: مضى. وحكى الفراء عن بعض القراء أنه قرأ ثم أفضوا بالفاء وقطع الهمزة: أي توجهوا، وفي هذا الكلام من نوح عليه السلام ما يدل على وثوقه بنصر ربه وعدم مبالاته بما يتوعده به قومه.
ثم بين لهم أن كل ما أتى به إليهم من الإعذار والإنذار وتبليغ الشريعة عن الله ليس هو لطمع دنيوي، ولا لغرض خسيس، فقال: 72- "فإن توليتم فما سألتكم من أجر" أي إن أعرضتم عن العمل بنصحي لكم وتذكيري إياكم، فما سألتكم في مقابلة ذلك من أجر تودونه إلي حتى تتهموني فيما جئت به، والفاء في "فإن توليتم" لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والفاء في "فما سألتكم" جزائية "إن أجري إلا على الله" أي ما ثوابي في النصح والتذكير إلا عليه سبحانه فهو يثيبني آمنتم أو توليتم. قرأ أهل المدينة وأبو عمر وابن عامر وحفص بتحريك الياء من أجري، وقرأ الباقون بالسكون "وأمرت أن أكون من المسلمين" المنقادين لحكم الله الذين يجعلون أعمالهم خالصة لله سبحانه لا يأخذون عليها أجراً ولا يطمعون في عاجل.